موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنْجيلي (متى 11: 2-11)
2 وسَمِعَ يُوحَنَّا وهو في السِّجنِ بِأَعمالِ المسيح، فأَرسَلَ تَلاميذَه يَسأَلُه بِلِسانِهم: 3 ((أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟ )) 4 فأَجابَهم يسوع: ((اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: 5 العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، 6 وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة )). 7فلَمَّا انصرَفوا، أَخذَ يسوعُ يقولُ لِلجُموعِ في شَأنِ يُوحنَّا: ((ماذا خَرَجتُم إِلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ أَقَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح؟ 8 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟ ها إِنَّ الَّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ المُلوك. 9 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَنَبِيّاً؟ أَقولُ لَكم: نَعَم، بل أَفضَلُ مِن نَبِيّ. 10 فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه: ((هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ)). 11 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان، ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه.
الـمُقَدِّمَةُ
يَصِفُ إِنْجِيلُ الأَحَدِ الثَّالِثِ مِنْ زَمَنِ المَجِيءِ (مَتَّى 11: 2–11) شَخْصَ المَسِيحِ الـمُنْتَظَرِ مِنْ خِلَالِ مَنْظُورَيْنِ مُتَكَامِلَيْنِ: مَنْظُورِ يُوحَنَّا الـمَعْمَدَانِ البَاحِثِ عَنْ اكْتِمَالِ الـمَلَكُوتِ، وَمَنْظُورِ يَسُوعَ الَّذِي يُعْلِنُ حُضُورَهُ كَتَحْقِيقٍ لِلوُعُودِ. فَالمَسِيحُ الـمُنْتَظَرُ هُوَ ذَاكَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِإِرْسَالِهِ لِخَلاصِ الإِنْسَانِ مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ: "أَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ المَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا، فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تُصِيبِينَ عَقِبَهُ" (تَكْوِين 3: 15).وَيُعْرَفُ هٰذَا الإِعْلانُ، الَّذِي يُسَمِّيهِ الآبَاءُ بِبِشَارَةِ الخَلاصِ الأُولَى – Protoevangelium، بِأَنَّهُ يَحْمِلُ بُذْرَةَ الرَّجَاءِ الأَوَّلِ فِي التَّارِيخِ الخَلاصِيِّ؛ فَالمَسِيحُ هُوَ نَسْلُ المَرْأَةِ الَّذِي يَسْحَقُ رَأْسَ الحَيَّةِ، أَيْ الشَّيْطَانِ، وَيُعِيدُ الإِنْسَانَ إِلَى الشَّرِكَةِ مَعَ اللهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ فِي الخَطِيئَةِ وَفِقْدَانِهِ الفِرْدَوْسَ.
وَقَدْ جَاءَتْ نُبُوءَاتُ أَنْبِيَاءِ العَهْدِ القَدِيمِ لِتُضِيءَ هٰذَا الوَعْدَ بِوُجُوهٍ مُتَنَوِّعَةٍ: عَبْدٍ مُتَأَلِّمٍ، وَمَلِكٍ آتٍ بِالسَّلامِ، وَنُورٍ لِلأُمَمِ، وَمُرْسَلٍ لِشِفَاءِ القُلُوبِ الـمُنْكَسِرَةِ. وَهَا هُوَ يَسُوعُ، فِي نَصِّ إِنْجِيلِ اليَوْمِ، يَكْشِفُ لِيُوحَنَّا الـمَعْمَدَانِ المَوجُود في السجن وَلَنَا أَنَّ هٰذِهِ النُّبُوءَاتِ تَتِمُّ فِيهِ حَقِيقَةً وَبِأَعْمَالٍ مَلْمُوسَةٍ. وَمِنْ هُنَا تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ التَّوَقُّفِ عِنْدَ هٰذَا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، لِنَقْرَأَ وَقَائِعَهُ، وَنَفْهَمَ رِسَالَتَهُ اللاَّهُوتِيَّةَ، وَتَطْبِيقَاتِهِ الرُّوحِيَّةَ فِي حَيَاتِنَا، مُسْتَنِيرِينَ بِإِرْشَادِ الكَنِيسَةِ وَالآبَاءِ، كَيْ نَسْتَعِدَّ لِمَجِيءِ الرَّبِّ بِمَحَبَّةٍ وَحَقٍّ وَثَبَاتٍ فِي الإِيمَانِ.
أولا: تحليل وقائع نص الإنجيلي (متى 11: 2-11)
2 وسَمِعَ يُوحَنَّا وهو في السِّجنِ بِأَعمالِ المسيح، فأَرسَلَ تَلاميذَه يَسأَلُه بِلِسانِهم:
تُشِيرُ عِبَارَةُ "سَمِعَ" إِلَى أَعْمَالِ يَسُوعَ الَّتِي بَلَغَتْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ عَنْ طَرِيقِ تَلَامِيذِهِ، لَا بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُبَاشِرَةِ بَلْ بِالْخَبَرِ الْمُنْقَلِ، كَمَا يُوَضِّحُ الإِنْجِيلُ حَسَبَ لُوقَا: "أَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلَامِيذُهُ بِهٰذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا، فَدَعَا اثْنَيْنِ مِنْ تَلَامِيذِهِ" (لوقا 7: 18). وَتَتَمَثَّلُ هٰذِهِ الأَعْمَالُ، حَسَبَ سِيَاقِ لُوقَا، فِي شِفَاءِ عَبْدِ قَائِدِ الْمِئَةِ (لوقا 7: 1–10)، وَإِحْيَاءِ ابْنِ أَرْمَلَةِ نَائِين (لوقا 7: 11–17)، وَهُمَا عَمَلَانِ يَكْشِفَانِ وَجْهَ الْمَسِيحِ الرَّحِيمِ الْمُحْيِي، أَكْثَرَ مِمَّا يُبْرِزَانِ وَجْهَ الدَّيَّانِ الْمُعْلِنِ لِلْقِصَاصِ. وَهُنَا يَبْرُزُ التَّوَتُّرُ الدَّاخِلِيُّ فِي خِبْرَةِ يُوحَنَّا: فَهُوَ يَسْمَعُ عَنْ مَسِيحٍ يَشْفِي وَيُقِيمُ وَيَرْأَفُ، فِي حِينَ كَانَ يَنْتَظِرُ مَسِيحًا قَوِيًّا يُجْرِي الدَّيْنُونَةَ وَيُحَقِّقُ الْعَدْلَ الإِلَهِيَّ بِصُورَةٍ حَاسِمَةٍ.
أَمَّا عِبَارَةُ "يُوحَنَّا" فَتُشِيرُ إِلَى الصِّيغَةِ العَرَبِيَّةِ لِلاسْمِ اليُونَانِيّ ِ : Ἰωάννης، الْمُشْتَقِّ مِنَ الاِسْمِ الْعِبْرِيِّ יּוֹחָנָן، (وَمَعْنَاهُ: هَبَةُ اللهِ أو الَّذِي يَنْعَمُ اللهُ عَلَيْهِ), وَهُوَ ابْنُ زَكَرِيَّا الشَّيْخِ وَزَوْجَتِهِ أَلِيصَابَات (لُوقَا 1: 5)، وَكِلَاهُمَا مِنْ نَسْلِ هَارُونَ وَمِنْ عَشِيرَةٍ كَهَنُوتِيَّةٍ. وَقَدْ كَانَتْ وِلادَتُهُ قَبْلَ وِلادَةِ الْمَسِيحِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ (لُوقَا 1: 26)، وَكَانَ أَبَوَاهُ يَسْكُنَانِ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَلَعَلَّ الْحَاضِرَةَ بِقُرْبِ حَبْرُونَ، مَدِينَةِ الْكَهَنَةِ. وَكَانَا طَاعِنَيْنِ فِي السِّنِّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا نَسْلٌ، وَلٰكِنَّ الْمَلَكَ جِبْرَائِيلَ ظَهَرَ لِزَكَرِيَّا وَوَعَدَهُ بِوَلَدٍ، وَأَعْطَاهُ اسْمَ يُوحَنَّا، وَأَعْلَنَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَظِيمًا لا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَحَسْبُ، بَلْ أَمَامَ اللهِ أَيْضًا، وَأَنَّ مَصْدَرَ عَظَمَتِهِ هُوَ امْتِلَاؤُهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَأَنَّهُ يُهَيِّئُ طَرِيقَ الْمَسِيحِ (مَتَّى 11: 14). وُلِدَ يُوحَنَّا سَنَةَ ٥ ق.م. وَتُقِرُّ التَّقَالِيدُ أَنَّهُ وُلِدَ فِي قَرْيَةِ عَيْنِ كَارِم الْمُتَّصِلَةِ بِأُورْشَلِيمَ مِنَ الْجَنُوبِ (لُوقَا ١: ٣٩). وَلَمْ يَظُنَّ يُوحَنَّا فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ، بَلْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: "صَوْتُ مُنَادٍ فِي الْبَرِّيَّةِ" (مَتَّى 3: 3). وَبَدَأَ كِرَازَتَهُ فِي سَنَةِ 26.م. وَقَدْ شَهِدَ فِي كِرَازَتِهِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ (يُوحَنَّا 1: 15)، وَأَنَّهُ حَمَلُ اللهِ (يُوحَنَّا 1: 29 وَ36). وَكَانَ يُعَمِّدُ التَّائِبِينَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ بِخَطَايَاهُمْ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ (لُوقَا 3: 2–14)، وَقَدْ أَصَرَّ يُوحَنَّا عَلَى ضَرُورَةِ تَعْمِيدِ الْجَمِيعِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِهِمْ وَطَبَقَتِهِمْ (مَتَّى 3: 9)، مُنَاشِدًا الْجَمِيعَ أَنْ يَتُوبُوا لِيَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي (مَتَّى 3: 7)، لأَنَّ مَعْمُودِيَّةَ الْمَسِيحِ الآتِي سَتَحْمِلُ مَعَهَا دَيْنُونَةً (مَتَّى 3: 12). وَقَدْ طَلَبَ يَسُوعُ مِنْهُ أَنْ يُعَمِّدَهُ، لا لأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى التَّوْبَةِ، بَلْ لِيُقَدِّمَ الدَّلِيلَ عَلَى اِنْدِمَاجِهِ فِي الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ وَصَيْرُورَتِهِ أَخًا لِلْجَمِيعِ. وَبَعْدَ أَنْ وَبَّخَ هِيرُودُسَ الْمَلِكَ زَجَّهُ فِي السِّجْنِ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدَّمَ هِيرُودُسُ رَأْسَ يُوحَنَّا عَلَى طَبَقٍ لِسَالُومَةَ ابْنَةِ هِيرُودِيَّا. وَجَاءَ تَلَامِيذُهُ وَدَفَنُوا جُثْمَانَهُ. وَيَقُولُ إِيرُونِيمُوس إِنَّهُمْ حَمَلُوهُ إِلَى سَبَسْطِيَّةَ عَاصِمَةِ السَّامِرَةِ وَدَفَنُوهُ هُنَاكَ بِجَانِبِ ضَرِيحِ النَّبِيَّيْنِ أَلِيشَاعَ وَعُوبَدْيَا. وَقَدْ شَهِدَ الْمَسِيحُ فِيهِ أَعْظَمَ شَهَادَةٍ إِذْ قَالَ: "لَمْ يَظْهَرْ فِي أَوْلادِ النِّسَاءِ أَكْبَرُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (مَتَّى 11: 11).
أَمَّا عِبَارَةُ "السِّجْنِ" فَتُشِيرُ إِلَى الحَبْسِ فِي قَلْعَةِ مَكْاوَر، الْمُطِلَّةِ عَلَى البَحْرِ المَيِّتِ شَرْقًا، بِحَسَبِ مَا كَتَبَ يُوسِيفُوس فْلافْيُوس المُؤَرِّخُ اليَهُودِيُّ. وَلَا تَزَالُ آثَارُ تِلْكَ القَلْعَةِ بَاقِيَةً حَتَّى الآْنَ. وَيَعُودُ بِنَاءُ هٰذِهِ القَلْعَةِ إِلَى القَرْنِ الأَوَّلِ ق.م. إِذْ بَنَاهَا أَلِكْسَنْدَرُ يُنِّيُّوس، ثُمَّ قَامَ المَلِكُ هِيرُودُس بِتَوْسِيعِهَا وَبِنَاءِ قَصْرٍ دَاخِلَهَا. وَتَمَّ تَدْمِيرُهَا عَلَى يَدِ القَائِدِ الرُّومَانِيِّ جَابِنْيُوس فِي عَهْدِ الإِمْبِرَاطُورِ طِيطُس سَنَةَ 70 م. وَقَدْ بُنِيَتْ كَنِيسَةٌ فِي الفَتْرَةِ البِيْزَنْطِيَّةِ عَلَى قِمَّةِ القَلْعَةِ فِي القَرْنِ السَّادِسِ، وَأُجْرِيَتْ فِيهَا تَنْقِيبَاتٌ أَثَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّاتُ صِيَانَةٍ وَتَرْمِيمٍ سَنَةَ 1995. وَكَانَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ سَجِينًا فِي هٰذِهِ القَلْعَةِ فِي نِهَايَةِ سَنَةِ 27 م. بِسَبَبِ تَوْبِيخِهِ أَمِيرَ الرُّبْعِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاس عَلَى فُجُورِهِ، إِذِ اتَّخَذَ هِيرُودِيَّا امْرَأَةَ أَخِيهِ فِيلِبُّسَ زَوْجَةً لَهُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ (مَتَّى 14: 3). وَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا الْخَائِنَةُ عَلَى يُوحَنَّا وَتَحَيَّنَتِ الفُرْصَةَ لِلإِيقَاعِ بِهِ، لأَنَّهُ وَبَّخَ هِيرُودُسَ بِأَنَّهُ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (لُوقَا 3: 19–20)). وَهٰكَذَا لَا نَجِدُ لِيُوحَنَّا بَعْدَ الآنَ صَوْتًا فِي البَرِّيَّةِ، حَيْثُ كَانَ يَدْعُو الْجَمِيعَ إِلَى التَّوْبَةِ وَإِلَى انْتِظَارِ ذَاكَ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ، بَلْ نَجِدُهُ سَجِينًا مُرْغَمًا عَلَى الصَّمْتِ مِنْ قِبَلِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاس (مَتَّى 14: 3–٤4).
أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَرْسَلَ تَلَامِيذَهُ يَسْأَلُهُ بِلسَانِهِمْ" فَتُشِيرُ إِلَى بَعْثِ تَلَامِيذِهِ لِلاسْتِعْلَامِ مِنْ يَسُوعَ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ.
لِأَنَّ الأَنْبَاءَ الَّتِي وَصَلَتْهُ عَنِ الْمَسِيحِ تختلف ما توقعه وما يراه في يسوع. إنَّها لَا تَتَوَافَقُ مَعَ الصُّورَةِ الَّتِي أَعْلَنَهَا عَنْ مَجِيءِ الْمَسِيحِ الَّذِي سَيَقُومُ بِعَمَلِيَّةِ تَطْهِيرٍ وَتَنْقِيَةٍ: "أَمَّا الآْتِي بَعْدِي فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلًا لِأَنْ أَخْلَعَ نَعْلَيْهِ. إِنَّهُ يُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ. بِيَدِهِ الْمِذْرَى يُنَقِّي بَيْدَرَهُ فَيَجْمَعُ قَمْحَهُ فِي الأَهْرَاءِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأ" (مَتَّى 3: 11–12). فَالْمَسِيحُ، بِمُنْظُورِ يُوحَنَّا، هُوَ الدَّيَّانُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ الأُمُورِ فِي نِصَابِهَا الصَّحِيحِ. وَقَدِ اضْطَرَبَ يُوحَنَّا وَنَفِدَ صَبْرُهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ بِسَبَبِ بُطْءِ الْمَسِيحِ فِي عَمَلِهِ؛ لأَنَّهُ كَانَ يَتَرَقَّبُ حُدُوثَ أَحْدَاثٍ جِسَامٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَرَى قَبْلَ مَوْتِهِ تَحْقِيقَ أَحْلَامِ حَيَاتِهِ. وَرُبَّمَا أَرْسَلَ يُوحَنَّا تَلَامِيذَهُ إِلَى السَّيِّدِ الْمَسِيحِ لِيَلْمَسُوا بِأَنْفُسِهِمْ مَنْ هُوَ الْمَسِيحُ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَعْمَالِ الْمَسِيحِ" فَتُشِيرُ إِلَى تَبْشِيرِ يَسُوعَ وَمُعْجِزَاتِهِ الَّتِي صَنَعَهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ: "العُمْيَانُ يُبْصِرُونَ، العُرْجُ يَمْشُونَ مَشْيًا سَوِيًّا، البُرْصُ يَبْرَأُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْفُقَرَاءُ يُبَشَّرُونَ" (لُوقَا 7: 22).
أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَرْسَلَ تَلَامِيذَهُ" فِي اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ πέμψας διὰ τῶν μαθητῶν αὐτοῦ فَتُشِيرُ إِلَى إِرْسَالِ اثْنَيْنِ (διὰ)؛ وَيُمْكِنُ أَنْ تُتَرْجَمَ أَيْضًا: بِوَاسِطَةِ تَلَامِيذِهِ. وَنُلَاحِظُ أَنَّ تَلَامِيذَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ ظَلُّوا عَلَى اتِّصَالٍ بِهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وُجُودِهِ فِي السِّجْنِ، وَتَابَعُوا رِسَالَتَهُ، وَحَدَّثُوهُ عَنْ أَعْمَالِ الْمَسِيحِ وَمُعْجِزَاتِهِ. فَكَانُوا يَنْقُلُونَ إِلَى يُوحَنَّا أَخْبَارًا عَنْ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، عَنْ بَعْضِ مَا عَلَّمَ وَعَمِلَ. وَلَمْ يَنْفَكَّ أَتْبَاعُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ أَنْ يَعْتَبِرُوهُ مُعَلِّمًا لَهُمْ، وَأَبَوْا أَنْ يَعْتَبِرُوا الْمَسِيحَ أَعْظَمَ مِنْهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ شَهَادَةِ يُوحَنَّا لِيَسُوعَ (مَتَّى 3: 11). وَظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ يُوحَنَّا أَرْسَلَ تِلْمِيذَيْنِ لِيُزِيلَ شُكُوكَ كُلِّ تَلَامِيذِهِ بِوَاسِطَةِ مُوَاجَهَتِهِمْ الْمَسِيحَ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَمُشَاهَدَةِ آيَاتِهِ (لُوقَا 7: 18–21). يَشْرَحُ الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا يَسْأَلُ لِيَعْرِفَ، بَلْ لِيَقْتَادَ تَلَامِيذَهُ إِلَى الْمَسِيحِ…لَقَدْ أَرْسَلَهُمْ لِكَيْ لَا يَبْقَوْا بَعْدُ مُرْتَبِطِينَ بِهِ، بَلْ لِكَيْ يَنْجَذِبُوا إِلَى الرَّبِّ بِعُيُونِهِمْ" (عِظَةٌ عَلَى مَتَّى 11).
أمَّا عِبارَةُ: "يَسأَلُهُ بِلسانِهِم"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يُوحَنَّا لَم يَسأَلْ مِن أَجلِ نَفسِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَشارَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلًا: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ". بَل إِنَّما سَأَلَ مِن أَجلِ تَلَامِيذِهِ، كَيْلَا يَبقَوا مُتَعَلِّقِينَ بِهِ بَعدَ مَوتِهِ، بَل يَلتَحِقوا بِالمَسيحِ. أن يوحنا جعله تلاميذه هم يسألون، ويسمعون الحق من يسوع بأذنهم، ويتلقّون الجواب، ويختبرون الحقّ بأعينهم ينفتحون على الإيمان كي تتحوّل رسالة يوحنا إلى جسر يقود تلاميذه إلى الاعتراف بالمسيح. يُوحَنَّا، وَهُوَ فِي السِّجنِ، يَسعَى إِلَى تَحرِيرِ تَلَامِيذِهِ مِن "سِجنِ الشَّكِّ"، وَيَقُودُهُم إِلَى يَسُوعَ الَّذِي وَحدَهُ يَفتَحُ العُيونَ وَيُطلِقُ الأَسرَى. فَيَبقَى يُوحَنَّا مُعَلِّمًا وَنَبِيًّا وَشَاهِدًا لِلمَسيحِ حَتَّى مِن قَلبِ السِّجنِ.
3 ((أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟))
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَأَنْتَ الآْتِي، أَمْ آخَرَ نَنْتَظِرُ؟" إِلَى التَّوَتُّرِ الرُّوحِيِّ العَمِيقِ الَّذِي يَعيشُهُ يُوحَنَّا المَعمَدَانُ فِي سِجْنِهِ؛ لَا كَـشَكٍّ يَنْقُضُ إِيمَانَهُ، بَلْ كَصَرْخَةِ قَلْبٍ يَتَلَهَّفُ لِذُرْوَةِ الوَعْدِ. فَصَوْتُهُ فِي السِّجْنِ هُوَ صَوْتُ المُنْتَظِرِ الَّذِي يَرْغَبُ فِي رُؤيةِ اكْتِمالِ النُّبُوءَةِ الَّتِي حَمَلَهَا فِي كِراَزتِهِ، وَهِيَ نُبُوءَةُ أَشعَيا: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي، وَأَرْسَلَنِي لأُبَشِّرَ الفُقَراء، وَأَجْبُرَ مُنكَسِرِي القُلُوب، وَأُنَادِيَ بِإِفْرَاجٍ لِلمَسْبِيِّينَ، وَتَخْلِيَةٍ لِلمَأْسُورِينَ، لأُعْلِنَ سَنَةَ رِضًا لِلرَّبِّ، وَيَوْمَ انتِقَامٍ لإِلهِنَا، وَأُعَزِّي جَمِيعَ النَّائِحِينَ" (أشعيا 61: 1–2). وعِنْدَ إِرسَالِ يُوحَنَّا تَلَامِيذَهُ لِيَسْأَلُوا يَسُوعَ، يُحِيلُهُمُ الرَّبُّ إِلَى أَعْمَالِ الرَّحْمَةِ المُحَقَّقَة: "العُمْيُ يُبْصِرُونَ، العُرْجُ يَمْشُونَ، البُرْصُ يُطَهَّرُونَ، الصُّمُّ يَسْمَعُونَ، المَوْتَى يَقُومُونَ، والمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ" (لوقا 7: 22). يُبْرِزُ يَسُوعُ هنا نِصْفَ النُّبُوءَة الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالرِّفْقَةِ الخَلَاصِيَّةِ، وَيَتَجَاهَلُ عَمْدًا الجُزْءَ الآخَرَ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَن "يَوْمِ انتِقَامٍ لإِلَهِنَا". صَرْخَةٌ يوحنا هي صرخة وُجُودِيَّةٌ تَنْبَعُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي لِقَاءٍ وَجْهِـيٍّ مَعَ المَسِيحِ الحَمل والدَّيان، وَمِنْ تَوْقٍ لِانْتِقَالِ النُّبُوَّةِ إِلَى الحَقِيقَةِ المُتَجَسِّدَةِ. فَالسُّؤَالُ لَيْسَ بَحْثًا عَنْ مَعْرِفَةٍ نَاقِصَةٍ، قَدْرَ مَا هُوَ جِسْرُ عُبُورٍ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ إِلَى نُورِ الإِنْجِيلِ؛ مِنَ الكَلِمَةِ المُرْتَقَبَةِ إِلَى الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدَةِ. وَهَكَذَا، يُصْبِحُ سُؤَالُ يُوحَنَّا نُقْطَةَ انْعِطَافٍ فِي تَارِيخِ الإِيمَانِ: مِنَ التَّوْقِ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَمِنْ انْتِظَارِ النَّبِيِّ إِلَى اللِّقَاءِ بِالمَسِيَّا المنتظر، وَمِنَ التَّعَلُّقِ بِالمُعَلِّمِ الأَرْضِيِّ إِلَى تَبَعِيَّةِ المَسِيحِ الحَيِّ. وهي أيضا صَرخَةَ إِرسَالٍ؛ يُحَرِّرُ يُوحَنَّا بِها تَلَامِيذَهُ مِن تَعَلُّقِهِم بِهِ، لِيُدخِلَهُم فِي عَلاقَةٍ شَخصِيَّةٍ مَعَ المَسيحِ، لِأَنَّ المَسيحَ يُعرَفُ بِالأَعمالِ لا بِالكَلام.
أَمَّا عِبَارَةُ "الآْتِي" في الأصل اليوناني ὁ ἐρχόμενος (اسم الفاعل هنا يحمل معنى مستمرًّا الآتي الآن، والذي يأتي باستمرار، وهو في طور المجيء) فَتُشِيرُ إِلَى الْمَسِيحِ الْمُنْتَظَرِ مُنْذُ قُرُونٍ بِحَسَبِ نُبُوءَاتِ العَهْدِ القَدِيمِ (التَّكْوِين 9: 10؛ وَأَشَعْيَا 9: 1–6). وَهَذَا ما يُؤَكِّدُهُ التَّقْلِيدُ اليَهُودِيُّ، وَبِخاصَّةٍ أَدَبُ أَسِّينِيِّي قُمْران؛ إِذ ظَهَرَ لَقَبُ «الآتي» كَصِفَةٍ لِلمَسِيَّا المُنْتَظَرِ، تِلكَ الشَّخْصِيَّةُ الَّتِي يُرسِلُها اللهُ لِيُتَمِّمَ بِها الخَلاصَ فِي التَّارِيخِ. وَمِن ثَمَّ، فَإِنَّ العِبارَةَ تُعَبِّرُ عَنِ المَسِيحِ الَّذِي بَدَأَ ظُهُورَهُ وَيُحَقِّقُ مَلَكُوتَهُ الآنَ. وَقَدْ تَنَبَّأَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ هُوَ أَيْضًا بِمَجِيئِهِ، إِذْ أَشَارَ وَقَالَ: "أَمَّا الآْتِي بَعْدِي فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلًا لِأَنْ أَخْلَعَ نَعْلَيْهِ. إِنَّهُ يُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ. بِيَدِهِ الْمِذْرَى يُنَقِّي بَيْدَرَهُ فَيَجْمَعُ قَمْحَهُ فِي الأَهْرَاءِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأ" (مَتَّى 3: 11–12).
أَمَّا عِبَارَةُ "أَمْ آخَرَ نَنْتَظِر؟" فَتُشِيرُ إِلَى تَوَقُّعِهِ إِتْيَانَ غَيْرِهِ، إِذْ لَاحَظَ يُوحَنَّا أَنَّ يَسُوعَ الرَّحِيمَ بَعِيدٌ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّيَّانِ الَّذِي يُنَقِّي إِسْرَائِيلَ كَمَا وَصَفَهُ قَائِلًا: "هَا هِيَ ذِي الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تُثْمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (مَتَّى 3: 10). فَإِذَا هُوَ غَيْرُ الَّذِي تَوَقَّعَهُ، وَلِهٰذَا تَشَكَّكَ يُوحَنَّا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا:"إِنَّ الْمَسِيحَ يُظْهِرُ رَحْمَةً تُجَاهَ الْخَاطِئِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ تَأْنِيبًا فِي الوَاقِعِ؛ فَالَّذِينَ يُغْضِبُونَهُ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُدَانُوا، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى النَّاسِ المُذْنِبِينَ بِأَعْذَبِ الكَلَامِ قَائِلًا: "تَعَالَوْا إِلَيَّ جَمِيعًا أَيُّهَا المُرْهَقُونَ المُثْقَلُونَ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (مَتَّى 11: 28) (عِظَةٌ بِمُنَاسَبَةِ تِذْكَارِ قِدِّيسٍ). وَالْوَاقِعُ أَنَّ الأَزْمَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ أَنَّهُ اقْتَبَسَ الطَّرَفَ الَّذِي يَتَحَدَّثُ فِيهِ أَشَعْيَا عَنْ:"لِأُعْلِنَ سَنَةَ رِضًا عِنْدَ الرَّبِّ وَيَوْمَ انْتِقَامٍ لِإِلَهِنَا" (أَشَعْيَا 62: 2)، وَلَمْ يَفْطَنْ إِلَى الْجُزْءِ الأَوَّلِ مِنْ نَفْسِ النَّصِّ الَّذِي يُرَكِّزُ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالتَّحْرِيرِ كَمَا فِي قَوْلِ أَشَعْيَا: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي وَأَرْسَلَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ، وَأَجْبُرَ مُنْكَسِرِي القُلُوبِ، وَأُنَادِيَ بِإِفْرَاجٍ عَنِ المَسْبِيِّينَ، وَبِتَخْلِيَةٍ لِلْمَأْسُورِينَ" (أَشَعْيَا 61: 1). أَفْضَلُ طَرِيقَةٍ لِإِزَالَةِ الشُّكُوكِ فِي الدِّينِ هِيَ أَنْ نَعْرِضَهَا عَلَى الْمَسِيحِ بِالصَّلَاةِ.
