موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ يونيو / حزيران ٢٠٢١

النمو الروحي ومثل الزرع وحبة الخردل

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الحادي عشر للسنة: النمو الروحي ومثل الزرع وحبة الخردل (مرقس 4: 26-34)

الاحد الحادي عشر للسنة: النمو الروحي ومثل الزرع وحبة الخردل (مرقس 4: 26-34)

 

النص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34)

 

26 وقال ((مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض. 27 فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك. 28 فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل. 29 فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصادَ قد حان)). 30 وقال: ((بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟ 31 إِنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَردَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض. 32 فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصاناً كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها)).

 

مقدمة

 

ضرب يسوع مثل الزرع الذي ينمو وحبة الخردل شارحا للناس قوة الملكوت الخفيَّة في نموه وانتشاره.  وهكذا قوة الملكوت لا تظهر في معجزات المسيح فحسب، انما أيضا في تعليمه ولاسيما من خلال الامثال (مرقس 4: 26-34). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34):

 

26 وقال: مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض

 

تشير عبارة "قال" الى طريقة الامثال مع إشارة خاصة الى مسؤولية السامعين.  ومن الأرجح ان المسيح قال هذا المثل للجمع كله وهو يخاطبهم من السفينة.  أمَّا عبارة " مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض" فتشير الى مثل الزرع الذي ينمو في الخفيَّة، وهو مثل انفرد بتدوينه مرقس الإنجيلي (مرقس 4: 26-29). أمَّا عبارة " مَلَكوتِ اللهِ " فتشير الى حكم الله كملك وسلطانه على الناس الذين يطيعون إرادته من قلوبهم فيصبحون رعايا مملكته الروحية. ويدعو متى الإنجيلي "مَلَكوتِ اللهِ" بعبارة "ملكوت السماوات" تمشياً مع تقاليد الأسلوب الرباني. ومَلَكوتِ اللهِ هي حقيقة سرية لا يستطيع أن يطلعنا على طبيعتها إلا يسوع وحده، وذلك من خلال كرزاته ومعجزاته، وتدل هذه العبارة على حياة التقوى في القلب (متى 6: 33) وعلى النظام الذي أتى المسيح ليؤسِّسه (متى 4: 17) وعلى مجد المسيح وسلطانه (متى 16: 28) وعلى سلطان الله على الكل (متى 6: 10) وعلى الحالة السماوية (متى 8: 11). والمعجزات التي تصحب كرازته هي علامات لقيام الملكوت. وعند مجيء ملكوت الله ينقضي تسلط إبليس، والخطيئة، والموت، على البشر كما صرَّح لاسي المسيح: " إِذا كُنتُ أَنا بِروحِ اللهِ أَطرُدُ الشَّياطين، فقد وافاكُم مَلكوتُ الله" (متى 12: 28). أمَّا عبارة " رَجُلٍ " فتشير الى الزارع نفسه (يوحنا 4: 36) حيث يقوم دوره في الزرع في البداية والحصاد في النهاية (مرقس 4: 29).  وهو يدل على المُبشِّر بالإنجيل. أمَّا عبارة " يُلْقي " في الأصل اليوناني βάλῃ (بصيغة الماضي التام) فتشير الى تكلم يسوع بصيغة الماضي للدلالة على اكتمال العمل، على خلاف الأنبياء الذين يتكلمون بصيغة المستقبل كما ورد في نبوءة حزقيال "إِنِّي سآخُذُ مِن ناصِيَةِ الأَرزِ العالي لأَغرِسَها" (حزقيال 17: 22). ومن هذا المنطلق، فإن حديث يسوع هو كشف ووحي، أمَّا حديث الأنبياء فإشارة وتلميح. أمَّا عبارة " يُلْقي البَذْرَ " فتشير الى حركة طبيعية، حركة أمل ومجازفة، أخّاذة وغامضة، هل ينمو الزرع؟ أمَّا عبارة " البَذْرَ " في الأصل اليوناني σπόρος (معناها الزرع) فتشير الى الحبوب التي زُرعت في الأرض، وحيث انَّ البذار هي هبة من الربّ، ولا يمكن أن تكون غير مثمرة. أمَّا عبارة " الأَرض" فتشير الى الإطار الذي أعدتَّه العناية الإلهيّة لحياة الانسان كما جاء في المزامير "سماء السماوات للربّ والأرض جعلها لبني البشر" (مزمور 115: 16). تتوقف حياة الإنسان كليّاً على الخيرات الكامنة في الأرض وعلى خصب تربتها. فلا عجب أن نرى الأرض وخيراتها المادية تُشغل مكاناً هاماً في الوحي: فهي تشترك مع الإنسان في كلّ تاريخ الخلاص، منذ البدء وحتّى انتظار الملكوت الآتي. وهكذا أصبحت الأرض إشارة إلى طبيعة البشر بعد أن صارت خليقة جديدة (1 قورنتس 5: 7).

