موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
(الإنجيل يو 3: 16-18)
المجد للآب والإبن والرّوح القدس!
آية بداية قداس اليوم تقول: "تبارك الله الآب، وابن الله الوحيد، والروح القدس، إنه أتانا من مراحمه!".
منظر البحار والمحيطات الواسعة، العميقة والبعيدة، جذابة للعين. يجلس الإنسان على الشاطئ هادئَا متأمّلا في الآفاق اللامحدودة، ولا يريد أن يقوم من هناك. هنا يخطر على بالنا التأمّل بأسرار الله الكبيرة العميقة التي نعترف بها. من هذه الأسرار، سر الثالوث الأقدس، الذي نعيّده اليوم. فهو أوسع وأكبر وأعظم أسرار قانون إيماننا.
كل الشعوب القديمة، كانت تكرّم آلهتها وملوكها، بإجلال واحترام، لتطلب حماها ورضاها. لكن لا شعب يذكر ظهور ألهته على الأرض، بل كانت هذه الآله كشرطي مراقبة لأتباعها لتقاصصها، لذا كان البشر يعيشون في خوف دائم. ولكي يُرضوا هذه الآله فقد تفنّنوا في إكرامها، ببناء الهياكل الضخمة المُزخرفة، كالبيراميدات المصرية أو ألأكروبوليس في اليونان، التي كانوا يُقدِّمون فيها، ليس فقط الذبائح والبخور، بل وأيضا في الضيق الكبير، المشابه لضيقنا اليوم مع داء الكورونا الذي نعيشه نحن اليوم، ذبح الأطفال الأبكار مرضاة لهم. فأي ألهة هذي يا ترى؟ ديانتنا الوحيدة التي تذكر أن إلهنا تقرّب منا، وذبح هو نفسه، ليرينا صدق وعظمةَ محبته لنا :هكذا أحب الله العالم، حتى إنه بذل ابنه الوحيد.
يوم عيد الثالوث الأقدس 7 أيار عام 1981، استذكرت جميع الكنائس، حتى البروتستانتية، مرور 1600 سنة على انعقاد المجمعين المسكونيين: مجمع نيقيا 325 وهو أول مجمع مسكوني في تاريخ الكنيسة، أعلن أن الله هو خالق السماء والأرض ووالد الإله يسوع ابنه وهو أبدي. ومجمع القسطنطينية عام 381، فقد اهتمّ بمحاربة الهرطقات حول تعليم المسيح الإله والإنسان، والهرطقة ضد الثالوث الأقدس. من هذين المجمعين توارثنا قانون الإيمان الكبير الذي نصليه كل أحد وفيه نعترف: نؤمن بالله الآب القادر على كل شيء، وبابنه يسوع المسيح، الإله من إله، والنور من نور، الإله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر (أي الطبيعة الإلهية)، هذا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الرّوح القدس... وفي النهاية نكمِّل الصلاة قائلين: ونؤمن بالرّوح القدس، الرّب المحيي... فهذه هي الصلاة الوحيدة المشتركة بين جميع الكنائس، والتي لا نجد فيها أي اتفاق أخر في أي عقيدة إيمانية ثانية. فرغم الإنفصالات بقي الإيمان بعقيدة الثالوث الأقدس واحد، في الكنيسة الواحدة التي أسسها يسوع المسيح، أخذته معها الكنائس التي انشقّت عنها.
من مجمع نيقيا نقر ونعترف أن يسوع الإله قد تجسّد وصار إنسانا مع بقائه إلها وابن الله. وبهذا الإبن الإله الذي مات عن الأمة كلِّها وخلَّصها بآلامه وموته، ظهرت لنا محبة الله اللامتناهية، والتوراة تسميه الله المُحب. وبالمحبة، لا بالتهديد والتخويف، ظهر للبشر.