4 فأَجابَهم يسوع: ((اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون:
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَأَخْبِرُوا يُوحَنَّا" إِلَى إِجَابَةِ يَسُوعَ، مُصَوِّرًا عَمَلَهُ فِي إِطَارِ الرَّجَاءِ الْمَسِيحَانِيِّ كَمَا صَوَّرَهُ الأَنْبِيَاءُ، خُصُوصًا أَشَعْيَا: "حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ العُمْيَانِ، وَآذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ، وَحِينَئِذٍ يَقْفِزُ الأَعْرَجُ كَالأَيْلِ، وَيَهْتِفُ لِسَانُ الأَبْكَمِ" (أَشَعْيَا 35: 5–6). فَأَعَادَ يَسُوعُ المَسِيحُ يُوحَنَّا وَتَلَامِيذَهُ إِلَى الأَعْمَالِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا وَالَّتِي يَجِبُ أَنْ يُفَسِّرُوهَا اِتْمَامًا لِلنُّبُوءَاتِ الَّتِي نَسَبَهَا يَسُوعُ لِنَفْسِهِ. فَيَعْرِفُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ مِنْ خِلَالِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى رِسَالَةِ المُخَلِّصِ (أَشَعْيَا 26: 19). وَهٰذَا أَفْضَلُ الجَوَابِ، لأَنَّهُ لَا شَيْءَ يُقْنِعُ مِثْلَ العَمَلِ، وَلَا شَيْءَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ أَعْلَى مِنْ سِيرَةِ الإِنْسَانِ وَتَصَرُّفَاتِهِ. البراهين العملية أقوى من الجواب النظري. يَرَى أَوغُسطينوس أَنَّ جَوابَ المَسيحِ لَم يَكُن مُجَرَّدَ إِجابَةٍ، بَل مَنهَجَ إِيمَانٍ كامِل؛ فَلَم يُجِبِ الرَّبُّ يُوحَنَّا بِالكَلامِ، بَل بِالأَعمالِ، لِأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ الإِيمَانَ لَا يَقُومُ عَلَى السَّماعِ وَحدَهُ، بَل عَلَى رُؤيَةِ حُضُورِ اللهِ العَاملِ فِي التَّارِيخِ. وَيُعَلِّقُ أوريجانوس قَائِلًا: "إِنَّ المَسيحَ يَدعُو إِلَى تَفسِيرِ الكُتُبِ مِن خِلَالِ اختِبارِ القُوَّةِ الَّتِي تَعمَلُ الآنَ فِي العَالَمِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "اِذْهَبُوا فَأَخْبِرُوا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعُونَ وَتَرَوْنَ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ قَدَّمَ لِتَلَامِيذِ يُوحَنَّا صُورَةً حَيَّةً مِنْ خِلَالِ السَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ؛ فَقَدْ سَمِعُوا كَلِمَاتِ مَحَبَّتِهِ الإِلَهِيَّةِ الْفَائِقَةِ نَحْوَ البَشَرِيَّةِ، وَرَأَوْا أَعْمَالَهُ. فَالْخَبَرُ مُرْتَبِطٌ بِالسَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ، فَيَنْبَغِي عَلَى تَلَامِيذِ يُوحَنَّا أَنْ يُخْبِرُوا بِأَنَّ النُّبُوءَاتَ الَّتِي كَانَتْ إِسْرَائِيلُ تَسْمَعُهَا مُنْذُ قُرُونٍ قَدْ تَحَقَّقَتِ الآنَ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ؛ فَإِنَّ مَا تَرَاهُ العُيُونُ الآنَ هُوَ ذَاتُهُ مَا كَانَتْ الآْذَانُ تَسْمَعُهُ قَدِيمًا. فَإِنَّ نُبُوءَاتِ الرَّبِّ تَتَحَقَّقُ الآنَ. إِنَّ الاِسْتِمَاعَ وَالرُّؤْيَةَ يَجِبُ أَنْ يَسِيرَا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ؛ جَوابُ المَسيحِ هُوَ حَدَثٌ وَلَيسَ خِطابًا. فَكَلِمَةُ اللهِ تُفَسِّرُ أَحْداثَ هٰذَا العَالَمِ، وَلَولَا ذٰلِكَ لَمَا استَطَعنا أَن نَفهَمَ مَعنَى ما يَحدُثُ. وَيُعَلِّقُ أوريجانوس قَائِلًا: "إِنَّ كُلَّ مَن يَأتِي إِلَى المَسيحِ لَا يُعطَى دَرسًا يَكتُبُهُ عَلَى الوَرَقِ، بَل يُدخَلُ إِلَى مَدرَسَةِ الحَيَاةِ، حَيثُ يُقرأُ اللهُ فِي أَحدَاثِ التَّارِيخِ". فَقِرَاءَةُ عَلامَاتِ الأَزمِنَةِ هِيَ جُزءٌ مِن تَربِيَةِ المَسيحِ لِتَلَامِيذِهِ.
5 العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون،
تُشِيرُ عِبَارَةُ "العُمْيَانُ يُبْصِرُونَ، وَالعُرْجُ يَمْشُونَ مَشْيًا سَوِيًّا" إِلَى إِجَابَةِ يَسُوعَ غَيْرِ الْمُبَاشِرَةِ عَلَى سُؤَالِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، إِذْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ تَصْرِيحًا لَفْظِيًّا عَنْ هُوِيَّتِهِ، بَلْ دَعَاهُ إِلَى قِرَاءَةِ عَلَامَاتِ الأَزْمِنَةِ، وَإِلَى التَّأَمُّلِ وَالاسْتِنْتَاجِ، وَاتِّخَاذِ قَرَارٍ شَخْصِيٍّ فِي ضَوْءِ مَا يَتَحَقَّقُ أَمَامَ الْعُيُونِ. وَهٰذِهِ الأَعْمَالُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُعْجِزَاتٍ مَعْزُولَةٍ، بَلْ هِيَ إِشَارَاتٌ مَسِيحَانِيَّةٌ مُتَجَذِّرَةٌ فِي نُبُوءَاتِ أَشَعْيَا، لَا سِيَّمَا: "حِينَئِذٍ تَتَفَتَّحُ عُيُونُ العُمْيَانِ، وَتَتَفَتَّحُ آذَانُ الصُّمِّ" (أَشَعْيَا 35: 5)، وَكَذٰلِكَ فِي نَشِيدِ الْمَسِيحِ: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي، وَأَرْسَلَنِي لِأُبَشِّرَ الْفُقَرَاءَ، وَأَجْبُرَ مُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَأُنَادِيَ بِإِفْرَاجٍ عَنِ الْمَسْبِيِّينَ، وَبِتَخْلِيَةٍ لِلْمَأْسُورِينَ" (أَشَعْيَا 61: 1). وَيُعَزِّزُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ هٰذَا الْمَعْنَى، إِذْ يُظْهِرُ أَنَّ جَوَابَ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا فَقَط، بَلْ تَحَقَّقَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَيْنِهَا، إِذْ "شَفَى أُنَاسًا كَثِيرِينَ مِنَ الأَمْرَاضِ وَالعِلَلِ وَالأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُمْيَانِ" (لوقا 7: 21). وَهٰكَذَا يُعْلِنُ يَسُوعُ أَنَّ الزَّمَنَ الْمَسِيحَانِيَّ قَدْ حَلَّ، لَا كَزَمَنِ دَيْنُونَةٍ أَوَّلًا، بَلْ كَزَمَنِ خَلَاصٍ وَفَرَحٍ، وَانْتِصَارٍ عَلَى الشَّرِّ وَالْمَوْتِ. وَيُؤَكِّدُ الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يُجِبْ يُوحَنَّا بِمُجَرَّدِ أَقْوَالٍ نَظَرِيَّةٍ أَوْ بَرْهَنَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ عَنْ ذَاتِهِ، بَلْ بِـ أَعْمَالِ خَلَاصٍ مَرْئِيَّةٍ، إِذْ يَقُولُ بِمَعْنَى تَعْلِيمِهِ: إنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقُلْ "أَنَا هُوَ"، بَلْ قَالَ ضِمْنًا: "انْظُرُوا مَا يَعْمَلُ اللهُ فِيكُمْ وَبِكُمْ". فَقَدْ قَدَّمَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِ يُوحَنَّا كَلِمَاتِ النَّبِيِّ أَشَعْيَا عَنْ عَبْدِ الرَّبِّ الْمُخَلِّصِ، لَا كَنَصٍّ مَقْرُوءٍ فَقَط، بَلْ كَحَقِيقَةٍ مُتَجَسِّدَةٍ فِي الأَعْمَال. وَفِيهِ يَظْهَرُ اللهُ لِلْبَشَرِ، لِأَنَّ الأَعْمَالَ أَعْظَمُ شَهَادَةً مِنَ اللِّسَانِ، وَفِيهَا يُعْرَفُ الْمَسِيحُ حَقًّا.
أَمَّا عِبَارَةُ "الصُّمُّ يَسْمَعُونَ" فَتُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةِ أَشَعْيَا: "فِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَسْمَعُ الصُّمُّ أَقْوَالَ الْكِتَابِ، وَتُبْصِرُ عُيُونُ الْعُمْيَانِ بَعْدَ الدَّيْجُورِ وَالظَّلَامِ" (أَشَعْيَا 35: 5–6).
وَأَمَّا عِبَارَةُ "الْمَوْتَى يَقُومُونَ" فَتُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةِ أَشَعْيَا: "سَتَحْيَا مَوْتَاكَ، وَتَقُومُ جُثَثُهُمْ. اِسْتَيْقِظُوا وَهَلِّلُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ، فَإِنَّ نَدَاكَ نَدَى النُّورِ، وَسَتَلِدُ الأَرْضُ الأَشْبَاحَ" (أَشَعْيَا 26: 19). وَلَعَلَّ إِحْيَاءَ ابْنِ أَرْمَلَةِ نَايِين فِي مِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي شَاهَدَهَا تَلَامِيذُ الْمَعْمَدَانِ (لُوقَا 7: 11–17).
أَمَّا عِبَارَةُ "الفُقَرَاءُ" فَلَا تَشِيرُ إِلَى الفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا إِلَى المَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، أَيْ الْمُتَوَاضِعِينَ.
وَيَمْتَازُ تَعْلِيمُ الْمَسِيحِ بِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، بَيْنَ الشُّرَفَاءِ وَعَامَّةِ النَّاسِ؛ فَكُلُّ بَرَكَاتِهِ بِلَا مُقَابِلٍ، بِلَا فِضَّةٍ وَبِلَا ثَمَنٍ، فَيُمكِنُ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهَا كَالْغَنِيِّ. فَهُوَ يُعَزِّي الْفُقَرَاءَ بِالرُّوحِ الَّذِينَ يَشْعُرُونَ بِجُوعِ النَّفْسِ وَعَطَشِهَا لِلْبِرِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ (مَتَّى 5: 3–5).
