موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. 2 كانَ في البَدءِ لَدى الله. 3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان. 4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس 5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات. 6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا 7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. 9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم 10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ. 11 جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. 12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله: 13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا. 14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ. 15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي)). 16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة. 17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح. 18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه.
المقدمة
يبدأ يوحنا الحبيب إنجيله بنشيدٍ لكلمة الله المُتجسِّد (يوحنا 1: 1-18) حيث كانت الجماعة المسيحية الأولى تترنَّم به احتفاء بالمسيح، ابن الله الذي "فيه خُلِقَ كُلُّ شيَء" (قولسي1: 15)، وقد "أُظهِرَ في الجَسَد"(1 طيموتاوس 3: 16)، وجاء ليُقيم وسط البشر ليُخلصنا وليُعلمنا أن قيمتنا لدى الله كبيرة جدّاً، ويُعلق القديس لاون الكبير البابا "فيما نحتفلُ بميلاد المسيحِ، نحتفل برأس الشعبِ المسيحيِّ، لأنَّ ميلادَ الرأسِ هو ميلادُ الجسد. صارَ المسيح ابنَ الإنسانِ لكي نقدِرَ أن نكونَ أبناءَ الله"(العظة السادسة في ميلاد الرب، 2-3 و5: PL 54، 213-216). وإذا أمنّا به تكون لنا الحياة الأبدية (يوحنا 20: 31). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وأبعاده الروحية.
وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله.
تشير عبارة "في البدء" إلى الزمن المُطلق وليس إلى زمن العالم أو زمن الخلق، حيث أنَّ "الكلمة" وُجد قبل الخلق، وهو كائن أزلي، لا بداية له. فهو كان ولا يزال الكائن الأزلي. و"الكلمة " هو حكمة اللَّه المُتحدِّث معنا، والذي يُقدِّم ذاته كلمة اللَّه لكي نقتني سرّ حياة أبدية؛ وفكرة "الكلمة" هو امتداد الفكر اليهودي حول الحكمة التي هي واقع قبل الخلق والتي بَدَت شخصًا حيَّا لا فكرة مجردة (أمثال 8: 2-31)، حيث يصف الحكمة أنها قوة الله الأبدية والإبداعية والمُضيئة، وينظر إلى كل من "الكلمة" و"الحكمة" على أنهما متماثلان. أمَّا عبارة "كانَ" في الأصل اليوناني ἦν (معناها "كان" من غير خبر) فتشير إلى الكينونة، وتدلُّ صيغته في الزمن الماضي على مدة ثابتة مستقرة يتعذر تحديدها. وهكذا جاء تأمل يوحنا حول "الكلمة" كامتداد للحكمة في الفكر اليهودي، وهي كائن أزلي يوجد منذ الأزل ويدوم مدى الأزل (أمثال 8: 22-26، سيراخ 24: 9). أمَّا "الكَلِمَة" في الأصل اليوناني λόγος (معناها الكلمة) فتشير إلى المسيح، بصفته الابن الأزلي، وهو التعبير الحقيقي عن الآب، كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى" (قولسي 1: 15)، وهو " شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين1: 3)، ويُصبح تجلي الله بالتَّجسد بأسمى درجة في قلب البشرية كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا" (1 يوحنا 1: 2). ويوحنا لم يصف المسيح ب "الكلمة" إلاّ في مقدَّمة إنجيله فقط. والجدير بالذكر أن "كلمة الله" كان تعبيرا متداولاً بين اليهود. وكلمة الله في الكتاب المقدس هي فعّالة ومُبدعة وديناميكية كما يصفها صاحب المزامير "يُرسِلُ إلى الأَرض كَلِمَتَه فيُسرعُ قَولُه في عَدْوه" (مزمور 147: 15).
أمَّا عبارة " لَدى" الحرف اليوناني πρὸς (معناه عند أو اتجاه أو مع ويتضمن علاقة وتمييز) فلا تشير إلى التعايش فقط، بل التشارك الفعّال الموجَّه. ويدل لفظ "الكلمة" هنا عن أقنوم يتميّز عن الله الآب، وهو متحد به اتحادا تاماً، كما يدل أيضا على وجوده الأزلي. "الكلمة" كان ولا يزال الأقنوم المُتميز عن أبيه؛ وأمَّا عبارة "الله " في الأصل اليوناني θεὸς (معناها الاله وقد وردت بدون أداة تعريف) فتشير إلى التأكيد لأنها جاءت في أول الجملة. ومن هذا المنطلق يكون "الكلمة" هو الله بمعنى انه مساو للآب على مستوى الطبيعة الإلهية ومشترك معه في الجوهر، وبحكم هذه الصلة فهو الله. وكون المسيح كلمة الله فهو الله، لأنه لا يعرف أفكار الله ويُعلنها إلا الله كما قيل "فمَنِ الَّذي عَرَفَ فِكْرَ الرَّبّ أَو مَنِ الَّذي كانَ لَه مُشيراً؟" (رومة 11: 34)، "ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن" (متى 11: 27). أمَّا عبارة " الكَلِمَةُ كانَ لَدى الله " فتشير إلى الابن الذي هو أقنوم مُميَّز عن أقنوم الآب، ومع ذلك بينهما اتحاد كامل واتفاق تام في كل قضاء وعمل، ولهما نفس المجد والعظمة والكرامة كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتية " مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم " (يوحنا 17: 5). أمَّا عبارة " الكَلِمَةُ هوَ الله" فتشير إلى القول الثالث في شأن المسيح ومعناه أنه ليس ملاكاً أو مخلوقا آخرا، لكنه مساوٍ للآب في الجوهر أي لديه صفات الآب نفسها وقوته واستحقاقه الإكرام والطاعة والعبادة التي يستحقَّها الآب. وتُثبت هذه الآية صحة التثليث لتمييزها أقنومين، وتبيِّن أنهما متساويان. وتكشف هذه الآية أيضا ثلاثة أمور: أزلية الكلمة، أقنوميته واتّحاده بالآب، ولاهوته أي كونه والآب واحداً في الجوهر.
2 كانَ في البَدءِ لَدى الله
تشير عبارة " كانَ في البَدءِ لَدى الله " إلى "الكلمة" الذي كان ولا يزال هو اللَّه. وهو شريك مع الآب في الأزلية. وهذه الآية تُذكرْنا فيما ورد في سفر الأمثال " الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض" (أمثال 8: 22-23) وتجمع هذه الآية العبارات الثلاث في الآية الأولى " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله"(يوحنا 1: 1) في معنى كاملٍ واحدٍ. أمَّا عبارة " كانَ " فتشير إلى فعل يدلُّ على الكينونة، وليس الصيرورة. ولذلك فإن وجود "الكلمة" غير مرتبط بالزمن وهو غير مخلوق.
3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان.
تشير عبارة "بِه كانَ" إلى "الكلمة " الذي خلق العالم كالآب، حيث تَبيَّن من خلال أعماله أنَّه الله، لانَّ الخلق يختصُّ بالله وحده بدليل انه " في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (التكوين 1: 1). وبذلك اظهر الابن أنه كلمة الله بالخلق، فهو خالق المسكونة، حيث أنَّه خلق جميع الأشياء من العدم "بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان"(يوحنا 1: 3). واكّد ذلك بولس الرسول "ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض ما يُرى وما لا يُرى أَأَصْحابَ عَرْشٍ كانوا أَم سِيادَةٍ أَم رِئاسةٍ أَم سُلْطان كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه" (قولسي 1: 61). وإن عمل الخلق هو عمل الآب والابن كما ورد في أسفار العهد القديم التي ربطت خلْق العالم بكلمة الله (مزمور33: 6) أو بحكمة الله (8: 27-30). فالله هو خالق الكون كله بكلمته. يعلق القديس هبولتيك الكاهن "لمّا كانَ اللهُ واحدًا أحدًا، لا شريكَ له، أرادَ أن يَخلِقَ العالمَ. بفكرِه وبإرادتِه وبكلمتِه خلَقَ العالَمَ. ولم يَكُنْ الله من غيرِ فكرٍ، أو حكمةٍ، أو قُدرةٍ أو مَشُورَةٍ. كلُّ هذا فيه: وهو كلُّ هذا. لمّا شاءَ، وكما شاءَ، وفي الزمنِ الذي حدَّدَه، أظهرَ كلمتَه الذي به صنَعَ كلَّ شيءٍ" في الرد على هرطقة نُوِيتْيُوس فصل 9-12: PG 10، 815-819).
وأمَّا عبارة " كُلُّ شَيء " فتشير إلى العالم كله بمادته وأرواحه وحيواناته وكل ما فيه، أي كل موجود هو عمل الله وهو صالح. وهذا التعليم يتنافى مع تعليم الغنوصيَّة الثنائية التي تتحدث عن إله خيرٍ وإله شرٍ. أمَّا عبارة "وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان "فتشير إلى تأكيد العبارة الأولى " بِه كانَ كُلُّ شَيء " تبديدا الشك أنَّ كل الخلق من عمل المسيح؛ ولم يعمل المسيح كإله بيد الله، بل كان عاملا معه، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا" (1 قورنتس 8: 6). وهذه الآية تنفي قول أفلاطون بأزلية المادة، وكذلك وقول الغنوصِّيين بان خالق المادة هو روحٌ شريرٌ.