 

27 فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك

 

تشير عبارة "سَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار" الى عدم مشاركة المزارع في عملية النمو، لان لا شأن له في ذلك، وهو يجهل مـا يتم أثناء هذه الفترة، إنما يجب عليه أن ينتظر ويصبر كما ما ورد في تعليم يعقوب الرسول "أُنظُروا إِلى الحارِثِ كَيفَ يَنتظِرُ غَلَّةَ الأَرضِ الثَّمينة فيَصبِرُ علَيها حتَّى يَجنِيَ باكورَها ومُتأَخِّرَها " (يعقوب 5: 7). فهناك الصبر الذي يرتبط بالانتظار.  والانتظار يتطلب الثقة بالأرض والبذار، أي الحبوب التي زرعت في الأرض، وحيث انَّ البذار هي هبة من الربّ، ولا يمكن أن تكون غير مثمرة. كما ان الزارع مدعوٌّ إلى الثقة بالأرض أيضاً وعلى الانسان ان لا يفقد الصبر إن لم تظهر النتائج له في الحال، كذلك على المُبشر بالكلمة الالهية بعد ان يزرع الحق في آذان الناس وقلوبهم ان يتكل على الله لكي يُحيي ذلك الزرع ويجعله مثمراً كما يشاء. أمَّا عبارة " فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي " فتشير الى قدرة حبة القمح التي تطلع وتنمو وحدها بأمر الله، لا بأمر زارعها. يا لها من قوة تعمل لإنبات البذرة. هكذا كلمة الله التي يسمعها الانسان او يقرأها في الانجيل تُنتج التوبة والايمان والقداسة بفعل الروح القدس. وما على المبشر بالكلمة الإلهية بعد ان يزرع الحق في قلوب الناس الاَّ ان يتكل على الله بصبر الذي يجعل هذا الزرع مُثمرا. كما ان البذرة، يتحقق من ذاته، ولا يُحقِّقه البشر كذلك الملكوت ذاته الكامن في التاريخ، لان قوة الملكوت الخفية تنمو الى زمن قيام ملكوت الله النهائي المُمثَّل بالحصاد. ملكوت الله هو عمل إلهي لا يتوقف، غير ظاهر، مستقل وعجيب.  أمَّا عبارة "هو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك" فتشير الى عدم معرفة الزارع سرّ الانماء والنضوج، وبالتالي عدم السيطرة، والجهل بمصير البذار لان نمو الزرع لا يقوم الا بالوسائط كالمطر وضوء الشمس وحرارتها، وهذه ليست في سلطان الزارع. إنّه لا يملك أي شيء، ولا يستطيع أن يفعل أيّ شيء كي يجعل البذار تنضج. فالبذار تنبت وتنمو تلقائياً، ولكن دون الكشف عن سرّ قوّتها، ودون إظهار تطوّرها البطيء والأكيد. وفترة نمو الزرع طويلة، وتتمّ بعيداً عن الأعين، وفي سرية تامة في جوف التربة في عمل خفي حيث الزارع ينام ليله الطويل مطمئن البال، دون ان يساوره أي قلق، ولا معرفة له في عملية النمو.  إنها فترة النمو والتغييرات العجيبة، إنه زمن حاسم، زمن عمل الله، فلا مجال لخيبة الأمل ولا الاضطراب ولا لنفاذ الصبر. إنها فترة انتظار واثق: فالزارع ينتظر بصبر ثمار عمله، يملأه الرجاء بمحبة الله. وتقع عملية النمو بين الزرع والحصاد؛ ولا يقاس النمو بما نعرف او لا نعرف إنما نحن أمام الإيمان الذي يعرف ان ينتظر. كما ان الناس لا يروا نمو البذرة بشكل ظاهر للعيان كذلك ملكوت الله ينمو من غير ان يلاحظه كثيرون، ولا يكشف هذا النمو إلا الايمان. وهنا يعُلن مرقس الإنجيلي ان النمو الروحي عملٌ تدريجيٌ مستمرُ الى ان يبلغ نهايته في الحصاد.

 

28 َالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل

 

 تشير عبارة " َالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ" الى عمل الارض التي تعمل بصورة آلية، الأرض تثمر من تلقاء نفسها، بطريقة غير منظورة حيث ان عمل الزارع يقتصر على فلاحة الأرض وخدمتها وطرح البذور وسقيها إن اقتضى الامر.  فهناك أمور لا تتعلق بمجهود الفلاح؛ النمو يعمل لوحده وهو بحاجة الى الوقت الّذي يُتيح للبذور أن تنمو.  كم هذا عظيم. ولا يشير المثل هنا إلى قدرة الطبيعة، إنما يشير إلى عمل الله. إذ يفعل الله ما لا يراه الانسان جاعلا الأرض تُحيي البذار وتُنبته وتُنمِّيه الى الكمال وذلك وفق قول بولس الرسول " أًنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى" (1 قورنتس 3: 6). وهذا لا ينفي وجوب اتخاذ الانسان الوسائل للحصول على الحصاد الروحي "اعمَلوا لِخَلاصِكم بِخَوفٍ ورِعدَة " (فيلبي 2: 12). وهكذا القلب البشري لا يستطيع ان يأتِ بشيء من القداسة من تلقاء ذاته، لكنه إذا اتخذ الوسائط التي عيَّنها الله أتى الله وحده بالنتيجة.  أمَّا عبارة "العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل " فتشير الى الدرجات الثلاثة في نمو النبات وهي سلسلة من العجائب الطبيعة تبدأ في الخفية عندما يُلقي الفلاح البذار في الأرض: نمو العشب، ثم السنبل ثم القمح. النمو نفسه غير منظور لكن نتائجه ظاهرة.  ويشير يسوع هنا الى القوة التي بها نؤمن ان الله يعمل ليتحوّل زرعنا حصاداً.  كذلك النمو نفسه في المؤمن غير منظور ولكن أثماره ظاهرة، وهي " المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23).  أمَّا عبارة " العُشبَ " فتشير الى اول انشقاق البزر وظهور الأوراق فوق الأرض وفيه حياة البذار. أما عبارة " السُّنُبل " فتشير الى جزء من النبت فيه الثمر كسنابل الحنطة الشعير وغيرها، والمراد به هنا نبتة القمح.  أمَّا عبارة " القَمحَ " فتشير ما هو المُعد للحصاد. يعمل الزارع في الزرع وبعد الحصاد، وامَّا ما بين الزرع والحصاد فهو في يد الله. في هذا المثل يدعو يسوع المؤمنين الى الثقة بعمل الله في البذار وفي الأرض أيضاً.  والثقة تتطلب انتظار مراحل النموّ المختلفة: “العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل". لتكن لدينا الثقة بحضور الله الخفيّ وملكوته. إن تعليم الانجيل يحمل قوته في ذاته. فالمُبشر يزرع كلمة الله والله يجعلها فعاَّلة مثمرة لخلاص النفوس، وهذا أعظم شرف للإنسان وأول واجباته " نَحنُ عامِلونَ مَعًا في عَمَلِ الله"(1 قورنتس 3: 9).   

