موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٢٦ مايو / أيار ٢٠٢٣
أَلْقابٌ مَريميّة
الأب فارس نعيم سرياني، كاهن رعيّة سيدة الوردية، الكرك - الأردن

الأب فارس نعيم سرياني، كاهن رعيّة سيدة الوردية، الكرك - الأردن

إعداد: الأب فارس نعيم سرياني :

 

لِلعذرَاءِ مَريم ألْقابٌ تَدُلُّ عَلَى سُموِّ مَكانَتِهَا، وَعَلى إكرامِ الكَنيسَةِ العَظيمِ لِمَريم وَالِدَةِ الإلِه. وَمِنَ الألقابِ مَا هو ذو أَصلٍ كِتَابي، مُستَمَدٍّ مِنَ الكِتابِ الْمُقدَّس، كَلَقَبِ مَريم تَابوتِ العَهد. وَمِنهَا مَا هوَ مِنْ وَضعِ الَكنيسَة، كَلَقبِ مَريمَ سُلْطَانَةِ الْمُعتَرِفين. وَمِن هُنا، نَودُّ أنْ نُعرّجَ عَلَى بَعضِ هَذهِ الألقَاب، لِبَيانِ أُصولِها وَمَعانِيهَا.

 

 

أَوّلًا، مريمُ وَردَةً سِريّة

 

إنَّ هَذَا الّلقبَ الْمَريميّ هوَ ذو أُصولٍ كِتَابيّة. فَالوَردَةُ في الكِتابِ الْمُقَدَّس، تُشيرُ إلى الجَمالِ وَالطِّيب. فَقَدْ وَرَدَ في سِفرِ يَشوعَ بِن سيراخ، وَصفٌ للحكمَةِ يَقول: ﴿أَنَا كَالكَرمَةِ أَنْبَتُّ النّعمَةَ، وَأَزهاري ثمارُ مجدٍ وَغِنَى﴾. (بن سيراخ 17:24). وجاءَ فيهِ أيضًا: ﴿اُنْمُوا كَوَردٍ مَغروسٍ عَلَى مَجرى مَاء. أَزهِروا كَالزَّنبَقِ، وَانْشُروا عَرْفَكم، وَأنشِدوا نَشيدًا، وَباركوا الرَّبَّ عَلَى جميعِ أَعمالِه﴾ (بن سيراخ 13:39-14).

 

وَكَمَا أنَّ الوردَ (Roses)، هوَ أَسمى الزّهورِ جَمالًا، فَكذلِكَ مريمُ هيَ الأجملُ والأكمَلُ بينَ بني البَشر، أَحسَنِ خَلْقِ الله. وَكمَا يَقولُ الْمَزمور الخامِسُ والأربعون: ﴿إنَّك أجمَلُ بَني آدم، فَلِذلِك بارَكَكَ اللهُ إلى الأبد﴾ (مز 3:45). فَالعَذراءُ مَريم، كُليّةُ الجَمال، هي الْمُبارَكةُ والْمُطوّبَةُ مَدَى الأجيَال، فَقَدْ امْتَلَأتْ مِنْ نِعمَةِ الله، كَمَا لَم يَمتَلِئ أَيُّ بَشر.

 

وَكما أنَّ آَدمَ وَحَوَّاء قَدْ عاشا قبلَ السّقوطِ في الفِردَوس، في حَالَةٍ مِنَ البَرارَةِ والنِّعمَة، فَكذلِكَ مَريمُ البريئةُ مِن كُلِّ دَنس، تَبقَى الوردَةَ الأسمى الّتي لَم تَشبهَا شَائِبة، في فِردوسِ النّعمةِ الإلهيّة، بل هيَ نَفسُها قَدْ غَدَت بُستَانًا حَوَت النِّعمَةَ الإلهيةَ في حَشَاها الطْاهِر. وَكَمَا يَفوحُ مِنَ الوَردِ رَوائِحُ عِطريّةٌ ذَكيَّة، فكذلك مريمُ الوردَةُ تَفوحُ بِعطرِ وَشَذَا فَضائِلِها البَهيّة. أَمَّا إضَافَةُ كَلِمَةِ "سِريّة" إلى لَقَبِ وَردَة، فَذلِكَ للإشارَةِ إلى أنَّ مريمَ هيَ كَأسرارِ الكنيسَة، تحمِلُ لَنَا نِعَمًا رُوحيّةً عَظيمَة، نَحصُلُ عَليها بِقُوَّةِ شَفَاعَتِهَا.