أَمَّا عِبَارَةُ "الفُقَرَاءُ يُبَشَّرُونَ" فَتُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةِ أَشَعْيَا: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي، وَأَرْسَلَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ". وَيُعْلِنُ إِنْجِيلُ لُوقَا أَنَّ تَبْشِيرَ الْفُقَرَاءِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي رِسَالَةِ يَسُوعَ: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ" (لُوقَا 4: 18)، وَتُشَكِّلُ هٰذِهِ الآيَةُ جَوْهَرَ رِسَالَةِ يَسُوعَ فِي خَطِّ أَشَعْيَا (أَشَعْيَا 61: 1). فَيُعَبِّرُ يَسُوعُ عَنْ مَعْجِزَاتِهِ وَتَبْشِيرِهِ بِالأَلْفَاظِ الَّتِي أَنْبَأَ بِهَا أَشَعْيَا بِزَمَنِ الْخَلَاصِ؛ فَهِيَ عَلَامَاتٌ لِرِسَالَتِهِ الْخَلَاصِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الأُورُشَلِيمِيُّ قَائِلًا: "إِنَّ الفُقَرَاءَ هُمُ الَّذِينَ خَلَعُوا غِنَى الكِبرِيَاءِ، وَارتَدَوا فَقْرَ التَّواضُعِ؛ فَهٰؤُلاءِ وَحدَهُم يَقدِرُونَ أَن يَقبَلُوا مَلَكُوتَ اللهِ". وَإِتْمَامُ يَسُوعَ هٰذِهِ النُّبُوءَاتَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَلَاصَ اللهِ أُعْطِيَ مُنْذُ الآنَ لِلْبَشَرِ (لُوقَا 4: 18–19). فَنَجِدُ فِي جَوَابِ يَسُوعَ لِتَلَامِيذِ يُوحَنَّا مَجْمُوعَةً مِنْ نُبُوءَاتِ أَشَعْيَا يُبَيِّنُ فِيهَا كَيْفَ يُتِمُّ يَسُوعُ نُبُوءَةَ أَشَعْيَا: إِنَّ خَلَاصَ اللهِ قَدْ مُنِحَ لِجَمِيعِ النَّاسِ: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الفُقَرَاءَ، وَأَرْسَلَنِي لِأُعْلِنَ لِلْمَأْسُورِينَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ، وَلِلْعُمْيَانِ عَوْدَةَ الْبَصَرِ إِلَيْهِمْ، وَأُفَرِّجَ عَنِ الْمَظْلُومِينَ، وَأُعْلِنَ سَنَةَ رِضًا عِنْدَ الرَّبِّ" (لُوقَا 4: 18–19). وَيُفَسِّرُ أَوغُسطِينُوسُ استِشهادَ يَسُوعَ بِهٰذِهِ الأَعمَالِ عَلَى أَنَّهُ تَأكيدٌ لِأَنَّ «العَلامَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِلمَسيحِ لَيسَتِ القُوَّةَ المُدَمِّرَةَ، بَل قُوَّةَ الشِّفاءِ وَالرَّحمَةِ وَالمُصَالَحَةِ"، لِأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يَبدَأُ حَيثُ يُشفَى الدَّاخِلُ. وَيُضِيفُ: "إِنَّ إِتمَامَ هٰذِهِ الأَعمَالِ هُوَ دُخُولُ اللهِ إِلَى أَرضِ الإِنسَانِ المَكسُورَةِ؛ فَالأَعجُوبَةُ لَيسَت فِي شِفَاءِ الجَسَدِ، بِقَدرِ مَا هِيَ فِي خَلقِ قَلبٍ جَدِيدٍ". وَيَرَى أُورِيجَانُّسُ أَنَّ كُلَّ مُعجِزَةٍ تَحمِلُ إِعلَانًا لِسِرِّ المَلَكُوتِ؛ "فَالمَسيحُ يَشفِي الجَسَدَ لِيُعَلِّمَ شِفَاءَ النَّفسِ، وَيُقِيمُ المَيِّتَ لِيُعلِنَ قِيَامَةَ الإِنسَانِ مِن مَوتِ الخَطِيئَةِ، وَيَفتَحُ الأُذُنَ لِيَجعَلَ قَلبَ الإِنسَانِ هَيكَلًا لِكَلِمَتِهِ". إِنَّ يَسُوعَ يَسْتَشْهِدُ بِسِتَّةِ أَعْمَالٍ (مُعْجِزَاتٍ) كَدَلَالَةٍ عَلَى أَيَّامِ الْخَلْقِ السِّتَّةِ، وَلَا نَجِدُ فِيهَا وَاحِدًا يَحْمِلُ إِدَانَةً أَوْ تَدْمِيرًا؛ فَكُلُّهَا أَعْمَالُ خَلَاصٍ وَشِفَاءٍ لِلْإِنْسَانِ. هِيَ رَوْعَةُ الْحَيَاةِ وَرَوْعَةُ اللهِ مَعًا، هِيَ إِعَادَةُ الخَلْقِ الْجَدِيدِ. وَيُشِيرُ أوريجانوس إِلَى أَنَّ تَرتِيبَ الأَعمَالِ السِّتَّةِ فِي النَّصِّ هُوَ مَسارُ نُمُوٍّ خَلَاصِيٍّ:
فَتحُ العُيُونِ → الإِستنَارَةُ.
تَقوِيمُ المَشْيِ → السُّلُوكُ الجَدِيدُ.
تَطهِيرُ البُرصِ → التَّقدِيسُ.
فَتحُ السَّمعِ → الطَّاعَةُ.
قِيَامَةُ المَوتَى → التَّبرِيرُ.
تَبشِيرُ الفُقَرَاءِ → الدُّخولُ إِلَى المَلَكُوتِ.
إِنَّ الْمَسِيحَ يَعْرِضُ مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ، وَيَتْرُكُ بَابَ الْقَرَارِ مَفْتُوحًا أَمَامَ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ الْمُعْجِزَاتِ هِيَ خَتْمُ اللهِ لِصِدْقِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "أَمَامَ هٰذَا الْعَدَدِ الْهَائِلِ مِنَ الإِثْبَاتَاتِ وَالعَجَائِبِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ سَبَبٍ لأَحَدٍ أَنْ يَشُكَّ، بَلْ بِالأَحْرَى كَانَ كُلُّ ذٰلِكَ يَدْعُو لِكَيْ يَزِيدَ إِعْجَابُهُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ"(عِظَاتٌ حَوْلَ الإِنْجِيلِ، العِظَةُ 6). فَهٰذِهِ الآيَةُ لَيسَت مُجرَّدَ إِعلَانٍ عَن مُعجِزَاتِ المَسيحِ، بَل كَشفٌ لِطَبِيعَةِ مَلَكُوتِهِ: الخَلاصِ، وَالشِّفَاءِ، وَالقِيَامَةِ، وَالتَّواضُعِ. فَالإِيمَانُ لَيسَ فِكرَةً مُجرَّدَةً، بَل لِقَاءٌ بَينَ أَعمَالِ المَسيحِ وَأَسئِلَةِ الإِنسَانِ.
6 وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة)).
إِنَّ عِبارَةَ «طوبى» فِي اليُونانِيَّةِ μακάριος مُشتَقَّةٌ مِن أَصلٍ عِبرِيٍّ אַשְׁרֵי، وَمَعنَاهَا: "هَنِيئًا". وَهِيَ تُشيرُ إِلَى بُشرَى بِالسَّعادَةِ وَالغِبطَةِ الَّتِي يُعطِيهَا اللهُ لِفِئَةٍ مِنَ النَّاسِ. وَيَستَخدِمُ يَسُوعُ أُسلُوبًا مَألوفًا فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ يُستَعمَلُ لِتَهنِئَةِ مَن نَالَ هِبَةً (مَتّى 13: 16) أَو لِلتَّبشِيرِ بِالسَّعادَةِ (مَتّى 11: 6). وَهَكَذَا يَكشِفُ يَسُوعُ عَن هُوِيَّةِ الَّذِينَ هُم فِي أَوفَقِ حَالٍ لِنَيلِ مَلَكُوتِ اللهِ.
أَمَّا عِبارَةُ: "طوبى لِمَن لا أَكُونُ لَهُ حَجَرَ عَثْرَةٍ" فَتُشِيرُ إِلَى تَهنِئَةِ يَسُوعَ لِمَن لَا يَشُكُّ فِيهِ، وَلَا يَعتَبِرُهُ عَائِقًا أَو فَخًّا – أَي مَصدَرَ عِثارٍ فَيَسقُطَ وَيَفقِدَ إِيمَانَهُ بِهِ (لوقا 7: 23). وَهٰذَا الكَلَامُ مُنَاسِبٌ لِيُوحَنَّا المَعمَدانِ إِن كَانَ قَد مَرَّ بِلَحظَةِ تَساؤُلٍ، وَيُنَاسِبُ تَلَامِيذَهُ إِن كَانَ سُؤَالُهُ مُجَرَّدَ وَسِيلَةٍ لِتَبدِيدِ شَكِّهِم. وَهِيَ دَعوَةٌ إِلَى الإِيمَانِ انطِلَاقًا مِن الآيَاتِ الَّتِي يَأتِي بِهَا يَسُوعُ، إِذ يَعلَمُ الرَّبُّ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى مُعَاصِرِيهِ – حَتَّى عَلَى يُوحَنَّا – أَن يُدرِكُوهُ مَسِيحًا. فَقَد كَادَ يُوحَنَّا يَفقِدُ إِيمَانَهُ بِيَسُوعَ بَعدَمَا رَأَى مِنهُ مَا رَأَى مِن رَحمَةٍ وَحَنَانٍ، وَلَم يُشَاهِد دَينُونَةً حَاسِمَةً كَمَا تَوَقَّعَ:
"كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تُثمِرُ ثَمَرًا طَيِّبًا تُقطَعُ وَتُلقَى فِي النَّارِ" (مَتّى 3: 10). فَيُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، كَإِنْسَانٍ يَحْمِلُ ضَعْفِ الْبَشَرِ، يَمُرُّ بِلَحْظَةِ ارْتِبَاكٍ أَمَامَ أَعْمَالِ يَسُوعَ الَّتِي تَخَطَّتْ تَوَقُّعَاتِهِ التَّقْلِيدِيَّةِ لِمَجِيءِ الْمَسِيَّا الدَّيان؛ فَسُؤَالُهُ يُعَبِّرُ لَيْسَ عَنْ شَكٍّ، بَلْ عَنْ تَوْقٍ لِفَهْمِ تَدْبِيرِ اللهِ بِوُجُوهٍ أَعْمَقَ. يشرح القديس كيرلس الكبير: "الْمَسِيَّا يَظْهَرُ مُتَجَسِّدًا فِي التَّوَاضُع، لَا فِي عَظَمَةِ الدَّيَّانِ… وَمَنْ يَنْتَظِرُ الْقُوَّةَ الْمَرْئِيَّةَ يَتَعَجَّبُ مِنْ لُطْفِهِ". إِذًا المَطلُوبُ مِنَّا لَيسَ مُجرَّدَ إِقرَارٍ بِخَطَايَانَا الشَّخصِيَّةِ، بَل تَغييرُ الصُّورَةِ الَّتِي لَدَينَا عَنِ الرَّبِّ، وَتَقبُّلُهُ لَيسَ كَمَا نَنتَظِرُهُ أَن يَكُونَ، بَل كَمَا أَعلَنَهُ الكِتَابُ المُقَدَّسُ فِي حَقِيقَتِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورِيُوسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "مَاذَا يَعني بِقَولِهِ: طوبى لِمَن لا أَكُونُ لَهُ حَجَرَ عَثْرَةٍ؟ … إِنَّهُ كَمَن يَقُولُ: حَقًّا إِنِّي أَصنَعُ عَجَائِبَ، وَلَكِنِّي لَن أَمتَنِعَ عَنِ احْتِمَالِ الإِهَانَاتِ؛ فَإِنِّي إِذ أَسِيرُ فِي طَرِيقِ المَوتِ، فَلْيَتْحَدَّرِ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي بِسَبَبِ العَجَائِبِ، أَلَّا يَحتَقِرُونَنِي فِي المَوتِ!".
أَمَّا عِبارَةُ "لَا أَكُونُ لَهُ حَجَرَ عَثْرَةٍ" فِي أَصلِهَا اليُونانِيِّ σκανδαλισθῇ (فَمَعنَاهَا: يَشُكُّ)؛ وَتُشِيرُ إِلَى عَائِقٍ أَو فَخٍّ (مَزمُورُ 124: 7) وَإِلَى حَجرَةِ عَثرَةٍ تُسَبِّبُ السُّقُوطَ (أِشعَيا 8: 14-15). وَمِن ثَمَّ، فَعِندَمَا يَشُكُّ الإِنسَانُ فِي المَسيحِ بِسَبَبِ فَقرِ يَسُوعَ وَوَضْعَتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ – خِلَافَ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنهُ – يَقَعُ فِي هَاوِيَةِ الإِثمِ وَالضَّلَالِ. لِذٰلِكَ صَارَ المَسيحُ عَثرَةً لِكَثِيرِينَ كَمَا جَاءَ فِي رَسَائِلِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "هَاءَنَذا واضِعٌ فِي صِهيُونَ حَجَرًا لِلصَّدمِ وَصَخرَةً لِلعِثارِ، فَمَن آمَنَ بِهِ لَا يُخزَى" (رُومَةَ 9: 33). وَفَإِنَّنَا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصلُوبٍ – عِثارٍ لِليَهُودِ وَحَمَاقَةٍ لِلوَثَنِيِّينَ" (1 قُورِنتُس 1: 23). وَأَكثَرُ مَن عَثَرَ بِهِ هُمُ اليَهُودُ، لِأَنَّهُ لَم يَأتِ وَفْقَ انتِظَارِهِم لِلنَّجَاةِ الزَّمَنِيَّةِ وَالمَجدِ العَالَمِيِّ.
7 فلَمَّا انصرَفوا، أَخذَ يسوعُ يقولُ لِلجُموعِ في شَأنِ يُوحنَّا: ((ماذا خَرَجتُم إِلى البَرِّيَّةِ تَنظُرون؟ أَقَصَبةً تَهُزُّها الرِّيح؟
تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى البَرِّيَّةِ تَنْظُرُونَ؟" إِلَى تَذْكِيرِ الشَّعْبِ بِخُرُوجِهِمْ إِلَى البَرِّيَّةِ عِنْدَ بَحْرِ لُوطٍ (البَحْرِ المَيِّتِ)، حَيْثُ ذَهَبُوا لِيَرَوْا وَيَسْمَعُوا ذٰلِكَ النَّبِيَّ الشَّهِيرَ، يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ، الَّذِي كَانَ حِينَئِذٍ فِي سِجْنِ مَكْاوَر، لِيُجَدِّدُوا اِعْتِبَارَهُمْ لَهُ.
أَمَّا عِبَارَةُ "قَصَبَةً" فَتُشِيرُ إِلَى القَصَبِ الفَارِسِيِّ، الَّذِي يَبْلُغُ اِرْتِفَاعُهُ بَيْنَ 4.5 إِلَى 6 م، وَسَاقُهُ يَلُوحُ فِي الهَوَاءِ وَيَتَمَايَلُ. وَيُوجَدُ بِكَثَافَةٍ حَوْلَ وَادِي الأُرْدُنِّ وَعَلَى ضِفَافِ السَّوَاقِي وَالجَدَاوِلِ. وَمِنْ المَعَانِي المَجَازِيَّةِ لِلْقَصَبِ أَنَّهُ يُرْمَزُ بِهِ إِلَى الضَّعْفِ (2 ملوك 18: 21) وَإِلَى قِلَّةِ الثَّبَاتِ وَالتَّرَدُّدِ (1 ملوك 14: 15).