4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس
تشير عبارة "فيهِ كانَتِ الحَياة" إلى حياة المسيح في ذاته، وهو مصدر حياة سائر الأحياء " إنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبدِيَّة وأَنَّ هذهِ الحياةَ هي في ابنِه" (1 يوحنا 5: 11). أمَّا عبارة "الحَياة" فتشير إلى الحياة الطبيعية، وهي عكس الموت (تكوين 7: 2 وأعمال 25: 17)، وإلى حياة الإنسان على الأرض أيضا (تكوين 7: 25 ولوقا 25: 16)، والى الحياة الروحية، والحياة الأبدية، وهذا دليل آخر على لاهوت المسيح. لان الخلق هو عمل يختص بالله كما جاء في التوراة " جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (التكوين 2: 7). والحياة هي حياة الله والمسيح في المؤمن المولود ثانية (يوحنا 3: 3 و5). ويُعلق يوحنا الرسول "الحَياةَ ظَهَرَت ... الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا" (1 يوحنا 1: 2). المسيح هو إذا كلمة الحياة وتكرَّرت لفظة "الحياة" (32) مرة في إنجيل يوحنا، و(127) مرة في أسفار العهد الجديد. "الكلمة" هو مصدر الحياة المادية والبشرية والحياة الروحية، وبه أعطيت الحياة للخليقة، وبه أيضا أُعطيت لنا الحياة الإلهية كما صرّح المسيح " أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 10)، "أنا هو الطريق والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). أمَّا عبارة " الحَياةُ نورُ النَّاس " فتشير إلى يسوع نور العالم بالذات بمعنى هو معلم البشر الذي يُرشدنا إلى طريق الحق والسلام ويَحمينا من الضلال والإثم، لذلك هو نور، ولانَّ " اللهَ نورٌ" (1 يوحنا 1: 5). المسيح هو النور الذي يُرشد البشر إلى الطريق الواجب سلوكه (يوحنا 8: 12). وأعلن يسوع ذلك بقوله " أَنا نُورُ العالَم " (يوحنا 8: 12). كان المسيح نور الناس قبل تجسُّده (غلاطية 3: 9) وكان كذلك بواسطة خدمته الذاتية "كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين"(عبرانيين 1: 2)، ولا يزال نور العالم بروحه (يوحنا 14: 16). إنه نور حياتنا، أي حقيقتنا المُطلقة، ولا يمكننا العثور على أي نور آخر لإعطاء معنى لما نعيشه، سوى في اندماج حياتنا في حياته. فهناك صلة بين النور والحياة كما جاء في تعليم صاحب المزامير " لأنَّ يَنْبوعَ الحَياةِ عِندَكَ ونُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ"(مزمور36: 10). والإنسان يحصل على الاستنارة الروحية من "الكلمة"، كلمة الله، كلمة الحياة. وباختصار، نسبَ الإنجيل إلى يسوع ثلاثة أعمال: الخلق والإحياء والإنارة.
5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات.
لا تشير عبارة "الظُّلُمات" إلى الظلمة المادية لكن إلى الظلمة الأدبية، وبالتحديد ظلمة الجهل والخطيئة الذي سقط العالم بأسره فيها بسقوط الإنسان الأول. أمَّا عبارة " َيشرِقُ " فتشير إلى نور المسيح الذي أرسل أشعته إلى العالم قبل تجسُّدِه بأعمال الخلق وعنايته الإلهية (رومة 1: 20) وبتأثيره في ضمائر الناس وبالنبوءات وعن طريق المُبشرين، وبعد تجسُّده أشرق يسوع بنور تعليمه وأعماله ومعجزاته للكشف لنا عن وجه الله. وأمَّا عبارة "لَم تُدرِكْه الظُّلُمات" فتشير إلى عدم فهم الناس الجهلاء والأشرار ظهور "الكلمة" في خلق العالم، كما يؤكد الرسول بولس "فلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِه لم يَعرِفِ اللّه..." في الخليقة (1 قورنتس 1: 21). كذلك لم يدرك العالم نور "الكلمة" في التجسُّد، لأنه في نزاع مع الظلمة الناشئة عن عصيان الإنسان وجهله، كما جاء في تعليم السيد المسيح " فقد غَلُظَ قَلبُ هذا الشَّعب وأَصَمُّوا آذانَهم وأَغمَضوا عُيونَهم لِئَلاَّ يُبصِروا بِعيونِهم ويَسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا بِقُلوبِهم ويَرجِعوا. أَفأَشفيهم؟" (متى 13: 15).
6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا.
تشير عبارة "ظهر" في الأصل اليوناني Ἐγένετο إلى معنى كان. أمَّا عبارة " مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله " فتشير إلى يوحنا المعمدان الذي هو ليس المسيح، إنَّما هو الرسول الموعود به "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي"(ملاخي 3: 1) أرسله الله لتهيئة الطريق أمام المسيح. أمَّا عبارة "يوحَنَّا" فتشير إلى يوحنا المعمدان الذي يشهد بما "رأى وسمع" (يوحنا 3: 32). يوحنا صيغة عربية للاسم العبري יוֹחָנָן (معناه الله يتحنن). وهو وابن زكريا الشيخ وزوجته اليصابات (لوقا 1: 5 – 25). وكلاهما من نسل هارون ومن عشيرة كهنوتية. وهو عظيم ليس في أعين الناس فقط، بل أمام الله أيضا. وأن مصدر عظمته الشخصية هو امتلاؤه من الروح القدس، ومصدر عظمته الوظيفية هو أنَّه سيكون المُهيِّأ لطريق الرب، والمُبشِّر بظهور المسيح الموعود. وتقدَّم يوحنا أمام المسيح مُتمِّماً النبوءة التي كان يتوق إليها كل يهودي، وهي أنَّ إيليا يأتي قدام المسيح (ملوك 4: 5 ومتى 11: 14). وكان يوحنا المعمدان ناسكاً زاهداً، على خطى إيليا النبي في ارتداء عباءة من وَبَر الإبل، شادّاً على حقويه منطقة من جلد، ومُتغذِّيا بطعام من جراد وعسل بري، ومُبكت الناس عن خطاياهم، وداعياً إيَّاهم للتوبة، لأن المسيح قادم. وبدأ كرازته في سنة 26 ب. م. شاهدا أن يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 15)، وأنه حمل الله (يوحنا 1: 29). وكان يُعمِّد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن (لوقا 3: 2 -14). وقد طلب يسوع من يوحنا أن يعمِّده، لا لأنه كان محتاجاً إلى التوبة، بل ليُقدِّم بذلك الدليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته أخاً للجميع. وحوالي نهاية سنة 27 م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجِّه في السجن، لأنه وبَّخه على فجوره (لوقا 3: 19 و20). وبعد ثلاثة أشهرٍ أمر بقطع راسه بسبب هيروديا. ولم يُترك جثمانه دون كرامة، لأن تلاميذه جاؤوا حالاً ورفعوه ودفنوه (متى 14: 12). أن المسيح شهد فيه أعظم شهادة قائلا "لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان" (متى11: 11). ولكن هناك فرق بين يوحنا والمسيح. يوحنا هو إنسان، ويسوع هو "الكلمة"، يوحنا هو مُرسل من الله، والمسيح هو الله.
7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس.
تشير عبارة "شاهِداً" إلى شهادة الروح مع أرواحنا (رؤية 8: 16) منيراً أذهاننا، ودافعاً إياناً إلى العمل بمشيئة الله. وكانت وظيفة يوحنا شاهدًا أنَّ يسوع هو المسيح (يوحنا 1: 31)، منادياً بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح معدَّاً قلوبهم لقبوله عند مجيئه، ثم دلَّهم عليه بعدما أتى. وتكرَّر فعل "شهد"(31) مرة في إنجيل يوحنا دلالة على أهمية الشهادة. شهد يوحنا في دعوى المسيح، وكان لا يدعو التلاميذ لإتباعه، بل لإتباع المسيح وإلى الإيمان به. أمَّا عبارة " لِيَشهَدَ لِلنَّور" فتشير إلى الشهادة للمسيح الذي هو نور، كما صرّح يسوع لليهود "آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور" (يوحنا 12: 36)؛ أمَّا عبارة " فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" فتشير إلى هدف شهادة يوحنا المعمدان بان يفتح أبواب الإيمان للجميع كي يؤمنوا أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله الحي.
8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور.
تشير عبارة "لم يَكُنْ هو النُّور" إلى يوحنا المعمدان الذي هو "السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يوحنا 5: 35)، ونوره مقتبس من المسيح شمس البِرِّ، فهو شاهد للنور الذي مصدره المسيح. ويُعلق الراهب البندكتاني جان سكوت "ليس بإمكان أيّ مخلوق، مهما علا شأنه بالفكر أو الذّكاء، أن يكون نورًا بحدّ ذاته وفي طبيعته ذاتها؛ فهو يشارك النّور الوحيد الحقيقيّ والجوهريّ الموجود في كلّ مكان" (عظة حول مقدّمة إنجيل القديس يوحنّا). فهذا هو موقع يوحنا المعمدان الحقيقي عكس ما كان يقوله أتباع يوحنا. تُشدِّد الآية على التباين بين يوحنا ويسوع. يوحنا المعمدان هو الشاهد للنور، وهو ليس النور، ويوحنا هو صديق العريس، لا العريس (يوحنا 3: 29).
9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم.
تشير عبارة "النُّورُ الحَقّ" إلى يسوع الكلمة الذي هو النور الحقيقي "نُورُ العالَم" (يوحنا 8: 12) الذي "يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم"؛ يسوع هو النور الحقيقي تمييزا عن الأنوار الكاذبة (2 قورنتس 11: 14). وسُمي يسوع النور الحقيقي كما سُمِّي "الكَرمَةُ الحَقّ" (يوحنا 15: 1)، و "القُدْسِ الحقيقِيّ " (عبرانيين 9: 24). أمَّا عبارة " كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم" فتشير إلى شمولية الخلاص، إذ به يستطيع كل إنسان أن يستنير به لتحقيق حياته حتى ولو كان غريبا عن الوحي. أمَّا عبارة "آتِياً" في الأصل اليوناني ἐρχόμενον (معناه آتيا) فتشير إلى النور الآتي أي المسيح، وليس الإنسان الآتي. وقد أُشير إلى المسيح "الآتي " عدة مرات في إنجيل متى (متى 16: 27، 24: 42، 44).
