موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (يوحنا 18: 33-40)
33 فعادَ بيلاطُس إِلى دارِ الحاكِم، ثُمَّ دَعا يسوعَ وقالَ له: ((أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟)) 34 أَجابَ يسوع: ((أَمِن عِندِكَ تَقولُ هذا أَم قالَه لَكَ فِيَّ آخَرون؟)) 35 أَجابَ بيلاطُس: ((أَتُراني يَهودِيًّا؟ إِنَّ أُمَّتَكَ وعُظَماءَ الكَهَنَةِ أَسلَموكَ إِلَيَّ. ماذا فَعَلتَ؟)) 36 أَجابَ يسوع: ((لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا)). 37 فقالَ له بيلاطُس: ((فأَنتَ مَلِكٌ إِذَن!)) أَجابَ يسوع: ((هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي)).
مقدمة
في اختتام السَّنة اللِّيتورجيا نحتفل بعيد سيدنا يسوع المسيح، ملك الكون، حيث صرَّح يسوع أمام الحاكم الرُّوماني بيلاطس البُنطي، ممثل السُّلطة الرُّومانيَّة، أَنَّه ملكٌ ليشهد للحق (يوحنا 18: 33-38). وبهذه الشَّهادة يُعلن جوهر رسالته، وهي قوة الحق وليس حق القوة. يسوع المسيح هو "مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأَرْباب" (رؤيا 19: 16) وسيِّد "التَّطويبات"، ومحور التَّاريخ. وفي هذا الصّدد يقول البابا فرنسيس "أن حياة الخليقة لا تسير إلى الأمام بشكل اعتباطي، بل هي تتوجه نحو هدف نهائي، الظهور الكامل للمسيح سيد التاريخ والخليقة بكاملها، والذي سيكون ملكوته الأبدي ختام التاريخ"(25/11/2018). 18 ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل يوحنا (يوحنا 18: 33-38)
33 فعادَ بيلاطُس دارِ الحاكِم، ثُمَّ دَعا يسوعَ وقالَ له: ((أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟)).
تشير عبارة "بيلاطُس" Πιλάτος في الأصل اللَّاتيني Pilatus (معناها مضغوط، أو تحت الضَّغط) إلى بنطيوس بيلاطس وهو خامس حاكم روماني على اليهوديَّة (26-36م) الذي تقع اورشليم داخل حدودها؛ وهو يُشغل وظيفته تحت سلطة والي سوريَّا. وكان مقرّه العادي في القيصريَّة البحريَّة، ولكنَّه كان ينتقل إلى اورشليم في موسم الأعياد اليهوديَّة لضمان النِّظام ولإخماد أي ثورة، أو فتنة وسط التَّجمعات في الهيكل. ووصفه فيلون الإسكندري بالمُرتَشي والفاسد والقاسي والظَّالم، إذ أنَّه سرق خزائن الهيكل وأخذ المال ليبني به قناة مائيَّة. وأمَّا مؤرخو القرن الأول وصفوه بأنَّه يكره الشَّعب اليهودي، وقد أخمد ثورتهم بالقوة كما جاء في إنجيل لوقا "وفي ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّين الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُسُ دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم"(لوقا 13: 1)؛ لهذا جعل لهم من يسوع المصلوب "ملك اليهود" كما جاء في شهادة يوحنا "كَتَبَ بيلاطُسُ رُقعَةً وجَعَلَها على الصَّليب، وكانَ مكتوبًا فيها: ((يسوعُ النَّاصِريُّ مَلِكُ اليَهود " (يوحنا 19: 19). وقتل بيلاطس سامريِّين فقاموا بتقديم شكوى ضده إلى حاكم سوريا فيتاليوس، فعزله وأرسله إلى رومة، حيث حكم الإمبراطور كاليغولا بنفيه، الأمر الذي دفعه إلى الانتحار سنة 37م. أمَّا عبارة "دَعا يسوعَ" فتشير إلى دعوة بيلاطس يسوع إلى دخول دار الحاكم وحده منعزلا بدون شهود، لان المحاكمة الرُّومانيَّة كانت تقوم بشكل أساسي على استجواب الحاكم للمتَّهم. وأراد بيلاطس أن يسأل يسوع بمعزلٍ عن حضور اليهود، لأنَّه توقع أمرًا عظيمًا منه، وأراد أن يُدرك كل الأمور بدقة بعيدًا عن تشويش اليهود وتدخلهم. أمَّا عبارة "دارِ الحاكِم" في الأصل اليوناني πραιτώριον فتشير إلى دار القضاء أو مقرِّ الحاكم في اورشليم سواء في قصر هيرودس الواقع في حارة الأرمن، أو في قلعة أنطونيا قرب الحرم الشَّريف مكان المدرسة العُمريَّة حاليًا. وقد بناها هيرودس الكبير وكانت منزلا للولاة الرُّومانيِّين في أيام الأعياد اليهوديَّة حيث كانوا يأتون إليها من قيصريَّة (قيساريَّة) مركز الولاية. أمَّا عبارة "أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟" فتشير إلى دعوى استجواب الحاكم الروماني نتيجة اتهام السُّلطات اليهوديَّة للمسيح أنَّه يدَّعي المُلك ويقاوم قيصر كما جاء في إنجيل لوقا "وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ إِلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك "(لوقا 23: 2). وهذا ما قصده اليهود، وفهمه بيلاطس، ولكنَّ يسوع رفض هذا الملك السِّياسي (يوحنا 18: 36)، لأنَّه ملكٌ ديني محض. لم يطلق يسوع على نفسه هذا اللَّقب الملكي إلى الآن بل لُقُّب به (يوحنا 6: 15 و1: 49). فاستجوبه بيلاطس بخصوص هذه التُّهمة السِّياسيَّة الموجّهة إليه، لأنه لا يعرف إلاَّ نموذجًا واحدًا للملك الشجاع والقوي المهيب، في حين أمامه رجلُ يُدعى مَلكٌ، لكنه لا يرتدي ملابس فاخرة ومَّتهم ولا يحمل رموز السُّلطة والغنى والسَّيطرة. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: " أن بيلاطس كقاضٍ يبحث عن العدالة والحق فالتزم أن يسمع من كل الأطراف حتى يتحقق من صحة الاتهام ضد يسوع أو بطلانه". وهذه التُّهمة ألقت بالرُّعب في قلب بيلاطس، لان كلمة ملك تعتبر تهديدًا لقيصر روما. وإن ادِّعاء يسوع الملوكيَّة يعني الثَّورة على الرُّومان، وتحرير الشَّعب اليهودي، واعتلاء عرش المُلك، لكن بيلاطس كان يتعجب من هذا المُتَّهم الصَّامت؛ فإن كان ملك يريد الثَّورة على قيصر فأين هم أتباعه ومعاونوه؟ ولماذا لا يتكلم. ولا يبالي بالموت، ولا يدافع عن نفسه؟ يتضح مما سبق أن السُّلطات اليهوديَّة الدِّينيَّة قد صبغت التُّهمة باللَّون السِّياسي. حينما يضع بيلاطس الكتابة على الصَّليب، التي تشهد على مُلك يسوع، حاول رؤساء الشَّعب تغييرها بقولهم لِبيلاطُس: ((لا تَكتُبْ: مَلِكُ اليَهود، بلِ اكتُبْ: قالَ هذا الرَّجُل: إِنَّي مَلِكُ اليَهود (يوحنا 19: 21). وقد تردَّدت لفظة "ملك" ومملكة" اثني عشرة مرة في هذا النَّص وذلك دلالة على أهميتها. أمَّا عبارة أَأَنت " فتشير إلى تساءل بيلاطس وكأنَّه يقول ليسوع: هل يُمكن أن تكون ملكًا وأنت ضعيفٌ وديعٌ ومهانٌ ومتهم! لم يصدر هذا السُّؤال عن رؤساء الشَّعب، إنَّما أسلموه لبيلاطس بوصفه فاعل شر " لو لم يَكُنْ فاعِلَ شَرٍّ لَما أَسلَمْناهُ إِلَيكَ"(يوحنا18: 30). هذه هي مشكلة الإنسان وتحدِّيه الأكبر: أن يعرف من هو المَلك. وفي الإنجيل يُمثل فهم معنى كلمة "مَلك" سؤالاً حسمًا في الإنجيل.
34 أَجابَ يسوع: ((أَمِن عِندِكَ تَقولُ هذا أَم قالَه لَكَ فِيَّ آخَرون؟))
تشير عبارة " أَمِن عِندِكَ تَقولُ هذا " إلى سؤال يسوع لبيلاطس مستفسرًا منه إذا كان سؤاله (أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟) وهذا السُّؤال يتضمن اعترافًا شخصيًا بملكه بمعنى: هل رأيت فيَّ مدة حكمك شيئا يحملك على الظَّنَّ أنني أريد خيانة الدَّولة الرُّومانيَّة أو عصيان قيصر؟ أمَّا عبارة "قالَه لَكَ فِيَّ آخَرون" إلى استفسار يسوع من بيلاطس إذا كان سؤاله "أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟" مجرد إشاعة. أراد يسوع أن يلفت انتباه بيلاطس كي يُفرِّق بين ما يشعر به بيلاطس هو في داخل نفسه وبين ما يسمعه من رؤساء اليهود. هل سمع عنه ما يثبت هذه التُّهمة. في جواب يسوع كان تحذيرًا لبيلاطس بما قدّمت له السُّلطات اليهوديَّة من معلومات. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "كأن يسوع يقول إلى بيلاطس: "إذ قد سمعت هذا الذي قاله اليهود، فلماذا لا تستقصي في البحث عن الحقيقة؟". فإن كان بيلاطس يطلب الحق سيعرف أي نوع من المُلك يملك المسيح. هل هو ملك سياسي أم هو ملك روحي. إنّ المسيح شخصيًّا ليس ملكًا دُنيويًّا، ولا تقوم مملكته لا على المال ولا على الجاه ولا على الهيمنة العسكريّة أو السِّياسيّة والنُّفوذ الدُّبلوماسي، وطلب السلطة والشرف، بل عرشه هو الصَّليب، وصولجانه التَّواضع، وسلاحه الكلمة، وتاجه العفّة الكاملة وسلطته الخدمة. يُعلق الأب علاء علامات: " عرشه صليب، وتاجه إكليل من شوك، ثيابه أشبه بالعريانين، وصولجان مُلكه خشبة صليب، مسمارٌ في يمينه بدل الختم، وآخر في شماله بدل الخاتم، حربة في جنبه، وخل ٌّمن زوفى في فمه، لوحة تجريمه معلَّقة فوق رأسه، وبشائر تدل على أنه ملك". هل معنى ذلك انه الملك التَّافه كما وصفه فريق المستهترون حيث يتسألون " أين تاجك أيها الملك التَّافه؟ إن قصرك مهدَّم، ولا يبقى منك إلاَّ الاسم، تشير بأصبعك ولكن ما من أحد حولك". فهو ملك فاشل بحسب المعايير البشريَّة.
