موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يوحنا (10: 22–42)
للأسبوع الثاني تدعونا الكنيسة، قبل أن ندخل في مغامرة حياتنا الليتورجية حول أحداث الرب يسوع، وقبل أن تبدأ المسيرة التي تهيّئنا لأعياد ميلاد الرب، إلى التوقّف لحظةً عند عنوان السنة الليتورجية: «تقديس البيعة» و«تجديد البيعة».
في الأسبوع الماضي تأملنا كيف يمكن أن تتقدّس الكنيسة، أمّا اليوم فنفتح القلب لنتأمل كيف يمكن أن تتجدّد الكنيسة.
فالكنيسة إذا تجددت تقدّست، لأن لا خيار آخر أمامها!! إن لم تتجدد تموت، وإن تراجعت تفرّط وتتفكك. فإمّا أن نكون جماعة قديسين، أو لا نكون كنيسة البتّة. الإنجيلان اللذان تقدّمهما لنا الكنيسة في هذين الأحدين يكمل أحدهما الآخر، والحدثان يتشابكان في المعنى.
في الأحد الماضي تأملنا في تقديس الكنيسة من خلال الحوار بين يسوع وتلاميذه: يسألهم يسوع: «من يقول الناس إني أنا؟» ثمّ يتوجّه إليهم شخصيًا: «وأنتم، من تقولون إني أنا؟» فيجيب بطرس باسمنا جميعًا: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ».
أمّا اليوم، ففي مناسبة عيد تجديد الهيكل (وهي ذكرى يهودية قديمة عندما أعيد تكريس الهيكل بعد أن دُنِّس)، نرى يسوع يتمشى في الهيكل في الرواق، فيلتقي باليهود الذين يقفون في وجهه ويسألونه بحدة: «إلى متى تعلّق نفوسنا؟ إلى متى تُخفي هويتك؟ إن كنت أنت المسيح، فقل لنا صراحة»!
فيجيبهم يسوع ببساطة: «قلت لكم، ولكنكم لا تصدّقون. «أَرَيتُكم كثيرًا مِنَ الأَعمالِ الحَسَنَةِ مِن عِندِ الآب، فَلِأَيِّ عَمَلٍ مِنها تَرجُموني؟». ثم أردف قائلاً: «إِذا كُنتُ لا أَعمَلُ أَعمالَ أَبي فَلا تُصَدِّقوني. وإِذا كُنتُ أَعمَلُها فصَدِّقوا هٰذهِ الأَعمال إِن لَم تُصَدِّقوني. فتَعلَموا وتُوقِنوا أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنِّي في الآب».
لكنهم لا يريدون أن يسمعوا، لأنّ قلوبهم مغلقة. فالأعمال التي تصدر من المحبة لا تُفهم إلا في ضوء المحبة. الإنسان الذي نحبه، نقدّر كل عمل يقوم به، أمّا الذي لا نحبه، "فلو أضاء أصابعه العشر شموعاً" لا نراه يستحق التقدير.
ولأنّ يسوع قال «أنا والآب واحد»، أرادوا أن يرجموه، إذ رأوا في كلامه تجديفًا. لكنّهم لم يدركوا أنه لا يتكلم عن مساواة في القوة بل عن وحدة في الحب والمشيئة. فالأعمال التي يعملها هي أعمال الله نفسه، لأنّ الآب يعمل فيه. وفي لحظة عميقة من هذا الحوار، يكشف يسوع سرّ العلاقة بينه وبين خاصته قائلاً: »خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها وهي تتبعني«.
هاتان العبارتان تختصران كل العلاقة بين الراعي وخرافه، أي بين المسيح والكنيسة: خرافي تعرفني وأنا أعرفها. معرفة تنبع من العِشرة، من الثقة، من القلب الذي فُتح للآخر. كما يعرف الوالدان أبناءهما واحدًا واحدًا، يعرف يسوع خرافه: القوي والضعيف، المطيع والعاثر، يعرفهم بأسمائهم، يعرفهم من رائحتهم، يعرف ماضيهم وحاضرهم يعرف جراحهم وأمالهم، لأنهم وُلدوا في قلبه.