 

29 فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصادَ قد حان

 

 يشير فعل "يُدرِكُ" في الأصل اليوناني παραδοῖ (معناه يسمح، يهب، يمنح) الى عدم معرفة الإنسان كيف يتمّ سرّ النضوج والحياة. تنبت البذار وتنمو، ولكن دون الكشف عن سرّ قوّتها، ودون إظهار تطوّرها البطيء والأكيد. أنها صورة رائعة: الثمر هو الذي يمنح ذاته للإنسان والإنسان لا يفعل شيئاً؛ إنه لا يعمل بل يقبل الثمر. الزرع هو الذي يقوم بكل شيء: فهو الذي ينبت وهو الذي ينمي وهو الذي ينضج وهو الذي يهب نفسه للإنسان في الحصاد. أمَّا عبارة "حتَّى" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) فتشير الى السرعة. إنه زمن يدعو للعجلة، حان الوقت (مرقس 1: 15). أمَّا عبارة "يُعمَلَ" في الأصل اليوناني ἀποστέλλει) فتشير الى الفعل المَبني للمجهول، ولا يذكر الحاصد، بل يُذكر آلة الحصاد، وهي المنجل. أمَّا كلمة "المِنجَل" فتشير الى آلةٌ يدوية لحشِّ الكلاء أو لحَصْدِ الزرع هذا ما رآه يوئيل النبي القائل أَعمِلوا المِنجلَ فإنَّ الحِصادَ قد بَلغَ" (يؤيل 4: 13). فالله يأخذ بعض المؤمنين عندما يستعدّون ويترك البعض مدة على الأرض كما فعل بولس الرسول (فيلبي 1: 23-23).  أمَّا عبارة "الحَصادَ" فتشير الى عملية جني المحصول الزراعي بهدف استخدامه، فان ما يُزرع يُحصد. ولكن انَّ استعارة "الحَصادَ" كثيراً ما وردت في الكتاب المقدس للإشارة الى الدينونة الاخيرة كما ورد في سفر أشعيا (63: 3)، وفي سفر الرؤيا "أَرسِلْ مِنجَلَكَ واحصُدْ" (رؤيا 14: 15). أمَّا عبارة " قد حان " في الأصل اليوناني παρέστηκεν فتشير الى صيغة الماضي التام وفي ذلك اشارة الى الوقت الذي يدنو ويبقى ويستمر. فالأرض والزراع والبذار بحاجة الى الوقت للبلوغ زمن الحصاد. إنها مرحلة ثبات وليست مرحلة عابرة. زمن الحصاد طويل ولكنه في نفس الوقت زمن يجب انتهازه واغتنامه. ويقتصر دور التلميذ على إعلان البشارة والحصاد.

 

30 وقال: بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟

 

عبارة "مَثَلٍ" في الأصل اليوناني παραβολή (معناها حرفيا وضع شيئين جنبا الى جنب بقصد المقارنة) تشير الى إيضاح الحق في المجال الروحي من خلال قصة في المجال الارضي او الطبيعي. أما عبارة " مَلَكوتَ الله " فتشير هنا الى حضور المسيح في العالم كما جاء في إنجيل لوقا "ها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17: 21). فهو بالفعل قد قال: "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً."(يوحنا 14: 23).  وتعلق الطوباويّة تيريزيا الكالكوتيّة "لا يوجد عالمان، واحد ملموس وآخر روحي، إنّما هناك عالم واحد:  ملكوت الله "في الأرضِ كما في السَّماء" (متى 6: 10) (الطريق البسيط). أمَّا عبارة "بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه" في الأصل اليوناني ἐν τίνι αὐτὴν παραβολῇ θῶμεν (معناها حرفيا في أي مثل نضعه) فتشير الى اهتمام يسوع بمخاطبة الناس على قدر عقولهم من خلال تشابيه وأمثالا تؤثر في قلوبهم.  من المحبذ ان يسير المُبشر على خطى المسيح في كرازة الإنجيل. وباختصار، يدعو يسوع بمثل الزرع الى الثقة بمسيرة الملكوت، فهو يفعل فعله منذ الآن في قلوب البشر، وإن بدأ صغيرا. ففي النهاية سيكون نموه عجيباً.

 

 31 إنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَردَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض

 

تشير عبارة " حَبَّةِ خَردَل" الى حبة تنبت نباتاً برِّياً، او تُزرع في البساتين للانتفاع ببذورها. وتنبت على ضفاف نهر الاردن في احجام كبيرة حتى يبلغ عُلوها مترين ونصف. وتجثم الطيور على اغصانها لالتقاط الحَب. وكان الربَّانيون اليهود يستخدمون حبة الخردل للإشارة لأصغر شيء. وصار مثلا مشهورا لديهم. "إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إِلى هُناك، فيَنتَقِل، وما أَعجَزَكُم شيء" (متى 17: 20). يُستوحى المثل من سفر أشعيا النبي " أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً " (حزقيال 17: 23). ويُعلق العلامة بطرس خريزولوغُس "إنّ الرّب يسوع المسيح هو الملكوت: على طريقة حبّة الخردل، لقد "زرِع في الأرض"، أي جسد العذراء مريم. ثمّ نما وأصبح شجرة الصليب الّتي غمرت الأرض بكاملها" (العظة 98).

