موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٥
الأب هاني، الكاهن الماروني الذي يطهو في الشارع للفقراء مع زوجته وأولاده

فاتيكان نيوز :

 

عندما يمرُّ الرجاء عبر طبقٍ يُطهى تحت مظلّة ويُقدَّم لمن يحتاجه. بدأ الكاهن هاني وزوجته دنيا، بعد انفجار مرفأ بيروت، مشروع "مطبخ مريم"، وهو جناح يُقدَّم فيه الطعام الساخن للذين لم يبقَ لديهم أي موارد بسبب الحرب والفقر، ولم يبقَ لهم سوى الجوع. بمساعدة أبنائهم والمتطوّعين، وبدعم من المتبرعين والأفراد، أطلق الزوجان أيضًا مطبخًا متنقلًا ويوفّران أيضًا الدعم النفسي للمحتاجين.

 

بدأ كل شيء بعد الانفجار والدمار، حيث أحضر الأب هاني مع زوجته دنيا قدرًا كبيرًا من المنزل وذهب بسرعة إلى الشارع ليطهو وجبة ساخنة للمتطوعين، والجرحى، والعائلات، وسكان الأحياء المجاورة للمرفأ الذين فقدوا كل شيء. هكذا وُلد مشروع "مطبخ مريم"، من غريزة التضامن، بعد ساعات قليلة من إحدى أكبر الكوارث التي شهدتها بيروت. مشروع خيري في لبنان قائم على شيء بسيط: الطهو يوميًا لمن لا يملك أي موارد ولكن لديه الكثير من الجوع: فقراء، نازحون، أو لاجئون، وضحايا الحرب.

 

ر

الزوجان، البالغان من العمر ٥٠ و٤٥ عامًا، متزوجان منذ ٢٤ عامًا ولديهما أربعة أبناء وأحفاد أيضًا ("سيولد حفيد آخر قريبًا!"). كانا في البداية، يوزّعان الوجبات على أرصفة بيروت، حيث قدّما أطباقًا فرنسية وإيطالية، ولكن بشكل أساسي أطباق لبنانية تتناسب أكثر مع ذوق الناس. استمرّا في ذلك لمدة ٢٥ يومًا، ثم تم طردهما من المكان، فبحثا عن مستودع شبه مدمّر وأعادا تأهيله ليكون مقرًا للمطبخ. ومنذ بضعة أشهر، أصبح لديهما أيضًا مطبخ متنقل يجوب البلاد.

 

من مجرد قدر بسيط، تطوّر المشروع ليصل إلى توزيع ٢٥ ألف وجبة شهريًا، أي بمعدّل ما يقارب ٣ آلاف وجبة يوميًا، ووصل العدد إلى ٥ آلاف خلال الحرب: "كنّا نعمل سبعة أيام في الأسبوع. ولم نتوقف لمدة ٦٠٥ أيام، حتى تحت القصف والطائرات المسيّرة". لم تكن الحرب المأساة الوحيدة التي واجهها هاني ودنيا في هذه السنوات الخمس، فقد عانيا من انفجار المرفأ، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وجائحة كورونا، والصراع في جنوب لبنان. لكنهما لم يتوقّفا أبدًا، كما يرويان لوسائل الإعلام الفاتيكانية، على هامش لقاء في حريصا جمع المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية اللبنانية بالكاردينال مايكل تشيرني، رئيس الدائرة الفاتيكانية التي تعنى بخدمة التنمية البشرية المتكاملة، خلال زيارته إلى لبنان.