 

يقول الطّوباوي هنري نيومان: ((مريمُ في فِردوسِ الله، هيَ الأكملُ في جَمالِها وَعُذوبَتِها. وَلِذلِكَ لَمَّا جَاءَها الْمَلاكُ جِبرائيل حَيّاها قائِلًا: ﴿اِفرَحي، أَيَّتُهَا الْمُمتَلِئَةُ نِعمَة﴾ (لوقا 28:1). فاللهُ عِندَمَا حَبَاهَا حُظوَةَ الحَبلِ الطّاهرِ بِلا دَنس، جَعلَها أَجملَ وَردَةٍ في جَنّتِه، وَلِذلِك نَدعوهَا: يا وَردَةً سِرّية)).

 

وَقَد أشادَ الّلاهوتيّونَ بمريمَ الوردَةِ كُلِيّةِ الجَمَالِ وَالبَهَاء. فالقديسُ برناردوس، مُعلِّمُ الكنيسةِ يَقول: ((إنَّ الرّبَّ قَدْ غَرسَ كُلَّ الزّهورِ في جَنَّتِهِ: زَنبقِ الطَّهارَة، وَبَنفسَجِ التّواضُع، وَوَردَةِ العِفَّة، في مَريمَ العَذرَاء)). أَمَّا القدّيسُ أَلفونس دي ليجوري فَيَقول: ((كَمَا أَنَّ الوَردَةَ تَنمُو وَسطَ الأشوَاك، وَلكنَّها هيَ في ذاتِها تَخلو مِنها، كَذلكَ العَذراء، وُلِدَتْ وَسَطَ أَشْوَاكِ العّالم، وَهي خَاليةٌ مِنْ شَوكةِ الخَطيئَة)).

 

وَلَعَلَّنَا نُلاحِظُ أنَّ القدّيسَةَ مريمَ العَذراء في ظُهوراتِها لِلقدِّيسَةِ بَرناديت في لورد - فرنسا، كَانَت تَظهَرُ مَعْ وُرودٍ عِندَ قَدَميهَا.

 

 

ثانيًا، مريمُ تابوتُ العَهد

 

هَذَا الَّلقَبُ الْمَريميُّ هوَ أَيضًا مِن أُصولٍ كِتَابيّة. فَتابوتُ العَهدِ قَدْ صُنِعَ بِأمرِ اللهِ واخْتيارِه، كَمَا وَردَ في سِفرِ الخروج: ﴿وَيَصنَعونَ تَابوتًا مِن خشبِ السّنْطِ﴾ (خر 10:25)، لِيَكونَ أَدَاةَ حُضورِهِ مَعْ شَعبِهِ وَبينَهم.

وَلِمَعرِفَةِ سَببِ تَسْمِيَة مريم بِتابوتِ العَهد، نَقوم بهذهِ الْمقارَبَة:

 

ثالِثًا، مريمُ سُلطانَةُ الْمعترفين

 

فَمِنَ الْمَعروفِ أنَّ الإيمانَ انْتَشَرَ بِفَضلِ شَجاعَةِ الْمَسيحيّين، وَخُصوصًا خِلالَ فَتراتِ الاضطِهَادِ في القُرونِ الأولَى. فَلَولا شَجَاعةِ أَسلافِنَا وَعَدمِ خِشيتِهم مِن إعلانِ إيمانِهم بِجُرأةٍ أمامَ أَربابِ السُّلطَةِ وَالحُكم، لانْدَثَرت الْمسيحيّةُ مُنذُ زَمَنٍ بَعيد. وَنَرى في سفرِ أَعمالِ الرّسل، كَيفَ أَنَّ الرّسلَ كَانوا: ﴿فَرِحينَ بِأنّهم وُجِدوا أَهلًا لِأنْ يُهانوا مِن أَجلِ الاسم﴾ (أعمال 41:5).

 

وَهذهِ الإهاناتُ الّتي تَطَوَّرَت مع الإمبراطوريّةِ الرّومانيّة، فَأَصبَحتْ مَوجَاتٍ مِن الاضطِهادِ الدّمويِّ العَنيف، أَلَّفَت قَوافِلَ مِن الشُّهَدَاءِ لأجلِ اسمِ الْمسيح، نَظرًا لِرفضِ الْمَسيحيين إنكارَ الإيمانِ بِيسوع، وَرَفضِهم عِبادَةَ الإمبراطور وَتَألِيهَه.