 

32 فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصاناً كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها

 

تشير عبارة " إِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت " الى اندفاع لا يمكن مقاومته، ويعشيه كل واحد من دون ان يكون سيد الامر، بل مشاهداً فقط، وهذا هو حال الملكوت ايضا. أمَّا عبارة "صارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها" فتشير الى التباين بين صغر الحبَّة وهي مدفونة في الارض، وكِبر النبات في نهاية نموّه، وذلك للدلالة على قوة ملكوت الله الذي تعمل قدرته في الخفاء من خلال أعمال يسوع وتعليمه. ومن هذا المنطلق نستطيع ان نفهم عملية النمو الروحي من خلال مقارنته بنمو حبة الخرذل البطيء، ولكن أكيد ان المفاجأة في المثل ليست في النهاية بل في البداية: لا يقول المثل كيف تصير البداية الصغيرة ملكوتا، ولا يقول إلامَ يُشبه ملكوت، ولا يقول متى يأتي الملكوت.  بل المثل يدعو الى ضرورة حتمية ووعد الأكيد يقودان البداية الصغيرة الى عظمة الاكتمال، وهكذا المثل يخفي بقدر ما يكشف. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس " الرّب يسوع قد زرع حبّة الخردل في حديقته. أخذت جذورها عندما وعد الآباء بالملكوت، لقد أفرخت مع الأنبياء، وكبرت مع الرسل، وأصبحت الشجرة الكبيرة الّتي امتدت أغصانها الّتي لا عدّ لها في الكنيسة، وأغدقت عليها هباتها"(العظة 98). أمَّا عبارة " طُيورَ السَّماءِ" فتشير الى الحيوانات الطائرة، وبلغ عددها نحو 348 نوعاً في فلسطين وهي ترمز للأمم الذين آمنوا ودخلوا تحت ظلال الكنيسة. ويستوحي المثل هنا من سفر دانيال "إِلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء " (دانيال 4: 9). أمَّا عبارة "إنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها" فتشير الى الأمم الذين سيأويهم الملكوت في نهاية الأزمنة كما ورد في سفر حزقيال "في أَغْصانِها عَشَّشَت، جَميعُ طُيورِ السَّماء. وفي ظِلِّها سَكَنَت جَميعُ الأُمَمَ الكَثيرة" (حزقيال 31: 6). والواقع، تُستخدم حبوب الخردل كغذاء للحمام في فلسطين، فالطيور تأتى إليها وتتآوى فيها وتشبع من حبوبها، ففيها غذاء لها. وفي رؤية متى الإنجيلي يدعو هذا المثل الأنسان الى ان يرى، من خلال حياة يسوع الوضيعة، مجده بعد القيامة (متى 13: 31-32). أمَّا في رؤية انجيل لوقا فيعبّر المثل عن انتشار الملكوت الذي لا يعرف حداً (لوقا 13: 18-19). ويعلق العلامة أوريجانوس ا" ملكوت الله الحاضر فينا، بينما نستمرّ في التقدّم، سيبلغُ كمالَه حين يتحقّق كلام الرسول بولس: "بعد أن أخضعَ المسيحُ كلَّ شيءٍ تحتَ قَدَمَيه"، "سيَخضَعُ الابنُ نفسُه لذاكَ الذي أخضَعَ له كلَّ شيء، ليكونَ اللهُ كلَّ شيء في كلِّ شيء" (1قورنتس 15: 28)" (مقالة عن الصلاة). ليتنا نزرع في قلوبنا حبّة الخردل هذه لكي تصبح شجرة معرفة الخير والشرّ (التكوين 2: 9)، فتنمو إلى العُلى، رافعةً معها أفكارنا نحو السماء.    

 

33 وكانَ يُكَلِّمُهُم بِأَمْثالٍ كَثيرةٍ كهذِه، لِيُلْقِيَ إِلَيهم كلِمةَ الله، على قَدرِ ما كانوا يَستَطيعونَ أَن يَسمَعوها.

 