إيماننا لا يميّزنا فقط عن باقي الدّيانات بل ويفرّقنا عنها. فمن بداية الكنيسة ظهر فئة فلاسفة لم يقدروا أن يفهموا قانون سر الثالوث الأقدس، فأنكروه فحرمتهم الكنيسة، وهم (Monophysiten)، أي الذين يؤمنون بطبيعة واحدة في المسيح. اعتقادهم الصحيح. المسيح قبل ميلاده كان يحمل الطبيعة الإلهية فقط، وأما في ميلاده فقد تخلّى عنها وولد مثلنا ومات في الطبيعة البشرية. وها الإسلام يتّهمنا بالكفر إن آمنّا أنّ لله أبن إسمه عيسى وهو أيضا إله، وأنّ روح الإثنين، أي الروح القدس، هو أيضا إله. فهذا غير وارد في القرآن، إذ الله واحد، لا ثاني ولا ثالث له. فمن اعترف بما يعترف به النصارى فهذا كفر. وليست الديانة اليهودية، التي لم تعترف بمجيء يسوع، تُعاملنا بأحسن مما يعاملنا الإسلام. فيهوى هو الإله الذي قال لشعبه: أنا هو الرّب إلهك فلا يكن لك إله غيري. فلا مكان أيضا في اليهودية لهذه العقيدة.
نحتفل اليوم الأحد اللاحق لأحد العنصرة، بهذا العيد المُميّز، واسمه عيد الثالوث الأقدس. وهذه هي عقيدة من أكبر وأصعب عقائد إيماننا، لفهمها بالعقل المُجرّد. عمليّاً نحن نباشر حياتنا المسيحية باعتمادنا باسم الآب والإبن والروح القدس. فلا من صلاة ولا من قداس إلا وتبدأُها الكنيسة بعقيدة الإيمان هذه. فهذا الإيمان هو ثابت ولا تغيير فيه. هو من أكبر أسرار الإيمان، بلا شك، ولا يمكن للعقل أن يستوعبه. لذا قال لنا القديس توما الأكويني: الأسرار التي لا يفهمها عقلنا ولا يستطيع تفسيرها، يكفيه الإيمان بها. "لأنّ الإيمان يسدُّ عن كل فهم".
إن الدّيانة هي الإيمان بشخص، ليس من هذا العالم، لكنه يعتني بهذا العالم، وهو جدير بالثّقة، لأنَّ تعليمه حقٌّ، وتعليم الحق هو وحي إلهي. لذا فأساس وأصل الدّيانة إذن هو إلهي، وهذا سرُّها. إن ديانةً بلا أسرار في تعاليمها هي ليست بديانة. وسر الثالوث الأقدس هو أكبر أسرار ديانتنا، وهذا السرّ هو عقيدة إيمان، أي يجب القبول بها حتى بدون فهمها. قال القديس أغسطين: من يدّعي أنه فهم شيئا من الله فهو لا يعني هذا الإله، الذي نحن بصدده. فعبثاً الإدّعاء المغلوط: لا أومن إلاّ بما أرى: أنا لا أومن بالله، لأني لا أراه. فهذا إنكار للذّات إذا قلت: أنا لا أومن بأبي لأنه غير موجود! فهذا كذب على الذّات.، أنت تأتي من أبوك، إذن؟؟؟ هكذا نحن نأتي من الله، ففينا آثاره، فلا نقدر أن نعيش بدونه. لمّا خلق الله الإنسان، نفخ فيه من روحه الحية، بذلك خلقنا على صورته، فأنت لا ترى الرّوح بل تحسُّها فيك. ولكنك لا تقدر أن تمحو هذه الحياة منك. سرّ الله لا نقدر أن نفهمه إلاّ بصور وأمثال تعطي عنه فكرة من هو. فها التكنولوجية اليوم تضعنا أمام أسرار كثيرة لا علم لنا فيها، ولكننا نقبلها. مثل بسيط أنا أريد السّفر إلى بلد غريب، فعاد يكفيني أن أملك جهاز التكنولوجية المسمّى النافي، فأن سرت حسب تعليماته أصل سالما لأيّ عنوان أطلبه