موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

الحياة مغامرة، عشها بثقة

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
الأب داني قريو السالسي - لبنان

الأب داني قريو السالسي - لبنان

 

الإنجيل الذي تقدمه السنة الليتورجية هذا الأحد حسب الطقس الماروني هو المثلَ الثالث (بعد مثل العبد الأمين الحكيم، والعذارى الحكيمات) بهذه الأمثال نقترب من نهاية السنة الليتورجية ونهاية الإنجيل بحسب القديس متى.

 

في هذا المثل يُظهر الرب طريقتين يمكن للإنسان أن يعيش بهما: إما بالخوف أو بالثقة. فالخوف يقتل أكثر من الحروب والزلازل وأعمال العنف. إنه الشرّ الخفيّ الذي يُوهمنا بأننا أحياء فقط لأننا نتنفس ونأكل ونشرب، بينما في العمق نكون قد غادنا الحياة منذ زمنٍ.

 

هناك سيّدٌ يسلّم  عبيده وزنات “عملة ذلك الزمان”. فيظهر موقفان: الأولان يعيشان بجرأة، يستثمران، يعملا، يغامرا، يخاطرا...، فينميان ما أُوكل إليهما. أمّا الثالث فيرتجف خوفًا، فيُشلّ ويُقيد نفسه، فيدفنَ موهبته في الأرض. والنتيجة واضحة: الأولان ينالان فرحًا عظيماً، أما الثالث فيدين نفسه بنفسه.

 

لقد فُسّر هذا المثل عبر القرون بقولهم:  «لا تُخفِ مواهبك وقدراتك، بل استخدمها لخدمة الآخرين». وهذا صحيح، لكنه لا يستنفد عمق المعنى الذي أراده يسوع. فالمثل لا يتحدث فقط عن الذكاء أو المهارة، بل عن الحياة ذاتها التي أودعها الله فينا.

 

الوزنة هي الحياة: لقد أُعطينا عطية لا مثيل لها، فهل نختبئ وندفن ذواتنا أم نختار أن ننمو ونزهر؟

 

الوزنة هي الحرية: هل نحيا أحراراً كما نح حقاً، أم نساير الآخرين ونخاف أحكامهم وكلامهم عنّا وعن خياراتنا، فنضيع بالانجراف معهم في التيار؟

 

الوزنة هي دعوتنا ورسالتنا:  هل أؤمن أن وجودي على هذه الأرض له معنى ورسالة، أم أستسلم للفكر القائل بأن حياتي بلا هدف؟

 

الوزنة هي نفسي، روحي، أعماقي:  هل أسعى لتنميتها وتنقّيتها، أم ـتركها تذبل وتضمر حتى الموت، فقط لأني أخاف أن أواجهها؟

 

محور هذا المثل هو الخوف.

 

فالخادمان الأوّلان تجرّآ، غامرا، عملا وخاطرا... ولم يسمحا للخوف أن يسيطر عليهما أو يحدّ من اندفاعهما. أمّا الثالث، فقد غلبه الخوف، واستسلم له حتى كبّله وشلّ حياته.

 

ثمّة أسباب عديدة جعلت هذا العبد الثالث يدفن وزنتَه، أي موهبته.

 

أولها: الخوف من  حكم الآخرين:

 

من نظرتهم وكلامهم وأحكامهم عليه. لقد شعر بالنقص لأنه لم ينَل سوى وزنة واحدة، فبدأ يقارن نفسه بالآخرين، فرأى نفسه أقلَّ منهم، ورفض ذاته وما أُعطي له. تُخيّلوا هذا الرجل وهو يقول في نفسه: «ما أتعسني! لستُ أملك إلا وزنةً واحدة، أما هم فلديهم الكثير. عليَّ إذن أن أُخفيها جيدًا، أن أحافظ عليها وأدفنها... هم إن خسروا وزنةً فلن يتأثروا، أما أنا فلا أستطيع أن أخسرها، لأنها كل ما أملك!» ثمّ يُبرّر فشله قائلاً: «الذنب ليس ذنبي، بل ذنب السيّد الذي أعطاني وزنة واحدة فقط».

 

لكنّ السيّد، العالم بخفايا القلوب، يواجهه هذا العبد بصراحة قائلاً: «أَيُّها العبد الشِّرِّيرُ الكَسْلانُ، والكاذب! أتُريد أن تُبرّر خوفك بإلقاء اللوم عليّ؟! أتُريد أن تخفي جُبنك وراء ادّعاء الأمانة؟! تحمل مسؤولية صنيعك!».

