موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
ما يعيشه العالم العربي اليوم ليس وفرة في الآيديولوجيات كما يظن البعض، بل خواء معرفي عميق تتقدم فيه الأوهام على حساب أي مشروع جماعي. ففي غياب الفكرة يعلو الضجيج ، ويتحول التاريخ إلى فسيفساء والمستقبل صفحة يكتبها الأقوى لا الأصدق.
قرن كامل من المحاولات الفكرية لم يثمر نظرية كبرى تنبع من الواقع العربي وتجيب عن أسئلته. ما أنتجناه كان إما نسخا مستوردة لمدارس فكرية أجنبية، أو مشاريع نقدية متفرقة لم تنجح في بناء جسر يربط بينها. أسماء لامعة مثل عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، طه حسين، فهمي جدعان، حسن حنفي، فاطمة المرنيسي، نصر حامد أبو زيد، تركت بصمة واضحة في الوعي الفكري، لكنها لم تقدم رؤية متكاملة قادرة على حماية الدولة أو إعادة لُحمة المجتمع.
غياب السردية الجامعة جعل الدولة العربية في كثير من الحالات جسدا بلا روح.
هناك دول لم تنهَر نتيجة صراع فكري عميق، بل لأن السياسة افتقدت الرؤية التي تمنحها معنى وشرعية. الماركسية العربية استعارت أدوات تحليل لمجتمعات لا وجود فيها لطبقة بروليتاريا بالمعنى الكلاسيكي، والإسلام السياسي توقف عند حدود السلطة، عاجزا عن صياغة مفهوم حديث للمواطنة.
الآيديولوجيا ليست زخرفا لغويا أو شعارات برّاقة، بل هي الإطار الناظم الذي يربط الفرد بجماعته، والجماعة بدولتها، والدولة بتاريخها ومستقبلها. من دونها تتحول السياسة إلى إدارة يومية للأزمات، ويتفكك المجتمع إلى أفراد منعزلين يجمعهم الخوف أكثر مما يوحدهم الأمل.
نقف اليوم أمام مفترق حقيقي: إما أن نستسلم لفراغ ينهشنا من الداخل، أو أن نشرع في كتابة سردية جديدة تستند إلى تاريخنا وتستوعب تحولات عصرنا، وتستمد مشروعيتها من المعنى لا من القوة وحدها.
فالنهضة لا يمكن أن تولد من العدم، بل من فكرة واضحة يتبناها أصحابها بوعي وإصرار. وعندما تتجسد تلك الفكرة، يسقط الوهم، وتستعيد المجتمعات حقها في الحلم، وتمتلك القدرة على تحويله إلى واقع. عندها فقط يتحول الحاضر إلى جسر نحو المستقبل، لا إلى هاوية تبتلعنا.
(الدستور الأردنية)