موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الثاني من شباط، تحتفل الكنيسة بعيد تقدمة الرب يسوع إلى الهيكل. وهذه الأيقونة التي أمامنا تُترجم ببساطتها ما جاء في مقطوعة القديس لوقا الإنجيليّ (لو 2، 22-40).
إنَّ الأيقونة ليست مجرد عمل فني، إنما هي إنجيلٌ مفتوح نقرأه ونتأمل فيه، ونستطيع أن نقول أيضًا إنها حضورٌ ملموس للرب وسط شعبه.
في كل أحد نحتفل بسر المسيح الفصحي. عندما يحلّ عيد من أعياد الرب، يضيء التأمل في هذا السر جزءًا معينًا. أيقونة تقدمة يسوع إلى الهيكل تجسد حدثًا هامًا في تاريخ خلاص البشرية. ولهذه الأيقونة أسماء عديدة: ’’أيقونة تقدمة الرب يسوع إلى الهيكل، أو أيقونة دخول السيد المسيح إلى الهيكل، أيقونة اللقاء المقدس، أيقونة لقاء النور الإلهي...‘‘
الكنيسة الغربية تركز على موضوع الدخول، أما الكنيسة الشرقية فتركز على موضوع اللقاء؛ لقاء الرب يسوع المسيح مع شعبه الذي ينتظره في شخص سمعان الشيخ وحنة النبية. إنه لقاء بين العهد القديم والعهد الجديد، ولقاء بين الهيكل الحجري والهيكل البشري.
ما يميز هذه الأيقونة هو نظرات العيون. عن يمين الأيقونة، نرى سمعان الشيخ يحمل الطفل الإلهي برقةٍ وتأنٍ. ولو تمعنا في العيون، لدهشنا مما يكنه هذا الشيخ لهذا الطفل من خلال نظراته المليئة بالوقار والسكون والأمل الممزوج بالبهجة والامتنان. أما نظرة الطفل الإلهي، فنجدها تتجه نحو مريم العذراء والدته. إذا نظرنا إلى عيون العذراء مريم، والدة الطفل الإلهي، لوجدنا أنها نظرة تحمل بعضًا من الحيرة والاستفهام. وخلف العذراء مريم، تقف حنة النبية، ورأسها منحنٍ نحو يوسف، أما نظرها فيتجه مع إصبعها إلى الطفل الإلهي وكأنها تقول له: إنَّ هذا الطفل هو الإله المنتظر منذ البدء. أما نظرة يوسف، فهي نظرة تعجبٍ وتأمل لما يسمعه عن هذا الطفل.
محور هذه الأيقونة هو الطفل يسوع الذي تحمله يدي سمعان الشيخ. في نفس الوقت، لا نجد أي ملامح طفولية لهذا الطفل الإلهي، إنما ملامح رجلٍ في جسد طفل. ثياب الطفل هي باللون الأحمر، مزينة بخيوط ذهبية ترمز إلى آلامه الخلاصية، وكذلك حول رأسه هالةٌ نورانيةٌ يتوسطها صليب إشارة إلى فداء البشرية على خشبة الصليب.
نظرات الطفل تتجه نحو مريم أمه في نفس مسار يده اليمنى، دلالة على أنه سيهبها أماً لنا في شخص يوحنا الحبيب وهو مرفوعٌ على صليب المجد.
تقف مريم العذراء في وسط الأيقونة تماماً وهي ملاصقة للباب الخشبي المذهب، لتقول لنا إنها هي الباب الذي دخل منه الله إلى العالم، مشيرة إلى ابنها بمشاعر التواضع والحب وكأنها تقول: هذا هو مخلص العالم محمولاً بين يدي سمعان. ثيابها يكسوها اللون الأزرق، دلالة على طبيعتها الإنسانية، وفوقه رداء أرجوانيٌ يرمز إلى الطبيعة الإلهية التي ظللها الله بها في البشارة. نجد أيضًا على رأسها وكتفيها ثلاثة نجومٍ ذهبية، رمزاً لبتوليتها الدائمة قبل الولادة وأثناءها وبعدها. وإذا تمعنا في النظر إلى ملامح وجهها، لوجدنا أن هناك نبرة حزن تكسوها، بسبب بُعد ابنها عنها الآن والذي سينزع منها لاحقًا، كما تنبأ به سمعان الشيخ عندما قال لها:’’ها إِنَّه جُعِلَ لِسقوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة‘‘. هذه نبوءة بما ستعانيه عند رؤية ابنها معلقًا منفصلاً عنها على صليب المجد.
وعلى يمين الأيقونة، نرى سمعان الشيخ الذي وصل إلى الهيكل بوحيٍ من الروح القدس: ’’وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قد أَوحى إِلَيه أَنَّه لا يَرى المَوتَ قَبلَ أَن يُعايِنَ مَسيحَ الرَّبّ. فأَتى الهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح‘‘. ثياب سمعان الشيخ (وكذلك حنة النبية) هي ثياب الشعب الأمين المدعو “المنتظرين فداءً في أورشليم‘‘ الذين يعبدون بأصوام وطلبات ولا يفارقون الهيكل. وليست ثيابًا كهنوتية (لفئة معينة من الناس)، فإن المسيح سيلتقي في كل من ينتظره ويرجوه.