تشير عبارة " يُكَلِّمُهُم بِأَمْثالٍ كَثيرةٍ " الى امثال كثيرة لم يذكر مرقس سوى ثلاثة منها: مثل الزارع (4: 1-20) ومثل السراج (4: 21-23) ومثل حبة الخرذل (4: 32). واما متى فذكر سبعة منها في الفصل الثالث عشر: مثل الزارع (13: 3-23) ومثل الزؤان (13: 24-30)، ومثل حبة الخرذل (13: 31-32) ومثل الخميرة (13: 33-35) ومثل الكنز واللؤلؤة (13: 44-46) ومثل الشبكة (13: 50) مثل الجديدة القديم (13: 51-52).  تهدف هذه الامثال ليس للإيضاح فقط بل ايضا لإيقاظ للضمير وتحريكه وللتفكير الجدّي.  ومن هنا يُمكن ان نستنتج ان يسوع يُكلم الجموع بالأمثال لسببين: السبب الأول من اجل ان يعرف التلاميذ اسرار الملكوت كما صرّح لتلاميذه " لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات (متى 13: 10-15). واما السبب الثاني فهو لإيصال وحي اسرار الله الى السامعين، كما ما ورد في تعليم متى الإنجيلي " أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العالَم" (متى 13: 34). أمَّا عبارة " لِيُلْقِيَ إِلَيهم كلِمةَ الله "فتشير الى غرض التعليم بالأمثال ومبدأه، حيث أعلنت طبيعة الملكوت للناس عن طريقة المقارنة لا عن طريق التعريف. أمَّا عبارة "على قَدرِ ما كانوا يَستَطيعونَ أَن يَسمَعوها" فتشير الى أساليب اختار يسوع ما يناسب قدرة سامعيه واستعدادهم للفهم لاكتشاف المعنى الحقيقي لأقواله وتعاليمه. فالمسيح بلَّغ سامعيه صفات ملكوته وتأثيرها في قلوبهم تدريجيا بتشابيه بسيطة، وهذا ما كان يفعله بولس الرسول مع مسيحي قورنتس "إِنِّي، أَيُّها الإِخوَة، لم أَستَطِعْ أَن أُكَلِّمَكُم كَلامي لأُناسٍ روحِيِّين، بل لأَناسٍ بَشَرِيِّين، لأَطفالٍ في المسيح. قد غَذَوتُكُم بِاللَّبَنِ الحَليبِ لا بِالطَّعام، لأَنَّكُم ما كُنتُم تُطيقوَنه ولا أَنتُم تُطيقونَه الآن" (1 قورنتس 3: 1-2).

 

34 ولَم يُكَلِّمْهُم مِن دُونِ مَثَل، فَإِذا انفَرَدَ بِتَلاميذِه فَسَّرَ لَهم كُلَّ شَيء.

 

 تشير عبارة "يُكَلِّمْهُم" الى يسوع الذي يُكلّم الجمع، ولكنهم لم يكونوا مستعدين لتقبل حقيقة الانجيل. أمَّا التلاميذ فاستطاعوا أن يذهبوا الى ابعد من ذلك، أمَّا عبارة "فَسَّرَ لَهم كُلَّ شَيء" فتشير الامثال في انجيل مرقس الى اللغز، فان سرّها لا يُكشف لجميع السامعين بل الى التلاميذ فقط على انفراد لأنهم تعلّقوا بيسوع وارادوا ان يفهوا تعاليمه مستفسرين يسوع عنها " فَسِّرْ لَنا مثَلَ زُؤانِ الحَقْل " (متى 13: 36).

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 4: 26-34)

 

بعد دراسة تحليل وقائع النص الانجيلي في مثل الزرع الذي ينمو ولا نعرف كيف نما، ومثل حبة الخردل التي صارت شجرة (مرقس 4: 26-34)، يمكننا استنتاج النقاط المشتركة في المثلين وهو النمو. والمغزى من ذلك هو النمو الروحي: نمو كلمة الله، ونمو المسيحي في الكنيسة ومراحل نمو الملكوت:

 

1. نمو كلمة الله

 

من أجل إتمام خطة الخلاص أرسل الله إلى العالم ابنه يسوع مملوء نعمة وحقاً، وخاضعاً لسُنن الوضع البشري. يبدأ "كطفل بنمو في القوة والحكمة" (لوقا 2: 40). وأعلن تدريجياً للبشر، بكلمته، سر رسالته، وسر شخصه، واصطدم بمقاومة متصاعدة حتى تبدو ساعة انتصار الظلمة كما صرّح يسوع بذلك الى عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشُّيوخ يقوله: "كُنتُ كُلَّ يَومٍ مَعَكم في الهَيكَل، فلَم تَبسُطوا أَيدِيَكُم إِليَّ، ولكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!" (لوقا 22: 53) إلا أنه في تلك الساعة بالذات أكمل يسوع عمله، بالغاً بمحبته إلى اقصى الحدود، وأعلن للبشر عن مدى محبة الآب لهم "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). وكما أن حبة الحنطة التي تقع في الأرض تموت لتأتي بثمار كثيرة" (يوحنا 12: 24)، هكذا يبذل الراعي الصالح نفسه لكي يهب خرافه فيض الحياة (يوحنا 10: 11).

 

وُلد الملكوت من يسوع المسيح الذي زرع كلمة الله في قلب كلّ إنسان. ان كلمة الله تعمل عملها في قلوب البشر إذا ما أتيحت لها الفرصة في ظروف مؤاتيه، وذلك بالطريقة عينها التي بها "الأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ الثمر (مرقس 4: 28). فان النمو الروحي هو عمل الله الخاص ولا يتوقف على تعب الانسان وجهده كما جاء في سفر المزامير "إنْ لم يَبنِ الرَّبُّ البيتَ فباطلاً يتعبُ البنَّاؤون" (مزمور 127/1). ويوضّح ذلك أشعيا النبي بقوله "كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعأمَّا فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه " (أشعيا 55: 10 -12).  وهذا العمل هو من وظيفة الروح القدس.  وهو ناجم عن قدرته الإلهيَّة الخفيّة.

 

وينحصر العمل البشري في أمرين: اولهما الزرع وثانيهما الحصاد (يوحنا 4: 35)؛ أمَّا ما هو بين هذين الامرين فموضوع عمل الله وثقة به تعالى كما يؤكد ذلك بولس الرسول "أًنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى"(1 قورنتس 3: 6).  فالإنسان يعرف قوة عمل الله الخالق وعلامة بركته في النمو والنضج كما جاء في سفر التكوين "ما دامَتِ الأَرض فالزَّرْعُ والحِصادُ ...لا تَبطُلُ أبدًا" (التكوين 8: 22) ويقول بولس الرسول "فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه" (1قورنتس 3: 7).    

