موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

حين يتكلّم الله، يخرس الإنسان

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
الأب داني قريو السالزياني

الأب داني قريو السالزياني

 

يستهلّ القديس لوقا إنجيله، بمقدّمة تكشف منهجه ونيّته. "مَا أَنَّ كثيرينَ أَخَذُوا يُرَتِّبونَ رِوَايةً لِلأَحْدَاثِ ٱلَّتي تَمَّتْ عِنْدَنا، كمَا سَلَّمَها إِلَيْنَا مَنْ كَانُوا مُنْذُ البَدْءِ شُهُودَ عِيَانٍ لِلْكَلِمَة، ثُمَّ صَارُوا خُدَّامًا لَهَا، رَأَيْتُ أَنا أَيْضًا، أَيُّهَا الشَّرِيفُ تِيُوفِيل، أَنْ أَكْتُبَها لَكَ بِحَسَبِ تَرْتِيِبهَا، بَعْدَما تَتَبَّعْتُهَا كُلَّها، مُنْذُ بِدَايَتِهَا، تَتَبُّعًا دَقيقًا، لِكَي تَتَيَقَّنَ صِحَّةَ الكَلامِ الَّذي وُعِظْتَ بِهِ". فقد أراد أن يقدّم عرضًا مرتبًا ودقيقًا وموثوقًا لحياة الرب يسوع. كان الكتّاب في ذلك الزمن يفتتحون مؤلّفاتهم بمثل هذه المقدّمات ليمنحوا القارئ الثقة بما يقرؤه، وليؤكّدوا أنّ ما يقدّمونه يستند إلى الحقيقة. وهكذا اجتهد لوقا في إجراء بحث وتحري دقيق عن يسوع: بما يخص حياته، وشهود أحداثه، والذين رأوه ورافقوه واختبروا حضوره.

 

وكلمة "دقيقاً" هنا تحمل معنيين: فهي تشير إلى الدقّة العلمية والمنهجية، وتشير أيضًا إلى اهتمام القلب، أي إلى شغفه باكتشاف سرّ حياة المسيح (ففي الأصل اللاتيني a-cuor- rate وكأنّ المعنى يشير إلى ما يصدر من القلب).

 

فعندما نحبّ شخصًا ما، نسعى إلى معرفته؛ نريد أن نعرف قصّته، جذوره، أصدقاءه، خبراته، وكلّ ما عاشه. لكن هناك من يدّعي التدين، ومع ذلك لا يبدي أدنى رغبة في التعمّق في معرفة يسوع. لا يهمّه الأمر، ولا يثير في داخله شغفًا، ولا يعرف عنه سوى القليل… ثم يسمّي ذلك إيمانًا! ولكن، إيمانٌ بماذا؟ وعلى أي أساس يُبنى؟ فمثل هذا الإيمان لا يقوم على أرض ثابتة، بل يستند إلى ما يُقال وما يُتداول وما يصل بالتقليد دون بحث أو فهم.

 

أمّا من يحبّ يسوع بحقّ، فيسعى إلى معرفته، ويتعمّق في كلمته، ويدخل في سرّ حياته وقلبه. لذا نتساءل: "هل يمكنني أن أقول إن لي إيمانًا، وأنا لا أعرف المسيح؟" بماذا أؤمن إذن؟ وكيف أزعم محبّة شخص لم أره ولم ألتقِه ولا أعرف شيئًا عنه؟ إنّه أمر غير منطقي… ومع ذلك -وللأسف- فهو واقع عند كثيرين!

 

ثانياً: تقدّم لنا مقطوعة هذا الأحد بعد المقدمة، إنجيلاً في بدايته مشهداً صامتاً، لكنه مليء بالدهشة والمعنى: زكريا، الكاهن الشيخ، البار عند الله، يخرج من الهيكل عاجزًا عن النطق. علامة فريدة لبداية تحقيق وعد طال انتظاره. لكن خلف هذا الصمت، تنبض حكاية إلهٍ أمين، وإنسانٍ مدعوّ لأن يصغي بقلبه لا بعقله وتحليلاته البشرية فقط.