 

وخلالَ فتراتِ الاضطهاد، كانَ هُناكَ فِئَتين اثْنَتين: فئةِ الشّهداء، وفِئةِ الْمعتَرِفين. فَالشُّهَداءُ هُمْ مَن تَعرّضوا للعذابِ بسببِ إيمانِهم للْمسيح، الّذي أَفضَى إلى موتِهم الجَسَديّ، مِثلَ القِدّيس اسْطِفانوس بَاكُورةِ الشُّهَدَاء. أمّا الْمعتَرِفون فَهُم أَيضًا مَنْ تَعَرَّضوا للعذابِ بِسببِ إيمانِهم للْمَسيحِ، وَرفضِهم أن يُنكِروه، دونَ أنْ يَنالوا إكليلَ الشّهادَةِ في نهايةِ الأمر. والْمُعتَرِف في نَظرِ الكَنيسَة هوَ الشَّهيدُ الحَيّ، فَقَدْ تَمنّى الْمَوتَ لأجلِ الْمَسيح، دَونَ أَن يَنَالَ مُشتَهاه، مَعْ أنّهُ كَانَ تَوّاقًا إلى الاستِشهاد. وَمن أَشهرِ الْمُعتَرِفين القدّيسُ مَكسيموس الْمُعتَرِف.

 

والجديرُ بالذّكر أنَّ العَذابات لم تَقتصِر فقط على تِلكَ الجسديّة، بَلْ رَافَقَهَا أَيضًا عَذَابَاتٌ نَفسيَّةٌ جَسيمة، كَترهيبِهم بالعذابِ الّذي يَنتَظِرهم، أَو تهديدِ حَياةِ عَوائِلِهم وَأَحبّتِهم، أو إغرائِهم بالْمَالِ وَبالْمَناصِبِ الرَّفيعَة. لَكنَّهم صَمَدوا، مُفَضّلينَ العَذَابَ والْموت، عَلَى نُكرانِ الْمَسيحِ وَخيانَةِ الإيمان.

 

هَذهِ البَسَالَةُ الّتي تَحلّى بها الْمُعترِفون، بِدافِعٍ مِنَ الْمَسيح الّذي قَوّاهم، هيَ مَا قَادَتْ كَثيرًا مِنَ الوَثَنين إلى الإيمانِ بالْمَسيح. كَمَا كانَ لَها دورٌ في تَثبيتِ بَاقي الْمَسيحيّين في الإيمانِ، وَعَدَمِ الخَوفِ مِنَ العَذاب.

 

أَمّا سَبب تَسمية مَريم بِ "سُلطانَة الْمعتَرِفين"، فَذلِكَ لأنَّهَا:

 

1. كَانَت أَوَّلَ مَنْ آَمَنَ بالْمَسيح واعْتَرَفَتْ بِه قُدّوسًا وَربًّا، حينَ قَبِلَتْ مَا وَرَدَ في بِشارَة الْمَلاك.

 

2. تأَلَّمَتْ كالْمُعتَرِفين، بِسَببِ يَسوع، كَمَا سَبقَ وَأنبَأَهَا سمعانُ الشّيخُ حينَ قَال: ﴿هَا إنَّهُ جُعِلَ لِسُقوطِ كثيرٍ مِنَ النَّاس، وَقيامِ كَثيرٍ مِنهم، وَآيةً مُعَرّضَةً لِلرَّفض. وَأنتِ سَينفَذُ سَيفٌ في نفسِكِ، لِتَنكَشِفَ الأفكارُ عَن قُلوبٍ كَثيرة﴾ (لوقا 34:2-35).

 

3. هيَ بإيمانِها وسيرتِها تَظلُّ قُدوَةً للْمَسيحيّين يَتَمَثّلونَ بِها، وَخُصوصًا بِقوّةِ احتِمَالِها وعَظيمِ صَبرِها، لأجلِ الْمَسيح. وَتبقَى مَريمُ دَافِعًا لكثيرٍ مِن الْمؤمنين، لِلثَّبَاتِ في إيمانِهم رَغمَ الصِّعَابِ والْمِحَن.

 

 

رابِعًا، مريمُ كُرسيّ الحِكمَة

 

الكُرسيُّ في الكِتَابِ الْمُقَدّس هو إشارةٌ لِلسُّلطَة، والجالِسُ عَليهِ هوَ صاحِبُ السّيادَة. فَسفرُ الرّؤيا يقول: ﴿لِلجالِسِ عَلَى العَرشِ ولِلحَمَلِ، التَّسْبيحُ والإِكْرامُ والْمَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور"﴾ (رؤيا 13:5). والْمزمورُ العاشِرُ بَعدَ الْمائة يَقول: ﴿اِجلِسْ عَن يَميني حَتَّى أَجعَلَ أَعداءَكَ مَوطِئًا لِقَدَمَيكَ﴾ (مز 1:110). وَفي قَانونِ الإيمان نُعلِنُ إيمانَنا بالْمَسيحِ الرّبِّ، الجالِسِ عَن يمين الآب، ديّانِ الأحياءِ والأموات، صاحِبِ الْمُلكِ الْمُطلَقِ بِلا انْقِضَاء.