 

 وتأتي كلمة الله المغروسة في القلوب ثمراً كثيراً (لوقا 8: 11 و15)، في الطريق التي يختارها والوقت التي يشاء كما جاء في نبوءة أشعيا " تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه"(أشعيا 55: 11).  ولذلك يُعبر لوقا الإنجيلي عن نجاح الكنيسة الناشئة، تارة عن تزايد عدد المؤمنين كما ورد في سفر اعمال الرسل "كانَت جَماعاتُ الرِّجالِ والنِّساءِ تَزْدادُ عَدَدًا فتَنضَمُّ إِلى الرَّبِّ بِالإِيمان فانضَمَّ في ذلكَ اليَومِ نَحوُ ثَلاثَةِ آلافِ نَفْس" (أعمال 5: 14)، وتارةً عن نمو الكلمة "كانت كلِمَةُ اللهِ تَنْمو تنَتَشر" (أعمال 12: 24). وهكذا أصبحت حبة الامس الصغيرة شجرة باسقة وامتدت فروعها حتى اقاصي الأرض.  ليكن لنا تفاؤل وثقة في نجاح كلمة الله في النهاية.

 

ونستنتج مما سبق ان ملكوت الله يرتبط بموضوع مُلك يسوع أحدهما بالآخر أوثق ارتباط، لأن المسيح الملك هو أبن الله، ذاته ومكانة يسوع هذه في وسط سر الملكوت، تقوم في المراحل الثلاث المتتابعة، التي ينبغي أن يمرُّ بها الملكوت: حياة يسوع الأرضية، زمن الكنيسة، وإتمام الأمور كاملة نهائياً.

 

2. نمو المسيحي داخل الكنيسة

 

كما نمت كلمة الله، يسوع المسيح، كذلك على كل مسيحي ان ينمو.  يشبه ملكوت الله حبة حيّة يزرعها الله في النفس فتنمو ببطء وبشكل خفي، لكنها تستمر في النمو. فالنمو سُنّة الحياة المسيحية أسوةً بكل حياة. فعلى المسيحي أن يظلّ ساعياً نحو الغاية على مثال القديس بولس الرسول " يَهُمُّني أَمرٌ واحِد وهو أَن أَنْسى ما ورائي وأَتَمطَّى إِلى الأَمام فأَسْعى إِلى الغاية (فيلبي 3: 13-14)، وأن يشتاق إلى الانتقال من الطفولة الروحية إلى الكمال (1 قورنتس 3: 1-2).

 

يتلقى المؤمن دعوة الى الثقة من خلال تعارض بين صغر الحبة في البداية وكبرها في النهاية (متى 13: 31-32). فالملكوت بدأ صغيرا في يسوع، ولكنه نما في زمن مرقس فصار شجرة كبيرة. إن قوة ملكوت الله تعمل في الخفاء عبر أعمال يسوع وتعليمه، بانتظار ان تعمل في تلاميذه الضعفاء والمضطهدين. وهذا الملكوت يمتد الى جميع الأمم (حزقيال 17: 23، 31: 6). وهكذا إنّ المسيحيّين بالنسبة إلى هذا العالم هم كالروح بالنسبة إلى الجسد (الرسالة إلى دِيوغنيتُس).

 

لكن نمو المسيحي يجب الاَّ يكون بطريقة انفرادية، بل في الجماعة الكنسية حيث يتأصل "كحجارة حية".  لان الكنيسة هي نواة الملكوت وأداته. وبينما المسيحي ينمو من أجل الخلاص، يتمَ بناء البيت الروحاني الذي هو الكنيسة كما أوضح ذلك القديس بطرس الرسول "أَنتم شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتاً رُوحِياً فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة" (1 بطرس 2: 5). ولذلك فإن الرسول بولس يحثُّ المسيحيين على النموّ في الإيمان (2 قورنتس 10: 15)، وفي معرفة الله، وذلك أن يبشِّروا في كل عمل صالح، في المحبة "لِتَسيروا سيرةً جَديرةً بِالرَّبِّ تُرْضيهِ كُلَّ الرِّضا وتُثمِروا كُلَّ عَمَلٍ صالِح وتَنْموا في مَعرِفَةِ الله" (قولسي 1: 10).

 

وأراد الزارع أن يزرع حبّة الخردل في حقله لا لتعيش لنفسها بل لتنمو؛ أرادها تنمو لا لتزهو بنفسها وتتعالى على غيرها، بل لتأوي إليها الطيور وتعشّش في ظلّها. فما يريده الله من حضورنا هو أن نكون لأجل الآخرين، لا أن نتقوقع على ذواتنا ونصير غاية في حدّ ذاتها. بل يُريدنا الله أن نكون وسيلة ليبني بنا ملكوته، ملكوت المحبّة والسلام والقداسة والعدل.

 

وهذا التقدم في معرفة الله هو أولاً نموٌ في نعمته كما جاء في تعليم بطرس الرسول "انمُوا في النِّعمَةِ وفي مَعرِفَةِ رَبِّنا ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيح" (2 بطرس 3: 18)، لأن الفضل الأول في هذا يرجع إلى الرب، أمَّا الرسل، فلئن كانوا عاملين حقاً مع الله، فإنهم يغرسون ويَسقون فقط، والله الذي يُنمي كما يوضّح القديس بولس الرسول " أًنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى. فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه"(1 قورنتس 3: 6-7). والله هو الذي يُعطي كل واحد من المؤمنين أن ينمو نحو المسيح الذي هو رأسهم، بممارسة المحبة الحقيقية، وأن يُسهم في بيان جسد المسيح السري أي الكنيسة كما يؤكد ذلك بولس الرسول "هو الَّذي أَعْطى بَعضَهم أَن يَكونوا رُسُلاً وبَعضَهم أَنبِياء وبَعضَهم مُبَشِّرين وبَعضَهم رُعاةً ومُعلِّمين، لِيَجعَلَ القِدِّيسينَ أَهْلاً لِلقِيامِ بِالخِدمَة لِبِناءِ جَسَدِ المسيح" (أفسس 4: 11-12).