35 أَجابَ بيلاطُس: ((أَتُراني يَهودِيًّا؟ إِنَّ أُمَّتَكَ وعُظَماءَ الكَهَنَةِ أَسلَموكَ إِلَيَّ. ماذا فَعَلتَ؟
تشير عبارة" أَتُراني يَهودِيًّا؟" إلى جواب بيلاطس، وفيه من الحِدّة والكبرياء والاستهزاء. إذ استهزئ باليهود بمعنى "هل أنا يهودي حقير حتى أقول عنك أنك ملك؟ أمَّا عبارة" أُمَّتَكَ وعُظَماءَ الكَهَنَةِ أَسلَموكَ إِلَيَّ" تشير إلى اتهام يسوع أنه أعلن عن نَفسِهِ مَلِكًا لم يأتِ من نفسِهِ، بل مِن الكَهَنةِ ورُؤساءِ الشَّعبِ. إنَّ شعب الله نفسه رفض مسيحه (خروج 19: 5). وقد فهم بيلاطس درس المسيح، لكنَّه ألقى التُّهمة على اليهود. يعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "بأن الأمر لا يشغله، إنَّه يخصُّ اليهود، ولا يخصُّه هو. لقد تنحّى بيلاطس عن مسئوليته معلنًا أنه ليس بيهودي، وأن الذي أسلمه هو أُمّته ورؤساء الكهنة ". أمَّا عبارة " ماذا فَعَلتَ؟ " فتشير إلى سؤال بيلاطس ليسوع: لماذا يتهِمك شعبك بادعائك أنك ملك؟ دافع عن نفسك. وبيلاطس يعلم أنهم يبحثون سرًا عن ملكٍ ليثوروا ضد قيصر، ويعرف أنَّه صعب أن يرفع اليهود دعوى على ملكهم، لأَّنَّ أعظم ما يُرضيهم أن يقوم رجل يُحرِّرهم من نير الرُّومان. هنا يتَّضح أن بيلاطس يبحث عن الحق ويشعر ببراءة المسيح وخبث اليهود. لكنه اكتفى بما قدّمت له السُّلطات اليهوديَّة من معلومات ضد يسوع فوضع نفسه في موقف خاطئ لم يستطع الخروج منه.
36 أَجابَ يسوع: ((لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا)).
تشير عبارة" لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" إلى طبيعة مملكة يسوع الحقيقيَّة، إنَّها ليست من هذا العَالَم، ولا تتبع معايير هذا العَالَم. ولا تأتي من الإنسان ولا هي قائمة بفعل قوة أرضيَّة سياسيَّة، ولا تعتمد على جيوش ولا تقاوم قيصر، لكنَّها مملكة روحيَّة تأني من الله، مؤسَّسة على الحق، سلاحها كلام الله، وشريعتها إرادة الله، وهدفها الشهادة أمام الإنسان للحق، وغايتها مجده تعالى وخلاص النُّفوس وسعادتهم الأبديَّة. ويؤكِّد يسوع أمام بيلاطس أنَّه لا يجب الخلط ما بين ملكه وأي سلطة سياسيَّة. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "إنِّي بالحقيقة ملكٌ، ولكن ليس كما يتوقع شخص مثلك (بيلاطس)، بل أسمى من ذلك بكثير جدًا، مشيرًا بهذه الكلمات وتلك التي تليها أنَّه لم يفعل شرًا". وتنبأ أشعيا النَّبي ليست مملكة يسوع كممالك العَالَم حيث "صارَ الحَقُّ مَفْقودًا والمُعرِضُ عنِ الشَّرِّ مَسْلوبًا" (أشعيا 59: 15). إنها مملكة لا يقوى البشر على تدميرها، مثلما لا يقوون على بُنيانها، ولذلك مملكته تختلف اختلافًا شديدًا عن المملكة التي تعود أهدافها ووسائلها إلى هذا العَالَم، فإن مملكة يسوع لا تحتاج إلى القوة والعمل السِّياسي. ولم يُفصح يسوع إلاَّ عن مصدر مملكته، إنَّه نالها من الله كما جاء إعلانه في الهيكل في اورشليم: "أَنتُم مِن أَسفَل، وأَنا مِن عَلُ. أَنتُم مِن هذا العَالَم وأَنا لَسْتُ مِنَ العَالَم هذا"(يوحنا 8:23). وتتكرر لفظة "ملك" في هذا النَّص سبع مرات (رقم الكمال) في محاكمته أمام بيلاطس دلالة على كمال المُلك في مملكة المسيح. أمَّا عبارة "لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" فتشير إلى مُلك أرضي كما يفهمه العَالَم بحيث يتزعَّم المسيح حركة تحرير قومي ويقيم سلطان شعب إسرائيل. والمسيح بحسب التَّوراة سيكون ملكًا من نسل داود، ولكن ليس ملكًا أرضيًا بل يملك على قلوب البشر (لوقا 16: 21) والأرواح والضَّمائر (رؤيا 14: 17). لكن بمفهوم اليهود المسيح هو ملك سياسي، هذا مرفوض من قبل المسيح وبيلاطس أيضًا. أمَّا عبارة "لَدافعَ عَنِّي حَرَسي" في الأصل اليوناني οἱ ὑπηρέται οἱ ἐμοὶ ἠγωνίζοντο [ἄν (معناها خُدَّامي يجاهدون عني ضد أعدائي) فتشير إلى أتباع المملكة الأرضيَّة الذين يحاربون عنها وعن مَلكها، أمَّا المسيح فلم يأذن لأحد من أتباعه أن يحامي عنه، بل سلَّم نفسه بلا معارضة إلى من قبضوا عليه لدى اعتقاله في الجسمانيَّة إذ قال لبطرس: "أَغمِدِ السَّيف. أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها " (يوحنا 18: 10-11). وصف يسوع أتباعه الذين يؤمنون به بقوله "أَنَّهُم لَيسوا مِنَ العَالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العَالَم لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العَالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشَّرِّير" (يوحنا 17: 14-15). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " أظهر يسوع هنا ضعف المملكة الأرضيَّة التي بيننا، إذ تعتمد قوتها على الخدام، أما المملكة التي من فوق ففيها الكفاية ولا تحتاج إلى شيء". نرى أن يسوع حتى وهو في المحاكمة يُبشِّر بمملكة الحق وبملكوت الله. المسيح بهذا يُثبت فكرة مُلكه، ولكن بمفهوم غير ما يفهمه اليهود والعَالَم. أمَّا عبارة "ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا" في الأصل اليوناني" νῦν δὲ ἡβασιλεία ἡ ἐμὴ οὐκ ἔστιν ἐντεῦθεν. (معناها الآن ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا) فتشير إلى أن مُلك يسوع ليس دنيويًا، قائمًا على القوَّة والعنف، وأخذ حرية أبناء شعبه بل هو روحي قائمٌ على قوة الحق الذي يُحرِّر ويُخلص أبناء شعبه. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "أراد يسوع أن يظهر إلى بيلاطس أنَّه ليس إنسانًا مجردًا بل الله، ابن الله" ويحقق ملكه ليس من خلال العنف، بل من خلال شهادته بالحق (يوحنا 18: 37). ملك يسوع ليس حق القوة بل قوة الحق. وبهذا شرح يسوع لبيلاطس أن مملكته سماويَّة، وأنَّه لا ينافس قيصر، ولكن اليهود لم يفهموه، لان كان كل فكرهم أرضى، لذلك لا يقبلون موضوع الملكوت السَّماوي. لكن مملكة يسوع ليست غائبة عن العالم، بل حاضرة بطريقة مملكة جديدةً مؤسَّسة على الحبّ. أمَّا عبارة "الآن" فتدلّ على السَّبب كما قال صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين أنه ليس الكل قد خضع له الآن "أَخضَعتَ كُلَّ شَيءٍ: تَحتَ قَدَمَيه. فإذا أَخضَعَ لَه كُلَّ شَيء، فإِنَّه لم يَدَعْ شَيئًا غَيرَ خاضِعٍ لَه. على أَنَّنا لا نَرى الآنَ كُلَّ شَيءٍ مُخضَعًا لَه" (عبرانيِّين 2: 8). المسيح يملك الآن على قلوب من يؤمنوا به ويُحبُّونه ويُملَّكوه على قلوبهم. ولكنَّه في الدَّينونة سيملك على الكل، إمَّا بالحب على من أحبوه، أو بهزيمة الباقين من أعدائه وجعلهم عند موطئ قدميه. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسول: " ثُمَّ يَكونُ المُنتَهى حِينَ يُسَلِّمُ المُلْكَ اللهِ الآب بَعدَ أَن يَكونَ قد أَبادَ كُلَّ رِئاسةٍ وسُلطانٍ وقُوَّة. فلا بُدَّ لَه أَن يَملِكَ حتَّى يَجعَلَ جَميعَ أَعدائِه تَحتَ قَدَمَيه. وآخِرُ عَدُوٍّ يُبيدُه هو المَوت " (1 قورنتس 15: 24-26). كانت إجابة السَّيد المسيح لبيلاطس هي أنَّه هو ليس ملكًا حسب فكر اليهود، أي ملك سياسي كسائر ملوك الأمم، ملك قوي وقادر يضمن لشعبه الغِنى والأمان، ملك يحرِّر شعبه بالثَّورة ضد روما بل هو ملك السَّماوي لا يحتاج إلى جيشٍ يدافع عنه ويُثبت سلطانه.