 

لقد وعد الله إبراهيم في قديماً (في العهد القديم)، وها هو يوفي بوعده بعد أجيال طويلة. واليوم، يعيد الكرة مع زكريا وأليصابات العاقرين، ليُظهر أن الوعد لا يسقط مهما طال الزمن. "فلا يعسر على الرب أمر" (تك 18: 14). ولكن الإيمان لا يُقاس بالكلمات، ولا حتى بالممارسات، بل بالثقة. وعندما تردّد زكريا وشكَّ، أسكته الله، لا عقابًا، بل تدريبًا على الإصغاء.

 

نحن نعيش في زمن صاخب، لا مكان فيه للسكينة. كل شيء يصرخ: الإعلام، الموبايل، الحروب، الأزمات الأقتصادية... وإن دخلنا مخدعنا نتصفح وسائل التواصل الاجتماعي فتقصفنا بكلمات وفيديوهات تشتت أذهاننا، وتخدّر ضمائرنا، فننسى قيمة الإصغاء. لكن الإيمان الحقيقي لا يُبنى على الضوضاء، بل على السكينة والنسمة اللطيفة التي سمعها إيليا على جبل حوريب. قال الرب له: "ليس في الزلزلة، ولا في النار، ولا في الرياح، بل في النسيم اللطيف." (1 ملوك 19)

 

يعلّمنا زكريا أن الصمت ليس هروبًا، بل عودة إلى العمق. أن نخرس قليلاً، كي نسمح لله أن ينطق في أعماقنا. وكما يقول القديس أغسطينوس: "دخلت إلى أعماقي، فرأيتك ساكنًا هناك، أبهى من النور، وأعمق من عمقي".

 

ففي الصمت أدرك سرّ العالم الآتي. فالله لا يُدرك في الضجيج، بل في عمق النفس الصامتة. صمت زكريا جعله يرى الأمور على حقيقتها. ترك دوره ككاهن واعظ، ليتحوّل إلى تلميذ صامت.  أحياناً نظنُّ أن الصمت فراغٌ، لا، بل هو امتلاء؛ الصمت الحقيقي ليس هروباً، بل انتظار رجاء.

 

لقد ساد في الهيكل صمت زكريا، ولكن في قلبه وُلدت الكلمة. تمامًا كما حملت أليصابات ابنًا في حشاها، حمل زكريا في صمته نبوءة ستولد نشيدًا في أوانه. يقول الآباء إن الصمت هو رحم الكلمة، ومن يملأ وقته بالثرثرة لا يقدر أن يسمع صوت الله.

 

لقد أسكت الشك صوت زكريا، أما الإيمان فأعاد له النطق. وكم مرة شعرنا نحن أيضاً بأننا مكمومون تحت وطأة شكوكنا، وكم من مرّة شلّتنا تحليلاتنا الفكرية المفرِطة، وسلبتْنا البصيرة بدل أن تنيرها؛ وكم من ليلةٍ جافانا فيها النوم وأرّقتنا الهواجس والوساوس. وكم من مرّة خَبَت عزيمتنا حين تركنا الخوف يهيمن علينا، فيقيّدنا ويعطّل تفكيرنا ويقلق راحتنا. أمّا الإيمان، فهو تحريرٌ للنفس، ونَسَمةٌ لطيفة تهبّ فتوقظ جمر الروح في أعماقنا، فتنفخ فيها الحياة من جديد. وكما يقول بولس: "لأن الله لم يعطنا روح الخوف، بل روح القوّة والمحبة والتعقّل" (2 تيم 1: 7).

 

في زماننا هذا، يتكلّم الجميع، وفي عالم التواصل الاجتماعي لا يُحصى عدد المنابر والناطقين منها. كثيرون هم الذين يرفعون أصواتهم، ولكنّ القليلين هم الذين يُصغون حقًّا. أنجيل اليوم يدعونا لأن نقتدي بزكريا: لأن نصمت قليلًا، ونُصغي بآذان القلب. كي يتكلّم الله في أعماقنا، فنتجدد نفساً وروحاً، ونخرج من صمتنا، لا بكلام عادي، بل بتسابيح، وأناشيد روحية، بشهادة نابضة بالحياة.

 

أعطنا يا رب صمتًا ندخل من خلاله باب السماء، فستمتع بنغمات السماء وهمسات الله المحيية.