 

ويتطلب نمو المسيحي اتحاداً متزايداً بالمسيح كي يَبلُغَ القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح. فينبغي على كل مؤمن أن يَصغر لكي يَعظم المسيح كما صرّح يوحنا المعمدان "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30)، وذلك لكي تبنى الكنيسة في الرب، وفي الروح، وترتفع هيكلاً مقدسا يسكن فيه الله (أفسس 2: 21-22).

 

ونستنتج مما سبق انه ينبغي على تلاميذ يسوع أن يتقدَّموا على الدوام، وأن ينموا في المعرفة والمحبة كما يظهر من دعاء بولس الرسول لهم "وما أَطلُبُ في الصَّلاة هو أَن تَزْدادَ مَحبَّتُكم مَعرِفةً وكلَّ بصيرةٍ زِيادةً مُضاعَفة" (فيلبي 1: 9). ويُعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثاني "لن يكون هناك نموٌّ حقيقيّ إنسانيّ في السّلام والعدل، في الحقيقة والحرّية، من دون وجود الرّب يسوع المسيح وقدرته في الخلاص" (حديثه إلى شباب التشيلي بتاريخ 02/04/1987).

 

3. نمو ملكوت الله في العالم

 

تقدِّم الأمثال الملكوت كحد نهائي للنمو التدريجي: مثل الزرع الذي ينمو (مرقس 4: 26-29).  "فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل" وذلك بفضل القوة الكامنة في داخلها (مرقس 4: 28). ونموّ البذرة التي تصبح سنبلاً مثقّلاً، بل شجرة (متى 13: 23 و32)، ونموّ الخمير في العجين (متى 13: 33). فملكوت الله ببهائه سينبعث من بداية صغيرة كما تنبعث الشجرة من حبَّة الخرذل.  فبفضل الله يمكننا ان نعتبر الحبَّة وعداً بالشجرة، والبداية الصغيرة وعدا بالملكوت. أن الملكوت بدأ بزرة، ويبلغ في ملء الزمن طور الاكتمال.

 

يُشبه ملكوت الله البذار، ذلك لان الملكوت مبدا داخلي، "ملكوت الله في داخلكم" فهو مبدأ إلهي داخل النفس يتطور الى ان تتبدل شخصية الانسان كلها. وهو مبدأ إلهي الذي يعمل في المجتمع الى ان ينسجم هذا المجتمع مع الإرادة الإلهية، وفي هذا المعنى يكون يسوع هو "الرَجُلٍ الذي يُلْقي البَذْرَ في الأَرض". فلقد ادخل الى العالم مبدا جديدا يعمل مدى العصور والاجيال الى ان يبلغ طور الكمال. لأننا لا نقدر ان نتجاهل تلك القوى الهائلة الصامتة التي تعمل في العالم لانتصار الخير والقضاء على الشر، كما تعمل البذرة الناشطة المستكينة في قلب الأرض.

 

ملكوت الله هو الهدف الذي يتّجه نحوه كل نمو روحي، ويتم بقوة جاذبيته. وبما أن المثل الزرع ومثل حبة الخردل يشيران الى مراحل نمو الملكوت، فإن هناك مهلة ما بين افتتاح الملكوت في التاريخ، وبين تحقيقه كاملاً. والآن لا يزال الملكوت في جهاد عنيف، لان هناك من يمنع انتشاره كما صرّح يسوع: "مُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعْمَدانِ إِلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه" (متى 11: 12).

 

وبعد قيامة يسوع هناك مدة زمنية بين دخوله المجد وبين عودته دياناً. وهذا الزمن هو زمن تأدية الشهادة "الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض (أعمال 1: 8)، وهو ايضا زمن بناء الكنيسة.

 

وفي ختام ذاك الزمن سيأتي الملكوت في كلّ ملئه "إِذا رَأَيتُم هذِه الأُمورَ تَحدُث، فاعلَموا أَنَّ مَلكوتَ اللهِ قَريب. (لوقا 21: 31): فيه يتم الفصح، وتُقام الوليمة الإسكاتولوجية "فإني أقول لكم: لن أَشرَبَ بَعدَ اليَومِ مِن عَصيرِ الكَرمَةِ حتَّى يَأتيَ مَلَكوتُ الله" (لوقا 22: 18) حيث يأتي المدعوون من كل صوب ويتَّكئون مع الآباء "سَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله."(لوقا 13: 29). إن المؤمنين مدعوون "ليرثوا" هذا الملكوت وقد بلغ تمامه كما صرَّح يسوع "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم"(متى 25: 34)، بعد قيامتهم وتبدّل أجسادهم (1 قورنتس 15: 50). وريثما يتم ذلك يبتهل المؤمنون لمجيئه بدعائهم: "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ" (متى 6: 10).

