موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
للوهلة الأولى، قد تبدو مقطوعة إنجيل أحد النسبة، مقطوعة مملةً: أسماء، وأسماءٌ تتوالى... وفعلٌ واحدٌ يتكرر تسعًا وثلاثين مرة: «وَلَدَ». فيتبادر إلى الذهن سؤال مشروعٌ "وإن كان فظاً": ما الجدوى من قراءة هذا الإنجيل؟ بل ولماذا يُتلى في الليتورجيا أصلًا؟
لكن ما يلفت النظر، قبل كل شيء، هو أن نسب الإله–الإنسان تضم أسماء متباينة: خطأة عظامًا إلى جانب أناس صالحين، شخصيات فاضلة وأخرى ساقطة. قد يبدو الأمر صادمًا، لكننا نجد في هذا النسب زواني حقيقيات، وقتلة، وخونة... إنها ليست، بحسب مقاييسنا البشرية، «عائلة محترمة» أو مثالية. ومع ذلك، اختار الله هؤلاء بالذات، لا لأنهم كانوا كاملين، بل لأنهم كانوا مستعدين لأن يقولوا «نعم» لمشروعه الخلاصي، على الرغم من حدودهم وبؤسهم الإنساني.
أما تكرار فعل «وَلَدَ»، فيحمل دلالة عميقة: فلا وجود لإنسان من دون أن يكون ابنًا. قد نكون متزوجين أو غير متزوجين، إخوة أو لا، آباء أو لا، لكننا جميعًا، دون استثناء، أبناء، مولودون من أب، ومنحدرون في نهاية المطاف من الآب الوحيد، الآب بالمدة، بالحرف الكبير.
وهكذا، من خلال تعاقب هذه الأجيال، يمكننا أن نقول إن الله الآب وَلَدَ الابن، أي أن تجسد يسوع تمّ عبر التاريخ، تاريخ بشر يسيرون في مسيرة هي في حقيقتها مسيرة الله مع شعبه.
لذلك، فإن الخطيئة التي سار الله وسطها لم تصبح عائقًا أمام ميلاد يسوع، بل غدت، على نحو عجيب، جزءًا من ضرورة التجسد. ففي ثنايا تاريخ هؤلاء البشر، عبر إنسانيتهم المكتملة وخطاياهم، سمح الله لنفسه أن يتجسد. وهذا ما يمنحنا رجاءً عظيمًا، إذ يبيّن لنا أن المسيحية ليست أخلاقوية (شرائعة أخلاقية ناشفة)، وأن الله يكتب بشكلٍ مستقيم حتى على السطور المعوجّة.
إذا كان الله لم يشمئز من خطيئتنا، فهذا يعني أننا نحن أيضًا لا يجوز لنا أن نُسلِّم أنفسنا لها. فالخطيئة لا يمكن أن توقفنا أو تمارس سلطانًا علينا، لأن الله يسير معنا، وإذا كان الله معنا، فمن علينا؟ وهذا يستدعي منا التخلي عن الوجوه العابسة، والاستعداد الفَرِح للقول «نعم» باستمرار للظروف التي يضعنا الله فيها، أيًّا كانت.
وفوق كل ذلك، يعلّمنا هذا النص أنه حتى إن كنا نحن غير أمناء، فهو يبقى أمينًا، لأنه لا يستطيع أن ينكر ذاته. الله لا يتخلى عنا أبدًا، وهو صبور في انتظاره، يتوسل قلوبنا من دون عنف ولا فرض. لذلك، لا ينبغي أن نشك فيه؛ وإن شعرنا يومًا بأننا متروكون، فالأجدر بنا أن نشك في أنفسنا لا فيه: هل نحن متأكدون أننا لم نغلقه خارج خزائننا، خارج قوقعة تفكيرنا، وخارج محيط حياتنا؟
أما المفتاح لفتح الأبواب من جديد، فهو بسيط: أن نلتمس مغفرته، وأن نعيش كل لحظة بقوةٍ، عالمين أن «هنا والآن» الخاص بي يخلّصه الله، من خلال تعاون الإنسان مع نعمته. وهذا كله يعني الانتظار: انتظار أن يصير «الـ هنا والآن» بُعدًا واحدًا ونهائيًا… ألا وهو الأبدية.