37 فقالَ له بيلاطُس: ((فأَنتَ مَلِكٌ إِذَن!)) أَجابَ يسوع: ((هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي صَوتي)).
تشير عبارة " فأَنتَ مَلِكٌ إِذَن!" إلى استغراب بيلاطس من ملوكيَّة يسوع ولم يفهمها، وكأنه يقول له "أي ملك يمكن أن يكون إنسان مثلك؟ أيمكن أن يوجد سلطة لا تتحقق بطرق بشريَّة؟ ملك لا يستجيب لمنطق الهيمنة والقوة؟ أمَّا عبارة " هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك" فتشير إلى جواب يسوع به يُصادق على ما قال بيلاطس وبالتحديد اعتراف بيلاطس بـملوكيّة يسوع. تحمّل يسوع مسؤوليّة حياته: لقد جاء من أجل رسالة ويذهب إلى النّهاية حتّى يشهد لملكوت الآب. لكنه لا يوافق يسوع بالضُّرورة على المعنى الذي ينسبه بيلاطس للسؤال، فالمسيح يرفض أن يكون ملكًا حسب ما يقول اليهود. وبيلاطس فهم ملك المسيح كما فهمه اليهود لذلك شرح المسيح له الحقيقة كما جاء في أقوال بولس الرَّسول "المسيحِ يسوعَ الَّذي شَهِدَ شَهادةً حَسَنَةً في عَهْدِ بُنطِيوس بيلاطُس" (1 طيموتاوس 6: 13). يرتكز يوحنا الإنجيلي على اعتراف بيلاطس بـملوكيّة يسوع. أمَّا عبارة " وأَنا ما وُلِدتُ " فتشير إلى المسيح الذي وُلِدَ أي تجسد للمُلك فيشهد بهذا أمام مُمثل أقوى دولة في العَالَم في ذاك الوقت. أمَّا عبارة " أَتَيتُ العَالَم " فتشير إلى يسوع المسيح الذي هو موجود قبل ميلاده أنه ليس من هذا العَالَم، ولكنه أتى وتجسَّد لإقامة مملكته التي لا تُقام على أُسس أرضيَّة بل على سلطة وقوة سماويَّة. أمَّا عبارة "لأَشهَدَ لِلحَقّ" فتشير إلى اهتمام يسوع بهدف رسالته المُلُكية مبينًا الصِّلة بين المُلكيَّة والحكمة كما يظهر جليًا من كلام امرأة حكيمة لداود الملك " أَنَّ سَيِّدي الملك هو كمَلاكِ اللهِ في فَهمِ الخَيرِ والشَّرِّ" (2 صموئيل 14: 17). فمملكته لا تستخدم العنف، بل تُحقَّق وفقا لمشيئة الآب الذي عهد إليه برسالته، بقبول الله المُتجلي في الكلمة المُتجسد (يوحنا 14: 6). فيسوع شهد بحقيقة الآب من خلال ما يقوله وما يعمله وما هو عليه، وشهد للحق مهما كلفته هذه الشَّهادة. المسيح يشهد للحق ليس كشيء خارج عن ذاته بل كجزء من ذاته، فهو الحق. وفي الواقع، أتى المسيح ليعلن الحق بعد أن تاه البشر في ضلالهم. وتكررت كلمة شهد 31 مرة في إنجيل يوحنا نظرًا لأهميتها في إنجيل يوحنا. ويعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثَّاني: "بهذه العبارة التي فاه بها الرَّب يسوع أمام القاضي في أحرج ساعات حياته، قد جدّد ما قاله سابقًا: "تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم" أفما مَثَل الرَّب يسوع المسيح مرارًا، على مرّ العصور والأجيال منذ عهد الرُّسل، إلى جانب من يُحاكمون من أجل الحقّ؟ أفما قاسى الموت غالبًا مع من حُكم عليهم من أجل الحق؟" ((الرّسالة الرّسوليَّة، فادي الإنسان، العدد 12). أمَّا عبارة "الحق" فتشير إلى الحقيقة الكليَّة التي هي المجال الذي يحيا ويعمل فيه المسيح الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). وتكررت لفظة حق 25 مرة لأهميتها في النَّص. فهو الحق لأنه الابن المتجسد الذي عبّر تعبيرًا تاما للبشر عن الآب، وكشفه لهم بعمله وقوله. فأُدخل المؤمنين في الاتحاد بالآب، كما صرّح يسوع لفيليبس " مَن رآني رأَى الآب"(يوحنا 17: 8)؛ وعلى هذا الاتحاد يقوم ملء الحياة الحقيقيَّة (يوحنا 17: 3). أمَّا عبارة " مَن كانَ مِنَ الحَقّ " فتشير إلى "من هم من الله" (يوحنا 8: 37)، و"من هم من فوق" (يوحنا 8: 23) بعكس "من هم من إبليس" (يوحنا 8: 44)، و "من هم من أسفل" (يوحنا 8: 23). وهكذا يُميز يسوع بين فريقين: فريق ينتسب لفوق، للسَّماء، لله، للحق؛ وفريق ينتسب لأسفل، للأرض، لهذا العَالَم الشَّرير ولإبليس. ولا فريقٍ ثالثٍ بينهما. أمَّا عبارة "فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي صَوتي" فلا تشير إلى "كل من يسمع صوت يسوع هو من الحق، وإنما من هو من الحق يسمع صوته، أي لأن هذه عطيَّة تُمنح له من يسوع الحق لكي يصغي إلى صوته" كما يعلق القديس أوغسطينوس. ولهذا يَستطيعُ يسوعُ أن يقولَ إنَّ كُلَّ مَن يَعيشُ في الحَقِّ، أي مَن يَعيشُ كابنٍ للهِ، يَنتمي إلى هذا المَلَكوتِ. فكل من أحب الحق وسار بحسب هداه سيسمع صوت المسيح ويفهمه ويصير له صوت المسيح حياة أبديَّة (يوحنا 24:5). فهدف مملكة يسوع هو الشَّهادة أمام الإنسان للحق. وصرّح المسيح: " إِنَّ خِرافي تُصْغي صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة" (يوحنا 10: 27-28). شرط يسوع للانتماء إلى مُلكه أن يكون الإنسان من أهل الحق بعيدًا عن الكذب والمراوغة والخداع والمُراء بل يعمل بحسب الحق، أي أن يعيش بحسب الشَّريعة " لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله"(يوحنا 3: 21)؛ أمَّا الذين لا يسمعون إلى صوت الحق، لأنهم لا يؤمنون كما صرّح يسوع لليهود "فَإِذا كُنتُ أقولُ الحَقّ فلِماذا لا تُؤمِنونَ بي؟ مَن كانَ مِنَ اللهِ استَمَعَ كَلامِ الله. فإِذا كَنتُم لا تَستَمِعونَ إِلَيه فَلأَنَّكُم لَستُم مِنَ الله" (يوحنا 8: 46-47). وهم لا يؤمنون لأنهم ليس هم من تلاميذ الرَّب "ولكِنَّكُم لا تُؤمِنون لأَنَّكُم لستُم مِن خِرافي. إِنَّ خِرافي تُصْغي صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني" (يوحنا 10: 26 -27). وكلام يسوع " لا يَعتَمِدْ على أُسلوبِ الإِقناعِ بِالحِكمَة، بل على أَدِلَّةِ الرُّوحِ والقُوَّة، كَيلا يَستَنِدَ إِيمانُكُم حِكمَةِ النَّاس، بل قُدرَةِ الله" (1 قورنتس 2: 14). ولذلك من يعرف الله يسمع للحق كما يؤكِّد يوحنا الحبيب "أمَّا نَحنُ فإنَّنا مِنَ الله. فمَن عَرَفَ الله أَصْغى إِلَينا ومَنْ لم يَكُنْ مِنَ الله لم يُصْغِ إِلَينا. بذلِكَ نَعرِفُ رُوحَ الحَقِّ مِن روحِ الضَّلال"(1 يوحنا 4: 6). ومن المأساة أن نعرف الحق ونعترف به ولكن نختار أن نرفضه مثل بيلاطس. وهنا يُلِّخص المسيح جوهر رسالته: ملكوت الله. ومحاكمة يسوع كانت فرصة ليسوع ليشهد للحق أمام بيلاطس كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "وفي حَضرَةِ المسيحِ يسوعَ الَّذي شَهِدَ شَهادةً حَسَنَةً في عَهْدِ بُنطِيوس بيلاطُس"(1 طيموتاوس 6: 13). في هذه الآية دعوة لنا جميعًا كي نكشف عن وجه الملك في وجه يسوع ابن الإنسان ونلتقي بالله في وجه الابن الـملك يسوع.