10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ.
تشير عبارة "كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ" إلى الإله الذي يُعلن عن ذاته للعالم. أمَّا عبارة "كانَ في العالَم" فتشير إلى يسوع قبل تجسُّدِه. كان في العالم منذ البدء، ولكن لم ترَه العيون البشرية، إنما كان حاضرا بالروح، يخلق العالم ويُنير العالم. فهو الذي وعظ أيام نوح كما جاء في تعليم بطرس الرسول " فذَهَبَ بِهذا الرُّوح! َ يُبَشِّرُ الأَرواحَ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا "(1 بطرس 3: 19)، وهو الملاك الذي صار مع بني إسرائيل في البرِّية كما جاء في خطبة إِسْطِفانُس "هذا الَّذي كانَ لَدى الجماعَةِ في البَرِّيَّةِ وَسيطًا بَينَ المَلاكِ الَّذي كلَّمَه على جَبلِ سيناء وبَينَ آبائِنا، فتَلَقَّى كَلِماتِ الحَياة لِيُبَلِّغَنا إِيَّاها" (أعمال الرسل 7: 38). أمَّا عبارة "وبِه كانَ العالَم " فتشير إلى تكرار الآية السابقة "بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان"(يوحنا 1: 3) موضِّحة أن يسوع لم يدخل العالم كغريب عنه، لأنه كان به قبلا يخلق ويعتني. أمَّا عبارة "العالَم" فتشير تارة إلى الكون وتارة أخرى إلى البشرية التي هي موضع حبِّ الله (يوحنا 3: 16) وتارة إلى الناس الذين رفضوا "الكلمة" المُتأنِّس ومخطط الله (يوحنا 12: 31). وردت لفظة "العالم" 68 مرة في إنجيل يوحنا. أمَّا عبارة "العالَمُ لَم يَعرِفْهُ" فتشير إلى عدم معرفة العالم ليسوع بالرغم من أنَّه كان موجوداً وجوداً خَلاّقا في العالم قبل تجسُّده، وبالرغم من انه قد أعلن ذاته كمقيم في عالم ٍ وُجد بواسطته. إن أكثر البشر لم يعترفوا بالله، ولم يؤمنوا به، ولم يطيعوه، بل عبدوا الأوثان وسمُّوها آلهة، ولم يكن في هياكلهم إَلاَّ مذبحا واحد يُنسب إلى الإله الحق كما أكد بولُسُ في خطبته في وَسَطِ الأَرْيوباغُس " فإِنِّي وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلاً كُتِبَ علَيه: إلى الإِلهِ المَجْهول. فَما تَعبُدونَه وأَنتُم تَجهَلونَه"(أعمال الرسل 17: 23).
11 جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه.
تشير عبارة "جاءَ" إلى ظهور يسوع علانية وَفقا لقول النبي ملاخي: "يَأتي فَجأَةً إلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات"(ملاخي 3: 1)؛ أمَّا عبارة "بَيتِه" في الأصل اليوناني τὰ ἴδια (معناها خاصته) فتشير إلى الأمَّة اليهودية، لانَّ الله اختارها لنفسه، كما جاء في التوراة "لأَنَّكَ شَعبٌ مُقدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وإِيَّاكَ اخْتارَ الرَّبُّ إِلهكَ لِتَكونَ لَه شَعبَ خاصَّتِه مِن جَميعَ الشَّعوبِ التَّي على وَجهِ الأَرض" (تثنية الاشتراع 7: 6). اختار الله أولاد إبراهيم وفداهم من ارض مصر، وأعطاهم أرض كنعان والشريعة والعهود والأنبياء، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أُولئِكَ الَّذينَ هم بَنو إِسرائيل ولَهُمُ التَّبَنِّي والمَجْدُ والعُهود والتَّشريعُ والعِبادَةُ والمَواعِدُ والآباء" (رومة 9: 4)؛ وهذا الشعب يُمثل البشرية في التاريخ التي هي مُلك الخالق. أمّا عبارة "فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" فتشير ليس فقط إلى الظلمة، كما أشار يوحنا سابقا "لَم تُدرِكْه الظُّلُمات " (يوحنا 1: 5)، بل إلى خاصته أيضا، وهم الذين رفضوا قبول "الكلمة"، وذلك من أيام المسيح حتى أيامنا مع أنَّ الله اعدّهم لقبوله من خلال رموز ونبوءات، وجعلهم يتوقعون مجيئه. فكان عليهم أن يعرفوه ويتقبلوه عند مجيئه، ولكن لمَّا ظهر بينهم رفضوه وصلبوه (متى 23: 27)، وعِلَّة رفضهم إيَّاه مخلصا وملكا روحيا هو إعماء الخطيئة لعيونهم. يؤكد لوقا الإنجيلي ليس برفض المسيح فحسب، إنما أيضا برفض والديه "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة" (لوقا 2: 7). فيطرح السؤال نفسه، ما كانت الأمور لتؤول إليه لو أن مريم ويوسف طرقا بابي: هل لدينا مكان لله عندما يسعى للدخول عندنا؟ أم نحن "ممتلئين" كليًّا من أنفسنا، لدرجة أنه لا يبقى مكان لله؟ ومن هذا المنطلق، جاءت دعوة القديس بولس الرسول: " تَحَوَّلوا بِتَجَدُّدِ عُقولِكم" (رومة 12 :2).
12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله.
تشير عبارة "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه" إلى الذين اعترفوا بالمسيح من كل شعب وأُمَّة بأنه الكلمة والنور والحياة. وقبول المسيح هنا يقتضي الإيمان، لان مجده مُسْتتر، ولاهوته محجوب من خلال جسده. أمَّا عبارة "يُؤمِنونَ بِاسمِه" فتشير إلى الذين يعترفون ويُقرُّون بقدرة الابن ويدعونه بثقة رباً ومخلصاً، حيث أن الإيمان هو بمثابة الانتماء إلى المسيح بالاعتراف به ابن الله الذي يكشف عن سر الآب. أمَّا عبارة " بِاسمِه" فتشير إلى في نظر القدماء إلى تعبير عن دور الكائن في العالم؛ والاسم المُعطى عند الولادة يعبّر عادةً عن نشاط أو مصير من يحمله (تكوين 27: 36)، وإذا كان لشخص عدة أسماء، فقد يدلُّ على أهمية رجل يقوم بعدة مهام. وليسوع مجموعة القاب، وأهمها "الكلمة" (يوحنا 1: 1)، و"يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21) و "عِمَّانوئيل " أَيِ اللهُ معَنا (متى 1: 23). أمَّا عبارة " فقَد مَكَّنَهم " في الأصل اليوناني ἔδωκεν αὐτοῖς ἐξουσίαν (معناها أعطاهم سلطانا) فتشير إلى إعطاء نعمةً خاصة أو حقًا للمؤمنين به كي يصيروا أبناء الله. أمَّا عبارة" يَصيروا أَبْناءَ الله" فتشير إلى الله الآب الذي يعطي الّذين يؤمنون به نوراً وهويّة جديدة، وهي هويّة البنوَّة. هذه هي الحياة الحقيقيّة. جعل يسوع المؤمنين به من أهل بيت الله، وهم بالطبيعة "أبناءَ هذهِ الدُّنيا (لوقا 16: 8)، وأَبْناءِ المَعصِيَة (أفسس 2: 2) "وأَبناءَ الغَضَبِ (أفسس 2: 3). وهكذا صار المؤمنون أبناء الله، كما صرَّح بولس الرسول "هذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 4)، وذلك من خلال ولادتهم الجديدة بالإيمان ومحبة الله لهم كمحبة الأب لبنيه واعتناء بهم وحمايتهم كي "يصلوا إلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِه ويَصيرَوا الإِنسان الرَّاشِد وَيبلُغَوا القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 4: 13) وإرثهم هو ميراث سماوي "وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه" (رومة 4: 7). وهذا الأمر لا نستطيع إدراكه إلاَّ بعد دخولنا السماء كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو "(1 يوحنا 3: 2). أرادنا الله على مثال ابنه المُتجسِّد، يسوع المسيح، لكنَّ الله لا يفرض نفسه بالقوة، ولا يُجبر أحداً، بل يتركنا أحراراً. ومن هذا المنطلق، كل واحدٍ منا مدعو للقيام بخيار شخصي تجاه الكلمة الذي صار بشراً. هل نرفضه كما فعل العالم واهل بيته، أم نقبله ونؤمن به؟
13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا.
