موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

الفصح القديم والفصح الجديد

بقلم :
فادي حداد - الأردن
اليوم وبملء الإيمان والثقة، أُنقل للعالم حقيقة هذا الحب وعمل الفداء وبشرى الخلاص، وأعلِن هذه البشارة في أيام الفصح المجيد هذه قائلاً: المسيح قام... حقاً قام

اليوم وبملء الإيمان والثقة، أُنقل للعالم حقيقة هذا الحب وعمل الفداء وبشرى الخلاص، وأعلِن هذه البشارة في أيام الفصح المجيد هذه قائلاً: المسيح قام... حقاً قام

 

اليوم إذ نحتفل بعيد الفصح، نكون قد اجتزنا زمناً مهماً من السنة فيما تسميه الكنيسة الزمن الأربعيني، والذي يبدأ من أربعاء الرماد، وينتهي بالأسبوع المقدس ابتداءً من أحد الشعانين وحتى سبت النور فأحد الفصح، فتبدو وكأنها مسيرة في هذا الزمن الأربعيني نحو الفصح والقيامة. ولكننا نرى أن اليهود أيضاً يترقبون ويعيدون عيد الفصح، فيتذكرون خروجهم من عبوديتهم في أرض مصر كما ورد في العهد القديم. فكلمة فصح بمعناها البسيط هي "العبور"، وفي العهد القديم (الموسوي) كانت تعني عبور شعب إسرائيل ومسيرتهم الخلاصية من أرض العبودية في مصر إلى أرض الحرية، أرض الميعاد.

 

ولكن ما الرابط بين فصح العهد القديم وفصح العهد الجديد؟ وهل تتوقف العلاقة على تشابه الاسم بينهما أو الترابط الزمني لهم؟ أو هل تقتصر على كون المسيح هو حمل الفصح الجديد؟ هذه الأسئلة هي ما سنتناوله اليوم في هذا المقال فنلقي الضوء على الروابط الوثيقة التي تربطهما معاً.

 

وفيما يلي نستعرض العديد من تلك الروابط، بطريقة عرض مُجزئة إلى جزئين أساسيين ألا وهما العهد القديم والعهد الجديد، وفي كل منها ثمانية أقسام هي محاور الربط لتسهيل المقارنة بينَهما. ونظراً لطول المقال بعض الشيء، يستطيع القارىء المطلع تماماً على أحداث الفصح والخروج في العهد القديم بتفاصيله أن يتخطى قراءة جزئية العهد القديم.

*        *        *        *        *

 

العهد القديم:

 

مقدمة: شعب اسرائيل في أرض مصر (خروج 1)

 

في البداية، سنستذكر معاً أحداث الفصح في العهد القديم، فنتذكر أن أسباط إسرائيل (يعقوب وبنوه وعائلاتهم) انتقلوا للعيش في مصر في عهد يوسف، وكان يوسف قد نال حظوة عند فرعون مصر آنذاك. ولكن بعد وفاة يوسف، جاء فرعون آخر لم يكن يعرفه، فقام باستعباد شعب اسرائيل، وأمر بأن يُقتَل كل ذكر من أبنائهم بطرحهم في النيل حتى لا يَكثُر الشعب العبراني في أرض مصر.

 

أولاً: ولادة موسى والعليقة المشتعلة (خروج 2 – 3)

 

وضمن هذه الظروف القاسية ولد طفل من سبط لاوي، ووضعته أمه في سلة قش في النيل، فوجدته بنت فرعون، وأخرجته من الماء، وسمته "موسى" أي المنتشل أو المنقذ من الماء. ويكبر موسى، ويوماً ما يقتل أحد المصريين عندما يراه يضرب عبرانياً، ولما وجد أن أمره قد كُشف وأن فرعون والمصريين سيبحثون عنه لقتله، هرب موسى إلى أرض ميدين وعاش هناك. وبقي شعب اسرائيل يصرخ إلى الله وهو في عبوديته وألمه.

 

ويوماً ما وعلى جبل حوريب، يظهر الله لموسى في عليقة مشتعلة ويخبره أنه إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله العهد. ويقول له أن إذهب إلى مصر وأخرج شعبي من هناك، فقد سمعت صراخه  وأخرجه إلى أرض الميعاد (خر 3: 7 - 10). فيعود موسى إلى مصر بعد أن طمأنه الله أن "الذي يطلبك قد مات".