 

بهذا يبيّن يسوع أن من يعيش في الخوف ينتهي لا محالة إلى الظلمة البرانية.

 

فحين يبدأ الإنسان بمقارنة نفسه بالآخرين قائلاً: «هل عندي مواهب أكثر أم أقل؟ هل أنا أفضل أم أدنى؟ هل هو أذكى، أغنى، أجمل، أو أكثر حظًّا مني؟». عندها يبدأ في تدمير نفسه بنفسه. نحن غالبا ما نقارن أسوء ما لدينا بأفضل ما لدى الآخر. وهذه هي مأساة الإنسان؛ أنه لا ينظر إلى ما أُعطي له، بل إلى ما يملكه الآخرون. تأمّلوا في عبثية هذا العبد الذي أخفى ودفن الشيء الوحيد الذي كان يخصّه حقًا! لماذا تتوق إلى ما لدى غيرك، وتُهمل ما أودعه الله فيك؟

 

أذكر شابًا تعلم العزف على الغيتار، لكنه كان يرفض أن يعزف مع الكورال في الكنيسة أو حتى في حفلات السمر، لأنه كان يظنّ نفسه غير مؤهّلٍ. لكن في الحقيقة، كان قادراً على العزف بشكلٍ جيد، لكن صديقه الذي يعزف معه كان أفضل منه قليلًا، فكان يغار منه، ويعجز عن تقبّل تفوّقه، فيفضّل الانسحاب على أن يُظهر موهبته.

 

وكثيرون يقولون في انفسهم: «أعط الخبز لخبازه» ويظنّون أنفسهم متواضعين في هذه الحالة لأنهم يتنازلون عن واجباتهم، ولكن في العمق هم ممتلئون كبرياءً وخوفًا: خوفٌ من الفشل، من المخاطرة، من الظهور، من أن يتفوّق عليهم الآخرون أو أن تأتي أفكار جديدة تهدّد مكانتهم. الناس مملوءة بالمواهب والطاقات والرهافة، لكن لأنهم يريدون أن يكونوا الأوائل، الأفضل، “الأكثر”، فإنهم لا يستطيعون قبول محدوديتهم. فينتهي بهم الأمر إلى دفن النعمة بدل إستثمارها، وإلى إطفاء النور الذي أودعه الله فيهم خوفًا من أن لا يسطع بما يكفي. فالخوف، حين يتنكّر في ثوب التواضع، يظلّ كبرياءً خفيًّا يدفن الحياة في التراب.

 

السبب الثاني الصورة التي نحملها عن الله

 

وهذا ما جعل العبد الثالث لأن يدفن وزنته. فهو يقول في المثل: «يا سَيِّد، عَرفتُكَ رَجُلًا شَديدًا تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ، وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ، ٢٥فخِفتُ وذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأَرض، فإِليكَ مالَك» (متى ٢٥: ٢٥). من أين أتى بهذه المعلومات؟! عن أيُّ إلهٍ يتحدّث؟ وأيُّ صورةٍ لله تسكن قلب هذا الإنسان؟ مَن أخبره أن الله بهذه القسوة والصرام ولا رحمة فيه؟ من الطبيعي إذًا أن يخاف، لأنّ من يؤمن بإلهٍ كهذا لا بدّ أن يعيش مرتعبًا. فمن لا يرتعب أمام إلهٍ لا يغفر الخطأ، ولا يقبل الضعف، إلهٍ صارم، بارد، لا يعرف الرحمة؟

 

إن صورة الإنسان عن نفسه تنبع من صورته الداخلية عن الله، أو عمّا يعتبره إلهًا في وعيه. فمن يخاف الله بهذه الصورة، يخاف أيضًا ذاته، يخشى أعماقه، ويهرب من مواجهة ما في داخله.  أما من يؤمن أن الله محبة، فيقدر أن ينظر في داخله بلا خوف، وأن يعطي اسمًا ومساحة لكلّ ما يجده هناك. إن كنتَ واثقًا بمحبة الله، يمكنك أن تُحاول وتخاطر وتبدأ من جديد، لأنك تعلم أن الله لا يُدينك بل يؤمن بك . إن كنتَ واثقًا بأنه يضع ثقته فيك، فلن تحتمي وراء القوانين الجافة أو التديّن الشكلي، بل ستجرؤ على أن تحيا بصدق وحرية. فالله، إن كان هو الحياة، لا يريد لك أن تتقوقع في الخوف، بل أن تنمو وتفيض وتحقّق ذاتك. لكن إن كنت تخاف الله، فلن تستطيع أن تحيا؛ وإن كنت لا تحيا، فستبقى خائفًا من الله.