 

مِن نَاحيةٍ أُخرَى، الحكمَةُ هِيَ موهِبَةٌ مِن مواهبِ الرّوحِ القُدس، كَمَا وردَ في سفرِ النّبيِّ أشعيا: ﴿وَيَحلُّ عَليهِ روحُ الرّب، روحُ الحكمَةِ والفَهم، روحُ الْمَشورَةِ والقُوّة، روحُ الْمَعرِفَةِ وَتقوَى الرّب﴾ (أشعيا 2:11). وبما أنَّ مريمَ هيَ الْمُمتَلِئةُ نِعمَة، الّتي حلَّ عَليها الرّوحُ القُدس يَومَ البِشارة، فَبالتّالي حَصَلت عَلَى مَواهبِ الرّوحِ القُدُسِ بِكَمَالِها. وَبذلِك أَضحَتْ مريمُ عَرشًا وَكُرسيًّا، تَربَّعَ عَلَيهِ الحِكمَةُ الإلهيّةُ: سيّدُنَا يَسوعُ الْمسيح.

 

أَضِف إلى ذلك، أنَّ يَسوعَ الْمسيح، كَما يَصِفُهُ القدّيسُ بولسُ في رسالتِه الأولى إلى أهِل قورنتوس، هوَ: ﴿قُدرَةُ الله وَحكمَةُ الله﴾ (1قور 24:1)، ومَريمُ العَذراء لَحظَةَ البشارَة، ظَلَّلتها قُدرةُ الله، وَأَعلَنَتْ مُوافَقتها عَلَى تَجسُّدِ حِكمَةِ اللهِ فيهَا، فَقَالَت: ﴿أَنَا أمَةُ الرّب، فَلْيَكُنْ لي بحسبِ قولِك﴾ (لوقا 38:1). أَمَّا لِلّذينَ رَفضوا الْمسيح، مَنْ يَسلُكونَ سبيلَ الهلاك، فهوَ: ﴿عِثارٌ لليهودِ وَحماقَةٌ للوثَنيّين﴾ (1قور 23:1)، كما يقولُ بولس في الرّسالَةِ عَينِها. فَمَريمُ صارَت كُرسِيًّا للحكمَة، عِندَمَا قَبِلَت أَنْ يَتَجَسَّدَ فيها، وَيَلِدَ مِنها الحكمةُ الأزليّةُ يسوعُ الْمَسيح.

 

وَعندَما أَرادَ كاتِبو (رَسَّامُو) الأيقونات أَنْ يُمثِّلوا هَذَا الَّلقبَ بالفَن، جَعَلوا مريمَ جالِسَةً عَلَى كُرسيٍّ، وفي حِضنِهَا يجلسُ الْمَسيح، فَمريمَ هيَ الحَكيمَة، الّتي تُرشِدُ النّاسَ إلى يَسوع، وَتَدُلُّهم عَلَى الإيمانِ بِه.

 

 

خامسًا، مريمُ برج داود وبرجُ العَاج

 

البرجُ وسيلةٌ للحمايَةِ والدِّفاع، يُبْنَى عَلى أُسُسٍ صَخريّةٍ راسِخة، لِرَصدِ الإعدَاءِ وَصَدِّهم، وَمَنعِهم مِن اقتِحامِ الْمُدن. وَمَريمُ العَذراء هيَ حمايَةٌ للمؤمنين وَمِنعَةُ لَهم، وَلِذلِكَ نُخاطِبُها قائِلين: ((تحتَ سترِ حمايَتِكِ، نَلتَجِئُ يا والدةَ اللهِ القدّيسة)).

 

هَذَا الَّلقَبُ الْمَريميُّ، برج داود، مَأخوذٌ مِن سِفرِ نَشيدِ الأناشيد، حيثُ يَقول: ﴿عُنُقُكِ كَبُرجِ دَاود، الْمَبنِيِّ للسِّلاح﴾ (نشيد 4:4). فَعِندَما نُخاطِب العَذراء: يا بُرجَ دَاود، فذلِك لِبَيَانِ دَورِها كَمُحَامِيَةٍ وَنَصيرَةٍ لِلمْؤمنين، فَهِيَ بُرجُهُم الْمَنيع، الْمَبنيُّ عَلَى صخرَةِ يَسوعَ الْمسيحِ الرّاسِخَة، والّتي تَصدُّ عَنهم تَجارِبَ الشّرير.