نجده حاملاً قطعة قماشٍ وكأنه جزء من ردائه، مخفية كلتا يديه، دلالة على احترامه الفائق للطفل الإلهي الذي يحمله. طريق حمله ليست كمن يأخذ طفلاً بين يديه، إنما كمن يقدم عطية على مذبح الله وهو في حالة من الذهول وكأنه غير مصدق بأن ما بين يديه يمكث خالق السماء والأرض، مخلص الشعوب. حاول كاتب الأيقونة أن يعبر في انحناء جسد سمعان أنه هو المبارك وليس من يعطي البركة. عوضًا عن أن يبارك سمعان الطفل يسوع كبقية الأطفال، انحنى ليتبارك من الطفل الإلهي: ’’لأن الأصغر يبارك من الأكبر‘‘ (عب 7: 7). أما تقاسيم وجهه ونظراته ورفع يديه فيعبران عن نشيد الفرح والامتنان: ’’الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقًا لِقَوْلِكَ. فقَد رَأَت عَينايَ خَلاصَكَ، الَّذي أَعدَدتَه في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها، نُورًا يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجدًا لِشَعْبِكَ إِسرائيل‘‘.
النبية حنا التي هي من سبط أشير، ممسكة في يدها منشوراً كتب عليه: "به كان كل شيء ومن دونه شيءٌ ما كان، هو مَن ثبت السماء والأرض." لقد تنبأت حنة عن ملوكية هذا الطفل المتواضع.
عند الحديث عن سمعان وحنَّة، لا بدَّ لنا إلاَّ أن نَصِفَهُم بأنهما نبيَّين، وذلك لأنهما تنبآ كلاماً نبوياً فذاً، وكانا شاهدين للرَّب يسوع بالرُّوح، بالرغم من أن موهبة النبوة قد كفت في إسرائيل منذ زمن أنبياء العهد القديم وأنها لا تعود إلاَّ متى حلَّ زمن مجيء المسيح. والآن وقد أضحى المسيح فيما بيننا بشخص الرَّب يسوع المسيح، فإن نبوة سمعان وحنة تبدو شهادة لهُ أنهُ هو المنتظر. ’’وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ ٱفتِداءَ أُورَشَليم‘‘.
أما ملامح وجه يوسف فتدل على شخصٍ في سكون يتأمل في سر هذا الطفل الفريد متعجبًا مما يُقال عنه. هذا السر الإلهي الذي نزل عليه من السماء ومنحه نعمةً عظيمة أن يكون أباً وحامياً له، هو السر الذي يعجز العقل البشري عن تخيله واستيعابه. ونجده يغطي يديه بثوبه إشارة إلى الوقار في تتميم وصية الرب، ’’ولَمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدوا به إِلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ، كما كُتِبَ في شَريعةِ الرَّبِّ مِن أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ، ولِيُقَرِّبا كما وَرَدَ في شَريعَةِ الرَّبّ: زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام‘‘. ألا وهي تقدمة يمامتين (هبة الفقراء). هاتان اليمامتان هما رمزٌ إلى العهدين القديم والجديد، وأيضًا هناك من يقول إنهما رمزاً إلى طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية.
وخلف هذه الشخصيات الخمس، نجد بناءين جميلين متينين يشكلان إطاراً لهذه الأيقونة، ولكن في نفس الوقت هما غير متصلين ببعضهما البعض، دلالة على أن هذا الحدث يتخطى الزمن.
داخل هيكل أورشليم، يتم اللقاء المقدس، لقاء المخلص مع شعبه، والذي سيكون هو نفسه الهيكل الجديد والأبدي حيث يستقر الروح القدس فيه، ومن بعدها سيعطينا هذه النعمة العظيمة، نعمة الروح كي نكون نحن أيضًا مسكناً لائقاً للروح القدس.
مائدة المذبح هي استباق إلى مائدة العشاء السري، وأيضًا إلى قبر المسيح، وبالأحرى إلى المسيح ذاته الذبيحة الإلهية، وهذا واضحٌ من خلال لون الرداء الأحمر الملقى على المذبح إشارة إلى آلامه الخلاصية. أما الأعمدة الأربعة فوق المذبح فترمز إلى الإنجيليين الأربعة، أعمدة الإيمان، حاملين القبة السماء التي هي عرش الله العلي.
بهذه العناصر، تكتمل صورة دخول السيد إلى الهيكل في كل معانيها التي تظهر لنا شخصية المسيح القدوس المساوي للآب، وأيضًا موسى الجديد الذي وضع سنن الشريعة الجديدة، وهو خاتمة ذبائح العهد القديم لأنه الكاهن والمذبح والذبيحة في آنٍ واحد.