تشير عبارة "فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل" فتشير إلى إبعاد كل وهمٍ في كيفية صيرورة الناس أبناء الله عن طريق الدم، أي بمشيئة جسد ومشيئة رجل، كما زعم اليهود لأنهم ذرية إبراهيم. يعسر أن نميِّز بين معنى الدم ورَغبَةِ لَحْمٍ ورَغبَةِ رَجُل. ولعلّ في ذلك وصف الولادة الطبيعة من أدنى درجات نشوئها إلى أعلاها. أمَّا عبارة "دَمٍ" فتشير إلى مركز الحياة كقول الله تعالى " أَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هي في الدَّم" (الأحبار 17: 11)؛ أمَّا عبارة "ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ" فتشير إلى عجز الإنسان أن يُصيِّر نفسه ابنا لله؛ أمَّا عبارة "ولا مِن رَغبَةِ رَجُل" فتشير إلى باطل اتكال الإنسان على غيره من الناس لينال بنوَّة الله، لان بنوَّة الله لا تتوقف على اتفاق الإنسان مع غيره من الناس لينال بنوَّة الله، إنما تتوقف على نعمة الله. أمَّا عبارة "مِنَ اللهِ وُلِدوا" فتشير إلى نعمة من الله التي بفضلها صرنا أبناء الله، لأنَّنا وُلدنا من الله، كما يُعلن القديس بطرس الرسول "فإِنَّكم ولِدتُم وِلادةً ثانِيَة، لا مِن زَرْعٍ فاسِد، بل مِن زَرْعٍ غَيرِ فاسِد، مِن كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ الباقِيَة" (1 بطرس 1: 23)، وفي موضع آخر يقول يوحنا الإنجيلي " نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ مَن وُلِدَ للهِ لا يَخطأَ لكِنَّ المَولودَ للهِ يَحفَظُه فلا يَمَسُّه الشِّرِّير" (1 يوحنا 5: 18). لا تدلُّ هذه الآية على ولادة بشرية بل على ولادة روحية. والولادة الروحية هي النعمة الإلهية بقوة الله، وهي تتضمن الدعوة والتجديد والتقديس. يعلق القديس لاون الكبير البابا " فالذين لم يُولَدوا "مِن دَمٍ وَلا مِن رَغبَةِ لَحمٍ وَلا مِن رَغبَةِ رَجُلٍ بَل مِنَ الله" عليهم أن يقدِّموا للهِ الآبِ الوحدةَ والوِفاقَ بين الأبناء. ويجبُ أن يسارعَ جميعُ أبناءِ التبنِّي لاستقبالِ بكرِ الخليقةِ الجديدةِ، الذي جاءَ، لا ليُتمِّمَ مشيئتَه، بل مشيئةَ الذي أرسلَه. لأنَّ نعمةَ اللهِ تبنَّتْ ورثةً محبِّين بعضُهم بعضًا ومتَّفقِين في الرأي، لا متخاصمِين ولا متنازعِين. فالذين خُلِقُوا خَلقًا جديدًا بصورةٍ واحدةٍ، يجبُ أن يكونوا أيضًا ذوي نفسٍ واحدة"(العظة السادسة في ميلاد الرب، 2-3 و5: PL 54، 213-216).
14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ.
تشير عبارة "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً" إلى مولد يسوع العجيب وعبوره التاريخي الذي فيه صار الكلمة الأزلي بشراً، مُتخِذا جسداً ليصير الإنسان ابن الله، لانَّ ابن الله الوحيد صار إنساناً. ويعلق القديس ايرينيوس "كلمة الله سكن في الإنسان، وصار ابن الإنسان، ليُمكِّنَ الإنسانَ من أن يُدرك الله، وليجعل إقامة الله في الإنسان أمراً ممكنًا" (كتابات ايرينيوس في الرد على الهراطقة، 3، 20). فمن كان في العالم بالروح خالقا (يوحنا 1: 3) وحياة ونور (يوحنا 1: 4-5) أخذ طريقا جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية، وفي ذلك سر التجسد. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس" إنّ كَلِمة الله الذي جعل نفسه بشرًا لكي نلمسه بأيدينا. أصبح بشرًا منذ أن كان في أحشاء العذراء مريم، لكنّه لم يصبح عندئذ الكلمة، لأنّه كان كذلك "منذ البدء" (تعليق على رسالة يوحنّا الأولى 35 / 1978). لم يتطرق يوحنا الإنجيلي من خلال حديثه حول ميلاد المسيح عن الأماكن والأشخاص بل يتكلم عن ولادته مباشرة، دلالة على ولادته من الآب قبل الزمن بدون أم، وولادته من مريم البتول بدون أب في الزمن. أمَّا عبارة "بَشَراً" في الأصل اليوناني σάρξ (معناه بشر) فتشير إلى الإنسان الكامل المُكوّن من لحم ودم، والموسوم بالضعف المؤدِّي إلى الموت. صار "الكلمة" إنسانا كاملا (يوحنا 17: 2) وذلك يتضمن أن جسد المسيح كان جسدا حقيقيا لا صورة. وهذا يتنافى مع تعليم البدعة الظاهرية التي تجعل من التجسد مجرد مظهرٍ أو هيئة إنسانٍ أُخذت وقتيًا، أي أن "الكلمة" تظاهر أو تراءى بشكل بشري، لكنه ما كان إنسانا، ولا مات على الصليب (1 يوحنا 4: 2)؛ ويتضمن التجسد أيضًا أن للمسيح نفس بشرية، وان الروح الإلهي لم يحلَّ محل الروح الإنساني كما ادّعى ابوليانوس. وأتى يسوع ذلك لكي يكون " مُشابِهًا لإِخوَتِه في كُلِّ شَيء" (عبرانيين 2: 17)، وأمكنه ذلك أن يتألم ويُجرَّب ويتعلم وينمو ويصلي ويموت كسائر الناس وان يُسمِّي نفسه "ابنِ الإِنْسان" (يوحنا 1: 52). فتجسَّد "الكلمة" في الواقع البشري حدثٌ يُشكل الساعة الحاسمة في تاريخ الخلاص. ومنذ اللحظة التي فيها لُفظت كلمة "بشر" اختفى لقب "الكلمة" بشكل نهائي. وأخذ يوحنا يستخدم في إنجيليه مراراً "ابن الإنسان". لذلك يتوجب على البشر أن يروا في سماته البشرية مجد الله، حيث شهدت الجماعة المسيحية الأولى أنها رات مجده. ويعلق القديس أثناسيوس " أخذ جسداً من جنسنا، وليس ذلك فحسب، بل أخذه من عذراء طاهرة نقية لم تعرف رجلاً، جسداً طاهرًا ودون زرع بشر. لأنَّه وهو الكائن الكلّى القدرة وبارئ كل شيء، أعد الجسد في العذراء ليكون هيكلاً له وجعله جسده الخاص مُتَّخذًا إياه أداة ليسكن فيه ويُظهر ذاته به. وهكذا إذ اتخذ جسداً مماثلاً لطبيعة أجسادنا" (كتاب تجسد الكلمة). أمَّا عبارة "سَكَنَ " في الأصل اليوناني ἐσκήνωσεν (معناها نصب خيمته وفي هذا تلميح إلى الهيكل (يوحنا 1: 51) فتشير إلى مكان الحضور الإلهي وتجلي مجد الله (خروج 40: 34-35). والخيمة ترمز إلى مجد الله في وسط شعبه. وكما سكن الله روحيا في خيمة الاجتماع في وسط بني إسرائيل في البرِّية نحو أربعين سنة (أعمال الرسل 7: 38) كذلك سكن يسوع الأرض نحو ثلاث وثلاثين سنة؛ أمَّا عبارة "بَينَنا" فتشير إلى الناس عامة (يوحنا 1: 5) والتلاميذ خاصة، كما شهد عل ذلك تلميذه الحبيب يوحنا الرسول " ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1 يوحنا 1: 1). أمَّا عبارة "مَجدَه" تشير في العهد القديم إلى ما يكشفه الله للناس، وهو تارة يظهر كبهاء نيِّر يُلازم ما هو مقدس، وتارة كأحداث تُظهر قدرة الله. أمَّا في العهد الجديد فان أعمال المسيح ومعجزاته خاصة حدث الفصح (يوحنا 13: 31) تكشف مجده (يوحنا 2: 11). أمَّا عبارة "فرأَينا مَجدَه" فتشير إلى الشهود الأصليين الذين عاينوا مجد الله. وكما أظهر الله مجده في العهد القديم بسحابة نور في خيمة الاجتماع وفي الهيكل وبالرؤى (أشعيا 6: 1) كذلك أظهر المسيح مجده بمعجزاته (يوحنا 2: 11، 11: 4)، وبتجليه أمام رسله الثلاثة: يوحنا وبطرس ويعقوب، وبصعوده أمام كل الرسل، وبقداسة سيرته وصلاحه وتعليمه واحتماله الآلام من اجل البشر. رؤية الرسل مجد يسوع خاصة في يوم التجلي هو برهان على انه ابن الله وليس مجرد ابن الإنسان. ويُعلق القدّيس أفرام السريانيّ " أنت ابن الله وابن الإنسان أيضًا (مرقس 1: 1 -8)، وابن يوسف (لوقا 3: 23) وابن داود (لوقا 20: 41) وابن مريم (مرقس 6: 3). أمَّا عبارة " ابنٍ وَحيد" فتشير إلى لقب يدل على الطابع الفريد على بنوُّة المسيح، ابن الله، لأنه له الشبه التام بينه وبين الله، ومساوٍ لله في المجد والإكرام، ولأنه هو إعلان المحبة (الروح القدس) بين الأقنوم الأول (الآب) والأقنوم الثاني (الابن). وهو الابن الوحيد لله تمييزا عن أبناء الله الذين نالوا ولادتهم من الله بواسطة إيمانهم بالمسيح (يوحنا 1: 12-13)، وهذه البنوة تمكّن الابن من الاشتراك في " النعمة والحق". أمَّا عبارة " النِّعمَةُ والحَقّ " فتشير إلى صفات الله المُميَّزة عن كل خليقته، كما شهد على ذلك موسى النبي "ومَرَّ الرَّبُّ قُدَّامَه فنادى: الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (خروج 34:6). فالمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن هاتين الصفتين للناس، وهما مِيزتان "للكلمة" الذي هو حياة ونور حيث أنَّ النعمة تعطي الحياة، والنور يهدي إلى الحق. ولم يُعلن مجد الابن في الجلال والقوة (هما مفهوما المجد في العهد القديم) فحسب، إنما أيضا في النعمة والحق. أمَّا عبارة "النِّعمَةُ" فتشير إلى كرم الله وصلاحه الذي يهب عطاياه بسخاء لا حدَّ له (خروج 34: 6)؛ وتظهر محبة الله للخطأة بالنعمة، إذ أنَّ نعمة الله تُخلصهم من الخطيئة بدون أن يستحقوا ذلك (1 طيموتاوس: 1: 2). ولذلك يُسمَّى الإنجيل "بِشارةِ نِعمَةِ الله (أعمال الرسل 20: 24). وكان يولس الرسول يبدأ رسالته بنعمة الله (1 قورنتس 1: 3 الخ...). أتى المسيح ببشارة النعمة بغية إظهار المحبة الإلهية للخطأة لغفران خطاياه وخلاص نفوسهم. أمَّا عبارة " الحَقّ " فتشير إلى يسوع الذي هو الحق (يوحنا 14: 6)، والحق هي الوسيلة التي يتَّخذها روح الله في الولادة الجديدة. وأتى يسوع بإعلان حق الله الروحي غير المحجوب برموز وإشارات وظلال العهد القديم. ولفظة الحق تتكرر في إنجيل يوحنا (25) مرة دلالة على أهمِّتها.