 

كَمَا أنَّ بَعَضَ الّلاهوتيّين رَأوا في هذا الّلقبِ، صَورةً لِرَحمِ مَريمَ الطّاهر، الّذي حَوَى الْمسيحَ وَحمَاهُ جَنينًا. ومَريمُ أُمُّنا تُعطينَا نحنُ أيضًا الحِمَايَةَ أَمَامَ الشَّهوات، وَبها نَحتَمي إبّانَ الضِّيقَات. وَكَمَا أنَّ البُرجَ يَحمي الْمَدينَةَ مِنَ الغُزاةِ الطّامِعين، كَذلِكَ تَشبيُه مريمَ بالبرُج يَرمزُ إلى طَهارتِها وَخُلوِّهَا الكَامِلِ مِنَ الذّنوبِ وَالعُيوب، فَاللهُ لم يَسمَحْ لأيِّ خَطيئةٍ أنْ تَمسَّهَا وَتَغزو نَفسَهَا الشّريفة. وَمِثْلَمَا الأبراجُ هيَ مُحَصَّنَة، فَكَذلِكَ مَريمُ البُرجُ الْمُحَصَّنُ بالفَضَائِل وَأَكمَلِ الصِّفَات.

 

أَمّا لَقبُ مريمَ برجِ العَاج، فذلك لِأنَّ العاجَ أوّلا يمتازُ بالقوّةِ والصَّلابَة، وَثَانيًا لأنّهُ نَفيسٌ جِدًّا ويُشيرُ إلى الْمَجدِ والعَظَمَةِ وَالغِنى، كَمَا يَقول الْمزمورُ الخامِسُ والأربعون: ﴿مِن قُصورِ العَاج تُطرِبُكَ الأوتار﴾ (مز 9:45).

 

فَمَريمُ هِيَ كَالعَاجِ: غَنيّةٌ بالنِّعَمِ، عَظيمَةٌ بالفَضَائلِ، مَجيدَةٌ في حياتِها الأرضيّةِ والسَّمَاويّة. ثُمَّ أنّها قَوِيّةٌ وَصَلبَة، لَم تَكسِرها الْمِحَنُ والشَّدَائِد، بَلْ بَقيَت صَامِدَةً وَوَاقِفَةً، حَتَّى تحتِ الصِّليب، بِقَوّةٍ وَصَبرٍ وَرَبَاطَةِ جَأش (راجع يوحنّا 25:19-27).

 

يُعلّقُ الطّوباويّ هنري نيومان عَلَى هَذا الّلقبِ الْمَريميِّ قائِلًا: ((لَقَد كانَت مريمُ أشجعَ مِن سائِرِ تَلاميذِ يسوع الّذينَ تَركوه وَهَربوا. فَعَظَمَتُها تَكمنُ في الوَقت الّذي فرَّ فيهِ تَلاميذُهُ، بَقيَت هيَ واقِفَةً صامِدَةً عِندَ الصّليب، تَتَلقّى العَذَابَاتِ الّتي أَلحَقَها بِها ابنُها الْمُعَذَّب)).

 

وَكَما أنَّ العَاجَ صَافٍ أَبيضَ الّلونِ جَميل، فَكَذلِكَ هيَ العَذراءُ الأنقَى الّتي لا تَشوبُها شائِبَة، وهيَ الأحلَى بَينَ الخَلقِ أَجْمعين نَفسًا وَهَيئَةً.

 

يقول الطّوباوي هنري نيومان: ((عَلى عَكس الأبراجِ الجامِدَةِ والقَاسِيَة، مريمُ هيَ بُرجُ العاج، لأنّها بِصَفَائِها وَرَوعَتِها، تُوحي لَنا كَم هيَ بهيّةٌ وَلَطيفَةٌ وعَذبَةٌ والِدَةُ الإله)).

 

وَأَخيرًا، مَهمَا قُلنَا في العَذراء، وَمهمَا أَطلَقنا عَليهَا مِن أَعذَبِ الصّفاتِ وَأَحسنِ الألقاب، يَبقَى لَقَبُ "وَالِدَةِ الإلهِ وَوالِدَتَنا"، أجملَ الأسماءِ وأَحَبَّ الألقاب. فَ: يا قدّيسَةَ مريم، يا وَالِدَة الله، صلّي لأجلِنا نحنُ الخَطَأة، الآنَ وفي ساعَةِ موتِنا. آمين.