وهي أيضًا تعرفه، أي تثق به وتتبع صوته. كما يقول صاحب المزمور: »الرب راعيّ فلا يعوزني شيء. إلى مراعٍ خصيبة يقيلني، وإلى مياه الراحة يوردني « (مز 23)
الراعي الحقيقي يقوم بعملين أساسيين:
1. يعطي الحياة: وليست أي حياة إنما الحياة الأبدية. "إلى مراعٍ خصيبة يقيلني، ومياه الراحة يوردني" أي يطعمني ويسقيني. ماذا يريد الخروف؟ الخروف الذي لا يرى، الخروف الذي يضيع إن بقي لوحده.... فهو يحتاج إلى راعٍ يسير أمامه. وحتى يسير وراء الراعي، يجب أن يثق بالراعي، ولكي يثق به، يجب أن يكون قد عاشره، ورأى أن الراعي يقدم أفضل خير له، فيوثق به. وأنتم "أيها اليهود"، لو منحتموني ثقتكم، آخذكم إلى الحياة الأبدية.
2. يحميها في وادي الظلال الموت: كما يقول صاحب المزمور: «وإن سرتُ في وادي ظلّ الموت»، أي في وادي الظلم والعتمة التي لا نرى فيها شسء، -وكلّنا نسير في هذا الوادي ونعيش هذه الظروف اليوم- يكفيني أن أسمع صوت الراعي، أن أدرك أنه بالقرب مني، بجانبي. هذا يعني أنني على الطريق الصحيح. «عصاك وعكازك يعزيانني» وإذا كانت معه العصا، فلن يدع أحدًا يستغلني ويؤذيني، ولا أي ذئب يجرء على الإقتراب مني.
ويضيف قائلا: »ما مِن أَحَدٍ يَنتَزِعُها مِنِّي«، أي قبضة يدي هي قبضة يد الله. »أنا والآب واحد.« أنا والآب رعاتكم، أنا والآب نعطيكم الحياة. الآب الذي خلقنا، والمسيح الذي يحيينا، يأخذنا إلى المراعي النضرة اللذيذة والمشبعة.
هذا هو معنى قوله: »أنا والآب واحد« هنا لا يصرّح يسوع بلقب المسيح أو ابن الله، بل يعلن أعمق اتحاد بينه وبين الآب: وحدة في المحبة والعمل والحياة. نحن والجيران نصبح بيتًا واحدًا عندما «يصبح بيتنا بيتهم وبيتهم بيتنا». تصير أفراحنا أفراحهم، وأحزاننا أحزانهم، ونشترك في كل شيء. نصبح في وحدة حال. »أنا والآب واحد«. مثلما يصبح الأب والأم واحدًا في اهتمامهما بأولادهما، هكذا المسيح والآب واحد في محبتهما لنا، لأنّ حياة الخراف هي ثمرة وحدة الراعي مع الله.
لكن الذين سمعوه لم يفهموا، لأنّ قلوبهم لم تُروَ من نبع الحبّ الإلهي. كانوا يفسّرون كلامه بحسب ما في داخلهم، ولهذا قال يسوع: »مِن فَيضِ القَلبِ يتكلَّمُ اللِّسان» (متى 12: 34).
فكلام الإنسان يكشف قلبه: إن كان قلبه منغلقًا، خرجت منه أحكام واتهامات؛ وإن كان مملوءًا نعمةً، سالت منه كلمات حياة. لهذا القديس يوحنا الذهبي الفم: »من يملأ قلبه بالله، يتكلّم كلامًا إلهيًا. فالكلمة لا تُصنع في الفم، بل تُولد في القلب».
ويضيف القديس أغسطينوس: »الفم لا يُخرج شيئًا لم يُخزَّن في القلب. فاحرص أن يكون مخزن قلبك مملوءًا محبةً، لأنّ لسانك لا ينطق إلا بما امتلأ به قلبك».
وأخيراً أحب ان استشهد بمقولة مار إفرام السرياني: »كما أنّ الينبوع لا يفيض إلا بما فيه، كذلك القلب لا ينطق إلا بما يغلي فيه. فطوبى للقلب النقي، لأنّ لسانه لا يعرف إلا البركة».