أَمَّا عِبَارَةُ "أَقَصَبَةً تَهُزُّهَا الرِّيحُ؟" فَتُشِيرُ إِلَى المَثَلِ بِالقَصَبَةِ الَّتِي تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ، قَصَبَةٍ سَرِيعَةِ العَطَبِ (1ملوك 14: 15)، فَالرِّيحُ تَقْوَى عَلَى تَحْرِيكِهَا دُونَ أَنْ تَكْسِرَهَا. وَلَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ، أَيْ السَّرِيعَ التَّأَثُّرِ وَالكَثِيرَ التَّقَلُّبِ، بَلْ كَانَ إِنْسَانًا لَا يَتَأَثَّرُ بِالظُّرُوفِ لِيَنْحَرِفَ عَنْ طَرِيقِهِ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا وَشَدِيدَ التَّمَسُّكِ بِمَا يَعْتَقِدُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "بِالتَّأْكِيدِ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْمُولًا بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ". فَيُوحَنَّا كَقَصَبَةٍ تَهُزُّهَا الرِّيحُ فَتَلْوِيهَا، وَلٰكِنَّهَا لَا تَكْسِرُهُ؛ فَهُوَ لَمْ يَتَرَاجَعْ حَتَّى لَمَّا وُضِعَ فِي السِّجْنِ، وَقَدْ سُجِنَ بِسَبَبِ تَمَسُّكِهِ بِالبِرِّ (لُوقَا 3: 19–20). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمْ يَكُنْ بِالقَصَبَةِ الَّتِي تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؛ لَا يُتَمَلِّقُهُ المَدِيحُ، وَلَا يُغْضِبُهُ الذَّمُّ؛ لَا يَرْفَعُهُ النَّجَاحُ، وَلَا تَطْرَحُهُ المِحْنَةُ". فَإِنَّ شَهَادَةَ يُوحَنَّا لَمْ تَتَغَيَّرْ؛ فَقَدْ شَهِدَ لِلْمَسِيحِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ، كَمَا شَهِدَ لَهُ وَهُوَ فِي البَرِّيَّةِ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ: "إِنَّ يَسُوعَ رَفَعَ شَأنَ يُوحَنَّا أَمَامَ الشَّعبِ، لِيُظهِرَ أَنَّهُ لَيسَ إِنسانًا مُرتابًا، بَل نَبِيًّا حَقًّا؛ فَلَم يَكُن سُؤَالُهُ نَابعًا مِن ضُعفٍ، بَل مِن مُنطَلَقِ تَعليمٍ". فَصَوتُ يُوحَنَّا يُهَيِّئُ، وَالكَلِمَةُ تُكَمِّلُ.
8 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثِّيابَ النَّاعِمَة؟ ها إِنَّ الَّذينَ يلبَسونَ الثِّيابَ النَّاعِمَةَ هُم في قُصورِ المُلوك.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَرَجُلًا يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّاعِمَةِ؟" إِلَى كَلَامِ يَسُوعَ أَمَامَ الجُمُوعِ عَن يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ، بِأَنَّهُ رَجُلٌ مُتَقَشِّفٌ، لَا مُتَمَلِّقٌ (لُوقَا 1: 15 و80)، إِنْسَانٌ مُتَنَسِّكٌ بَعِيدٌ كُلَّ البُعْدِ عَنِ التَّرَفِ وَالمَلَذَّاتِ الجَسَدِيَّةِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ"َ تُشِيرُ إِلَى عِيشَةِ الحَيَاةِ المُتْرَفَةِ وَالخَلَاعَةِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ عَن لِبَاسِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاس: "هَا إِنَّ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ هُم فِي قُصُورِ المُلُوكِ" (مَتَّى 11: 8). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ هِيلَارِي أُسْقُفُ بُوَاتِييه قَائِلًا: "الثِّيَابُ تَعْنِي سِرِّيًّا الجَسَدَ الَّذِي تَلْبَسُهُ النَّفْسُ، فَيَكُونُ نَاعِمًا خِلَالَ التَّرَفِ وَالخَلَاعَةِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "هُم فِي قُصُورِ المُلوكِ" فَتُشِيرُ إِلَى عِيشَةِ التَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ بِاللَّذَّاتِ، كَمَا هِيَ الحَالُ مَعَ المَلِكِ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاس. وَلَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا مِنْ حَاشِيَةِ المَلِكِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّمَلُّقِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِمَا يُسِرُّ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَهُمْ بَغْيَةَ مَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ؛ بَلْ كَانَ صَوْتَ الحَقِّ بِلَا خَوْفٍ وَلَا مَدَاهَنَةٍ.
9 بل ماذا خَرَجتُم تَرَون؟ أَنَبِيّاً؟ أَقولُ لَكم: نَعَم، بل أَفضَلُ مِن نَبِيّ.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ تَرَوْنَ؟" إِلَى السُّؤَالِ الثَّالِثِ لِلْمَسِيحِ، دَلَالَةً عَلَى تَقْدِيرِ الْجُمُوعِ الَّذِينَ أَجَابُوا عَلَى السُّؤَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ سَلْبًا؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَصَبَةً، وَلَا كَأَحَدِ أَهْلِ الْقُصُورِ، فَمَاذَا يَكُونُ؟
أَمَّا عِبَارَةُ "أَنَبِيًّا؟" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يُوحَنَّا هُوَ نَبِيٌّ، بَلْ نَبِيٌّ عَظِيمٌ هَيَّأَ طَرِيقَ الرَّبِّ؛ فَكَانَ سَابِقَ الرَّبِّ وَالْمُنَادِي أَمَامَهُ. أَمَّا أَتْبَاعُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَخْطَأُوا تُجَاهَهُ، فَمَا عَرَفُوهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ. إِنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ عَلَى عَتَبَةِ الْمَلَكُوتِ؛ فَيُوحَنَّا بَقِيَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَعَلَى مُسْتَوَى الأَنْبِيَاءِ، أَمَّا يَسُوعُ فَهُوَ الَّذِي دَشَّنَ الْمَلَكُوتَ، بَلْ هُوَ الْمَلَكُوتُ بِعَيْنِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ كَانَ الْوَحِيدَ الَّذِي تَنَبَّأَ بِهِ أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ
(مَلَاخِي 3: 1؛ أَشَعْيَا 40: 3). فَقَدْ تَنَبَّأَ مَلَاخِي بِوِلادَتِهِ (لُوقَا 1: 13)، وَاِمْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ (لُوقَا 1: 15). وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ، لِأَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ تَنَبَّؤُوا عَنْ مَجِيءِ الْمَسِيحِ، وَاشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْهُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا؛
أَمَّا يُوحَنَّا فَـنَالَ مَا طَلَبُوهُ، وَأَعَدَّ لَهُ الطَّرِيقَ مُبَاشَرَةً. وَكَانَ هُوَ الْوَاسِطَةَ لِتَعْرِيفِ الْيَهُودِ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ،
بِشَخْصِهِ مُشِيرًا بِإِصْبَعِهِ، قَائِلًا: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29). وَبِالْمُقَابِلِ مَدَحَ يَسُوعُ يُوحَنَّا، لِأَنَّهُ فَهِمَ بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا كَانَ يَجْرِي عَلَى أَيْدِي يَسُوعَ، فَعَرَفَ أَنْ يُفَسِّرَ عَلامَاتِ الزَّمَنِ، وَأَدْرَكَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ الْمُنْتَظَرُ.
10 فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه: ((هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ)).
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَهٰذَا الَّذِي كُتِبَ فِي شَأْنِهِ" إِلَى يُوحَنَّا الَّذِي كَانَ مَوْضُوعَ بَعْضِ نُبُوءَاتِ العَهْدِ القَدِيمِ (مَلَاخِي 3: 1؛ َأَشَعْيَا 40: 3).
أَمَّا عِبَارَةُ "لِيُعِدَّ الطَّرِيقَ أَمَامَكَ" فَتُشِيرُ إِلَى دَوْرِ يُوحَنَّا فِي تَهْيِئَةِ الطَّرِيقِ لِيَسُوعَ (مَلَاخِي 3: 1)، كَمَا صَرَّحَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ أَنَّهُ:"لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ جَاءَ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ" (يُوحَنَّا 1: 8). إِنَّ يُوحَنَّا بِتَوَاضُعِهِ مِثَالٌ مُشْرِقٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ حَيَاةُ كُلٍّ مِنَّا: صَوْتُ الكَلِمَةِ، شَاهِدٌ لِلنُّورِ، وَصَدِيقُ العَرِيسِ. وَلِكَيْ نَكُونَ صَوْتَ الكَلِمَةِ، يَجِبُ أَنْ نَتَمَرَّنَ عَلَى الإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِهِ؛ وَلِكَيْ نَكُونَ شُهُودًا لِلنُّورِ، يَجِبُ أَنْ نَمْلأَ عُيُونَنَا بِالتَّأَمُّلِ فِي نَبْعِ النُّورِ؛ وَلِكَيْ نَكُونَ أَصْدِقَاءَ العَرِيسِ، يَجِبُ أَنْ نُحِبَّ بِلا حِسَابٍ.
أَمَّا عِبَارَةُ "رَسُولِي" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἄγγελος (مَعْنَاها مَلَاك)، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَأْتِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِلْكِرَازَةِ. وَيَبْدُو أَنَّ نَبِيَّ مَلَاخِي يَذْكُرُ مَلَاكَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَلَاكُ العَهْدِ، سَيِّدُ هَيْكَلِهِ،
وَالآخَرُ سَابِقُهُ، وَهُمَا الْمَسِيحُ وَيُوحَنَّا، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ مَلَاخِي: "هَاءَنَذَا مُرْسِلٌ رَسُولِي فَيُعِدُّ الطَّرِيقَ أَمَامِي، وَيَأْتِي فَجْأَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَلْتَمِسُونَهُ، وَمَلَاكُ العَهْدِ الَّذِي تَرْتَضُونَ بِهِ. هَا إِنَّهُ آتٍ، قَالَ رَبُّ القُوَّاتِ" (مَلَاخِي 3: 1). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ قَائِلًا: "لَقَد دَعَاهُ مَلَاكًا لِأَنَّهُ سَبَقَ المَلِكَ وَأَعلَنَ حُضُورَهُ؛ فَكَمَا يُمَهِّدُ الخَادِمُ الأَمِينُ الطَّرِيقَ لِلمَلِكِ، كَذٰلِكَ كَانَ يُوحَنَّا أَمَامَ المَسيحِ".
أَمَّا عِبَارَةُ "لِيُعِدَّ" فَتُشِيرُ إِلَى تَنْبِيهِ النَّاسِ بِمَجِيءِ المَسِيحِ وَإِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ تَعْلِيمِهِ بِوَاسِطَةِ التَّوْبَةِ وَالِانْتِظَارِ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ أَغنَاطِيُوسُ الأَنطَاكِيُّ: "إِنَّ كُلَّ خَادِمٍ فِي الكَنِيسَةِ مَدعُوٌّ أَن يَكُونَ مِثلَ يُوحَنَّا المَعمَدانِ — يُمَهِّدَ لِلمَسيحِ وَلَيسَ لِنَفسِهِ، وَيُشِيرَ إِلَى المَسيحِ لا إِلَى ذَاتِهِ، وَيَختَفِيَ لِكَي يَظهَرَ المَلِكُ".
11 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان، ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ" إِلَى تَأْكِيدٍ لِمَا سَيَأتِي مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
أَمَّا عِبَارَةُ "أَوْلَادِ النِّسَاءِ" فَتُشِيرُ إِلَى الجِنْسِ البَشَرِيِّ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ (أَيُّوب 14: 1؛ 15: 14؛ مَزْمُور 25: 1).
أَمَّا عِبَارَةُ "لَمْ يَظْهَرْ فِي أَوْلَادِ النِّسَاءِ أَكْبَرُ مِنْ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ" فَتُشِيرُ إِلَى نَظْرَةِ يَسُوعَ بِإِعْجَابٍ إِلَى يُوحَنَّا، بِوَصْفِهِ آخِرَ الأَنْبِيَاءِ وَأَعْظَمَهُمْ. فَإِنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ تَنَبَّؤُوا عَنِ المَسِيحِ وَلَمْ يَرَوْهُ، أَمَّا يُوحَنَّا فَانْفَرَدَ بِشَرَفِ اخْتِيَارِ اللهِ لَهُ لِيَنَالَ مَا طَلَبَهُ الأَنْبِيَاءُ؛ إِذْ رَأَى الرَّبَّ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِإِصْبَعِهِ قَائِلًا: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29)، وَعَمَّدَهُ وَشَهِدَ لَهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ أَدْرَكَ سِرَّ الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ يَوْمَ عِمَادِ الرَّبِّ يَسُوعَ. بِهٰذَا قَدَّمَ يُوحَنَّا شَهَادَةً صَادِقَةً عَنِ المَسِيحِ؛ وَلَمْ تَكُنْ أَفْضَلِيَّتُهُ عَلَى رُؤَسَاءِ الآبَاءِ وَالكَهَنَةِ وَالمُلُوكِ فِي سَجَايَاهُ، بَلْ فِي كَوْنِهِ سَابِقَ المَسِيحِ فِي الوَظِيفَةِ وَأَقْرَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ. فَعَظَمَةُ الإِنْسَانِ تَزِيدُ بِقُرْبِهِ مِنَ المَسِيحِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ ايرونيموس قَائِلًا: "المَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ أَنَّ يُوحَنَّا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ البَشَرِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ، فَهُوَ مَلَاكٌ" (مَتَّى 11: 10).