 

كيف لك أن تجرؤ على معرفة نفسك أو اختبار الحياة إن ظننت أن الله قاضٍ قاسٍ أو أبٌ متسلّط؟

 

كم من العبارات الخاطئة المملوءة خوفًا ترعرعنا عليها منذ نعومة أظافرنا : «احذر أن تخطئ، فالله يراك!» أي بمعنى “سيعاقبك!”. «انظر ماذا سيقول الله عمّا فعلت!»  وكأنّ الله يترصّد الزلّات. «لن يحبّك يسوع إن فعلت ذلك… زعّلت يسوع… بكيّت يسوع!» جملٌ استخدمها الكبار لزرع الخوف في قلوب الصغار، باسم الدين.

 

وهكذا ترسّخ في أذهان كثيرين رعبُ الخطية، في زمنٍ صار فيه كلّ شيء خطيئة: الفرح، الحلم، الحرية، المشاعر، الحب… كلّها كانت تُدان باسم الله. فصار الإيمان يعني الامتناع، والقداسة تعني الجفاف، والتقوى تعني الكبت. إلهٌ كهذا، عدوٌّ للحياة، لا يمكن أن يُحبّه أحد.

 

«لا تفعل هذا… لا تذهب هناك… لا تفرح… لا تضحك… لا تجرّب». كلّ شيء محرَّم، وكلّ شيء مرفوض، حتى صار الناس يخافون من أنفسهم ومن الله معًا.

 

الأسبوع الماضي كنت أتساير مع أحد الشبان العراقيين الخلوقين، فصارحني وقال: «هناك من تتود لي، وأشعر أن محبتها صادقة، ولكني لا أريد أن أتجاوب معها». فسألته لما، وخاصة وأنك تقول أنها فتاة رائعة وحنونة وذكية؟ «فأجاب بحسرة، لأني سأقع في حبها، ولا أريد أن أجعلها تتعلق بي، لأني ولأني... » وكأن الحب خطية، أو الصداقة بين الجنسين جريمة.

 

كم من الصوة المشوَّهة عن الله ترسخت في أذهاننا، كم من الصوة المغلوطة عن الله صنعت أجيالًا من المؤمنين المكبوتين، الصارمين، المتحفظين... الذين يصلّون كثيرًا لكن بلا حياة، يخدمون كثيرًا لكن بلا فرح. نفوسٌ خائفة، عقولٌ منغلقة، قلوبٌ عاجزة عن الحبّ والإنسانية. من الخارج يبدو كلّ شيء تديّنًا، ومن الداخل لا شيء سوى الخوف. لكن، هل هذا هو الله حقًّا؟ إذا كنت تخاف الله، فاعلم أنك لم تعرفه بعد. فالإله الحقيقي يقول لك اليوم: “لا تخف من شيء، وقبل كلّ شيء، لا تخف مني”.

 

السبب الثالث هو وهم الأمان.

 

هذا العبد في المثل خاف أن يخطئ، فحاول أن يحمي نفسه من الزلل، لكنه “في رغبته المفرطة إلى  الكمال” ارتكب الخطأ الأكبر.

 

هذه هي مفارقة الخوف، فهو يقودنا إلى ما نحاول الهروب منه. الخوف يجذب ما نخشاه، تمامًا كما أن من يخاف الكلاب يستثيرها بخوفه منها. لقد أراد هذا الشخص أن يتحكّم في كل شيء في حياته، أن يعيش بلا مخاطرة، بلا ادنى احتمال للسقوط. ولكن هذا مستحيل، لأن الحياة لا يمكن أن تُعاش في ظلّ رقابة كاملة أو بحث دائم عن الضمان.
 

من يعيش ليتجنّب الخطأ، يحكم على نفسه ألا يعيش أبدًا. فالعيش لا يعني الكمال، بل النموّ. أن تحيا، يعني أن تتعلّم، أن تخطئ وتقوم، أن تحبّ وتُجرح، أن تتوه وتجد ذاتك من جديد. أن تُغلق قلبك ثم تفتحه، أن تسقط في حزنٍ عميق أو فشلٍ أو أزمة، ثم تنهض وتتابع الطريق. الحياة دموع وضحك، ألمٌ وفرحٌ... أن تحاول حماية نفسك من كل ذلك، يعني أنك تحرم نفسك من الحياة نفسها.