38 قالَ له بيلاطُس: ((ما هو الحَقّ؟)) قالَ ذلكَ، ثُمَّ خرَجَ ثانِيَةً إلى اليَهودِ فقالَ لَهم: ((إِنِّي لا أَجِدُ فيه سَبَبًا لاتِّهامِه.
تشير عبارة "ما هو الحَقّ؟" إلى سؤال بيلاطس وكأنَّه يقول ليسوع: لا أحد يعرف الحق، أو يستطيع أن يوضِّحه؛ فكم بالحري أنتَ! لا فائدة لك ولي من معرفة ذلك ودليل أنَّه انصرف قبل أن يسمع الجواب. طرح بيلاطس على يسوع السُّؤال ولم ينتظر الجواب، لأنَّه كقاضٍ يعلم صعوبة الحكم بالحق، والحق في العَالَم نسبى، وكلُّ إنسان يرى أن الحقَّ في جانبه. لن يجد الإنسان الحق على الأرض، لأن الأرض زائلة، فكل ما هو متغير ليس بحق، لكن لو انتظر الجواب لسمع يسوع يقول له: أنا الحق! نحن ندرك أن هناك حق مُطلق، وهو الله وليس سواه، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسول: " ونَعلَمُ أَنَّ ابنَ اللهِ أَتى وأَنَّه أَعْطانا بَصيرةً لِنَعرِفَ بِها الحَقّ. نَحنُ في الحَقِّ إِذ نَحنُ في ابنِه يسوعَ المَسيح. هذا هو الإِلهُ الحَقُّ والحَياةُ الأَبدِيَّة"(1يوحنا 5: 20). ويعلّق القديس أوغسطينوس على سؤال بيلاطس: "ما هو الحَقّ؟" في اللُّغة اللَّاتينيَّة: quid est veritas? فأجاب بنفس الأحرف Est vir qui adest' أي هو الرَّجل الذي أمامك. ضُعف بيلاطس الحاكم أنَّه خرج دون أن يسمع إجابة السَّيد المسيح وكثيرين يعملون بالمثل، يصلون ويخرجون سريعًا دون أن يسمعوا الرَّد. ولو كان بيلاطس يبحث عن الحق فعلًا لاستمع لصوت المسيح ولكانت له حياة. كلُّ من يبحث عن الحق، يعطيه روح الله استنارة لمعرفة الحق. أمَّا عبارة "خرَجَ ثانِيَةً اليَهودِ" فتشير إلى بيلاطس الذي طرح سؤالًا هامًا للغاية، لكنَّه لم ينتظر الإجابة بل خرج إلى اليهود يعلن أنَّه لم يجد في يسوع عِلَّة واحدة. هذا ما نفعله نحن كثيرًا في صلواتنا حين نطلب من الله ولا ننتظر إجابته لنا. أمَّا عبارة "إِنِّي لا أَجِدُ فيه سَبَبًا لاتِّهامِه " فتشير إلى شَهادة بيلاطس ببراءة يسوع أمام الجموع. بيلاطس أمام إنسان عظيم وليس أمام مُجرم، كما صرّح هو نفسه: " لم يجِدْ سَبَبًا يَستَوجِبُ به الموت" (لوقا 23: 22)، إنسان لم يُثير فتنة، وهو ليس ملكًا يقاوم قيصر، بل هو "الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس" (1بطرس 1: 19). وذكر يوحنا الإنجيلي أنَّ بيلاطس شهد ليسوع ثلاث مرات أنَّه بريء (يوحنا 18: 38؛ 19: 4، 6). أمَّا عبارة " سَبَبًا " في الأصل اليوناني αἰτία (تعني علة) فتشير إلى عِلة الجرم للحكم على المتهم. فقد أيقن بيلاطس أنَّ يسوع لا يُشكِّل أية خطورة على روما، وأنَّ جريمته هو تمتُّعه بشعبيَّة كبيرة وأن رؤساء الكهنة أسلموه حسدًا (مرقس 15: 10) وغشًا (متى 27: 18). وشهادة بيلاطس ببراءة المسيح، هي شهادة العَالَم بأن المسيح ليس فيه عِلة واحدة، إنَّما هو مات لأجلنا ولأجل كلِّ البشر. لكن لم تكن عند بيلاطس الشَّجاعة أن يُبرئ يسوع فورًا، بل القى مسؤوليَّة الحكم بموته على رؤساء الكهنة والحَرس بقوله لهم: "خُذوه أَنتُم فاصلِبوه، فإِنِّي لا أَجِدُ فيه سَبَبًا لاتِّهامِه" (يوحنا 19: 6). عجيب أن رئيس الكهنة يدبِّر المؤامرات ضد المسيح وكان عنوان علته الذي صلب بسببه مكتوبًا فوقه على الصَّليب" يسوعُ النَّاصِريُّ مَلِكُ اليَهود " (يوحنا 19: 19) وبيلاطس الرُّوماني أثبت براءته.
39 ولكِن جَرَتِ العَادَةُ عِندكُم أَن أُطلِقَ لَكم أَحَدًا في الفِصْح. أَفتُريدونَ أَن أُطلِقَ لَكمُ مَلِكَ اليَهود؟
تشير عبارة "جَرَتِ العَادَةُ عِندكُم أَن أُطلِقَ لَكم أَحَدًا في الفِصْح" إلى عادة الحكومة الرُّومانيَّة كلَّ سنةٍ أن تمنح امتيازًا لليهود بطلب إطلاق سراح أحد المسجونين في عيد الفصح. وكانت هذه العادة نوعًا من التَّكريم لعيد الفصح، كذكرى للتَّحرُّر من عبوديَّة فرعون. حاول بيلاطس هنا أن يجد مخرجًا لإطلاق سراح يسوع من خلال عادة عفو في المناسبات الكبرى. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "لاحظوا كيف عمل بيلاطس بحكمة. إنَّه لم يقل: "حيث أنه مخطئ ومستحق للموت، سامحوه كهبة للعيد"، وإنَّما إذ برَّأه أولاً من كل جريمة، ثم سألهم بعد ذلك إن كانوا لا يُسقطون قضيته بكونه بريئًا، فإنَّه حتى لو كان مخطئ يغفرون له بسبب الزَّمن العيد". أمَّا عبارة "أَفتُريدونَ أَن أُطلِقَ لَكمُ مَلِكَ اليَهود؟" فتشير إلى مساومة بيلاطس الجبانة الحمقاء، لأنَّه جعل اليهود حكمًا في القضيَّة، وسلم قضيَّة المُتهم إلى أعدائه، واخفى هزيمته. أمَّا عبارة "مَلِكَ اليَهود" فتشير إلى تشديد بيلاطس على لفظة ملك كسخرية من التُّهمة التي يحاول اليهود إلصاقها بالمسيح من ناحية، ومن ناحية أخرى، يرجو بيلاطس أن يؤثر في الشَّعب في اختياره بين ملك وبين لص. وهو يَعلم أن الشَّعب يريد ملكًا. فاقترح تسوية عن طريق حل وسط بان يطلق المسيح ويُبقى بَرْأَبَّا سجينًا. عندما تعلو المراكز يصعب على الإنسان أن يناصر الحق، وان ينظر إلى كرامة الإنسان وحقوقه خوفا على منصبه.
40 فعادوا الصِّياح: لا هذا، بل بَرْأَبَّا! وكان بَرْأَبَّا لِصًّا.