 

ولا يكفَّ المسيحيون عن الاستعداد لمجيء ربهم، راجين أن يمنحهم الله أن يكونوا في ذلك اليوم دون ما لوم كما يظهر من دعاء بولس الرسول "عَسى أَن يَزيدَ الرَّبُّ ويُنمِيَ مَحَبَّةَ بَعضِكم لِبَعْضٍ ولِجَميعِ النَّاسِ على مِثالِ مَحَبَّتِنا لَكم، ويُثبِّتَ قُلوبَكم فلا يَنالَها لَومٌ في القَداسةِ في حَضرَةِ إِلهِنا وأَبينا لدى مَجيءِ رَبِّنا يسوعَ المسيح يُواكِبُه جَميعُ قِدِّيسيه" (1 تسالونيقي 3: 12-13). لذلك مطلوب من المسيحيين أن يستجيبوا لرغبة المسيح، ألا وهي أن يشاهد "كنيسة تزفَ إليه إذ ذاك " وكلها بهاء (أفسس 5: 27).

 

 

الخلاصة

 

انفرد مرقس الإنجيلي في تسجيل مَثَل الزرع الذي ينمو لوصف الملكوت. وهذا المثل موجّه بشكل خاص الى الفعلة في كرم الرب ليؤكد لهم النجاح من تعبهم في ذلك الحقل ويعلمهم ان هذا النجاح متوقف على بركة الله لا على تعبهم كما جاء في قول بولس الرسول " أًنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى. فلَيسَ الغارِسُ بِشَيء ولا السَّاقي، بل ذاكَ الَّذي يُنْمي وهو اللّه"(1 قورنتس 3: 6-7)

 

ويعلن المثل لنا ان النمو الروحي عمل تدريجي مستمر الى ان يبلغ نهايته في حصاد من البلوغ الروحي ونستطيع ان نفهم عملية النمو الروحي بمقارنته بنمو النبات البطيء ولكنه أكيد. واستخدم مرقس مثل آخر عن الملكوت، وهو مثل حبة الخرذل ليوضِّح انه وان كانت المسيحية لها بدايات صغيرة إلا إنها ستنمو وتنتشر الى كل العالم. والواقع، أن كنيسة المسيح بدأت بالضعف ونمت نموا كبيرا مكوِّنه قوة مسكونية.  قُدَّمت الكرازة في البداية لأشخاص قليلين وفي نطاق ضيق لكنها اتسعت في تأثيرها وامتدت إلى كل الأمم والشعوب.

 

يحتوي الانجيل في ذاته قوة نمو عظيمة، "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع " (عبرانيّين 4: 12) 12)، كلمة الله قويّة كما يصرّح ارميا النبي " أَلَيسَت كَلِمَتي كالنَّار، يَقولُ الرَّبّ وكالمِطرَقَةِ الَّتي تُحَطِّمُ الصَّخْر؟" (إرميا 23: 29).  يبقى علينا ان نصبر ولا نشك. والنمو بحاجة الى الايمان الذي يعرف ان ينتظر وان يصبر.

 

يشدِّد مثل الزرع الذي ينمو على ان عمل المسيح الخلاصي الذي بدأ في العالم سوف يصل الى كماله بدون أي شك وبصورة مؤكدة. أمّا من جهة الناس فيُطلب منهم الايمان والثقة واصبر. الايمان بالقوة التي بها يعمل الله ليتحوَّل زرعنا حصاداً. نحن لا ندرك عمله، لأنه عمل إلهي. كما تنمو حبة الخرذل في التراب بأمر الله، لا بأمر زارعها، كذلك ملكوت الله يتنامى فينا بأمر الله لا بأمر الناس. فنحن مدعوون الى الايمان بالقوة الكامنة في هذا الملكوت الذي بشَّر به المسيح. وما دمنا في دار الغربة عن الرب، فان الرب فينا كحبة خردل صغيرة ضعيفة لكن نموها محتوم بأمر الله.

 

المفروض أن نحتفظ بالرجاء حيث أنّ من أهمّ سمات هذا العصر اليأس والخوف: يأس من الكنيسة ويأس من العالم، وخوف في الحاضر وخوف من المستقبل. هذه هي الروح الّتي تُسيطر على العالم، اليأس والتشاؤم. لكن لا تستطيع هذه الروح أن تتغلّب على من يُؤمن بالربّ. قد يحزن المؤمن ويتألم من جراء الخطيئة، ولكنّه لن ييأس. يجب أن نتحلّى بالصبر، كما ينبغي أن نستبدل قلقنا وتسرّعنا بالتأنّي والصبر خاضعين لإرادة الربّ.

 

إن أردنا أن نعرف السلام عند عودته، لنبذل جهدنا لاستقبال مجيء يسوع بإيمان ومحبّة، ولنبقَ مُخلصين لأعماله التي أرانا وعلّمنا إيّاها. ولتنمو قلوبنا بمحبّة الربّ ولنندمج مع الله في الشركة التي تشكل الملكوت عندما يأتي ابن الإنسان في مجده ليدين العالم (متى 25: 3-31). عندئذ سوف يملك الله، لأن الشركة معه ستصير كاملة؛ فيصبح الله الكل في الكل (1 قورنتس 15: 24-28).

 

 

دعاء

 

نرجوك يا إلهنا، أعطنا أن نعرفك، أعطنا أن نحبك لكي يكون فرحنا فيك. وإذا لم يكن ممكناً أن يصل حبّنا إلى الملء في هذه الحياة، اجعلنا ننمو كل يوم حتى نصل إلى الملء. ولتكبر فِيَّنا معرفتك في هذه الحياة ولتكتمل في اليوم الأخير؛ وليكبر فِيَّنا حُبُّكَ وليكن كاملاً في الحياة الآتية ليكون فرحنا الآن بسبب رجائنا، كبيراً وتاماً في الحياة الحقيقيّة. أيها الإله الواحد في ثلاثة أقانيم، المبارك إلى دهر الدّهور. آمين