موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٣ يوليو / تموز ٢٠٢٥

ما نوع الثقافة التي تمكننا من النهوض بمجتمعاتنا العربية؟

القس سامر عازر

القس سامر عازر

القس سامر عازر :

 

ليس من السهل اليوم أن نطرحَ سؤالاً كهذا دون أن نشعر بشيء من المرارة. فالثقافة، التي كان من المفترض أن تكون النور الهادي لمجتمعاتنا، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مجرد شعاراتٍ جوفاء، أو طقوسٍ استهلاكية، أو مجرّد مقتنيات شكلية لا تتعدى رفوف المكتبات أو زوايا وسائل التواصل الإجتماعي. فما الذي جرى؟ ولماذا تراجعت الثقافة من مقامها الريادي في حضاراتنا إلى حالة من الانكماش والتهميش؟

 

حين نتحدث عن "الثقافة" فإننا لا نعني بها حشد المعلومات، ولا تكديس الشهادات، ولا حتى التباهي بالأدب والفنّ فقط، بل نقصد الثقافة بوصفها بنية وعي، ومنظومة قيم، ومجموعة من الرؤى التي تشكّل الإنسان وتوجّهه، وتبني ذائقته وتحدد رؤيته لنفسه وللعالم. هي تلك الروح الحيّة التي تدفعه نحو الإبداع، والمسؤولية، والكرامة، والحوار، وقبول الآخر.

 

إنّ المجتمعات لا تنهض بالاقتصاد فقط، ولا بالخطط الاستراتيجية المجردة، بل تنهض بثقافةٍ تحرّر العقل من التبعية، وتحرّك الإرادة نحو التغيير، وتزرع في الإنسان شعورًا بأن له دورًا وقدرًا ورسالة.

 

نحتاج إلى ثقافة تعيد للإنسان العربي احترامه لذاته قبل كل شيء، فلا يُستدرج إلى التقليد الأعمى، ولا يُستهلك في اللهاث وراء كلِّ وافدٍ بلا وعي ولا تمحيص. نحتاج إلى ثقافة تُعلِّم الفرد كيف يسائل، لا أن يسلّم، كيف يبني لا أن يتّكل، كيف يختلف باحترام لا أن يخاصم بتشنج، كيف يحترم العمل والعلم معًا، لا أن يعيش على هامش التاريخ في انتظارية قاتلة.

 

هي ثقافة تقوم على قراءة حقيقية للتاريخ لا تُغرقنا في مجده المفقود، بل تحفّزنا لاستلهامه والانطلاق منه، دون أن نغرق في اجتراره. ثقافة تجعل من الدين روحًا للحياة لا سيفًا على الرقاب، ومن التراث جسرًا للمستقبل لا قيدًا للماضي.

 

في هذا الإطار، يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: "إن الإنسان لا يُعرف بكثرة ما يمتلك، بل بعمق ما يتأمل."

 

فالثقافة الحقيقية ليست رفاهية فكر، بل ممارسة حياة. إنها دعوة لكي يتأمل الإنسان في معناه، في مسؤوليته، في محبته للآخر، وفي دوره كصانع للسلام والبناء لا كهارب من الواقع.

 

أما ما نراه اليوم في كثير من المشاهد فهو تدنٍ مؤسف في مستويات الوعي، تراجع في الذائقة، سيطرة للسطحية والابتذال، وانفصال الثقافة عن الحياة اليومية. إنها ثقافة "الترفيه" الفارغ الذي يخدّر لا يُحرّك، ويستهلك لا يُنتج، ويُشتّت لا يُنير.

 

ومن هنا، إن أردنا لمجتمعاتنا أن تنهض، فلا بد أن نبدأ من تجديد ثقافتنا، لا على مستوى الشكل بل في الجوهر. علينا أن نربّي أبناءنا على ثقافة المسؤولية والبحث والنقاش، على حبّ الجمال واحترام العقل، على الانفتاح دون التفريط، وعلى التمسك بالهوية دون تعصّب.

 

الثقافة التي تنهض بالأمم هي تلك التي تسكن البيت والمدرسة، المسجد والكنيسة، الكتاب والمسرح، وتتحوّل إلى أسلوب حياة لا إلى زينة موسمية. هي تلك التي تُخرِج من الجامعات عقولًا ناقدة، ومن المعابد قلوبًا رحيمة، ومن المجتمعات مواطنين لا أتباعًا.

 

لقد آن الأوان أن نعيد سؤال الثقافة إلى صدارة أولوياتنا. فكما قال محمود درويش: "الثقافة هي ما يبقى فينا بعد أن ننسى كل شيء آخر."

 

وإن أردنا البرهان على محبتنا لأوطاننا، فلنبدأ ببناء ثقافة تشبهها في عمقها وجذورها... وتدفعها إلى الحياة من جديد.