تشير عبارة "فعادوا الصِّياح" إلى صراخ اليهود طالبين إطلاق بَرْأَبَّا، وذلك تحريضًا من رؤساء الكهنة والشُّيوخ (متى 27: 20). أمَّا عبارة "لا هذا" فتشير إلى إنكار الشَّعب ليسوع البار، كما اكَّد ذلك بطرس الرَّسول:" أَسلَمتُموه أَنتمُ وأَنكَرتُموه أَمامَ بيلاطُس، وكانَ قد عَزَمَ على تَخلِيَةِ سَبيلِه، ولكِنَّكم أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ البارّ والتَمَستُمُ العَفْوَ عن قاتِل" (أعمال الرسل 3: 13-14). ونحن لا نزال نسمع هذا الصّراخ القاسي: "لا هذا". فقد يوجد على الأرض ملايين من البشر يعارضون يسوع المسيح. ويعلق القدّيس أوغسطينوس: "لست أتكلّم، عن الفاسدين الّذين يجدّفون ضدّ المسيح. ففي الواقع قليلون هم الذين يجدّفون بالفم، غير أنّ من يجدّفون بسلوكهم فهم كثيرون". أمَّا عبارة "بَرْأَبَّا" فتشير إلى لفظة آراميَّة تتكوّن من كلمتين: בר-אבא معناها "ابن الأب"، ولم يكن هذا اسمه الحقيقي، قد يكون ابنًا لأي أبٍ غير مُسمَّى وغير معروف قد ارتكب جريمة. يبدو أن هناك تباينًا مقصودًا مع يسوع "ابن الآب". قد أُطلق سراح بَرْأَبَّا، لأنَّ يسوع مات عنه حيث كان بَرْأَبَّا محكومًا عليه بالصَّلب، فأخذ السَّيد المسيح عقوبته، رمزًا لأنَّه حمل عقوبة الموت المحكوم بها علينا. إنَّ بَرْأَبَّا هو رمزٌ لنا نحن أبناء الله الآب. ومن جراء خطايانا كنَّا مستحقِّين الموت فمات المسيح عنَّا ليحمل عنَّا عقوبة الموت. كان بَرْأَبَّا مثلا للتَّمرد السِّياسي الذي أرادت السُّلطات الدِّينيَّة أن تراه في المسيح المنتظر، أرادت أن ترى إنسانًا يستعمل القوَّة والعنف. فهو يُعتبر بطلاً بين اليهود، إذ أحدث شغبًا وقاد عصيانًا. وقد وصفه مرقس الإنجيلي أنَّه: "كانَ رَجُلٌ مَسجونًا معَ المُشاغِبينَ الَّذينَ ارتَكَبوا جَريمَةَ القَتْلِ في الفِتْنَة"(مرقس 15: 7). أمَّا عبارة "لا هذا، بل بَرْأَبَّا!" فتشير إلى اختيار الشَّعب بَرْأَبَّا كما لقَّنه رؤساء الكهنة. اختاروه لأنَّ برأبا لم ينافسهم في مكاسبهم الماديَّة أمَّا المسيح فقد سحب منهم شعبهم. ويعلق القديس أوغسطينوس: "لسنا نلومكم أيها اليهود على إطلاق المجرم في وقت الفصح، بل على قتلكم للبريء...فإنَّه لكي يُحفظ الفصح الحقيقي تمّ اقتياد المسيح كشاةٍ للذَّبح كذبيحة". وفي هذا الأمر فضَّل اليهود اللِّص، رمز الخطيئة، عن القدوس البار. العَالَم يختار ما يُشبهه، وصدق قول المثل العربي " الطُّيور على أشكالها تقع"، إذ اختار الشَّعب بَرْأَبَّا صاحب العنف والقتل، ورفض الاعتراف بيسوع ملكا، كما رفض محاولات بيلاطس لتبرئته. وهكذا أفلتت الأمور من يد بيلاطس، واجتاحه عنف الشَّعب فقد السيطرة على الوضع، فمضى من تنازل إلى تنازل حتى الحكم بالصَّلب. العار الذي لحق ببيلاطس هو أنَّه وضع مصلحته ووظيفته وكرسيَّه فوق مبدأ العدل. فقد كان اهتمامه بنفسه أقوى عنده من سير العدالة. وكان خطيرًا أن يطلب اليهود حكم الرُّومان على المسيح بالصَّلب، إذ أن نفس الحكم الرُّوماني قد نفَّذ فيهم على يد القائد الرُّوماني طيطس سنة 70 م. حين صلب منهم عشرات الألوف وقتل مئات الألوف وهم الذين بدأوا بالالتجاء للحكم الرُّوماني، كما جاء في سفر المزامير "بأَفْعالِهم وبخُبثِ أَعمالِهم جازِهِم وبِصُنعِ أيديهم كافِئْهم ورُدَّ علَيهم أجْرَهم" (مزمور 28: 4). أمَّا عبارة "كان بَرْأَبَّا لِصًّا " فتشير إلى تعليق يوحنا الإنجيلي على صراخ اليهود بأنَّه أحد أعضاء المقاومين الثَّائرين على رومة. وفي الواقع، هذه عبارة مألوفة عند المؤرخ يوسيفوس فلافيوس حيث لا يقصد في لفظة "لِصّ" في الأصل اليوناني λῃστής سارق كسائر اللُّصوص بل زعيم فتنة من هؤلاء الثَّائرين على السُّلطة الرُّومانيَّة المحتلّة وربما من الثَّوار الغيُّورين الذين قاموا بالعمل السِّياسي والدِّيني بالعنف، كما جاء في إنجيل مرقس: "كانَ رَجُلٌ يُدعى بَرأَبَّا مَسجونًا معَ المُشاغِبينَ الَّذينَ ارتَكَبوا جَريمَةَ القَتْلِ في الفِتْنَة "(مرقس 15: 7). وقد جاءت كلمة "لص" في السِّريانيَّة بمعنى "رئيس عصابة. وغلطة بيلاطس جعل اليهود يحتفلون بعيد الفصح بالعفو عن مشاغب وبالحكم على يسوع الملك البار، وجعل رؤساء اليهود أن يُقرِّروا محله، فكان ضعيفًا أمام الحق لتمسكه بكرسيه وخوفا من ثورة الشَّعب. وفي النِّهاية كان هو الخاسر. ويعلق القدّيس ألفونس ماري دو ليغوري: " ها هو يسوع المسيح، الخادم المُطيع للجميع، يخضعُ لحكمِ بيلاطس بالرَّغم من افتقادِه للعدالة، ويسلِّمُ نفسَه لجلاّديه... هكذا، فإنّ هذا الرَّبّ أحبَّنا حتّى "أنّه اتّخذ صورةَ العبدِ وأطاعَ حتّى الموت، الموت على الصَّليب" (فيلبي 2: 8) (ترجمة الأعمال، الجزء 14).
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 18: 33-40)
بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 18: 33-40) نستنتج أن النَّص يتمحور حول يسوع ملك الحق كما تمّ إعلانه أمام بيلاطس البنطي الحاكم: "فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ" (يوحنا 18: 37). ومن هنا نتساءل: هل يسوع ملك؟ وما هدف مملكته؟ وما هو الشَّرط لدخول مملكته؟
السُّؤال الأول: هل يسوع ملك؟
بيّن الكتاب المقدس أنَّ يسوع ملكًا في ثلاث مراحل: في حياته على الأرض وفي قيامته وفي عودته.
ا) يسوع مَلِكٌ في حياته على الأرض
موضوع المُلك رافق مسيرة يسوع من بدايتها لنهايتها. في بشارة الملاك للعذراء القديسة مريم بميلاد يسوع قال لها: "سَيكونُ عَظيمًا وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" (لوقا 1: 32-33). وحينما جاء المجوس من المشرق قالوا: " أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه " (متى 2: 2)، وبعد ميلاده مباشرة، يجد يسوع نفسه يواجه الملك هيرودس ً" الذي دَعا الَمجوسَ سِرًّا وتَحقَّقَ مِنْهم في أَيِّ وَقْتٍ ظهَرَ النَّجْم" (متى 2: 7). فحاول هيرودس قتل هذا الطِّفل الذي دُعي ملكًا. إذ لا يمكن وجود مَلكين، الواحد بجوار الآخر، لا يوجد مكان إلا لمَلكٍ واحدٍ.
كان "ملكوت الله" محور تبشير الرَّبّ يسوع. وقَبِلَ يسوع لقب "ملك" خلال حياته على الأرض اعتباره لقبًا مسيحانيًا يتجاوب مع وعود الأنبياء (متى 12: 1-11)، لكن قَبله بتحفُّظ، إذ جرّده من ملامحه السِّياسيَّة. فقد كان انتظار اليهود للمسيح مرتبطًا بانتظار ملكٍ بارٍ ومُحرّر، كما جاء في المزامير:" انظر يا ربّ، وأقم لهم ملكهم، ابن داود" (مزامير سليمان، 7: 3). لكن أساء اليهود في زمانه فهم المسيح فكانوا يعتقدون بانَّه المسيح الذي سيعيد مُلك داود، وهكذا فهم البعض مُلك يسوع بحسب الطَّريقة البشريَّة: هو المسيح السِّياسي الذي يرسله الله إلى العَالَم كي يُحرّر إسرائيل من الطُّغيان الرُّوماني الأجنبي. لهذا أراد الشَّعب اليهودي إثر معجزة تكثير الخبز والسَّمك أن يعلنوه ملكًا ولو بالقوة، عندئذٍ رفض يسوع لقب "ملك" بحسب النَّظرة السِّياسيَّة كما جاء في إنجيل يوحنا "عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكًا، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل" (يوحنا 6: 15).
أساء تلاميذه أيضًا فهمَ مُلك المسيح حيث كانوا يعتقدون بان المسيح سيُعيد أمجاد مُلك داود، لهذا السَّبب حاولت أمُّ يوحنا ويعقوب بالسَّعي إلى تأمين مستقبل ولديها "المهني" بوضع أحدهما عن يمين الملك ولآخر عن يساره. فطلبت من يسوع: "مُرْ أَن يَجلِسَ ابنايَ هذانِ أَحدُهما عن يَمينِكَ والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَلَكوتِكَ" (متى 20: 20). وفهم رؤساء الشَّعب اليهودي وكهنتهم أيضًا مُلك يسوع بمعنى سياسي وصوّروه لبيلاطس وكأنَّه يُريد نيل من السِّيادة الرُّومانيَّة وحكم قيصر: "إِذ يَقولونَ بِأَنَّ هُناكَ مَلِكًا آخَرَ هو يسوع " (الرسل 17: 7) وحُكم على يسوع بناء على هذا الاتهام: "قالوا: ((وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك" (لوقا 23: 2).
صرّح يسوع علانيَّة ًفي لقائه مع المرأة السَّامريَّة بانَّه المسيح المَلك المًنتظر (يوحنا 4: 26)؛ لأنَّ السَّامريون كانوا ينتظرون مسيحًا بمثابة ملك نبوي مثل موسى، وبالتَّالي لم يكونوا يتنظرون مسيحًا سياسيًا بل قائدًا روحيًا، ولذا كشف يسوع عن هويته الملوكيَّة المسيحانيَّة للمرأة السَّامريَّة، يقينُا منُّه أنَّها ستفهم نوعًا ما معنى مُلكه المسيحاني.
لم يتنكر يسوع أيضًا لاعتراف نتنائيل به بانه المسيح الملك: "أنت ملك إسرائيل" (يوحنّا 1: 49)، إلاَّ أنه يوجه أنظاره نحو مجيء ابن الإنسان: " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسان" (يوحنا 1: 50). مملكة يسوع ليست من هذا العَالَم، بل إن بينها وبين العَالَم صراعا مستحكمًا أبديًا، مملكة لا يقوى البشر على تدميرها كما تنبأ دانيال النَّبي: "أُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال 7: 14). تعلن هذه الكلمات مُلكًا يحكم من البحر إلى البحر إلى أقاصي الأرض، بفضل سلطة مطلقة لا تحطم أبدًا؛ ويؤكد يسوع أيضًا لبطرس هامة الرُّسل عن هذه القوة في الكنيسة بقوله: "وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" (متى 16: 18).