15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي.
تشير عبارة "شَهِدَ له يوحَنَّا" إلى شهادة يوحنا المعمدان إثباتا لما ورد في الآية السابقة " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ" (يوحنا 1: 14)، ويوحنا المعمدان هو واحد مِمَن رأوا ذلك المجد وشهدوا للنور. أمَّا عبارة "هذا الَّذي قُلتُ فيه" فتشير إلى قول يوحنا المعمدان عن المسيح قبلما شاهده وعرفه كما صرح المعمدان "وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يوحنا 1: 33)، وكان يومئذ يكرز في البرِّية (متى 3: 11-13). أمَّا عبارة "إِنَّ الآتيَ بَعْدي" فتشير إلى يوحنا المعمدان الذي سبق يسوع في امرين: الولادة والشروع في الخدمة. أمَّا عبارة "قد تَقَدَّمَني" فتشير إلى المسيح كان قبل المعمدان في ثلاثة أمور: كونه منذ الأزل، وكونه في العالم بروحه زمن العهد القديم كما ورد في الكتاب المقدس "قالَ أَشَعْيا هذا الكَلام لِأَنَّه رَأَى مَجدَه وتَكَلَّمَ في شَأنِه" (يوحنا 12: 41)، وأخيرا كون المسيح أعظم منه كما أن الملك أعظم من سابقه. أمَّا عبارة "قَبْلي" في الأصل اليوناني πρῶτος " (معناها قبلي في الزمان والمكان) فتشير إلى يسوع الذي بالرغم من مجيئه يسوع بعد يوحنا المعمدان في التاريخ إلاَّ انه يفوقه في أصله الإلهي ورسالته وفي الوجود والكرامة. المسيح هو قبل يوحنا في الوجود، لأنه "الكلمة" المولود قبل الزمن.
16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة.
تشير عبارة "فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا" إلى كلام يوحنا الرسول وهو يتابع قوله في الآية السابقة " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ " (يوحنا 1: 14). وقوله نلنا يتضمن نفسه وسائر المؤمنين. أمَّا عبارة "نِعمَةً على نِعمَة" فتشير إلى شهادة يوحنا المعمدان التي تؤدِّي إلى معرفة الكلمة المُتجسِّد، وهذه المعرفة تجعل المؤمنين يشاركون في ملء الخيرات الروحية نعمة على نعمة، وَفقا لقوله تعالى " مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض" (متى 13: 12). كما أنَّ بني إسرائيل كانوا يجمعون ما يحتاجون إليه من المَنِّ يوما فيوما (خروج 16: 1-36)، كذلك المؤمنين يأخذون من نعمة المسيح ما يحتاجون لنفوسهم يوما فيوما. يفتح المؤمنون قلوبهم يوما بعد يوم لقبول عطيّة الله التي لا حدَّ لها. فكل بركة هي مرحلة لبركة أعظم، وكل نعمة ننالها بإيمان تصحبها نعمة أكبر.
17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح.
تشير عبارة "الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى" إلى الناموس بقسميه الأدبي والطقسي الذي أعطي عن يد موسى كخادم، كما ورد في الكتاب المقدس "كانَ موسى مُؤتَمَنًا في بَيته أَجمَع لِكَونِه قَيِّمًا يَشهَدُ على ما سَوفَ يُقال" (عبرانيين 3: 5)، وهذه الشريعة هي الإعلان لله استعدادا لإعلان آخر أسمى وأكمل للنعمة والحق اللتين أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح. تقضي شريعة موسى بالعدل، وتتطلب من الإنسان الطاعة، لكنها لا تستطيع أن تعطي حياة، كما هي شريعة يسوع المسيح. أمَّا عبارة "الشَّريعَةَ" في الأصل اليوناني νόμος مشتقة من العبرية תּוֹרָה (التوراة) (معناها ناموس) فتشير إلى "شريعة موسى" أو أسفار الشريعة الخمسة التي تشمل على مجمل الفرائض التي يُقرّ بها إسرائيل، ومضمون الشريعة هو الوصايا العشر (خروج 20 :2-17)، شرعة العهد (خروج 20 :19-23 :19)، شريعة القداسة (الأحبار 19-26)، وشرائع كهنوتيّة وهناك النصوص القانونية والطقوسيّة. أمَّا عبارة "موسى" فتشير إلى قائد الأمُّة العبرانية وأسمه بالمصرية الفرعونية معناه "ولد" وبالعبرية מֹשֶׁה "معناه مُنتَشل مِنَ الماء" (خروج 2: 10). وقد ولد موسى في الوقت الذي فيه كان فرعون قد شدَّد بقتل صبيان العبرانيين. وكان أصغر أولاد أبيه وثالث ثلاثة أولاد: مريم البكر وهارون الثاني. وربته ابنة فرعون على يد معلمين مهرة في جميع فنون مصر التعليمية والدينية. وعندما بلغ 40 سنة من العمر دبَّرت العناية الإلهية أن يهرب إلى البَرِّية تاركًا جميع رفاهة البلاط الملكي وسكن البَّرية في خيام الكاهن يثرون واخذ ابنته صفوره زوجة له. وفي السن الأربعين رأى موسى ناراً في وسط عليقة (خروج 3: 2-4). وأمره الله أن يذهب إلى مصر ليكون قائداً لشعبه ويُخرجهم من هناك حيث قضوا فيها 40 سنة. ومن صفات موسى الحميدة حلمه (عدد 12:3)، وكذلك خلوه من طلب المجد العالمي، وشجاعته وإيمانه وأمانته ومحبته لأمَّته محبَّة قوية حتى انه طلب من الله أن يمحو اسمه من سفره ولا يهلك شعبه (خروج 32: 32). وقد أعطى الله الناموس لموسى رأساً، ثم منحه قوة على إدراك معناه وإثبات فوائده حيث صارت مبادئ ذلك الناموس قاعدة للكثير من الشرائع. ومن العجائب الشهيرة التي جرت على يدي موسى إرواء الشعب بالماء في منطقة مارَّة (خروج 15: 25) وحُوريب (خروج 17: 6) وقادش (عدد 20: 1 و8-13). وكان موسى نبياً عاين شبه الرب (عدد 12:8) وبقي أربعين يوماً مع الله في السحاب على سيناء، إذ شرَّفه الله بذلك مرتين (خروج 24: 17 و34: 28). ويُعرف عند الكثيرين أنَّه "كليم الله". ثم مات ودفنه الرب " في الوادي في أَرضِ موآب، تُجاهَ بَيتِ فَغور. ولم يَعرِفْ أَحَدٌ قَبرَه إلى يَومِنا هذا" (تثنية الاشتراع 34: 6)، ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه (تثنية الاشتراع 34: 10). وظهر موسى مع إيليا على جبل التجلي وتكلما مع المسيح " على رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم" (لوقا 9: 31). أمَّا عبارة " أَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح" فتشير إلى الرحمة التي تتطلب من الإنسان المحبة وتعطيه الحياة والحق الذي يحرِّره من عبودية الخطيئة. وما النعمة والحق إلا الله الذي وهب ذاته في شخص الكلمة المُتجسِّد. أظهر المسيح نعمة الله بإعلانه طريق الخلاص، والمناداة بمغفرة الخطايا لكل مؤمن به، وبموته على الصليب لأجل خلاص البشر، وبمنحه الحياة الأبدية للمؤمنين به. واظهر المسيح الحق بنفسه وتعليمه باعتبار كونه النبي الحقيقي والكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقة، وأنه أتمَّ كل رموز العهد القديم. والنعمة والحق هما الإنجيل الذي أتى به المسيح كابنٍ كما جاء في رسالة العبرانيين " أَمَّا المسيح فهو مُؤتَمَنٌ على بَيتِه لِكَونِه ابنًا، ونَحنُ بَيتُه، إِنِ احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ وفَخْرِ الرَّجاء" (عبرانيين 3: 6). وهكذا فضْل الإنجيل على الشريعة يتضح، كما قال بولس الرسول " إِذا كانَت خِدمَةُ المَوتِ المَنقوشَةُ حُروفُها في حِجارةٍ قد أُعطِيَت بِالمَجْد، حتَّى إِنَّ بَني إِسرائيلَ لم يَستَطيعوا أَن يُحَدِّقوا إلى وَجْهِ مُوسى لِمَجْدِ وَجهِه، مع أَنَّه مَجْدٌ زائِل، فكَيفَ بِالأَحْرى لا تُعْطى خِدمَةُ الرُّوحِ بِالمَجْد؟ فإِذا كانَت خِدمَةُ الحُكْمِ على النَّاسِ مَجيدة، فما أَولى خِدمَةَ البِرِّ بِأَن تَفيضَ مَجْدًا" (2 قورنتس 7-9). أمَّا عبارة " النِّعمَةُ " فتشير إلى الاشتراك في حياة الله. فالنعمة المستمدة من المسيح لا تعمل بالطبع الإنسان شخصاً الهياً. المسيح وحده هو ابن الله، لكن نعمته تجعل الإنسان شريكا في حياته البنويَّة وقادراً على التوق إلى الله في سر حياته الخفيّة والخاصة، انه تجعله "ابناً في الابن "، كما جاء في رسالة يوحنا الرسول" أُنظُروا أَيَّ مَحبَّةٍ خَصَّنا بِها الآب لِنُدعَى أَبناءَ الله وإِنَّنا نَحْنُ كذلِك" (1يوحنا 3: 1). أما عبارة " الحَقّ " فتشير إلى معرفة الله. المسيح يلبّي عن طريق الوحي رغبة الإنسان لمعرفة ما لا يستطيع بمحض عقله أن يتوصل إليه: سر الخلاص، سر الثالوث الأقدس (ثلاث أقانيم متميزين ومتساويين في طبيعة إلهية واحدة)، كما جاء في الكتاب المقدس "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا1: 18). أمَّا عبارة "يسوعَ المسيح" فتشير إلى أول لقب في إنجيل يوحنا "للكلمة"؛ ويسوع יֵשׁוּעַ معناه المخلص، والمسيح הַמָּשִׁיח معناه الممسوح من الله لإجراء عمل الفداء. تشرح الآية الفرق بين شريعة موسى ونعمة يسوع. وكان موسى رمزاً للمسيح، فكما أبى موسى أن يُدْعى ابن ابنة فرعون، لأنه لا يمكنه أن يكون كذلك مع حفظ ديانته كذلك أبى المسيح أن يقبل ممالك العالم، لأنه لم يمكنه قبولها بدون الإذعان لمطالب الشيطان، سيد هذا العالم (2 قورنتس 4: 4). وكان موسى مُحرِّراً لشعبه كما أن المسيح يُحرِّر تابعيه من عبودية الخطيئة. وأنشأ موسى ناموس الوصايا الجسدية، أمَّا يسوع فقد وهب ناموس الحياة الروحية. وكان موسى نبياً، أمَّا يسوع فهو نبي أعظم منه. وكان موسى وسيطاً بين الله وشعب بني إسرائيل، أمَّا المسيح فهو الوسيط بين الله والناس. والذين يتغلبون على الوحش وصورته يرتلون ترنيمة موسى والحمل (رؤية 15: 3). غاية الشريعة بيان ما يجب على الإنسان عمله، وأمَّا غاية النعمة والحق بيان ما أراد الله أن يعمله من أجلنا.
