موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

حين يتجلّى حنان الله في صمت الانسان

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
الأب داني قريو السالسي - لبنان

الأب داني قريو السالسي - لبنان

 

يبدو أن الليتورجيا تريد أن تهيّئنا لعيد الميلاد من خلال حدثٍ ليس تفصيلاً عابرًا، بل مفتاحًا روحيًا يمهّد الطريق لاستقبال طفل المغارة: ألا وهو مولد السابق يوحنّا المعمدان. تعود القراءة إلى بيت زكريا وأليصابات؛ البيت الذي حمل في داخله صمتًا طويلًا، ورجاء ممتدًّا، وولادة غير متوقّعة.

 

في الأحاد السابقة تركنا أليصابات حاملاً، وزكريا صامتًا؛ صمتُه لم يكن عقابًا فقط، بل مدرسة إيمان داخلية. وفي يوم الختان، حين اجتمع الجيران ليمنحوا الطفل اسم أبيه، "وجاؤُوا في اليَومِ الثَّامِنِ لِيَختِنوا الطِّفْلَ وأَرادوا أَن يُسَمُّوهُ زَكَرِيَّا بِٱسمِ أَبيه. فتَكَلَّمَت أُمُّه وقالت: «لا، بل يُسَمَّى يوحَنَّا" واستغربوا، «ليس في أقربائكم من يحمل هذا الاسم». لكن الصوت النسائي المليء بالإيمان بدا أوضح من العادة والتقليد.

 

أشاروا لزكريا ليحسم الجدل: "فطَلَبَ لَوحًا وكَتَب: «إِسمُه يوحَنَّا». فتَعَجَّبوا كُلُّهم. فَٱنفَتَحَ فَمُه لِوَقتِه وَٱنطَلَقَ لِسانُهُ فتَكَلَّمَ وبارَكَ الله". وفي الحال، انفتح فمه ولسانه، وبدأ يمجّد الله.

 

الاسم الذي نطقت به أليصابات ودافع عنه زكريا ليس اختيارًا شخصيًا، بل إعلانًا لإرادة الله. اسم يوحنّا يعني: يهوه تحنّن” أو “الله أظهر نعمته.

 

يقول القديس أغسطينوس: "لم يُعطَ اسمه من الأرض، بل من السماء. فالنعمة لا تُسمّى إلا بما يعلنه الله".
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنّ هذا الاسم ليس مجرد لقب، بل "ختمٌ على رسالة الطفل، شهادة بأن كل ما سيصنعه سيكون ثمرة نعمة لا جهد بشر".

 

لقد تحنّن الله على أليصابات العاقر، وعلى زكريا المتشكّك، وعلى شعب ينتظر. فصار يوحنا علامة التحنّن الإلهي الذي يشقّ طريقه في قلب التاريخ.

 

 

زكريّا… الرجل الصامت الذي وُلِد من جديد

 

تسعة أشهر من الصمت ليست فترة انتظار فقط، بل زمن ولادة داخلية. لقد أدرك زكريّا، وهو يغوص في عمق صمته، أن الإيمان ليس كلمات (كما كان يفعل بممارسته لخدمته الطقسية)، بل استعداد عميق لقبول ما يفوق العقل.

الصمت الذي بدا نقصًا أصبح نعمة. والعجز عن الكلام تحوّل إلى لغة جديدة، أكثر نقاءً: لغة التسليم، ولغة المجد لله.

 

يكتب أحد الآباء الشرقيين: "هناك صمت يلد كلمة، وكلمة تولد من الصمت. وزكريّا لم يعرف الكلمة إلا بعدما صمت على كلمته هو". لقد خرج زكريّا من فترة صمته متغيّرًا، إنسانًا جديدًا. وكما وُلد يوحنا في بيته، وُلِد زكريّا أيضًا ولادة روحية عميقة.