سأل بيلاطس يسوع مرتين إن كان ملك اليهود، فيجيب يسوع أولا بأن " لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم " (يوحنا 18: 36) ثم يؤكد: " هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك" (يوحنا 18: 37). يسوع هو مَلك، ولكن ليس بحسب معايير المجد والسُّلطة الدُّنيوية. إنَّه ملك في الخدمة والتَّواضع، وارتضى يسوع بمظاهرة علنيَّة لمُلكه، عند دخوله بانتصار إلى أورشليم. فظهر في مشهد المَلك ٍالوديع والمتواضع القلب الذي يدخل اورشليم راكبًا على جحش ابن آتان مُحقِّقا نبوءة زكريا "اِبتَهِجي جِدًّا يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِيًا إِلَيكِ بارًّا مُخَلِّصًا وَضيعًا راكِبًا على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريّا 9: 9، متى 21: 5)، وقد ترك الجمع يهتفون به ملكًا "فحَمَلوا سَعَفَ النَّخْلِ وخَرَجوا لاستِقبالِه وهُم يَهتِفون: ((هُوشَعْنا! تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ مَلِكُ إِسرائيل!" (يوحنّا 12: 13). ولكنّ هذا النَّجاح عمل على تعجيل ساعة آلامه.
توصّلت السُّلطات اليهوديَّة إلى الاعتراف لقيصر بسلطان سياسي شامل، تمكينًا لها من رفض ملك يسوع، وذلك في عمى قلوبهم وعدم إيمانهم، كما جاء في دعوى يسوع أمام بيلاطس " قالَ بيلاطس لليهود: أَأَصلِبُ مَلِكَكُم؟ أَجابَ عُظَماءُ الكَهَنَة: لا مَلِكَ علَينا إِلاَّ قَيصَر! " (يوحنا 19: 15). إنه جاء، مثل الملك المذكور في مثل الإنجيل (لوقا 19: 12-15 و27) حتى يتسلم المُلك ولكن مواطنوه تنكّروا له، ومع ذلك سوف يتولى مُلكه ويعود للدَّينونة. ومن هنا جاء سوء تفاهم حول شخصيَّة يسوع ورسالته.
ب) يسوع مَلِكٌ في ساعة موته وقيامته
لم يُكلّم يسوع تلاميذه ورسله عن ملكوته إلاَّ في الوقت الذي ستبدأ فيه آلامه: "وأَنا أُوصِي لَكم بِالمَلَكوت كَمَا أَوصى لي أَبي به، فتَأكُلونَ وتَشرَبونَ على مائدتي في مَلكوتي، وتَجلِسونَ على العُروشِ لِتَدينوا أَسْباطَ إِسرائيلَ الاِثْنَي عَشَر"(لوقا 22: 29 – 30) مُوجّهًا أنظارهم نحو الأزمنة الأخيرة.
لم يرفض يسوع لقب مُلك في محاكمته أمام بيلاطس حول صفته مسيحًا ملكًا، بل انتهز يسوع الفرصة ليكشف عن هويته المُلوكيَّة، بطريقة غير متوقعة عندما سأله بيلاطس: "أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟؟" (يوحنّا 8: 33 و37). فلم ينكر يسوع هذا اللَّقب (يوحنّا 8 1: 37)، لكنَه أوضح: " لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" (يوحنّا 18: 36)، ولا تتبع مملكته معايير هذا العَالَم. فهو المَلك الوديع المتواضع القلب (زكريا 9: 9)، ولا مجال للمنافسة بينه وبين قيصر (لوقا 23: 2). وفي آخر حياته، قد صُلِب ومات كمَلك، إذ كان الجنود يستهزؤون به،" أَخَذوا يَدنُونَ مِنهُ فيَقولون: السَّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهود!" (يوحنا 19: 3).
تجلى هذا المُلك خلال تعلّيق بيلاطس رقعة على الصَّليب، مكتوب عليها عِلة الصَّلب "يسوع النَّاصري ملك اليهود" (يوحنا 19: 19-21). وعلى الصَّليب، سطع يسوع المَلك أمام الذين ينظرون إلى الأشياء نظرة الإيمان كنظرة اللِّص اليمين، وقائد المائة، وخاصة نظر يوحنا الإنجيلي الحبيب "الَّذي رأَى شَهِد، وشَهادَتُه صَحيحة، وذاك يَعلَمُ أَنَّه يَقولُ الحَقَّ لِتُؤمِنوا أَنتُم أَيضًا" (يوحنا 19: 35). يسوع ملك، إذ اشترانا بدمه الثَّمين على الصَّليب كما ورد في رسالة بولس الرَّسول " فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن" (1 قورنتس 6: 20).
أخيرًا، لم يتمّ تنصيب يسوع مَلكًا إلاَّ في ساعة موته قيامته، يا للمفارقة! ساعة يُحكم على يسوع بالموت يُعلن أنه مَلكٌ. وأزال يسوع كل التِباس بعد أن قرُبت عودته إلى أبيه. فرُفع إلى يمين الله (أعمال الرسل 2: 30-35) وجلس على عرش أبيه (رؤيا 3: 21). كما جاء في سفر الرؤيا: " كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ اِبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض» (دانيال 7: 13-14)." ابن الإنسان هو محور ما هو إلّا صورة استباقية يكشفها يسوع ابن الله وابن الإنسان معًا وابن الإنسان هو الملك: "الَّذي أَحَبَّنا فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين. هاهُوَذا آتٍ في الغَمام" (رؤ يا 1: 5-7). ويتحقق هنا ما ووعده الله للآباء حينما قال: "أَنتُم تَكونونَ لي مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة» (خروج 19: 6)، لأنَّنا سنتَّحد برئيس الكهنة الأوحد، الّذي هو المسيح، الّذي تجلى فيه الوجه الملكي ّالحقيقي. وهكذا هو يمارس الآن مُلكه على الأرض من خلال كنيسته، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 11)، إذ أن الآب قد أقام ابنه "مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأَرْباب" (رؤيا 19: 16). عكس يسوع في حياته البشريّة الزّمن الإسكاتولوجي من خلال موته وقيامته فأعلن مملكة روحية حيث يصير الله الآب الكلّ في الكلّ من خلال وجه يسوع الابن الملكيّ الّذي لا فناء لمُلكه.
ج) يسوع مَلكٌ في نهاية العَالَم
يصف دانيال النَّبي في رؤيا عجيبة عظيمة ظهور ابن الإنسان ملكًا في بهاء مجده وجلاله في نهاية العَالَم: "كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلًا فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض " (دانيال 7: 13-14).
سيُسلم يسوع المُلك إلى الله الآب عندما ينتصر المسيح على جميع أعدائه يوم عودته في نهاية العَالَم، كما ورد في تعاليم بولس الرَّسول: "ثُمَّ يَكونُ المُنتَهى حِينَ يُسَلِّمُ المُلْكَ اللهِ الآب بَعدَ أَن يَكونَ قد أَبادَ كُلَّ رِئاسةٍ وسُلطانٍ وقُوَّة" (1 قورنتس 15: 24). وعندئذ يتسلَّم المؤمنون "المِيراثٌ في مَلكوتِ المسيحِ واللّه" (أفسس 5: 5)؛ ويدعو المسيح تلاميذه للاشتراك في مجد الملكوت وذلك بالجلوس "معه على العَرْش" (رؤيا 3: 21) إذ "جَعَلَ مِنهم مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين" (رؤيا 1: 6).
السُّؤال الثَّاني: ما هدف مُلك المسيح؟
إذا كان يسوع حقا ملكًا فإن هدف مُلكه هو الشَّهادة للحق وإقامة العدل ومنح السَّلام والحب.
ا) مُلك حق
جاء السَّيد المسيح لكي يشهد للحق أمام الإنسان، كما أعلن ذلك أمام بيلاطس: "فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ"(يوحنا 18: 37). فان مُلك المسيح هدفه هو الحق. وهذا الحق يُحرّر الإنسان الذي عرف الحق واعترف به كما قال يسوع: " تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم" (يوحنا 8: 32).
عرف العهد القديم الله أنه " إِلهُ الحَقِّ " (مزمور 31: 6). بينما نقرأ في العهد الجديد "الحق الذي لله" (رومة 15: 8)، حيث يبدو أن الحق هو كيان الله الجوهري. ويقول يسوع المسيح: " أَنا الحَقُّ " (يوحنا 14: 6)، لكن الوثنيون " قَدِ استَبدَلوا الباطِلَ بِحَقيقَةِ الله" (رومة 1: 25).
لا يقوم ملك المسيح إذًا على الغُشِّ والرِّياء والنِّفاق، بل على الحق. وقد حوكم يسوع أمام كل من السُّلطات الرُّومانيَّة واليهوديَّة: ست مرات: أمام حنّان رئيس الكهنة (يوحنا 18: 12 -14)، وأمام قيافا (متى 26: 57-68) وأمام المجلس الأعلى لليهود (متى 27: 27: 1-2)، وأمام بيلاطس للمرة الأولى (لوقا 23: 1-5) وأمام هيرودس (لوقا 23: 6-12) وأخيرًا أمام بيلاطس للمرة الأخرى (لوقا 23: 13-25). وبالرَّغم من ذلك لم يُدن مطلقًا في جريمة تستحق الموت بل كان دائمًا على حق. وقد أكد المسيح هذه الحقيقة أمام بيلاطس بقوله: "أَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العَالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي صَوتي". يشرح يسوع ملكه بالتَّشديد على الرَّبط بينه وبين الحق. انه يُبرز الحق في كلامه، وفي أعماله، وفي ذاته، وبه يتجلى الله في الكمال. لا سلطة ولا عظمة في العَالَم ولا قيمة إلاَّ بارتباطها بهذا الحق الذي هو يسوع شخصيًا كونه "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة " (يوحنا 14: 6).