18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه.
تشير عبارة "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ" إلى الإنسان الذي هو عاجز عن الوصول بنفسه إلى معرفة الله مباشرة. الإنسان لا يرى الله، ولا يقدر أن يراه مهما فعل، كما قال موسى لشعبه "كلَمًكمُ الرَّبُّ مِن وَسَطِ النَّار، فكُنتُم تَسمَعونَ صَوتَ الكَلام ولم تَرَوا صورَةً، بل كانَ هُناكَ صَوتٌ فقَط" (تثنية الاشتراع 4: 12)، إنما يستطيع الإنسان فقط أن يطمح إلى ذلك، كما جاء في طلب فيلِبُّس ليسوع " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8). فلا أحد من الناس ولا من الملائكة عرف الله حق المعرفة ليستطيع أن يعلم صفاته بلا خطأ، لان رؤية الله ضرورية لكمال المعرفة. فموسى لم يرَ الله (خروج 33: 20)، كذلك إبراهيم والأنبياء، لذلك لا يستطيعون أن يعلنوا إلاَّ ما أُعلن لهم بوحي أو برؤيا " إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة" (عبرانيين 1: 1). أمّا عبارة "الابن الوحيد الذي في حِضْنِ الآب" فتشير إلى يسوع الابن الوحيد الذي وحده قادر أن يُعلن الله، لأنه "كلمة الله"، وكان عند الله منذ الأزل، ويعرف أفكار الله ومقاصده، ويعرف ذلك من تلقاء نفسه، وهذا يجعله أهلا لإعلان الآب على حَقِيقته، كما صرّح يسوع لنيقوديمُس: " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا" (يوحنا 3: 11). فالمسيح هو يشارك الآب الطبيعة الإلهية وهو وحده قادر أن يقود البشر إلى معرفة الآب والاتحاد به. وقد أوحي يسوع بالله الآب وعبَّر عنه بحياته وبأعماله وتعليمه. أمَّا عبارة "في حِضْنِ الآب" فتشير إلى علاقة الابن بالآب والاتحاد به والمشاركة في عواطفه ومعرفة أفكاره وسعادته وراحته. فالمسيح مع انه كان بناسوته على الأرض، كان بلاهوته في حضن الآب كما هو منذ الأزل وإلى الأبد. أمَّا عبارة "أَخبَرَ عَنه" فتشير إلى إعلان يسوع وحده عن وجه الله، وهو وحده القادر على فعل هذا، حيث أنّه لم يرَ الله أَحدٌ قطّ سواه (يوحنا 1، 18)، ولأنه هو الربّ (يوحنا 1: 18)، ولأنه يسكن بيننا، ولأنه يأخذ جسدنا (يوحنا 1: 14)، وتجتمع فيه حياة الربّ وحياة البشر في حياة واحدة. ولأنَّ المسيح أعظم من يوحنا المعمدان بأزليته وأفضلية تعليمه، وهو أيضا أعظم من موسى والأنبياء، يتوجب علينا أن نتخذه معلمَا ونبيَا ونتأمل في كلامه ونسأله الإرشاد لأنه "عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام" (أشعيا 9: 5). من خلال هذه الألقاب الّتي تشير لدور المسيح الذي يحمل مسيرة الخلاص الأبدية للكل دون استثناء حاملاّ السلام والفرح.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 1: 1-18)، نستنتج انه يتمحور حول المسيح "كلمة" الله، الكائن الأزلي الذي صار بشراً، ليجعل من البشر أبناء الله. وهو يعمل في الخليقة، كما يعمل في التاريخ البشري. ومن هنا نبحث علاقة الكلمة بالوجود وبالخلق وبالتاريخ والتجسُّد.
أولا: الكلمة والوجود (يوحنا 1: 1-2)
في بدء سفر التكوين نحن أمام عمل الله في الخلق، كما ورد في سفر التكوين "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (التكوين 1: 1)؛ وأمَّا في مقدمة إنجيل يوحنا فنحن أمام "الكلمة: الذي كان موجوداً من الأزل قبل الخَلق "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة" (يوحنا 1: 1)، كما ورد في سفر الأمثال " مِنَذ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض" (الأمثال 8: 23). و"الكلمة" كائن غير مخلوق، وهو أزلي، ووجوده غير مرتبط بالزمن بصفته "كانَ لَدى الله"، بل هو مرتبط ارتباطا وثيقا بالله.
ثانيا: الكلمة والخلق (يوحنا 1: 3-5)
المصدر الأساسي للخلق هو الآب، ولم يشترك "الكلمة" في عملية الخلق أي كعامل وسيط. فالخَلق هو أول عمل، وأول تعبير لله خارج عن ذاته. أمَّا "الكلمة " فهو أداة عمل الخلق، لان " بِه كانَ كُلُّ شَيء " (يوحنا 1: 3أ)، بمعنى أنّ "بِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 1: 2)، وكل الخليقة تقوم به، وتستمدُّ منه الحياة، كما يقول بولس الرسول "ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض ما يُرى وما لا يُرى" (قولسي 1: 16)، "وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" (يوحنا 1: 3ب)، أي لن نحصل على شيء خارجا عن المسيح. انه مصدر الوجود ونبع الحياة. ونبع الحياة هو بالضرورة نبع النور. فيسوع هو خالق الحياة، وحياته تمنح النور للبشرية. فهو يُنير الطريق أمامنا لنتمكن من أن نرى كيف نحيا. وفي نوره نرى أنفسنا على حقيقتها كما هي. نحن خطأة بحاجة إلى مُخلص. نور المسيح في نزاع مع الظلمة الروحية الناشئة عن عصيان الإنسان وجهله. فلنتذكر أن الله خلقنا، فبدونه وبعيد عنه لا نستطيع أن نُتمِّم المُخطَّط الذي وضعه من أجلنا، كما صرّح يسوع " أَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 15: 5).
ثالثاً: الكلمة والتاريخ: (يوحنا 1: 6-13):
بعد أن وصف يوحنا الإنجيلي "الكلمة" أنَّه كائن أزلي وبه خُلق العالم، يصفه الآن في علاقته بالتاريخ مشيراً إلى يوحنا المعمدان الذي بشّر بمجيئه وجاء ليشهد لنوره، وبشهادته قاد الناس إلى إيمان حيٍ في الشخص الآتي إلى العالم (يوحنا 1: 6-9) مؤكدا أولوية "الكلمة" والخضوع له.
أعلن "الكلمة" المُتجسِّد نفسه تاريخيا إلى شعبه إسرائيل، ولكنهم لم يقبلوه (يوحنا1: 10) وإلى خاصته جاء وأبت خاصته أن ترحّب به (يوحنا 1: 12). مع أنَّ المسيح خالق العالم، لم يعرفه الناس الذين خلقهم (يوحنا 1: 10)، بل رفضه الناس الذين اختارهم الله ليهيئوا بقية العالم لمجيئه (يوحنا 1: 11)، بالرغم من أن العهد القديم بأكمله كان يشير إلى مجيئه. وهنا تظهر مأساة الرفض. ويعلق الكاتب Wayne Dyer " أكبر أشكال الجهل هو رفض شيء لا تعرف أي شيء عنه".