منه. أليس ذلك سرّا لعقلنا المحدود؟. هذا وليسمح لي السامع بذكر مثل حيّ، فإن والدي كان أُمِّيّاً، أمضى أكثر أوقاته في آخر حياته أمام التلفزيون، ولأنه ما كان عنده أي علم بهذا الجهاز، فكان يفتكر أن المُمثّلين هم شخصيّا امامه على شاشة التلفزيون، كما الممثلون على مسرح، يتمشون ويتصارعون ويطلقون النار من سلاحهم على بعض، فيتعجّب ويسأل، كيف أن شاشة التلفزيون تسعهم، وأن شاشة التلفزيون لا تنكسر من طلقات البارود، فأي سرٍّ هذا؟ وهل هو سحر؟ لأنه كان يفتكر أنّهم فعلا أحياء في التلفزيون أمامه، وعندما كانوا يُصوِّبون الرشّاشة لإطلاق النار على بعضهم كان يدير رأسه لئلا تُصيبه الطّلقة. أما ولكي أُفسِّر له ذلك بطريقة يفهمها، بعد عدّة شروحات لم يستوعبها، فقد أحضرت له مرآتين، إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، وضعتهما أمامه وقلت له: هذه الأفلام مصورة قدام كاميرات مثل المرآة. ففي المرآة، سواءٌ الكبيرة أو الصغيرة، أنت ترى نفسك كاملا. هكذا الممثلين فكأنك تراهم في مِرآة، كبيرة كانت أم صغيرة، فلا فرق، حتى اقتنع، أمّا أنه فهم ذلك أو استوعبه، فأنا أشك بالأمر، حتى اليوم.
هذه العقيدة هي ليست من نسج الخيال، لا أساس ولا إثبات لها، بل إثباتاتها لا تُعدُّ ولا تُحصى على صفحات التوراة، التي لا تتعب من ذكر الكلمات: الله، الإبن، الروح. وهم ثلاثة أشخاص أحياء لا أشياء، نسميهم الثالوث الأقدس، لأنهم أصل القداسة، كما نصلي:"حقّاً إنّك لقدّوس، أيّها الآب، ينبوع كلِّ قداسة".
نعم سرّ الثالوث الأقدس هو علم لاهوتي للاهوتيّين، وعلم اللاهوت هو ليس للمستهلِك العادي. إذ ماذا يفهم من يسمعني أصلّي: أؤمن بأن الله ثلاثي الأقانيم، أو عندما أرسم إشارة الصّليب على نفسي وأقول: باسم الآب والإبن والرّوح القدس، أو كل أحد هو أحد الثالوث الأقدس. إننا نشكر الله أنّ ديانتنا ليست فقط للعقل والفهم، وهي ليست ديانة لمختارين موهوبين فقط، بل هي للمؤمنين قبل أن تكون للّاهوتيين، والإيمان هو للكل. الله قد أرانا نفسه. قد أوحى لنا نفسه، ما هو أو من هو. والتوراة تقول لنا كيف دخل الله في عالمنا، نعم هو ليس كالآلهة الوثنية، وجهه غير معروف وعرشه خلف الغيوم. أمّا إلهُنا فقد كان دائما قريبا من شعبه، كشف أوّلا عن اسمه، فهو يهوى، أي أنا يهوه، أي الله الذي يهوى البشرية التي خلقها، خلّص شعبه من عبودية فرعون ورافقه إلى أرض الميعاد. وما إله العهد الجديد إلاّ إله العهد القديم بالذّات. قد كشف عن نفسه بتجسّد ابنه بصورتنا البشرية. نحن نعلم أنّ الله غير منظور. إسمه قاله لموسى أمام العليقة: أنا هو! ولكي يكشف لنا ما تعنيه هذه الكلمة، فقد أوحى لنا ذاته ثُلاثيا، أي على ثلاث فترات:
فترة الخلق ظهر لنا الله كخالق العالم وما فيه. فهو أصل الحياة، ما خلقه أحد، بل هو خلق كل شيء، ومنه انبعت الحياة في العالم. وفي عُلّيقة موسى برهن، أنه لنا.