الحق في المفهوم الفلسفي هو مطابقة القول للواقع وضده الباطل والكذب والتَّناقض. والحق يختلف عن الأيديولوجية، الأيديولوجية تفرض قسرًا وتخشى أن ُيكشف حقيقة خدعتها، وأمَّا الحق فلا يُفرض قسرًا. في حين الحق يظهر في المحن والاضطهاد ولا يخشى أن يفقد كل شيء. اعترف بيلاطس بالحق لكن اختار أن يرفضه. وربما كان بيلاطس يعتقد أن الحق نسبي. وبالنِّسبة للكثيرين من مسؤولي الحكومات والإدارة فإن الحق هو ما يتفق عليه اغلب الشَّعب أو ما يؤيِّد سلطانهم الشَّخصي الذَّاتي ويُعين على تقدُّمهم السِّياسي. إنها لمأساة أن نفشل في معرفة الحق والاعتراف به، والمأساة الأفظع أن نعرف الحق، لكن لا نتبعه، لان صاحب السُّلطة يسعى وراءَ مَصالِحه الشَّخصيَّةِ، وبالتالي هو عاجز على حلِّ الظُّلم المُنتَشِرِ بينَ أتباعه.
من الواضح هنا أن نتبع الحق، أي أن نشارك بمُلك يسوع من خلال دخولنا في العلاقة مع الله، الآب وابنه روح الحق الذي هو " سَيِّدِ مُلوكِ الأَرْض الَّذي أَحَبَّنا فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه" (رؤيا 1: 5-6). لان يسوع بتضحيته فتح لنا طريقًا لعلاقة عميقة مع الله: فبه أصبحنا أبناء الله بالتَّبني، وأصبحنا مشاركين بملكه في العَالَم. ومن هذا المنطلق، أن نكون تلاميذ يسوع واتباعه يعني ألا نترك منطق القوة الدَّنيويَّة يقودنا، بل أن نجلب إلى العَالَم نور الحق ومَحَبَّة الله.
ب) مُلك عدل
جاء يسوع شاهدًا لحقيقة إله واحد هو مَحَبَّة (1 يوحنا 4: 8-16)، ويريد أن يُنشئ ملكوت عدل ومَحَبَّة وسلام. فمُلك المسيح هدفه أيضًا العدل. وهذا ما نستشفه من نبوءات الأنبياء. في العام 753 ق. م. وجهَّ أشعيا النَّبي أنظاره نحو المسيح المَلك الآتي فبشَّر بميلاده بالفرح والنَّصر والسَّلام والعدل "قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيبًا مُشيرًا إِلها جَبَّارًا، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام لِنُمُوِّ الرِّئاسة ولسَلام لا انقضاء لَه على عَرًشِ داوُدَ ومَملَكَتِه لِيُقِرَّها ويُوَطِّدَها بِالحَقِّ والبِرّ مِنَ الآنَ وللأَبَد (أشعيا 9: 4-5). لأنّ مملكته هي مملكة أبديَّة، وسلطانه باقٍ من جيل إلى جيل.
جاء يسوع لإقامة مملكة العدلّ "ها إِنَّ المَلِكَ يَملِكُ بِالبِرّ والرُّؤَساءَ يَرأَسونَ بِالحَق" (أشعيا 32: 1). وفي العام 520 ق. م. أكّد زكريا النَّبي عدل المسيح في صورة مَلك عادل، منتصر، ومسالم "هُوَذا مَلِكُكَ آتِيًا إِلَيكِ بارًّا مُخَلِّصًا وَضيعًا راكِبًا على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريا 9: 9-10). فهو مَلك العدل (مزمور 45: 7).
مُلك المسيح حق وعدل في حين كانت محاكمة يسوع من قبل بيلاطس تمثل اقصى استهانة للعدالة وللحق. يُحاكم يسوع كملك ويُعذَّب (يوحنا 19: 1-3) ويحاكم ثانيَّة كابن الله (يوحنا 19: 7) ويحكم عليه بالموت صلبًا، وهو أكثر النَّاس براءة في تاريخ البشريَّة.
ج) مُلك وسلامٍ
جاء يسوع لإقامة مملكة سلامٍ لا مملكة عنفٍ. فمن كان ينتظر من المسيح سلطة زمنيّة، مرئيّة، مبنية على التَّسلط والحياة الدنيوية، كان على خطأ إذ "لَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلًا وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 14: 17). وعندما بدأ المسيح رسالته على الأرض، لم يقترح برنامجًا سياسيًّا، بل برنامجًا روحيًا: "بَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17). ثمّ كلّف تلاميذه إعلان هذه البشرى السّارّة، وعلّمهم أن يسألوا في الصّلاة حلول الملكوت. هذا هو ملكوت الله وبرّه ملك سلامٍ.
مُلك المسيح هو مُلك سلام حيث أنَّ المسيح لم يقاوم، لا سُلطة هيرودس انتيباس، حاكم الجليل وعبر الأردن الذي كان يخشى أن يكون يسوع منافسًا له (لوقا 13: 31 -33)، ولا سُلطة القيصر الرُّوماني، الذي له الحق في الجزية (مرقس 12: 13 -17) لان مُلك المسيح قائم على السَّلام.
يكفي أن نقارن بين مُلكه ومُلك برأبا حتى يتبيَّن لنا جليًا هذه الحقيقة. لا مجال في مملكة يسوع للقوة والظُّلم والتَّعسف والطُّغيان (يوحنا 18: 10-11). فقد سمح يسوع لليهود بالقبض عليه في بستان الجسمانيَّة. لمّا حاول تلاميذه المقاومة، فقام بطرس بضرب عبد رئيس الكهنة المدعو مَلْخُس فقطع أذنه (يوحنا 18: 10)، رفض يسوع استخدام القوة قائلا لبطرس: "إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك. أَوَتَظُنُّ أَنَّه لا يُمكِنُني أَن أَسأَلَ أَبي، فَيَمُدَّني السَّاعةَ بِأَكثَرَ مِنِ اثَنيْ عَشَرَ فَيْلَقًا مِنَ المَلائِكَة؟" (متى 26: 52-54).
كان برأبا مُتمردًا ضد روما، وبرغم ارتكابه لجرائم قتْلٍ أعتبر بطلا بين اليهود، وأطلق سراحه بدلا من يسوع. قد أطلق سراحه لآنَّ يسوع مات عوضًا عنه. وما جاء يسوع ليَقتل، بل ليموت فداء عن الشَّعب، "لِيَجمَعَ شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين"(يوحنا11: 52). وفي الواقع، أنقذ يسوع بَرْأَبَّا من الصَّلب، فأصبح بَرْأَبَّا يُمثل البشريَّة بأسرها" كما وصفه الممثل الإيطالي بيترو ساروبي Pietro Sarubbi الذي تغيَّرت حياته لما مثّل دور برأبا في فيلم آلام المسيح للمخرج المشهور ميل غيبسون. ويصف الممثل اللَّحظة التي التقت بها عيناه عين يسوع بهذه الكلمات: "كان لها تأثير كبير، شعرت وكأن هناك تيارًا كهربائيًا يربط بيننا. رأيت يسوع الحقيقي" وأضاف "حين نظر إليَّ لم تكن عيناه تحملان كراهيَّة أو معاتبة تجاهي، بل رحمةً وحبًا". هذا ونفهم من كلِّ حياته، أنّ ملكوته لم يمتدّ ولم يتوسّع إلا بطريقة سلميّة وبواسطتنا: نحن انتمينا إلى هذا الملكوت بالعماد، وبعد سر التَّثبيت صرنا المُبشِّرين ليأتِ ملكوتك، بنا وبواسطتنا. فهل نشعر بهذه المسؤوليّة؟
مُلك يسوع هو ملك حُبٍ، لأنه أحبَّ خاصته إلى اقصى الحدود وبذل نفسه من أجلهم "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 15: 13)، والحُبُّ هو الخدمة والعطاء؛ فقبْل أيام من مثوله أمام بيلاطس، "خَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلًا فَائتَزَرَ بِه، ثُمَّ صَبَّ ماءً في مَطهَرَةٍ وأَخَذَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذ"(يوحنا 13: 4-5) ، كما يفعل العبد مع سيده بعكس ملوك الأرض الذين يطالبون أن نجثو أمامهم طالبين الشَّرف والسُّلطة (دانيال ٣).إنَّه مَلكَ في الخدمة والتَّواضع والمَحَبَّة وفي هبة ذاته. إنَّ التَّاريخ يعلِّمنا أن الممالك التي تقام على قوة السلاح والمراوغة هي هشة وتنهار عاجلا أم آجلا، أمَّا مملكة يسوع فتقوم على المحبَّة، والحقيقة، وبذل الذات من أجل خلاص الآخرين، فهي تمنح مَن يقبلها السَّلام والحرِّية وملء الحياة.
قدّم يسوع حياته فكان وموته أروع شهادة عن حُبِّ الله للنَّاس. وبهذا الحُبّ هدم سور العداوة، وصار سلامنا، نحن الخطأة. مات من أجلنا، عوضًا عنَّا، ولأجل خطايانا، حبًا بنا ليُطلق سراحنا ويُحرِّرنا. وبفضل يسوع المسيح اتَّخذنا الله أولادًا له بالتَّبنِّي وأعطانا الحق أن ندعوه أبانا، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ لِيَفتَدِيَ الَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، فنَحْظى بِالتَّبَنِّي والدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: أَبَّا"(غلاطية 4: 4-6). وكأبناء الله بالتَّبني أصبحنا نشترك مع المسيح بكل ما أعدَّه لنا كأَبْناءَ له تعالى كما صرَّح بولس الرَّسول: " فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 15-17). وكوننا أبناء الله، أبناء المَحَبَّة يتطلب منَّا مواجهة الشَّر بالخير كما يوصي بولس الرسول: "لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 21)، وإن مواجهة الشَّر بالشَّر هو فشل وهزيمة ورضوخ لمنطق الشَّر، إذ حيث تملك المَحَبَّة فهناك الله.