أمَّا الذين قبلوا يسوع المسيح رباَ ومخلصاً فقد وُلدوا ثانية ولادة روحية وأصبحوا أبناء الله لا عن طريق الولادة الجسدية بل عن طريق الولادة الروحية الجديدة من الله. إن هذه البداية الجديدة في الحياة متاحة لكل من يؤمن بالمسيح. لأنه جاء إلى الأرض ليهب البشرية رجاء حياته الأبدية ونورها، الحياة التي لا يُمكن أن تُباع أو تُشترى، لكنها تُعطى كهبة لمن يريد أن يحيا على طريقة أبناء الله الذين سيعيشون مستقبلا في ملكوته الأبدي. وكأبناء الله يطلب منا المسيح أن نكون شهوداً له على مثال يوحنا المعمدان فنعكس نور المسيح للناس ونوجِّههم إلى النور الحقيقي.
رابعاً: الكلمة والتجسد: (يوحنا 1: 14-18)
ا) التجسد
"الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا ". الأنبياء حملوا كلمات الله، أمَّا "الكلمة" الذي كان في البدء فتجسَّد وصار إنساناً ودخل في الزمن والتاريخ جاعلاً من البشر أبناء الله. وفي هذا الصدد يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه" (العبرانيين 1: 1-3). إنَّه لم يكن إنسانا تألَّه، بل كان إلهًا تأنَّس، أي أن المسيح كان قبل تجسُّده ابن الله، "كلمة" الله؛ وكان بعد تجسُّده ابن الإنسان أي ابن مريم. وهكذا بعد تجسده هو ابن الله وابن الإنسان معا. ويُعلق القدّيس البابا لاوُن الكبير "رفعَ البشريّة بدون أن يحطّ من قيمة الألوهيّة. من خلال تجرّده من ذاته (فيلبي 2: 7)، ذاك الذي كان غير منظور أصبح منظورًا، لكن هذا كلّه كان تنازلاً لرحمته، لا خسارة لقوّته" (الرسالة 28 إلى فلافيانُس). المسيح نفسه الذي هو إله ٌ حقّ هو أيضًا إنسانٌ حقّ؛ هو إله حق بفعل أنّه "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1)؛ وهو إنسان حق بفعل أنّ "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا" (يوحنا 1: 14)، ومن هذا المبدأ كان المسيح إلهاً كاملا وإنساناً كاملا ذا طبيعتين إنسانية وإلهية في أقنوم واحد، واتخاذه الناسوت لم ينزع منه اللاهوت، بل علامات اللاهوت الظاهرة إلاَّ عند المعجزات ليثبت رسالته. وأتحاد الطبيعتين جعل لآلامه من اجل البشر قيمة لا حدَّ لها. يعلق القديس هبولتيك الكاهن " لا تكُنْ معرفتُنا للكتابِ بحسَبِ ما نريدُ، أو بحسَبِ ما نَقدِرُ أن نَفهمَ، ولا نَضَعِ الحواجزَ أمامَ ما وهبَنا إيَّاه الله، بل لِنفهَمِ الأمورَ كما أرادَ اللهُ أن يُعلِّمَنا إيّاها في الكُتُبِ المقدَّسة" في الرد على هرطقة نُوِيتْيُوس فصل9-12: PG 10، 815-819)
أعلنت الكنيسة، بناء على عقيدة سر التجسد، أن يسوع المسيح هو إلهٌ حق وإنسانٌ حق. وفي هذا الصدد يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " بالتجسد صار يسوع إنسانا حقا وبقي إلها حقا" (بند 463). وهو إله حق ابن الله بالطبيعة لا بالتبني، لان َّابن الله "مولود لا مخلوق، وهو والأب جوهر واحد" ضد هرطقة أريوس، (بند 465)، وان مريم أصبحت في الحقيقة والدة الاله بالحبل البشري بابن الله في أحشائها، كما جاء في مجمع أفسس: "والدة الاله، لا لكون كلمة الله اتخذ منها طبيعته الإلهية، ولكن لكونه اتخذ منها الجسد المقدس مقرونا بنفس عاقلة، والذي اتحد به الكلمة شخصيا، فكان انه وُلد بحسب الجسد (رسالة كيرلس الإسكندري الثانية إلى نسطوريوس: د 250). واعترفت الكنيسة انه: "ليس هنالك إلاَّ شخص واحد، هو سيدنا يسوع المسيح، الأقنوم الثاني من الثالوث. فكل ما في ناسوت المسيح يجب أن ينسب إلى الشخص الإلهي على انه من عمله الخاص، ليس المعجزات وحسب، ولكن الآلام أيضا، وحتى الموت: " إن الذي صلب بالجسد، سيدنا يسوع المسيح، هو إله حق، رب المجد وهو أحد من الثالوث القدوس (بند 468). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "يا كلمة الله الابن الوحيد، الذي لا يموت، لقد رضيت من اجل خلاصنا، أن تتجسد من والدة الاله القديسة مريم الدائمة البتولية، فتأنست بغير استحالة، وصلبت أيها المسيح الاله، أنت أحد الثالوث القدوس، المُمجَّد مع الآب والروح القدس" (نشيد "يا كلمة الله").
الطريقة التي صار الكلمة بشراً هي، أنه وُلد من مريم العذراء، إذ حُبلت به بطريق غير عادية بقوة الروح القدس. ولم يختلف يسوع عن البشر شيئا سوى أنه كان بلا خطيئة، كما جاء في تعليم بولس الرسول " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة " (1قورنتس 5: 21)، وفي موضع آخر يقول الكتاب المقدس " لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). بولادة يسوع صار الاله بشراً، وهو لم يكن جزئياً إنساناً، وجزئيا إلهاً، بل هو إلهاً كاملا وإنساناً كاملا، كما يؤكد بولس الرسول "فِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا"(قولسي 2: 9). فيسوع لم يوجد فقط عندما وُلد، لأنه أزلي الوجود. بميلاده يُعبِّر يسوع، كلمة الله المُتجسِّد، عن ظهور الله السامي في قلب البشرية. ويُعلق القديس أوغسطينوس " إنّنا لا نقدرُ أن نشاهدَ المولودَ من الآبِ قبلَ النور. فَلْنَتأمَّلْ في المولودِ من البتولِ في ساعاتِ الليل. إنّنا لا ندرِكُ "مَن قَبْلَ الشمسِ اسمُه دائمٌ" (مزمور 71: 17)، فَلْنَنظُرْ إلى خيمتِه التي ضربَها في نورِ الشمسِ. إنّنا لا نقدِرُ أن نَرى الابنَ الوحيدَ المقيمَ في الآبِ، فَلْنُشاهِدْ مذودَ ربِّنا يسوعَ المسيح" (العظة 194، 3-4: PL 38، 1016-1017).
الكلمة المُتجسِّد هو الآن مسيح التاريخ بذاته حيث اتخذ لنفسه جسداً بشرياً حقيقياً وليس جسدا ظاهريا فقط كما تدَّعي البدعة الظاهريّة (دوسيتيّة) التي أنكرت واقع التجسّد. إنه سكن وسط البشر. أمَّا جلاله الإلهي وقوته فقد أصبحا محجوبين في جسد. وقد أدَّى يوحنا المعمدان شهادة شاهد عيان عن مجد هذا "الكلمة" المُتجسِّد خاصة عند اعتماد يسوع على يده في الأردن (متى 3: 13-17). وهكذا لم يعدْ الله مخفيَّا بل أصبح الآن معروفاً عن طريق تجسُّد ابنه الذي هو نور العالم. فيسوع المسيح هو التفسير الكامل لله. ومن هنا يبدأ يوحنا إنجيله ويختتمه معلنا أنَّ الكلمة المُتجسِّد يسوع المسيح هو الله. في بدء إنجيله يعلن أن "الكَلِمَةُ هوَ الله " (يوحنا1: 1)، ويؤكد ذلك في آخر إنجيله بشهادة توما أحد الاثني عشر رسولا بقوله " رَبِّي وإِلهي!" (يوحنا 20: 28). وهكذا تلخص هاتان العبارتان إنجيل يوحنا.
ب) هدف التجسد
يهدف التجسد إلى معرفة الله ومحبته والمصالحة مع الله والشركة في طبيعته الإلهية ويكون الكلمة المتجسد مثال قداسة لنا.
معرفة الله
صار الكلمة بشرًا لكي نعرف الله بطريقة ملموسة مرئية: لم يكن الناس يعرفون الله إلَّا جزئيا من خلال الأنبياء قبل مجيء المسيح. أمَّا بعد مجيء المسيح فقد كشف الله لشعبه عن طبيعته وجوهره بطريقة يمكن مشاهدتها ولمسها، لأنه في المسيح صار الله إنسانا يحيا على الأرض، فمكَّن للناس أن يعرفوا الله بالكامل، لأنه صار ملموسًا ومرئيًا لهم في المسيح. وخير دليل على ذلك ما اختبره القديس يوحنا الحبيب معبرًا عن ذلك بقوله: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد" (1 يوحنا 1: 1-3). إن المسيح هو التعبير الكامل لله في صورة بشرية ملموسة.
محبة الله:
صار الكلمة بشرًا لكي نعرف محبة الله، كما ورد في الكتب المقدس " ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إلى العالَم لِنَحْيا بِه" (1 يوحنا: 9)؛ إذ " إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16). جاء بيننا ليقدِّم نفسه ذبيحة عن كل الخطايا "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه لِيَجعَلَنا في حَضرَتِه قِدِّيسينَ لا يَنالُنا عَيبٌ ولا لَوم" (قولسي 1: 20). ويُعلق القديس لاون الكبير البابا " ميلادُ الربِّ هو ميلادُ السلام "(العظة السادسة في ميلاد الرب، 2-3 و5: PL 54، 213-216). قالَ الرسول بولس "هو سَلامُنَا الَّذِي جَعَلَ مِنَ الجَمَاعَتَيْنِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً (أفسس 2: 14)، "لأنَّ لَنا بِهِ جَمِيعًا سَبِيلا إلَى الآبِ في رُوحٍ وَاحِدٍ" (أفسس 2: 18).