أَمَّا عِبَارَةُ "الأَصْغَرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَكْبَرُ مِنْهُ" فَتُشِيرُ إِلَى سُمُوِّ العَهْدِ الجَدِيدِ عَلَى العَهْدِ القَدِيمِ الَّذِي يُمَثِّلُهُ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ. وَتُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: أَضْعَفُ مُؤْمِنٍ لَهُ نُورُ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ هُوَ فِي مَرْكَزٍ أَكْثَرَ امْتِيَازًا مِمَّا كَانَ يُوحَنَّا؛ أَوْ أَنَّ المَوْلُودَ مِنَ اللهِ بِالمَعْمُودِيَّةِ وَالَّذِي يَحْيَا حَيَاةَ التَّوْبَةِ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ المَعْمَدَانِ. فَيُوحَنَّا كَانَ لَهُ كُلُّ بَرِّ النَّامُوسِ، وَلَكِنَّ أَوْلَادَ اللهِ بِالمَعْمُودِيَّةِ – خُصُوصًا المُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ تَبَرَّرُوا بِدَمِ المَسِيحِ – هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ. فَيُوحَنَّا بَشَّرَ بِقُرْبِ المَلَكُوتِ، بِمَعْمُودِيَّةِ مَاءٍ لِلتَّوْبَةِ فَقَطْ، أَمَّا أَصْغَرُ الْمَسِيحِيِّينَ شَأْنًا فَيُولَدُ وِلادَةً ثَانِيَةً مِنْ فَوْقِ: "إِنْ لَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنَ المَاءِ وَالرُّوحِ، لَا يَقْدِرْ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ" (يُوحَنَّا 3: 5). فَيَدْخُلُ المَلَكُوتَ؛ فَفِي المَعْمُودِيَّةِ يَسْكُنُ اللهُ قُلُوبَنَا، وَقَدْ جَعَلَنَا بِالتَّبَنِّي أَبْنَاءَهُ، وَفِي مَسْحَةِ الزَّيْتِ المُقَدَّسِ يُمْسَحُنَا مُلُوكًا وَأَنْبِيَاءَ وَكَهَنَةً، وَفِي القُرْبَانِ الأَقْدَسِ يُقَدِّسُ جَسَدُ المَسِيحِ أَجْسَادَنَا وَيَرْفَعُ نُفُوسَنَا وَيُقِيمُ فِينَا وَبَيْنَنَا (يُوحَنَّا 1: 14). وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ الآيَةِ أَيْضًا بِأَنَّ يُوحَنَّا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ الجَمِيعِ فِي هٰذِهِ الحَيَاةِ، لِأَنَّهُ اِسْتَحَقَّ أَنْ يُعَمِّدَ المَسِيحَ وَشَهِدَ لِلْحَقِّ حَتَّى المَوْتِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس قَائِلًا: "مَنْ كَانَ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ – أَيْ مَلَاكًا – فَهُوَ أَعْظَمُ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ البَشَرِ عَلَى الأَرْضِ. وَأَمَّا الأَصْغَرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَكْبَرُ مِنْهُ" فَيُوَضِّحُهُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "إِنَّ يُوحَنَّا مِثْلُهُ مِثْلُ الآخَرِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُ، تُنْسَبُ وِلَادَتُهُ إِلَى امْرَأَةٍ، أَمَّا الَّذِينَ قَبِلُوا الإِيمَانَ بِالْمَسِيحِ فَلَيْسُوا أَبْنَاءَ نِسَاءٍ، بَلْ أَبْنَاءَ اللهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ: "أَمَّا الَّذِينَ قَبِلُوهُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ، فَقَدْ مَكَّنَهُمْ أَنْ يَصِيرُوا أَبْنَاءَ اللهِ" (يُوحَنَّا 1: 12)". فَلَيْسَ هُنَاكَ مُقَارَنَةٌ بِمَجْدِ الحَيَاةِ الآتِيَةِ. وَبَعْدَ أَنْ فَتَحَ السَّيِّدُ المَسِيحُ الفِرْدَوْسَ لِلْبَشَرِ، وَدَخَلَ الآبَاءُ وَأَبْرَارُ العَهْدِ القَدِيمِ وَالعَهْدِ الجَدِيدِ، كَانَ هُنَاكَ كَلَامٌ آخَرُ. فَالكَنِيسَةُ المُقَدَّسَةُ تَضَعُ تَرْتِيبَ السَّمَاوِيِّينَ هٰكَذَا: مَرْيَمُ العَذْرَاءُ أَوَّلًا، ثُمَّ المَلَائِكَةُ، ثُمَّ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ القِدِّيسُونَ وَالأَبْرَارُ. أَيْ أَنَّ يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ تَضَعُهُ الكَنِيسَةُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي السَّمَاءِ مِنَ البَشَرِ، مَا عَدَا القَدِّيسَةَ العَذْرَاءَ مَرْيَمَ، الَّتِي حَمَلَتِ يَسُوعَ فِي بَطْنِهَا. وَيُضِيفُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ: "لَقَد مَدَحَ المَسيحُ يُوحَنَّا لِئَلَّا يَتعَثَّرَ أَحَدٌ مِن سُؤَالِهِ، ثُمَّ رَفَعَ شَأنَ نِعمَةِ الإِنجِيلِ لِئَلَّا يَتَوَقَّفَ أَحَدٌ عِندَ يُوحَنَّا، بَل يَتَجَاوَزَ إِلَى المَسيحِ". إِنَّ يُوحَنَّا مُعَظَّمٌ لِأَنَّهُ خَتَمَ النُّبُوَّةَ القَدِيمَةَ، وَهُوَ قِمَّتُهَا وَشَاهِدُهَا الأَخِيرُ. وَلَكِنَّ المَسِيحِيَّةَ لَيسَتْ مُجرَّدَ امتِدَادٍ لِيُوحَنَّا، بَل هِيَ انتِقَالٌ مِن إِعلَانٍ عَنِ اللهِ إِلَى شَرِكَةٍ مَعَ اللهِ. فَالأَصغَرُ فِي المَلَكُوتِ هُوَ إِنسَانٌ مُشتَرِكٌ فِي سِرِّ المَسيحِ بَعدَ الفِدَاءِ؛ فَالاختِلَافُ لَيسَ فِي القَدَاسَةِ الشَّخصِيَّةِ، بَل فِي طَبِيعَةِ النِّعمَةِ المُعطَاةِ.
ثانيًا: تطبيقاتُ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ (مَتّى 3: 1–12)
بَعدَ دِراسَةٍ مُوجَزَةٍ لِوَقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ وَتَحليلِهِ (مَتّى 3: 1–12)، نَستَنتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَولَ المَسيحِ المُنتَظَرِ. وَمِن هُنا نَطرَحُ سُؤالَينِ: ما هُوَ مَفهومُ المَسيحِ المُنتَظَرِ؟ وَما هِيَ رُؤيَةُ يُوحَنّا المَعمَدانِ وَرُؤيَةُ يَسُوعَ لِهذا المَفهومِ؟
1. ما هُوَ مَفهومُ المَسيحِ المُنتَظَرِ؟
إِنَّ لَفظَةَ "مَسيح" مُنقُولَةٌ عَنِ اللُّغَتَينِ العِبرِيَّةِ وَالآرامِيَّةِ הַמָּשִׁיחַ، وَأَمَّا اللَّفظَةُ اليُونانِيَّةُ فَهِيَ Χριστός، وَكِلتاهُما تَعنِيانِ: المَمْسُوحُ بِالزَّيتِ. وَقَد أَصبَحَت هٰذِهِ التَّسمِيَةُ فِي زَمَنِ الرُّسُلِ اسمَ العَلَمِ لِيَسُوعَ المَسيحِ.
غَيرَ أَنَّ استِعمالَ لَفظَةِ "المَسيح" فِي العَهدِ القَدِيمِ وَفِي اليَهُودِيَّةِ لَا يَحمِلُ غِنى المَعنى الَّذِي كَشَفَهُ العَهدُ الجَدِيدُ.
فِي العَهدِ القَدِيمِ، ارْتَبَطَ اسمُ "المَسيح" بِالمَلِكِ الدَّيَّانِ (1 مُلوك 1: 39)، وَأَخَذَ النَّاسُ يَفهَمُونَهُ فَهمًا مُتَطَرِّفًا يُبرِزُ الجانِبَ السِّياسِيَّ مِن دَورِهِ. لِذٰلِكَ دُهِشَ النَّاسُ بِقَداسَةِ يَسُوعَ وَسُلطانِهِ وَقُدرَتِهِ، وَأَخَذُوا يَتَسَاءَلُونَ قَائِلِينَ:
"أَتُراهُ المَسيح؟" (يُوحَنّا 4: 29)، وَما يُفِيدُ المَعنى نَفسَهُ: "أَتُرى هٰذا ابْنَ داوُد؟ (مَتّى 12: 23). وَأَلَحُّوا طَالِبِينَ أَن يَكشِفَ هُوَ صَراحَةً عَن نَفسِهِ: "حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ فِي نُفُوسِنَا؟ إِن كُنتَ المَسيحَ، فَقُلهُ لَنَا صَراحَةً" (يوحَنّا 10: 24).
مِن جِهَةٍ، اتَّفَقَتِ السُّلُطاتُ اليَهُودِيَّةُ عَلَى طَردِ مَن يَعترِفُ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسيحُ: "لَقَدِ اتَّفَقَ اليَهودُ عَلَى أَن يُفصَلَ مِنَ المَجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّهُ المَسيحُ" (يُوحَنّا 9: 22). وَمِن جِهَةٍ أُخرى، كانَ الَّذِين يَلتَجِئُونَ إِلَى سُلطانِهِ الإِعجازِيِّ يُعلِنُونَ إيمَانَهُم بِهِ، كَمَا فَعَلَ الأَعمَيَانِ وَهُما يَصرُخانِ: "رُحماكَ يا ابْنَ داوُد!" (مَتّى 9: 27).
وَقَدِ اعترَفَ كَثِيرُونَ صَراحَةً بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسيحُ. أَولُهُم تَلَامِيذُهُ: "وَجَدْنَا المَشيح بِاليُونانِيَّةِ Μεσσίας وَبِالعِبرِيَّةِ הַמָּשִׁיחַ — أَي المَسيح (يُوحَنّا 1: 41). ثُمَّ مَرتا أُختُ لَعازَر، فِي سِيَاقِ إِعلانِ يَسُوعَ أَنَّهُ القِيَامَةُ وَالحَيَاةُ، فَقَالَت: "نَعَم، يا رَبُّ، إِنِّي أُؤمِنُ بِأَنَّكَ المَسيحُ، ابنُ اللهِ الآتِي إِلَى العَالَم" (يُوحَنّا 11: 27). كَذٰلِكَ أَضفَى إِعلانُ بُطرُسَ الرَّسُولِ طَابعًا رَسمِيًّا عَلَى فِعلِ إِيمَانِهِ عِندَ سُؤالِ المَسيحِ لَهُ وَإِجابَتِهِ: "أَنتَ المَسيحُ" (مَرقُس 8: 29).
إِلَّا أَنَّ هٰذَا الإِيمَانَ — عَلَى رُغمِ أَصالَتِهِ — كانَ مُعَرَّضًا لِلِالتِباسِ، مُهدَّدًا أَن يُفهَمَ فِي إِطارِ مَلكٍ زَمَنِيٍّ، كَمَا حَدَثَ فِي مُعجِزَةِ الخُبزِ وَالسَّمكَتَينِ: "عَلِمَ يَسُوعُ أَنَّهُم يَهُمُّونَ بِاخْتِطافِهِ لِيُقِيمُوهُ مَلِكًا، فَانصَرَفَ وَعَادَ وَحدَهُ إِلَى الجَبَلِ" (يُوحَنّا 6: 15).
أَمَّا مفهومُ الاِنتِظارِ فَهُوَ أَنَّ مَجِيءَ اللهِ وَتَجَسُّدَهُ كَانَ ثَمَرَةَ انتِظارٍ طَوِيلٍ، ابتَدَأَ مَعَ إِبرَاهِيمَ وَانتهَى فِي مَريَمَ العَذراءِ. وَفِي زَمَنِ مَجِيءِ يَسُوعَ، كانَ النَّاسُ فِي شِدَّةِ الانتِظارِ وَهُم يُصَلُّون. وَلٰكِن لَمَّا جاءَ فِي مِلءِ الزَّمَنِ، لَم يَعرِفهُ أَحَدٌ إِلَّا قِلَّةٌ مِنَ الرُّعاةِ الفُقَراءِ، لِأَنَّ النَّاسَ كانُوا يَتَوَقَّعُونَ شَيئًا آخَرَ.
2. مَن هُوَ المَسيحُ المُنتَظَرُ فِي رُؤيَةِ يُوحَنَّا المَعمَدان؟
كانَ يُوحَنَّا يَعلَمُ أَنَّهُ "صَوتٌ صارِخٌ" كَمَا وَرَدَ فِي نُبُوءَةِ أشعيا، فَنادَى بِالرَّبِّ الآتِي بِقُوَّةٍ (أشعيا 40: 10)، َبِالدَّيَّانِ الَّذِي يَأتِي كَالنَّارِ لِيُطَهِّرَ كُلَّ شَيءٍ (مَلاخِي 3: 1–3). وَلٰكِن مَا بَلَغَ يُوحَنَّا فِي سِجنِهِ عَنْ يَسُوعَ كانَ مُخَالِفًا كُلَّ الاِختِلَافِ. كانَ يُوحَنَّا يَنتَظِرُ مِن يَسُوعَ ذٰلِكَ الدَّيَّانَ وَمُنَقِّي إِسرَائِيل، الَّذِي يَقطَعُ كُلَّ شَجَرَةٍ لَا تُثمِرُ، وَيُحَرِّقُ القَشَّ، وَيُدمِّرُ الخاطِئَ، وَيَضعُ حَدًّا لِكُلِّ مُتَهَاوِنٍ، وَيُعَاقِبُ الأَشرَارَ وَيُكَافِئُ الأَبرَارَ. فَبَشَّرَ يُوحَنَّا بِمَسِيحٍ صَارمٍ، حَازِمٍ، قَاضٍ لِلفَسَادِ، وَمُحافِظٍ عَلَى الشَّريعَةِ. وَلٰكِنَّ يَسُوعَ لَم يَتَطَابَق مَعَ رُؤيَةِ يُوحَنَّا المَعمَدان. فَلَم يَكُن المَسيحَ الَّذِي يَقلَعُ الشَّرَّ مِن جُذُورِهِ، أَو يَحمِلُ عَلَى الثَّورَةِ السِّياسِيَّةِ، بَل أظهَرَ حَنَانَهُ وَصَبرَهُ وَرَحمَتَهُ بَدَلَ الغَضَبِ وَالحُكمِ وَالعِقَابِ. فَهُوَ القائِلُ: "فَإِنِّي ما جِئتُ لِأَدعُوَ الأَبرارَ، بَلِ الخاطِئِينَ" (مَتّى 9: 13). جَاءَ طَبِيبًا لِلبُرصِ (لوقا 17: 11–19)، وَحَلَّ ضَيفًا عِندَ العَشَّارِينَ وَالخَاطِئِينَ (لوقا 19: 1–10)، لَمَسَ المَمسُوسِينَ (مَتّى 8: 28–34)، وَشَفَى الوَثَنِيِّينَ (يُوحَنَّا 4: 37–43)، وَعَطَفَ عَلَى الغُرَبَاءِ (مَتّى 8: 5–11). لِذٰلِكَ لَم يَكُن يَسُوعُ مُطابِقًا لِتَصَوُّرَاتِ المَعمَدان.
