موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١ مايو / أيار ٢٠٢٠

المسبحة الوردية: من القشور والترداد إلى الجذور والأبعاد

بقلم :
فادي حداد - الأردن
المسبحة الوردية: من القشور والترداد إلى الجذور والأبعاد

المسبحة الوردية: من القشور والترداد إلى الجذور والأبعاد

 

مع بداية الشهر المريمي المُكرّس لتكريم أمّنا العذراء، نجد أنفسنا أمام تساؤلات عديدة: لماذا العذراء، لِمَ تكريمها وما شأننا بِها؟ ومن أينَ نشأت صلاةُ "السلامُ عليكي يا مريم"؟ تِلك الصلاة التي نُكررها ونُردِدها طوال هذا الشهر أكثرَ من خمسين مرةٍ في اليوم، ظانين أنها صلاةٌ صاغتها لنا الكنيسة الكاثوليكية، وكثيراً ما نقعُ في فخِ ترديدها دون وَعي أو تأمل في معانيها، فتُصبح صلاتُنا للسبحة الوردية  كمثلِ واجبٍ روتيني بعيداً كُل البُعد عن جوّ الصلاةِ الروحيةِ الحقيقية، غيرَ مُدركين جذورها الكتابية العميقة، وبذلك تحتَجِبُ عنّا القوةُ الكامنة فيها.

 

ففي كلّ مرةٍ نصلي فيها صلاةَ السلامُ عليكي يا مريم أو السلام الملائكي، نُعلِنُ صراحةً ثلاثَ مُشاركاتٍ نعيشُها من خلال كلماتها:

 

أولاً: مشاركة مع الله: "إفرحي، أيتها الـمُمتلئة نعمة، الربُ مَعكِ" (لوقا 1: 28)

 

 نبدأ بمشاركة الله بإلقاء السلام الإلهي عن طريق الملاك على مريم العذراء: "السلامُ عليكي يا مريم"... سلامُ الله الآب الدائم والمتجدد على مريم ليبعث في نفسها الطمأنينة، وليُعلِن لها عن حالةِ السلام الآتية إلى العالم وعن بداية زمنِ المصالحة. سلامٌ يأتينا من الله يدعونا فيه للفرحِ بِحلول زمنِ الخلاص للبشر.

 

"يا مُمتلئةً نعمة"... فقد اجتمعت الفضيلة والطهارة والنقاء والقداسة في عذراءٍ مِلؤها التواضع والطاعة، فوَجَد الله فيها مُستودَعاً مُقدساً، ليملأها نعمةً حيث أنّ الكلمةَ وفيضَ النعمةِ سيحِلُ فيها بالجسد والروح معاً، النعمةُ التي تنازل وتجرد فيها الله من ذاتِه، ليَسكُنَ الإبنُ في أحشاءِ العذراء في مِلء الزمان، فيَصِلَ إلينا نحن البشر.

 

ولكن لا تخافي يا مريم لأن "الرب مَعكِ"، لن يترُكَكِ، ولن يدعَ رِجلكِ تزِلّ. بل من فيضِ نعمتِه وحُضورِهِ يُثبّتُ مريمَ في إيمانِها. وكذلك الحال معنا، فبِحُضورِه في حياتنا يُثبّتُ أقدامنا وخطانا حتى ونحنُ معلقونَ على صلبانِ هذه الحياة في كلِّ زمانٍ ومكان، فهو الذي وعدنا أنهُ سيكونُ معنا طوال الأيام إلى منتهى الدهر.

 

ثانياً: مشاركة مع أليصابات: "مباركةٌ أنتِ في النساء! ومباركةٌ ثمرةُ بطنِكِ !" (لوقا 1: 42)

 

وبعد أن نُعلِنَ هذا السلام الإلهي، نجِدُ أنفسنا نشترك مع أليصابات بتبجيل وتطويب مريم العذراء قائلين: "مُباركةٌ أنتِ بينَ النِساء"... هي أمَةُ الرّب التي اصطفاها لتكونَ البابَ الذي يأتي منه الخلاص. ونتشارك مع اليصابات ويوحنا المعمدان بإعلانِ ونشرِ بُشرى الفرح بهذا الخلاص الآتي مِن أحشائها: "مُباركةٌ ثمرةُ بطنك"... فمِن أحشائِها سيَخرُج فيضُ النعمةِ وأميرُ السلام، مُخلِّص العالم "يسوع المسيح"، وستهتف لهُ الجموع مباركٌ الآتي باسم الرب.

 

ثالثاً: مشاركة مع البشرية: "مِن أينَ لي أن تأتيني أمُ ربّي؟" (لوقا 1: 43)

 

وبهذه المشاركة الإعلانية المؤمنة بمجيء المخلص وفادي البشرية، نُدرِكُ يقيناً قُدسيّةَ العذراءِ الطاهرة، فنبتهل إليها قائلين: "يا قديسة مريم"... ونشتركُ مع أليصابات والكنيسةِ جمعاء بإعلانِ أنّها أمُ المسيح الإله بكلّ إيمانٍ فنقول: "يا والدةَ الله"... مؤكدين إيماننا بألوهية يسوع المسيح الكاملة التي حلَّت في الناسوتِ طفلاً في أحشاءِ مريم، مُقرّين أنّ يسوع المسيح هو الإله المتجسد بكاملِ اللاهوت والناسوت باتحادٍ تام، وبهذا تكونُ مريم أمَّ يسوع وأمَّ الله الذي تواضع حتى يرفعنا إليه.