الفترة الثانية، هي بعد دخول الخطيئة في العالم، ظهر الله على الأرض بابنه كمخلّص، فهذا الإبن هو شاهد يُعتَمَد عليه، أخبرنا الكثير عن هذا الأب ومحبّته لنا. ولكي يبرهن لنا عن محبّته ، فقد تقرّب إلينا، قد صار واحداً منا، أخذ وجها بشريّاً مثل وجهنا اتحادا بنا. أرانا إذن آخر ما عنده، ليبرهن لنا عن محبّته. ولولا محبة الله، لما استطعنا لا فهم سرِّه ولا التّقرّب منه. فما عدنا إذن بحاجة لأخذ طريق بعيد حتى نصل إليه "من رآني فقد رأى الآب". الإبن هذا قال لنا، إن الله ليس فقط أبوه هو، بل أبونا نحن أيضا. فنحن بابنه قد صرنا أولادَه الحقيقيين، وإخوةً متساوين لابنه يسوع. في أشعيا نقرأ "إني دعوتك باسمك، وأنت لي"(أشع 43: 1). لقد صار الله قريبا منا، يعرف كلّ واحد منّا باسمه "إني أعرف خاصتي" قال يسوع (يو 10: 14). أليس ذلك مدعى فرح، أن نعرف ان الله يعرفنا ولو أنّنا لا نراه، فهو يرانا ولا ينسانا؟
نعم أبوه هو أبونا، وهو أب رحيم، يتواضع الإبنُ قدّامه ويطلب لنا منه قائلا: يا أبتِ قدّسهم واحفظهم باسمك. نعمة الإبن ومحبة الآب وشركة الرّوح القدس سكنت فينا. وهذا ما يجعل مقامنا عاليا، إذ نحن صُنع يديه ومحطّة أنظاره واهتمامه ومحبّته في هذا العالم.
أما في الفترة الثالثة الّتي كشف الله لنا فيها عن ذاته كروح، فكانت يوم العنصرة، حيث خَلَفَ الرّوحُ الإبنَ، ليدير العالم ويقوده إلى نهايته. فهو بعد صعوده لم يتركنا يتامى، لامعيل ولا مُرشِد لنا، بل أظهر بذلك أنّه يهمُّه أمرُنا،: "سأسأل الآب أن يرسل لكم المُعزّي". حتّى بعد ما قطع الإنسان علاقته مع ربِّه، هذا الرب لم يقطع علاقته مع الإنسان، بل جدّد العهد معه، واقترب منه من جديد بواسطة ابنه، حيث تقول التوراة: حتى وإن لم تكن يا شعبي أمينا، أما أنا فأمين. الله يهتم فينا في كل لحظة. مهمّته ان يُثبِّتَنا في الحق، ويذكِّرنا بما علّمنا يسوع، وأن نُعمّد البشر باسم الآب والإبن والرّوح القدس (متى 28: 19). وفي تعليمة ذكر عدّة مرات اسم أبيه والرّوح الذي سيرسله لنا، وتكلّم عن نفسه كالإبن، الذي من أبيه أتى ليضحّي بحياته من أجلنا. فبالإختصار: الله هو آب وابن وروح قدس، هكذا أوحى بنفسه للبشر، الذين خلقهم وخلّصهم، والآن يرافقهم إلى كمالهم. وهذا السرّ كان موضوع مجامع مسكونية، أثبتت صحّته وفرضت الإيمان به. فما بوسعنا إلاَّ أن نمجّد ونسبّح هذا الإله قائلين: المجد للآب والإبن والرّوج القدس.
فعلاقة الآب مع الإبن ومع الرّوح، هي علاقة حيّة كما تعبّر عنها صلاة القداس التي تقول: أيّها الآب القدوس، يا من أرسلت إلى العالم كلمة الحق وروح القداسة، كي تكشف للبشر عن سرِّك العجيب، هب لنا في إعلاننا للإيمان القويم أن ندرك مجد الثالوث الأزلي وأن نسجد لوحدته... هذا وكل طلباتنا الموجهة للآب، ننهيها باللازمة: نطلب ذلك بابنك يسوح المسيح، ابنك الحي المالك معك ومع الروح القدس. بهذا نعلن إيماننا باختصار: الله الآب خلقنا. الله الإبن خلّصنا. الله الرّوح يقوينا ويقودنا إلى النهاية. فله الشكر والحمد والتسبيح، هو الله المثلّث، الآب والإبن والرّوح القدس. آمين