نستنتج مما سبق أن مُلك المسيح هو مُلك حق لا مجال فيه للكذب والباطل، مُلك عدل لا مجال فيه للظلم والطُّغيان، مُلك السَّلام لا مجال فيه للحروب والفتن والمنازعات والعداء، ملك الحريَّة لا مجال فيه للعبوديَّة والخطيئة، ملك مَحَبَّة لا مجال فيه للكراهيَّة. وحيث تملك المَحَبَّة فهناك الله. هذه دعوة ملحة موجَّهة للجميع ولكلِّ واحد منا: أن تسير دومًا نحو مُلك المسيح، مُلك حق وحياة، مُلك قداسة ونعمة، مُلك عدلٍ وحبٍ وسلام. وبالتالي المسيح وحده هو المحرر الحقيقي. ولهذا علينا أن نطرح على أنفسنا السُّؤال: من يكون مَلك حياتنا؟ وأي مَلك نريد؟
السُّؤال الثَّالث: ما هو شرط الدُّخول في مملكة المسيح؟
شرط دخول الملكوت الله في أناجيل متى ومرقس ولوقا هو التَّوبة والعودة إلى الطُّفولة؛ والاهتداء مطلوب في البداية (متى 18: 3) وولادة جديدة، ودونهما لا يمكن "معاينة ملكوت الله" كما قال يسوع إلى نيقوديمس، من رؤساء اليهود" الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ" (يوحنا 3: 4). أمَّا الخطأة المتصلبون في الشَّر فهم الذين لن يرثوا ملكوت المسيح كما أكد ذلك بولس الرَّسول " أَما تَعلَمونَ أَنَّ الفُجَّارَ لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله؟ فلا تَضِلُّوا، فإِنَّه لا الفاسِقونَ ولا عُبَّادُ الأَوثان ولا الزُّناةُ ولا المُخَنَّثون ولا اللُّوطِيُّونَ ولا السَّرَّاقون ولا الجَشِعونَ ولا السِّكِّيرون ولا الشَّتَّامونَ ولا السَّالِبونَ يَرِثونَ مَلَكوتَ الله " (1 قورنتس 6: 9-10).
أمَّا في إنجيل يوحنا فالشَّرط هو الولادة من جديد، من عُل أي بالإيمان بالله " إنَّ الَّذي يأتي مِنَ عَلُ هو فَوقَ كُلِّ شَيء... إِنَّ الَّذي يأتي مِنَ السَّماء يَشهَدُ بِما رأَى وسَمِع... مَن قَبِلَ شَهادَتَه أَثبَتَ أَنَّ اللهَ حَقّ" (يوحنا 3: 31)، والولادة من جديد أي الولادة من ماء العماد والرُّوح القدس كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "على قَدْرِ رَحَمَتِه خَلَّصَنا بِغُسْلِ الميلادِ الثَّاني والتَّجديدِ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" (طيطس 3: 5).
مطلوب أيضًا ممَّن يريد أن يدخل الملكوت "روح الفقر" (متى 5: 3)، وموقف "الطُّفولة الرُّوحيَّة "(متى 18: 1-4)، و"الجهاد" في سبيل ملكوت الله وبرِّه (متى 6: 33)، واحتمال للاضطهادات (متى 5: 10)، والتضحية بكل ما نملك (متى 13: 44-46)، وكمال أعظم من كمال الفرّيسيين (متى 5: 20)، وإتمام "مشيئة الآب" (متى 7: 21)، ولاسيما فيما يتعلق بشؤون المَحَبَّة الأخويَّة (متى 25: 34). ويعلق القدّيس توما الأكوينيّ " إن كنت تبحث عن مثال على احتقار الخيرات الأرضيَّة، عليك فقط أن تتبع ذاك الذي هو "ملك الملوك وربّ الأرباب، " فقَدِ استَكَنَّت فيه جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة" (قولسي 2: 3). لقد عرّوه على الصَّليب، وأهانوه، وبصقوا عليه، وضربوه بإكليل من شوك، وأخيرًا سقوه خلًا ومرًّا" (محاضرة عن قانون الإيمان).
أخيرًا بما أن معنى الملكوت كما نستشفه من كلمات يسوع ليس مكانًا، أو سلطة، بل شخصًا وهو يسوع المسيح "إن ملكوت الله في وسطكم"، فإن الدخول في الملكوت هو الدُّخول في علاقة حميميَّة مع المسيح الذي يقودنا إلى الآب وقبول الصَّليب. ومن هذا المنطلق، إن محاكمة يسوع تظهر كأنها التَّأمل في ملوكيَّة المسيح المُخلص ودعوة أن يصبح يسوع مَلكنا، لأنه خلَّصنا من الموت بكلمته ومَثله وحياته التي ضحى بها على الصليب.
الخلاصة
يتمحور النَّص الإنجيلي حول استجواب بيلاطس ليسوع خلال محاكمته التي ستفضي إلى موته، إذ كانت المحاكمة الرُّومانيَّة تقوم بشكل أساسي على استجواب الحاكم للمُتهم، حيث أعلن يسوع نفسه ملكًا لا بالمعنى السِّياسي بل بالمعنى الدِّيني الرُّوحي. وقد انفرد يوحنا الإنجيلي برويَّة هذا الحدث.
لم تعد كلمة "مَلك" عصريّة بفعل تناقص الممالك، وكذلك لأنّ الملكيّة البشريّة كثيرًا ما تكون مرادفة للسُّلطان والعنف والدِّكتاتوريّة والظُّلم. فينبغي استعادة المعنى الأصلي السَّليم لكلمة المَلك. إن يسوع هو " مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأَرْباب" (رؤيا 19: 16)، إنه سيَّد الكون والخلق والتَّاريخ. المَلك الذي يُحَطّم كل قوة ويُبيد كل سلطان ويُقيم كل شيء بقيامته ويُدخل الذين يتبعوه إلى حياة لم يكون للموت عليها من سُلطان. وهكذا يشترك هؤلاء في مُلك ابن الإنسان الأبدي بحسب وعد دانيال: "يُعْطى المُلكُ والسُّلْطانُ وعَظمَةُ المُلكِ تَحتَ السَّماءِ بِأَسرِها لِشَعبِ قِدِّيسي العَلِيّ وسيَكونُ مُلكُه مُلكًا أَبَدِيًّا (7: 27). أليس هذا ما قد وعد به يسوع رسله الاثني عشر خلال العشاء الأخير: "أَنا أُوصِي لَكم بِالمَلَكوت كَمَا أَوصى لي أَبي به، فتَأكُلونَ وتَشرَبونَ على مائدتي في مَلكوتي، وتَجلِسونَ على العُروشِ لِتَدينوا أَسْباطَ إِسرائيلَ الاِثْنَي عَشَر"(لوقا 22: 29). وإنّ مملكته حقٍ وحياة، وقداسة ونعمة، وعدل ومَحَبَّة وسلام.
كان يسوع ملكًا بصفة عجيبة، منذ بداية حياته على الأرض، كما ينوّه بذلك الإنجيليِّون عند سردهم سيرة طفولته (لوقا 1: 33)، لكن مملكته " لَيسَت مِن هذا العَالَم " (يوحنَا 18: 36)، ولا تمثلها في هذا العَالَم أية مملكة بشريَّة، ولذلك لا تنافس بأيّة حال من الأحوال مع سُلطة ملوك العَالَم.
يُصبح المسيحيّون رعايا مملكة المسيح، بفضل المسيح الَّذي نَجَّانا مِن سُلْطانِ الظُّلُمات ونَقَلَنا إلى مَلَكوتِ ابنِ مُحَبَّتِه، فكانَ لنا فيه الفِداءُ وغُفْرانُ الخَطايا" (قولسي 1: 13). على أن هذا لا يمنعهم من الخضوع لملوك هذا العَالَم وتقديم الإكرام لهم (1 بطرس 2: 13)، حتى ولو كان أولئك الملوك وثنيين. فهم مؤتمنون على السُّلطة، ويكفي ألا يعارضوا بها سلطة المسيح الرُّوحيَّة لأنَّ "الله أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات وأَجلَسَه يَمينِه في السَّمَوات فَوقَ كُلِّ صاحِبِ رِئاسةٍ وسُلْطان وقُوَّةٍ وسِيادة وفَوقَ كُلِّ اسمٍ يُسَمَّى بِه مَخلوق، لا في هذا الدَّهْرِ وَحدَه، بل في الدَّهْرِ الآتي أَيضًا" (أفسس 1: 19)؛ وهكذا نستطيع أن نجمع أصواتنا مع الأصوات العظيمة في السَّماء التي تقول: "صارَ مُلكُ العَالَمينَ لِرَبِّنا ولِمَسيحِه. فسَيَملِكُ أَبَدَ الدُّهور" (رؤيا 11: 15).
دعاء
أيها الآب السَّماوي، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح، لكي يَبني على الأرض مُلك حق وعدل وسلام وحبً، دعه يملك على عقولنا وقلوبنا وإرادتنا وبيوتنا وعائلاتنا، وهبنا أن نكون بإيماننا شهودًا لمُلكه علينا بقداسة سيرتنا فنستحق أن نشارك المسيح في ملكه في الحياة الأبديَّة، له القُدرَةَ والغِنى والحِكمَةَ والقُوَّةَ والإِكْرامَ والمَجدَ والتَّسْبيح (رؤيا 5: 12).