 

ونُدركُ أنّها أصبحت أمَّ الخليقةِ وأمّنا، فقد أعطانا إياها يسوع المسيح صراحةً على خشبةِ الصليب أمّاً لكل البشرية المُتَمثّلة بشخص يوحنا التلميذ الحبيب، لِذلك فنحنُ نَصرُخ إليها مُتضرعين وقائلين: "صلّي لأجلِنا"... واثقين من حُنوِها علينا نحنُ بنيها، وعطفِها علينا، ورغبتِها في خلاصِنا، موقِنين اشتراكَنا وسائر البشرية بهذه الأم. ومَن مِنّا لا يلتَجِئُ لأمّه التي حملَتهُ في بطنِها لتُصلي أو لتدعو له؟ فكم بالحريّ أن تقومَ أمُّنا العذراء فائقةَ القداسة بالصلاةِ لأجلِنا؟ بل في الحقيقةِ هي لا تنفكُّ تَتَشفعُ لنا كما تشفعت للعروسينِ في عُرسِ قانا الجليل.

 

ومتى أدركنا أنّها أمّ البشريةِ جمعاء، نَعي أننا جميعاً أخوةٌ وأبناءٌ لها، فنطلبُ أن تُصلّي مِن أجلِنا جميعاً، لِنُتَمّم وصية المسيح المُخلِص بأن نُحب بعضُنا بعضاً. وعند هذا العطف والحنان، نضعُ بانسحاق وانكسار ذُلّنا وخطايانا أمامها، مُعترفين بِذنوبِنا وعدم استحقاقِنا بقلبٍ مُتخشعٍ مُتواضع، قائلين: "نحنُ الخطأة"... مُدركين صِغَرَنا وذُلَّنا أمام عظمةِ الرب اللامُتناهية ومَجدِه وكامل قُدسيّتِه، طالبين أن يحتَضِننا باتساعِ قلبِهِ الرحيم.

 

ونُجدد صُراخنا مُستنجدين بها: "الآن"... نَستنجِدُ بِما لا مجال به للتأخير، فالعُمر لحظةٌ ونحن على شُرفة الهلاك أمام ضربات المُجرِّب والخطيئة، ونقَعُ بِها مراراً وتكراراً في كلِّ لحظةٍ مِن حياتِنا، ونسعى أن نكونَ مُستعدين في كلِّ اللحظات، لأنّنا لا نعلم متى يأتي السارق ويسرِقُ منّا حياتنا، وقد تكون أيّ لحظِةٍ نعيشُها الآن هي الأخيرة، لذلِك نَتَوسلُ إليها ألّا تنسانا عِندَها فنقول: "وفي ساعة موتنا"... كي لا تَغفَل عنّا بل لِتَتَشفع لنا عِندَ ابنِها ساعتَها، حينَ يَنفذُ خَمرُ الحياةِ فينا، فتَطلُبَ مِنهُ أن يَملأنا خمراً جديدةً مِن نِعمتِه استعداداً لِلعرسِ السّماوي.

 

ونَختم هذه الصلاة، بأن نَذكُرَ سببَ إيمانِنا ورجائِنا، سببَ ثِقتنا مِن أنّ هناكَ طريقٌ للخلاص، عندما نَذكُر أنّ الله هو الأمين، الذي لا يَخذُلُنا ولا يترُكُنا، وهو نقطة الثّبات الوحيدة في هذا العالمِ المُتَغيّر. فنَقول نَعَم ليَّكُن ما قُلتَهُ، ليَّكُن كَمَا أنتَ تُريدُ يا الله، فنَشتَرك مع أُمِّنا مريم العذراء ونقول: ليَّكُن لي بِحَسَبِ قَولِك. النَّعَم التي مِنها انطلقَ هذا السّلام، ليَبدأ زَمنُ الخلاص، لِنُسلِّم ذواتَنَا مع المسيحِ في بُستان الزيتون قائلين: لِتَكُن مَشِيئَتُكَ لا مَشيئَتِي. بإيمانٍ واثقٍ نَقولُ مع أمِّنا العذراء مِن بِشارةِ الملاك وحتى خشبةِ الصّليب، فَليَّكُن لي بِحَسَبِ قَولِكَ: "آمين".

 

فَنَقِفُ اليومَ معاً، إخوةً للمسيح، أبناءً لأمِّنا العذراء، مُتأملينَ معاً بِهذه الصّلاة، مُشتَرِكين مَعَ الملاكِ والكنيسةِ وسائرِ البشرية قائِلينَ بإيمانٍ كاملٍ راسخٍ وثابِت:

 

السّلامُ عَليكي يا مَريم... يا مُمتَلِئةً نِعمَةً... الرّبُ مَعَكِ...

مُبَارَكَةٌ أنتِ في النِّساء... ومُبَارَكَةٌ ثَمرَةُ بَطنِكِ يَسوع...

يا قِديسة مَريم... يا والِدَةَ الله...

صلِّي لأجلِنا نَحنُ الخَطأة... الآنَ وفي ساعَةِ موتِنا...

آمين...