 

 

أليصابات… صوت النعمة الذي يتجاوز العادة

 

وأليصابات، المرأة التي عرفت مرارة العقم، تظهر في النص قوية، حرة، ثابتة. تحدّت التقاليد، وحمت فرادة ابنها، وسمحت للنعمة بأن تُعلن ذاتها. لقد أدركت بحدسها أنّ هذا الطفل ليس ملكًا للعائلة، بل لله. ولذلك دافعت عن اسمه، عن أصالته، عن اختلافه. المحبة الحقيقية هي ما عبّرت عنه أليصابات: أن نرافق الآخر ليكون ذاته، لا ليكون صورتنا.

 

 

الاسم الذي يكسر القوالب

 

ليس من بين أقربائهم من يُدعى يوحنا وكأن النص يقول: لم يأتِ يوحنّا ليُشبه أحدًا. إنه بداية زمن جديد: زمن التهيئة، زمن كسر التوقعات، زمن إعلان النور الآتي. اسم جديد لرسالة جديدة. وكذلك نحن: يحمل كلّ واحدٍ منّا اسمًا أراده الله له، هوية فريدة، مسارًا خاصًا. غير أنّ كثيرين منّا يعانون لأن أحدًا لم يؤمن بفرادتهم، أو حاول أن يعيد تشكيلهم وفق صورته.

 

يقول القديس إيريناوس: "مجد الله هو الإنسان الحيّ… الإنسان الذي يخرج من القوالب إلى حرية الروح".

 

 

سرّ المحبة… أن أسمح للآخر أن يكون ذاته

 

المشهد الإنجيلي ليس قصة تاريخية فقط، بل مرآة لكل علاقة حبّ في حياتنا. كم من أبٍ أو أمٍّ أو صديق يريد الآخر أن يشبهه، أن يحمل أحلامه، أن يحقّق ما لم يستطع هو تحقيقه! لكن المحبة الصادقة، كما تظهر في أليصابات وزكريا، هي أن أحمي الاختلاف، وأفسح المجال للنور الذي يحمله الآخر. أن أحبّ هو أن أفسح لله مكانًا في الآخر.

 

 

نفحة صوفية: حين يكتب الله اسمنا في الصمت

 

هناك بعدٌ خفيّ في هذا النص، يلمع حين ندخله بروح الصلاة: الاسم الحقيقي لا يُنطق بالكلام، بل يولد في الصمت. كان لابد لزكريا أن يُسكت صوته، ليكتب الله اسمه على لوح قلبه. فإن حدث وسمح الله بأن يخرس فمك، فثق أنه بدأ بفتح قلبك لتسمع سمعًا جديدًا. هكذا فهم زكريا أن النعمة تُكتَب ولا تُقال، تُعاش قبل أن تُعلَن.

 

يوحنا هو طفل الصمت، طفل النعمة، طفل التحنّن الإلهي. منه نتعلّم أنّ الله لا يدخل حياتنا من باب التوقعات، بل من باب الإصغاء العميق، حيث يكتب على قلوبنا أسماء جديدة.

 

 

خاتمة: تحنّن الله الذي يهيّئ قلبنا للميلاد

 

قبل ميلاد يسوع، يولد يوحنّا.

وقبل أن نفتح باب المغارة، ينبغي أن نفتح باب القلب.

يوحنّا يهيّئ الطريق في التاريخ، وهو أيضًا يهيّئ الطريق في داخلنا، كي نتعلّم:

- أن نصمت لنسمع،

- أن نقبل نعمة الله المفاجئة،

- أن نحترم فرادة الآخر،

- وأن نسمح لله بأن يكتب قصّته فينا.

 

اسم يوحنا يدوّي في هذا الزمن: الله تحنّن.

تحنّن على أليصابات، على زكريا، وعلى كل قلب ينتظر، حتى لو كان الصمت يثقل عليه.

ومَن يدخل الميلاد بروح يوحنا

يدخل مرّة أخرى في نعمة الله الأولى: الرحمة التي تُعيد للإنسان اسمه، وصوته، وحريته.