ومن هُنَا يَنْبَعُ اندِهاشُ يُوحَنَّا: أَيْنَ وَجْهُ الدَّيْنُونَةِ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ؟ أَيْنَ الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ؟ أَيْنَ نَارُ الدَّيْنُونَةِ وَالمِذْرَى فِي يَدِ المَسِيَّا؟ يُعْلِنُ يُوحَنَّا مَسِيحًا يَأتِي بِمِقْياسِ العَدْلِ الإِلَهِيِّ الصَّارِم، أَمَّا يَسُوعُ فَيَكْشِفُ وُجْهَ المَسِيَّا الَّذِي يَبْدَأُ بِالرَّحْمَةِ قَبْلَ القَضَاءِ، وَبِالشِّفَاءِ قَبْلَ الفَيْصَلِ، وَبِالمَغْفِرَةِ قَبْلَ الانتِقَامِ. مِنْ هُنَا تَنْتُجُ حَيْرَةُ يُوحَنَّا: أَلِهَذَا المَسِيَّا يُبدَأُ الخَلاصُ؟ أَمْ هَل نَنْتَظِرُ ذَاكَ الذِي يُمْسِكُ مِذْرَاةَ الحُكمِ النِّهَائِيِّ؟ وهكَذَا يَتَحَوَّلُ سُؤالُ يُوحَنَّا إلَى لُبِّ اللاهُوتِ المَسيحانِيّ: أَيَأتي المَسِيَّا كَعَدْلٍ دَاخِلِيٍّ يُشْفِي، أَمْ كَدَيَّانٍ صَارِمٍ يَقْتُلُ ويُهلِك؟ جَوابُ يَسُوعَ يَكْشِفُ الطَّريقَ: الدَّيْنُونَةُ سَتَأتي، وَلَكِنَّهَا تُولَدُ أوَّلًا مِن الرَّحمةِ والْمَغْفِرَةِ. المُخَلِّصُ يَدْخُلُ أوَّلًا كَحَمَلٍ، ثُمَّ يَعودُ كَأَسَدٍ.
وَمِمَّا سَبَقَ نَستَنتِجُ أَنَّ يَسُوعَ تَصَرَّفَ عَكسَ مَا تَصَوَّرَهُ يُوحَنَّا؛ فَهُوَ جَاءَ مِن أَجلِ المَرضَى وَالخَاطِئِينَ:
"لِأَنَّ ابْنَ الإِنسَانِ جَاءَ لِيَبحَثَ عَنِ الهَالِكِ فَيُخَلِّصَهُ" (لوقا 19: 10). وَأَعلَنَ يَسُوعُ سَنَةً مَرضِيَّةً (لوقا 4: 19)، بَينَمَا أَعلَنَ يُوحَنَّا أَنَّ المَسيحَ المُنتَظَرَ يَأتِي لِيُعَمِّدَ بِالرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ، وَرَآهُ إِلَهًا مُتَواضِعًا يَقتَرِبُ، مُتَضامِنًا مَعَ الفُقَرَاءِ، حَتَّى طَلبَ أَن يَعتَمِدَ مِن يُوحَنَّا بِماءِ مَعمُودِيَّتِهِ. فَكانَ عَلَى يُوحَنَّا أَن يَتَعَلَّمَ أَنَّ يَسُوعَ أَتَى لِيُعلِنَ عَنِ إِلَهٍ تَوَاضُعُهُ بِلا حُدُودٍ؛ إِلَهٍ، مَعَ أَنَّهُ بِلا خَطِيئَةٍ، جَعَلَ نَفسَهُ خَطِيئَةً لأَجلِنَا: "إِذ لَم يَعُدَّ مُسَاوَاتَهُ للهِ غَنِيمَةً، بَل تَجَرَّدَ مِن ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبدِ، صَائِرًا عَلَى مِثالِ البَشَرِ" (فيلِبِّي 2: 6–7). وَهُوَ يَعِدُ بِالفَرَحِ الَّذِينَ يَكتَشِفُونَ الكَنزَ:
"مَثَلُ مَلَكُوتِ السَّمَواتِ كَمَثَلِ كَنزٍ مَدفُونٍ فِي حَقلٍ، وَجدَهُ رَجُلٌ، فَمَضَى لِشِدَّةِ فَرَحِهِ فَبَاعَ جَمِيعَ مَا يَملِكُ وَاشتَرَى ذٰلِكَ الحَقلَ"(مَتّى 13: 44–45). وَطُوبَى لِلَّذِينَ يَعيشُونَ تِلكَ السَّاعَةَ!
تَعَجَّبَ يُوحَنَّا — بِالرُّغمِ مِن كُلِّ ذٰلِكَ — حِينَ رَأَى يَسُوعَ يَهتَمُّ بِالخَاطِئِينَ، وَلَا يَقطَعُهُم كَمَا تَقطَعُ الفَأسُ الشَّجرَةَ (مَتّى 3: 7–12). فَتَسَاءَلَ وَهُوَ بَينَ جُدرَانِ سِجنِهِ: مَتَى سَتَأتِي اللَّحظَةُ الَّتِي يُظهِرُ فِيهَا المَسيحُ كَامِلَ قُدرَتِهِ؟
لِمَاذَا لَم يَأتِ حَتَّى الآنَ لِيُخَلِّصَهُ مِن هٰذَا السِّجنِ الرَّهِيبِ؟ فَتَحَيَّرَ يُوحَنَّا، وَحَمَلَ عَلَى طَرحِ هٰذا السُّؤَالِ:
"أَأَنتَ الآتي، أَم آخَرَ نَنتَظِر؟". فَيَسُوعُ آيَةٌ يَتَعَثَّرُ بِهَا كَثِيرُونَ؛ وَقَد أَنبَأَ سِمعَانُ بِذٰلِكَ عِندَمَا حَمَلَ الطِّفلَ يَسُوعَ عَلَى ذِرَاعَيهِ: "هَا إِنَّهُ جُعِلَ لِسُقُوطِ كَثِيرِينَ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسرَائِيلَ، وَآيَةً مُعَرَّضَةً لِلرَّفضِ"(لوقا 2: 34).
وَحِينَ أَعلَنَ يُوحَنَّا عَن يَسُوعَ أَنَّهُ "حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنّا 1: 29)، لَم يَكُن يَدرِي كَيفَ سَيُرفَعُ، وَلَا كَانَ يُدركُ سَبَبَ رَغبَةِ المَسيحِ فِي الِاعْتِمادِ مِنهُ (مَتّى 3: 13–15). وَلِكَي يَرفَعَ يَسُوعُ الخَطِيئَةَ، كانَ عَلَيهِ أَن يَقبَلَ مَعمُودِيَّةً أُخرَى؛ وَلَم تَكُن مَعمُودِيَّةُ يُوحَنَّا إِلَّا مِثالًا لَهَا، وَهِيَ مَعمُودِيَّةُ الآلَامِ وَالمَوتِ عَلَى الصَّلِيبِ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ لِتِلمِيذَيهِ يَعقُوبَ وَيُوحَنَّا: "أَتَستَطِيعَانِ أَن تَشرَبَا الكَأسَ الَّتِي أَشرَبُهَا، أَو تَقبَلَا المَعمُودِيَّةَ الَّتِي سَأَقبَلُهَا؟" (مَرقُس 10: 38). وَهٰكَذَا يَتِمُّ يَسُوعُ كُلَّ بِرٍّ (مَتّى 3: 15)، لَا بِإِهلَاكِ الخاطِئِينَ، بَل بِتَبرِيرِ الجُمُوعِ الَّذِينَ حَمَلَ خَطَايَاهُم عَلَى الصَّلِيبِ: "كَنَعجَةٍ صَامِتَةٍ أَمامَ الَّذِينَ يَجزُّونَهَا، وَلَم يَفتَح فَاهُ" (أشعَيا 53: 7). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الصَّليِبِ قَائِلًا: "إِنَّ النَّفسَ الَّتِي تَرغَبُ فِي الحِكمَةِ الإِلَهِيَّةِ، تَختارُ الدُّخُولَ فِي قَلبِ الصَّلِيبِ، فَالصَّلِيبُ هُوَ البَابُ الَّذِي بِهِ يُمكِنُ الدُّخُولُ إِلَى كُنُوزِ هٰذِهِ الحِكمَةِ",
3. مَن هُوَ المَسِيحُ المُنتَظَرُ فِي رُؤيَةِ يَسُوع؟
يُوضِّحُ يَسُوعُ مَفهومَ لَقَبِ "المَسِيحِ المُنتَظَرِ" لِيُوحَنَّا المَعمَدانَ، إِذ يَصِفُهُ مِن خِلَالِ أَعمالِهِ:"العُميانُ يُبصِرونَ، والعُرجُ يَمشُونَ مَشْيًا سَوِيًّا، والبُرصُ يَبرَؤونَ، والصُّمُّ يَسمَعونَ، والمَوتى يَقومونَ، والفُقرَاءُ يُبَشَّرون"(مَتّى 11: 5). فَبِهٰذَا القَولِ يُعلِنُ يَسُوعُ تَحقيقَ نُبُوءَةِ إِشعَيا (إِشعَيا 29: 18–19؛ 35: 5–6؛ 61: 1)، وَيُلمِّحُ لِيُوحَنَّا إِلَى أَنَّهُ هُوَ حَقًّا المَسِيحُ المُنتَظَرُ الَّذِي تَنَبَّأَ عَنهُ الأَنبيَاءُ بِهٰذِهِ الأَعمَالِ العَجِيبَةِ، كَمَا يَرْوِي الإِنجِيلُ حَسَبَ لوقا: "فِي تِلكَ السَّاعَةِ شَفَى أُنَاسًا كَثِيرِينَ مِنَ الأَمراضِ وَالعِلَلِ وَالأَرواحِ الخَبِيثَةِ، وَوَهَبَ البَصَرَ لِكَثِيرٍ مِنَ العُميان. ثُمَّ أَجَابَهُم: اِذهَبَا فَاَخبِرا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيتُمَا وَسَمِعتُمَا: العُميانُ يُبصِرونَ، العُرجُ يَمشُونَ مَشْيًا سَوِيًّا، البُرصُ يَبرَؤونَ، الصُّمُّ يَسمَعونَ، المَوتى يَقومونَ، الفُقرَاءُ يُبَشَّرونَ" (لوقا 7: 21–22).
هٰذِهِ البِشارَةُ، فِي نَظَرِ يَسُوعَ، مُرتَبِطَةٌ بِالأَزمِنَةِ الأَخِيرَةِ؛ فَقَد رَدَّ عَلَى سُؤَالِ يُوحَنَّا بِـ عَلامَاتِ المَلَكُوتِ، وَأَعَادَ التَّلامِيذَ إِلَى يُوحَنَّا بِكَلِمَاتِ إِشعَيا النَّبِيِّ. وَقَد قَدَّمَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِ يُوحَنَّا صُورَةً حَيَّةً مِن خِلَالِ السَّمْعِ وَالرُّؤيَةِ، إِذ قَالَ لَهُم: "اِذهَبَا فَاَخبِرا يُوحَنَّا بِمَا تَسمَعانِ وَتَنظُرانِ" (مَتّى 11: 4). فَقَد سَمِعُوا كَلِمَاتِ مَحبَّتِهِ الإِلَهِيَّةِ الفَائِقَةِ نَحوَ البَشَرِيَّةِ، وَرَأَوا أَعمالَهُ الخَلَاصِيَّةَ، ثُمَّ حَذَّرَهُم مِنَ التَّعثُّرِ فِيهِ، لأَنَّهُ، عِندَمَا يَدخُلُ فِي الآلَامِ وَيَجتَازُ الصَّلِيبَ، يَتَعَثَّرُ فِيهِ كُلُّ مَن لَا يَدخُلُ إِلَى أَسرَارِهِ العَمِيقَةِ.
هٰذَا التَّحذِيرُ لَيسَ مُوَجَّهًا لِلقِدِّيسِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، فَقَد سَبَقَ لَهُ أَن أَعلَنَ نَفسَهُ عَن سِرِّ الصَّلِيبِ حِينَ قَالَ:
"هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ"(يُوحَنَّا 1: 29). فَبِدَعوَتِهِ يَسُوعَ "حَمَلَ اللهِ" يُعلِنُ الصَّلِيبَ، الَّذِي بِهِ يَحمِلُ خَطِيئَةَ العَالَمِ. إِذًا فَالحَدِيثُ مُوَجَّهٌ لِتَلَامِيذِ يُوحَنَّا، لِئَلَّا يَتَعَثَّرُوا فِي صَلِيبِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ هِيلارِي أُسقُفُ بُواتييه قَائِلًا:"يُرسِلُ يُوحَنَّا تَلَامِيذَ إِلَى المَسيحِ لِيَنظُرُوا أَعمالَهُ، فَتَثبُتَ تَعَالِيمُ المَسيحِ فِيهم، فَلَا يَكرِزُوا إِلَّا بِهِ، غَيرَ مُلتَفِتِينَ إِلَى مَسيحٍ آخَرَ". وَتُذَكِّرُ أَعمالُ يَسُوعَ أَيضًا بِتَنَبُّؤَاتِ إِشعَيا (إ 26: 19؛ 35: 5–6؛ 61: 1)، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُم: "قَد تَحَقَّقَت فِيَّ النُّبُوءَاتُ. فَهٰذِهِ الأَعمَالُ، فِي نَظَرِ مَن يَعرِفُ الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَسُوعَ هُوَ حَقًّا المَسيحُ المُنتَظَرُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَوغُسطِينُوسُ قَائِلًا: "أَمَّا قَولُ المَسيحِ فَكَانَ لِأَجلِ تَعلِيمِهِم أَيضًا: "العُميانُ يُبصِرونَ"... كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُم: قَد رَأَيتُمُونِي، فَلتَعرِفُونِي! قَد رَأَيتُم أَعمالِي، فَلتَعرِفُوا صَانِعَهَا… وَطُوبَى لِمَن لَا يَتعَثَّرُ فِيَّ، وَهٰذَا أَقُولُهُ لِأَجلِكُم لَا لِأَجلِ يُوحَنَّا".