يظهر بريق في عيني الأب هاني خلف نظّارته عندما يسترجع المراحل الأولى من المشروع: "نحن نسكن في جبيل، على بعد ٤٠ كم من بيروت. فور سماعنا بالانفجار، أحضرنا قدرًا كبيرًا وبدأنا الطهو للمتطوعين والمتضررين. في البداية، كان المشروع بسيطًا جدًا، لكنه تطوّر يومًا بعد يوم". بعد شهر، استأجرا مستودعًا على بُعد ١٠٠ متر فقط من المرفأ، حيث أقاما الآن مطابخ مهنية وطاولة طويلة تُعرَض عليها يوميًا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الوجبات المعبّأة في أوانٍ مصنوعة من الألومنيوم جاهزة للتوزيع. في البداية، كانت دنيا وحدها من يطهو، لكن هاني اضطر إلى تعلّم الطهو عندما اضطرت زوجته إلى التفرغ للعائلة خلال الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا. وبعد انتهاء الجائحة، عاد الجميع إلى العمل، بما في ذلك الأبناء الأربعة: ثلاثة شبان وفتاة، تبلغ أعمارهم ٢٦، ٢٠، ١٦، و١٣ عامًا. ورغم دراستهم وأعمالهم، ساعدوا والديهم منذ البداية: "كانوا دائمًا معنا. في البداية، كنّا نجهّز الطعام في المنزل"، يروي الزوجان، "كنّا نطهو حتى منتصف الليل، ثم نحمل الطعام في اليوم التالي إلى الشارع. تأثر أولادنا بالمشهد وأعطوا كل ما في وسعهم، لا بل حتى وفّروا من مصروفهم الشخصي لدعم المشروع". والآن، مع التوفيق بين العمل والدراسة، يواصلون تقديم المساعدة، خاصة في فصل الصيف.

 

حاليًا، يعتمد "مطبخ مريم" على وجود طاهيين محترفين يشرفان على تحضير الوجبات اليومية، إلى جانب مساعدة العديد من المتطوعين. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فقد بدأت دنيا أيضًا في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي. وتقول دنيا: "لقد نظمنا مجموعات دعم للأطفال والبالغين. إنَّ التأمين الاجتماعي في لبنان، لا يغطي العلاج النفسي، لكن الحاجة إلى التعافي من الصدمات كبيرة جدًا، فالناس هنا يعانون من آثار نفسية عميقة. وانفجار المرفأ، إلى جانب جميع الأزمات التي سبقته وتلته، ترك ضغطًا نفسيًا هائلًا على السكان. هناك أعراض مستمرة، متلازمات ما بعد الصدمة، وحتى العنف العائلي. كثيرون لا يستطيعون تحمّل تكلفة زيارة طبيب نفسي، لذلك أنشأتُ عيادات مجانية ثلاث مرات في الأسبوع. الناس يعرفون أننا هناك، يحجزون موعدًا ويأتون".

تحت سقف هذا المطبخ، يتم الاهتمام بالجسد والعقل والروح معًا. في البداية، تلقّى "مطبخ مريم" دعمًا من منظّمة "Œuvre d'Orient"، ثم انضمت جمعيات أخرى لدعمه. حاليًا، أكبر المتبرعين هي مؤسسة CMA-CGM، التابعة لشركة النقل الفرنسية، وهي ثالث أكبر شركة شحن في العالم. لكن كما يقول القائمون على هذا المشروع الإنساني: "هناك العديد من الأفراد الذين آمنوا بنا منذ البداية، بمهمتنا، وساعدونا. هناك الكثير من التبرعات التي يقدمها أشخاص عاديون. إنها معجزة، معجزة حقيقية".

 

وكما ذكرنا، لم يكتفِ الأب هاني ودنيا بمشروع المرفأ، بل أطلقا أيضًا مطبخًا متنقلًا يجوب بيروت ومدنًا أخرى في لبنان، بما في ذلك القرى المتضررة من الحرب. يقول الأب هاني: "نحن قادرون على تحضير حوالي ألف وجبة يوميًا". أما عن سؤالهم عمّا إذا كانوا ينوون التوقف بعد كل هذا المجهود، فالإجابة واضحة: "في الواقع، حلمنا هو أن نجوب العالم، أن نلتقي بالفقراء حيثما كانوا، وأن نكون إلى جانبهم في احتياجاتهم". فإذن، "مبروك!".