أصبح "الكلمة" إنسانًا ليُخلّص الإنسان من الموت الأبديّ. ويُعلق القدّيس لاوُن الكبير " مخلّصنا أتى ليقضي على الخطيئة والموت، أتى كذلك ليحرّر البشر أجمعين. فليبتهج القدّيس لأنّه اقترب من الانتصار، وليفرح الخاطئ لأنّه مدعوّ إلى التوبة، وليتحلَّ الوثنيّ بالشجاعة، لأنّه مدعوّ إلى حياة التجرد"(العظة الأولى عن ميلاد يسوع المسيح). فإذا كان موسى يُركز على شريعة الله وعدله، فالمسيح يركّز على رحمة الله ومحبته وغفرانه "فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة". وهو لا يزال يرافقنا على مرِّ الأجيال ويتواجد في جميع مرافق حياتنا.
المصالحة مع الله:
صار الكلمة بشرًا لكي يُخلصنا من خلال مصالحتنا مع الله: "هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا " (1 يوحنا 4: 10) "إن ذاك ظَهَرَ لِيُزيلَ الخَطايا " (11 يوحنا 3: 5). ويُعلق القديس غريغوريوس النيصي" "مريضةً، كانت طبيعتنا تطلب الشِفاء، وساقطةً، أن تُقال عَثْرَتُها، وميتةً، أن تُبعث حَيَّة؛ أن البشرية كانت في حالةٍ جدِّ بائسة وجدِّ تعسة. الم تكن تستحق أن تحرك عطف الله إلى حد أن تنزله حتى طبيعتنا البشرية فيعودها؟ (خطاب 15، 3). بالتجسد أصبح الله في طبيعتنا البشريّة على الأرض بين البشر، ويخاطب بلطفٍ وطيبةٍ، في جسدٍ بشريّ، مع إخوته من نَسلِه. ويعلق القدّيس باسيليوس أسقف قيصريّة قبّدوقية " أصبح ذاك الذي اكتسى بشكل كامل الطبيعة البشريّة والذي، بجسده الذي هو جسدنا، يرفع نحوه البشريّة جمعاء" (عظة عن ميلاد الرّب).
شركاء في الطبيعة الإلهية:
صار الكلمة بشرا لكي يجعلنا " شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة" (2 بطرس 1: 4)، إذ أراد المسيح أن نشاركه في ألوهيته فاخذ طبيعتنا البشرية. يأخذ صورة الإنسان ومثاله كاملة ليحرر علاقتنا بالله. ويُعلق القديس ايرينيوس "فهذا هو السبب الذي من أجله صار الكلمة بشرا، صار ابنُ الله ابنَ الإنسان: لكي يصير الإنسان ابن الله بدخوله في الشركة مع الكلمة ونيله هكذا البنوَّة الإلهية" (الرد على الهرطقات 3، 19، 1).
مثال القداسة لنا:
صار الكلمة بشرا لكي يكون مثالا لنا في القداسة: "الكلمة" الذي كان عند الله حلّ بين البشر ليُعلمنا كيف يفكر الله، وبالتالي كيف ينبغي علينا أن نفكر نحن؛ جاء بيننا ليكون قدوة لِمَا ينبغي أن نصيرَ عليه، فهو يُرينا كيف نحيا، " فقَد ظَهَرَت نِعمَةُ الله، يَنبوعُ الخَلاصِ لِجَميعِ النَّاس، وهي تُعَلِّمُنا أن نَنبِذَ الكُفْرَ وشَهَواتِ الدُّنْيا لِنَعيشَ في هذا الدَّهْرِ بِرَزانةٍ وعَدْلٍ وتَقْوى" ( طيطس 1: 11)، ولا يكتفي يسوع أن يكون لنا قدوة، بل يعطينا القوة أن نحيا على خطاه "ترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه" (1بطرس 2: 21). وفي هذا الصدد يقول المجمع الفاتيكاني الثاني " بتجسده اتحد ابن الله نوعا ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيد إنسان، وفكر كما يفكر الإنسان، وعمل بإرادة إنسان، وأحبَّ بقلب إنسان. لقد ولد من العذراء مريم وصار حقًا واحدًا منا شبيها بنا في كل شيء ما عد الخطيئة (دستور راعوي حول الكنيسة، بند 22، 2). وفي هذا الصدد قال يسوع "احمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11: 29)، وفي موضع آخر قال " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إلى الآبِ إِلاَّ بي " (يوحنا 14: 6).
إن يسوع هو التعبير التام عن الآب، بصفته الابن الأزلي " هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى "(قولسي 1: 15) "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين 1: 3). ولأنه ابن الله قبل أن يكون ابن الإنسان، فهو الحياة، لكل من يؤمن به ويتبعه، وهو النور للكل من يعتنق طريقه ويهتدي به، عندئذ نكون قد وُلدنا من الله حقًا. كيف نتعاون في هذه الولادة، في هذا الإلهام الباطني للكلمة؟ كيف نستحّق أن تتحقق فينا؟ ويجيب كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " الإيمان بالتجسد الحقيقي لابن الله هو العلامة المميزة للإيمان المسيحي" (بند 463)، كما أعلن يوحنا الرسول: "وما تَعرِفونَ به رُوحَ الله وهو أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يَشهَدُ لِيَسوعَ المسيح الَّذي جاءَ في الجَسَد كانَ مِنَ الله" (1 يوحنا 4: 2).
الخلاصة:
يبدأ يوحنا إنجيله بمقدمة متميِّزة من جهة الأسلوب والمفردات عن بقية السفر حيث يكشف فيها عن شخص ربِّنا يسوع المسيح قبل التجسُّد بكونه الكلمة الأزلي، لكي نتخطَّى كل زمن وننطلق إلى حضن الآب الأزلي، فنتعرَّف على خطة الله نحونا ومشيئته لخلاصنا ومجدنا الأبدي فنعيش معه إلى الأبد. لذلك لا داعي للعجب أن يقول القديس أوغسطينوس "أن فيلسوفًا أفلاطونيًا قال بأن هذه العبارات التي جاءت في بداية إنجيل يوحنا تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ".
يُبيِّن يوحنا الإنجيلي، كواحد من الاثني عشر رسولا، وشاهد عيان، إلى المؤمنين في كل مكان أن يسوع المسيح هو إنسانٌ كاملٌ وإلهٌ كاملٌ. وبالرغم من أن يسوع اتخذ الناسوت كاملا وعاش كإنسان، إلا أنه لم يكفَّ ابدأ عن أن يكون الله الأبدي الأزلي الكائن على الدوام، وخالق الكون، ومصدر الحياة الأبدية.
ميلاد يسوع هو سر الإيمان بلقاء بين الله والإنسان، بين الأزل والزمن، بين الحياة الأبدية والحياة الأرضية الفانية. وهذا ما لم نكن نتوقعه، صار المستحيل امرأ واقعًا حيث أصبحت الأرض مسكن الله، إذ جاء الله ليُخلص الإنسان وسلطته الوحيدة هي سلطة الحب، وحبُّه يكفي إن نولد ولادة جديدة. ويعلق جان تولير الراهب الدومنيكاني "ولادة قديرة كهذه لا تتمّ إلاّ في قلبٍ إنسان يتحلّى بنقاوة كبيرة ويعيش حياةً داخلية عميقة واتحادًا راسخًا مع الله. فالله يختار مسكنه في هذا القلب إن عرف هذا القلب كيف يحفظ اتحاده مع الله في عمق أعماق نفسه، ويحافظ على تأملاته ولا يتشتت في الأمور الخارجية" (الأعمال الكاملة، الجزء الأوّل: عظة حول الميلاد)
لأنَّ "الكلمة " هو الله، فهو قادر على أن يُخبرنا عن الله بوضوح. لذلك يمكننا أن نثق في كل ما يقوله. وبالثقة فيه نكتسب معرفة لفهم رسالة الله وإتمام مُخططه في حياتنا. عندئذ يتمجّد المسيح الإله بالإنسان، وكلّ إنسانٍ حيٍّ مدعوٌّ ليحقّق ذاته بكلّ أبعادها الروحية والمادّية، الثقافية والاجتماعية، الاقتصادية والوطنية، فيكون مجدَ الله. فإن لم نؤمنْ بهذه الحقيقة الأساسية لن يكون لدينا ثقة أن نسلم حياتنا وأبديتنا إليه. وهذا ما دعا يوحنا لكتابة إنجيله لنشر الإيمان والثقة في يسوع المسيح، لكي نؤمن انه حقا كان الله في الجسد "وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). لذا، إننا مدعوون، إلى وضع أساس لحياتنا، إلى التعرف على ما هو كائن منذ البدء ونؤمن به، وهو مَن نريد أن نبني عليه حاضرنا ومستقبلنا في الدنيا والآخرة.
دعاء
أيها الآب السماوي، يا من أرسلت ابنك نورًا وحياة للناس، نسألك أن تهبنا روح الحكمة لكي نعرف يسوع المسيح، الإنسان الحق والإله الحق، فاديًا لنا ونستقبله مخلصًا فنصبح أبناء الله المُخلصين وندرك إلى "أيّ رجاءٍ دعاكم، وأيّ مجدٍ عظيمٍ جعله لنا ميراثاً بين القدّيسين". آمين.
قصة مقدمة إنجيل يوحنا البشير والعَالم الألماني
يُقال عن العالم الألماني Franciscus Junius الذي اشتهر بتجميع المخطوطات القديمة انه فقد كل القيم الدينية في شبابه، ولكنه استعادها بنعمة اللَّه خلال قراءته لمقدمة إنجيل القديس يوحنا (يوحنا 1: 1-18) عن غير قصدٍ منه، قدَّمها له والده. شعر بقوتها وسلطانها عليه فقضى يومه كله لا يُدرك أين هو، ولا ما كان يفعله، وكان جسمه مرتعبًا. وكان ذلك اليوم هو بداية حياته الروحية.