إِذًا، صِفَاتُ المَسيحِ المُنتَظَرِ فِي رُؤيَةِ يَسُوعَ لَيسَت صِفَاتِ دَيَّانٍ فَحَسْب، بَل هُوَ أَيضًا المُخَلِّصُ الرَّحِيمُ، حَمَلُ اللهِ، ابْنُ الإِنسَانِ، الَّذِي يَدعُو الخَاطِئِينَ إِلَى التَّوبَةِ: "لِأَنَّ ابْنَ الإِنسَانِ جَاءَ لِيَبحَثَ عَنِ الهَالِكِ فَيُخَلِّصَهُ" (لوقا 19: 10)، وَيَدعُو المُتعَبِينَ إِلَى الرَّاحَةِ: "تَعالَوا إِلَيَّ جَمِيعًا أَيُّهَا المُرهَقُونَ المُثقَلُونَ، وَأَنَا أُرِيحُكُم. اِحمِلُوا نِيرِي وَتَتَلمَذُوا لِي، فَإِنِّي وَدِيعٌ مُتَواضِعُ القَلبِ، فَتَجِدُوا الرَّاحَةَ لِنفُوسِكُم" (مَتّى 11: 28–29)، وَيُقَدِّمُ حَيَاتَهُ ذَبِيحَةً مِن أَجلِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ: "هكَذَا ابْنُ الإِنسَانِ لَم يَأتِ لِيُخدَمَ، بَل لِيَخدُمَ وَيَفدِيَ بِنَفسِهِ جَمَاعَةَ النَّاسِ" (مَتّى 20: 28).
وَهُنَا يُصَرِّحُ بُولُسُ الرَّسُولُ هٰذِهِ الحَقِيقَةَ عَينَهَا: "إِنَّ المَسيحَ مَاتَ مِن أَجلِ خَطَايَانَا كَمَا وَرَدَ فِي الكُتُبِ"(1 قُورِنتُس 15: 3). وَلٰكِن بَعدَ قِيَامَتِهِ فَقَطِ، اِستَطَاعَ التَّلَامِيذُ أَن يَفهَمُوا مَا يَنطَوِي عَلَيهِ هٰذَا اللَّقَبُ؛ لِذٰلِكَ قَالَ لَهُم:
"أَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى المَسيحِ أَن يُعَانِيَ تِلكَ الآلَامِ فَيَدخُلَ فِي مَجدِهِ؟" (لوقا 24: 26). فَلَم يَعُد فِي الأَمرِ مَجَالٌ لِمَجدٍ زَمَنِيٍّ، بَل الأَمرُ مُختَلِفٌ تَمامًا؛ فَبِحَسَبِ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ يَنبَغِي:"أَن يَتَأَلَّمَ المَسيحُ وَيَقُومَ مِن بَينِ الأَمواتِ فِي اليَومِ الثَّالِث، وَتُعلَنَ بِاسمِهِ التَّوبَةُ وَغُفرَانُ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (لوقا 24: 46–47). هٰكَذَا يَرتَسِمُ أَمَامَنَا فِي رُؤيَةِ يَسُوعَ: المَسيحُ المُنتَظَرُ هُوَ المَسيحُ المَصلُوبُ القَائِمُ، الدَّيَّانُ وَالمُخَلِّصُ، فِي آنٍ مَعًا.
وَعَلَى ضَوءِ القِيَامَةِ، تُنسِبُ الكَنِيسَةُ إِلَى يَسُوعَ لَقَبَ הַמָּשִׁיחַ، "المَسيحِ". فَالقِيَامَةُ نَصَبَتهُ فِي مَجدِهِ المَلَكِيِّ؛ فَـالآنَ، إِذ نَالَ يَسُوعُ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِهِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 33)، “قَد جَعَلَهُ اللهُ رَبًّا وَمَسِيحًا" (َأعمالُ الرُّسُلِ 2: 36). وَلَم تَتَرَدَّدِ الكَنِيسَةُ الأُولَى فِي الِاعتِرَافِ بِيَسُوعَ بِأَرفَعِ الأَلقَابِ: «رَبًّا وَمَسِيحًا" (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 36)، “المَسيحُ الرَّبُّ" (لوقا 2: 11)، "رَبُّنَا يَسُوعُ المَسيحُ" (عمالُ 15: 26)، "ابنُ اللهِ" (رُومَةَ 1: 4)، وَهُوَ "الإِلهُ الحَقُّ" (1 يُوحَنّا 5: 20). وَهٰكَذَا لَم يَعُد لَقَبُ "مَسيح" بِالنِّسبَةِ إِلَيهِ مُجرَّدَ لَقَبٍ بَل أَصبَحَ اسمَ العَلَمِ لَهُ بِدُونِ أَلِ التَّعريفِ (1 قُورِنتُس 15: 12–23)، مُجَمِّعًا كُلَّ الأَلقَابِ الأُخرَى فِي ذَاتِهِ، وَمُصِيرًا كُلَّ الَّذِينَ خَلَّصَهُمُ المَسيحُ بِالحَقِّ "مَسِيحِيِّينَ"(أَعمالُ الرُّسُلِ 11: 26).
فَمَا أَشَدَّ التَّبَايُنَ بَينَ هٰذَا المَسيحِ المُنتَظَرِ، وَالمَسيحِ الَّذِي نَادَى بِهِ يُوحَنَّا المَعمَدان! لِذٰلِكَ صَرَّحَ يَسُوعُ: " طُوبَى لِمَن لَا أَكُونُ لَهُ حَجَرَ عَثرَةٍ" (مَتّى 11: 6). هَنيئًا لِمَن لَا يَتَعَثَّرُ، وَلَا يَزلُّ أَمَامَ هٰذَا الانقِلَابِ التَّامِّ الَّذِي يَصدِمُ تَفكِيرَهُ. فَقَصدُ المَسيحِ أَن لَا يَشكَّ التَّلامِيذُ فِيهِ، إِذَا رَأَوهُ مُعلَّقًا عَلَى عُودِ الصَّلِيبِ أَو مُعَرَّضًا لِإِهَانَاتِ اليَهُودِ؛ فَـالتَّعثُّرُ فِي المَسيحِ المَصلُوبِ يَعنِي عَدمَ الإِيمَانِ بِهِ.
وَاخْتِصَارًا، إِنَّ شَهادَةَ يُوحَنَّا المَعمَدان تُسْنِدُ شَهادَةَ يَسُوعَ الَّذِي جَاءَ إِلَى العَالَمِ لِيَشهَدَ لِلحَقِّ وَلِيُخلِّصَ البَشَرِيَّةَ بِاعتِبَارِهِ المَسيحَ المُنتَظَرَ (يُوحَنَّا 18: 37). وَفِي مُقابِلِ هٰذِهِ الرِّسالَةِ، يُمَجِّدُ يَسُوعُ رَسُولَهُ الأَمِين يُوحَنَّا المَعمَدان، دَاعيًا إِيَّاهُ:
"السِّراجَ المُتَّقِدَ المُنِيرَ"(يُوحَنَّا 5: 35)، وَ "أَعظَمَ نَبِيٍّ فِي أَولادِ النِّسَاءِ"(مَتّى 11: 11)، وَلَكِنَّهُ يَستَدرِكُ قَائِلًا: "إِنَّ أَصغَرَ الَّذِينَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَواتِ أَكبَرُ مِنهُ"، مُظهِرًا تَفَوُّقَ نِعمَةِ المَلَكُوتِ عَلَى مَوهِبَةِ النُّبُوَّةِ، دُونَ أَن يُحِطَّ مِن شَأْنِ قَداسَةِ يُوحَنَّا المَعمَدان. وَيَبقَى يُوحَنَّا المَعمَدان ذٰلِكَ النَّبِيَّ، بَل خَاتِمَ الأَنبِيَاءِ، الَّذِي يُعِدُّ لِمَجِيءِ المَسيحِ، وَهُوَ مِثالُنَا فِي زَمَنِ المَجِيءِ، زَمَنِ الِاستِعْدَادِ لِلِّقاءِ الرَّبِّ مُخَلِّصًا وَدَيَّانًا.
الخُلاصَة
أَوضَحَ الإِنجِيلِيُّ مَتّى مَوقِفَ اليَهودِ مِن كِرازَةِ يَسُوعَ؛ فَقَد أَرسَلَ يُوحَنَّا تَلَامِيذَهُ إِلَى يَسُوعَ لِيُدخِلَهُم جَمِيعًا فِي التَّلمَذَةِ عَلَى يَدَيهِ نَفسِهِ، وَقابَلَ المَسيحُ هٰذَا العَمَلَ بِالشَّهادَةِ لِيُوحَنَّا. فَيُوحَنَّا هُوَ المَلاكُ السَّابِقُ لِلمَسيحِ – لَيسَ لِجَوهَرِهِ بَل لِرِسالَتِهِ وَطَاعَتِهِ. دَورُهُ لَيسَ نَقلَ الخَبَرِ فَقط، بَل تَهيِئَةُ القُلُوبِ لِلتَّوبَةِ وَالدُّخولِ فِي عَهدٍ جَدِيدٍ. وَمَجدُهُ الأَعظَمُ أَن يَختَفِي أَمامَ حُضُورِ العَرِيسِ — وَهُوَ نَمُوذَجٌ لِكُلِّ خِدمَةٍ كَنَسِيَّةٍ.
وَقَد عَلِمَ تَلَامِيذُ يُوحَنَّا أَنَّ المَسيحَ المُنتَظَرَ هُوَ يَسُوعُ المَسيحُ، الدَّيَّانُ وَالمُخَلِّصُ مَعًا. فَيَسُوعُ هُوَ الدَّيَّانُ الواقِفُ عَلَى الأَبوَابِ كَمَا أَشارَ إِلَيهِ يُوحَنَّا المَعمَدانُ، وَأَكَّدَهُ يَعقُوبُ الرَّسُولُ (يَعقُوب 5: 9)، وَلَكِنَّهُ هُوَ أَيضًا المَخلِّصُ الرَّحِيمُ:"الَّذِي يَأتِي فَيُخَلِّصُكُم"(أشعَيا 4: 5). وَقَد تَمَّمَ يَسُوعُ نُبُوءَةَ أشعيا:"حِينَئِذٍ تَتفَتَحُ عُيُونُ العُميانِ، وَتَتَفَتَّحُ آذانُ الصُّمِّ، وَحِينَئِذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كَالأَيِّلِ، وَيَهتِفُ لِسانُ الأَبكَمِ" (ِأشعَيا 35: 5–6)؟
هٰذِهِ «العَلامَات» الَّتِي تَناوَلَهَا الرَّبُّ يَسُوعُ هِيَ إِعلَانٌ لِلزَّمَنِ المَسِيحانِيِّ، زَمَنِ خَلاصٍ وَفَرَحٍ، وَزَمَنِ اِنتِصارٍ عَلَى الشَّرِّ. فَإِنَّ اللهَ لَا يَكتَفِي بِأَن يُشِيرَ لَنَا إِلَى الطَّرِيقِ، وَلَا بِأَن يُعِدَّ طَرِيقًا لِشَعبِهِ، بَل هُوَ عَلَى الدَّوَامِ جَانِبَنَا فِي مَسِيرَتِنَا مِن خِلَالِ ابنِهِ يَسُوعَ المَسيح. وَالمَسيحِيُّ لَا يَستَطِيعُ وَحدَهُ أَن يَغلِبَ أَهوَاءَهُ وَمَحبَّتَهُ لِلعَالَمِ وَيَسِيرَ وَرَاءَ المَسيحِ؛ فَهٰذَا عَمَلُ اللهِ كَمَا يُؤَكِّدُهُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَقَد ظَهَرَت نِعمَةُ اللهِ، يَنبوعُ الخَلاصِ لِجَمِيعِ النَّاسِ"(طِيطُس 2: 11).
دُعاء
نَسأَلُكَ، أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، أَن تُسْنِدَ مَسِيرَتَنَا لِلقَاءِ ابنِكَ الرَّبِّ المَسِيحِ الآتِي مُخَلِّصًا وَدَيَّانًا، كَمَا أَوحَيتَ بِهِ فِي الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، وَلَيسَ كَمَا نَصُوغُهُ بِأَهوَائِنَا. ثَبِّت قُلُوبَنَا لِمَجِيئِهِ القَرِيبِ، بِقُوَّةِ كَلِمَةِ الإِنجِيلِ وَسِرِّ الإِفخَارِستِيَّا، وَاجعَلنَا نَسلُكُ فِي خُطَاهُ فِي خِدمَةِ الفَقِيرِ وَاليَتِيمِ وَالغَرِيبِ وَالضَّيفِ وَالسَّجِينِ وَالمُسِنِّ وَالمَرِيضِ وَالمُعَاقِ، وَضَحَايَا الحُرُوبِ وَالمَجَاعَاتِ وَاضطِرَابَاتِ الطَّبِيعَةِ.
أَنعِم عَلَينَا بِفَرَحِ رُوحِ الرَّبِّ (غَلَاطِيَّةَ 5: 22)، فَرَحِ مَعرِفَةِ أَنَّ المَسِيحَ الرَّبَّ يَحيَا فِينَا (غَلَاطِيَّةَ 2: 20)،
فَرَحِ اختِبَارِ رُوحِهِ فِي قُلُوبِنَا (غَلَاطِيَّةَ 4: 6)، فَرَحِ مَا وَعَدَنَا بِهِ الرَّبُّ (غَلَاطِيَّةَ 3: 29)،وَفَرَحِ اختِبَارِ مَحَبَّةِ إِخوَتِنَا وَأَخَوَاتِنَا فِي الإِيمَانِ. آمِينَ.