 

العبد في المثل خاف من سيّده، فاختبأ وراء الأمان المزيّف. أراد يقينًا مطلقًا، لكن خوفه جعله سجينًا لنفسه. وهنا قانون روحي عميق: «من يريد أن يتحكّم في كل شيء، يفقد السيطرة على كل شيء». من يسعى إلى السيطرة يفعل ذلك بدافع الخوف، لأنه يشعر بعدم القدرة على مواجهة المجهول.
ومن يبحث عن الأمان التام، هو في الواقع إنسان خائف. كم من أشخاص يعيشون بهذا الأسلوب!

 

امرأةٌ بعد كلّ عملٍ تقوم به تسأل زوجها: “هل أعجبك!” فإن أجابها بالإيجاب، ابتسمت، وإن قال لا، انتابها الحزن وشعرت بالإحباط وخيبة الأمل. هي لا تخاف الخطأ بقدر ما تخاف أن تكون هي الخطأ في نظر الآخر.

 

هناك مَن يسألون: “وماذا لو أخطأت؟” لكن، أليس الامتناع عن العيش، عن المحاولة، عن الخطأ نفسه، هو الخطأ الأكبر؟!! قال يسوع: «مَن أراد أن يُخلِّص حياته، يُهلكها» (متى ١٦: ٢٥). أي من يبحث عن الضمانات والحماية والسلامة فقط يفقد جوهر الحياة.

 

ذلك العبد أيضًا يعيش الحسرة والشفقة على الذات: «يا لي من مسكين! كلّ الأمور تعاكسني! لماذا أنا؟ آه، لو كنت أملك ما يملكه الآخرون». ولكن يسوع لا يربّت على كتفه قائلًا: «مسكين أنت! تعال إليّ لأواسيك». بل يواجهه بصرامة، ليُخرجْه من شفقته المَرَضية.  كان يسوع معلّمًا نفسيًّا فذًّا؛ فبعض الناس -وللأسف- لا يبحثون عن الشفاء، بل عن العذر. يطلبون شفقةً تُبرّرخوفهم، لا شجاعةً تُحرّرهم منه. ومن يسقط في هوّة الشفقة على الذات لا يريد أن يتحسّن، بل أن يُصدّق أن ضعفه قدرٌ لا يُكسر. لهذا لم يكن يسوع ليُداهن مثل هؤلاء، لأن المسايرة تُعمّق جراحهم بدل أن تشفيها. كثيرون لا يطلبون المساعدة حقًّا، بل يطلبون شهودًا على مأساتهم. يبحثون عمّن يقول لهم: «مسكين… أفهمك». لكن هذا لا يخلّصه!!!.

 

في الخوف نحن نذوب في قلقنا، وفي الفكاهة نرتفع فوقه، فنكتشف أنّ ما كنا نخشاه لم يكن يومًا أقوى منّا. إن أعظم خطرٍ في الحياة ليس أن نخطئ، بل أن نكفّ عن الحياة. إنّ الخطر الأكبر هو أن نسمح للخوف أن يشلّ فينا نبض الوجود. وكيف ننتصر على الخوف؟ ليس بالهروب منه، بل بالعيش رغم وجوده.
أن نحاول ونُعيد المحاولة، أن نُقدم على الفعل وإن كانت قلوبنا ترتجف.

 

يروي أحد الحكماء الشرقيين:  «طرق أحدهم الباب بعنفٍ شديد. خافت الخوف فلم يفتح، لكن الإيمان تقدّم وفتح الباب فلم يجد أحدًا في الخارج».

 

لذلك، دَع الموت يجدك حيًّا؛ لأنّ هناك من يموت مرة واحدة، وهناك من يموت كلَّ يوم، حين يستسلم للخوف، ويكفّ عن الحلم، وعن المحاولة، وعن المحبة.

 

إن هذا المثل ليس مجرّد دعوة للعمل، بل نداء للحياة، للحب، للثقة. فالله لا يطلب منك أن تنجح كما يفهم الناس النجاح، بل أن تؤمن بأن ما وهبه لك هو كافٍ لتثمر، إذا لم تترك الخوف يسكنك. الخوف يدفن الحياة، أمّا الثقة فتُحييها.