موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
قبل أيّام قليلة، تشرّفتُ بحضور مؤتمر التربية المدنيّة والأديان، الذي أقامه المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام بالتعاون مع المركز الأردني للتربية المدنيّة ومؤسّسة كونراد اديناور، ورعاه معالي وزير التربية والتعليم والتعليم العالي الدكتور عزمي محافظة. وقد شكّل هذا المؤتمر مساحة حقيقيّة ومنصّة مهمّة للحوار، جمعت أصواتًا متعدّدة تؤكّد على أهمّيّة القيم الإنسانيّة المشتركة، وضرورة حضورها في بناء مجتمعات أكثر عدلًا وتماسكًا وانتماءً.
وكان السؤال المحوري الذي راودني ولا يزال: أين تقف الثقافة والفنون من هذا المشهد؟ وهل يمكن أن يكون لها دور فاعل في تحقيق وترسيخ التربية المدنيّة التي نحتاجها في مجتمعنا الأردنيّ الحبيب؟
يمكن تعريف التربية المدنيّة بأنّها تأهيل وإعداد الشباب ليصبحوا مواطنين فاعلين منخرطين ونشيطين في المجتمع. ولتحقيق التربية المدنيّة علينا إعداد أبنائنا وبناتنا من خلال ثلاثة أبعاد؛ الأوّل: الفردي الحقوقي، وهو الذي يركّز على بناء فرد واعٍ بذاته وحقوقه وواجباته تجاه نفسه. هنا يبرز السؤال: كيف أرى نفسي؟ وهل أملك القدرة على التفكير النقدي؟ هذا البعد يتطلّب منّا إنشاء فرد يتحلّى بقيم النزاهة والمسؤوليّة والاحترام. والبعد الثّاني: الكلّي (الجماعي)، وهو الذي يتجاوز حدود الفرد ليصل إلى الجماعة والانتماء للمجتمع ككل. في هذا الإطار يجب أن نرسّخ قيم المشاركة الفاعلة والتعاون والانتماء للمصلحة العامّة. فلا يكفي أن أكون فردًا صالحًا لنفسي فقط، بل يجب أن أرى نفسي جزءًا من نسيج أوسع، مسؤولًا عن البيئة، والمدرسة، والجامعة، والحيّ، والوطن. أمّا البعد والأخير فهو: المدني والسّلمي، وهو الذي يتعلّق بقدرة الفرد على تقبّل وإدارة الاختلاف والتنوّع بطرق سلميّة وحضاريّة. من هنا تأتي أهمّيّة تدريب الشباب على الحوار بدل الصراع، وعلى قبول التعدّديّة بدل ثقافة الإقصاء والتهميش، مع التأكيد على العدالة والاحترام والتقبّل.
إنّ تحقيق التربية المدنيّة هو مشروع متكامل يحتاج إلى عدّة مسارات، لتصبّ في نهاية المطاف في تكوين مجتمع عادل وسلمي: المسار التعليمي، الأسري والاجتماعي، السياسي، الإعلامي والتكنولوجي، والديني والقيمي. لكن يبقى المسار الثقافي والفنّي هو الأكثر قدرةً على إحداث النقلة النوعيّة في وعي المجتمع. فمن خلال الثقافة والفنون يستطيع الفرد أن يكتشف ذاته، ويعبّر عن آرائه، ويطوّر مهاراته النقديّة والإبداعيّة، ويعزّز العمل الجماعي، ويرسّخ قيم المواطنة، ويصبح جزءًا من المشروع الجماعي الأكبر.
كما أنّ الثقافة والفنون هي لغة الحوار الأجمل؛ فهي تقبل التعدّديّة وتفتح المجال للاختلاف دون خلاف. فأغنية، أو مقطوعة موسيقيّة، أو لوحة فنّيّة، أو قصيدة شعريّة، أو عرض مسرحي قادر على أن يجمع أفرادًا من خلفيّات دينيّة وثقافيّة متباينة ضمن أرضيّة إنسانيّة مشتركة.
وحين نقول إن الثقافة والفنون هي القلب النابض لهذه التربية، فإننا نعيد إحياء حلم قديم تحدّث عنه العديد من الفلاسفة، وعلى رأسهم أفلاطون في حديثه عن المدينة الفاضلة؛ فالمجتمع الفاضل لا يُبنى بالقوّة والمعرفة وحدها، بل بالثّقافة والفنون التي تصقل الوجدان، وتزرع الإحساس بالآخر، وتغرس القدرة على العيش المشترك، والمواطنة الصالحة.