 

ثانياً: بداية الفصح في العهد القديم ورفع الخمير (خروج 11 – 12)

 

يعود موسى إلى فرعون مصر، ويطلب منه إخراج شعب إسرائيل ليقدموا تقدمة للرب، ولكن فرعون يرفض طلب موسى. ومع استمرار هذا الرفض تتوالى ضربات الله على أرض مصر من وباء وجراد وضفادع وغيرها من الضربات، والتي تنتهي بالضربة العاشرة التي يطلب فيها الله من شعبه القيام بما يأمرهم به لتتم تلك الضربة لقتل أبكار المصريين.

 

وكان أمر الله لشعبه أن يؤخذ في كل بيتٍ حملٌ في اليوم العاشر من الشهر، ويحفظ لليوم الرابع عشر. ويكون حملٌ واحدٌ ذكرٌ حَولي (ابن سنة)، صحيح من دون علة ولا يكسر له عظم. ويجب أن يضع من دمه على قائمتي باب البيت العامودية وعارضته الأفقية. يشوى بالكامل بكل ما فيه، ويؤكل مع خبز فطير، يأكله أهل البيت، واذا كان الحمل أكثر من أن يأكله أهل البيت، يشترك أهل البيت مع جيرانهم بحيث يكون كافياً للذين يشتركون فيه، ويجب ألّا يبقى منه أي شيء للصباح بل يحرق بالنار. وطلب الله من شعب اسرائيل أن ترفع الخميرة من بيوتهم لسبعة أيام، فيأكلون فيها خبزاً فطيراً فقط، وبعدها يشترون خميرةً جديدة بدل الخميرة القديمة الفاسدة.

 

هكذا كان أمر الله لشعب اسرائيل وأخبرهم أنه سيعبر فوق مصر، وسيقتل أبكار المصريين، أما البيوت التي تحمل علامة دم الحمل على قائمتي الباب وعارضته فإنه سيعبر عنها ويحفظها. وأمرهم بأن يكون هذا فصح للرب، يعيدونه فريضة أبدية من جيل إلى جيل، لا يأكله إلّا المختونون من أهل العهد، متذكرين أن في هذا اليوم أخرجهم الرب من أرض العبودية في مصر.

 

ثالثاً: عبور البحر الأحمر (خروج 13 – 14)

 

وبعد أن ضرب الله أبكار المصريين خرج شعب إسرائيل نحو البحر الأحمر يقودهم عمود الغمام، وتبعهم فرعون، فأصبح العبرانييون محاصرين بين فرعون وبين البحر. وعندها قام الله بشق البحر الأحمر أمام شعب إسرائيل وعبر الشعب في وسط البحر، الذي ارتد بعدها على فرعون وجيشه وأغرقهم.

 

رابعاً: شعب اسرائيل في برية سيناء (خروج 16)

 

بعد عبور البحر الأحمر، يصل شعب اسرائيل إلى برية سيناء. ولا يكاد يبدأ مسيرته في البرية حتى يبدأ بالتذمر على الله طالباً مأكلاً، فأعطاه الله من السماء خبزاً، فسماه الشعب "المن" بمعنى "من هو؟" لأنهم لم يعلموا ما هو. ولكن الله أمرهم بأن يأخذ كل واحد من الشعب حاجته ليوم واحد فقط، ولا يبقي منه شيء للصباح لأنه سيَنتن إذا بقي لليوم التالي، إلّا يوم الجمعة فيجمعون حاجتهم ليومين، ولا ينتن إذا بقي للسبت، فيوم السبت يوم الراحة ولا يجب أن يخرج أحد ليجمع المن. فأكل الشعب من هذا المن لمدة 40 سنة في البرية حتى وصلوا أرض الميعاد.

 

خامساً: الوصايا العشرة على جبل حوريب (خروج 18 – 20)

 

في البرية، يقيم موسى قضاة على الشعب، فيعلمهم الطريق الذي يجب أن يحكموا فيه بين الناس. وصعد موسى وحده إلى جبل حوريب، أما الشعب فلم يقترب أحد منهم من الجبل لأنه خاف أنه حينها قد يموت. وتجلى الله نازلاً هناك على جبل حوريب ليعطي موسى لوحي الوصايا العشرة، وأعطاه الشريعة وتعليمات بناء مسكن الرب بأدق التفاصيل نقرأها في (خروج 25–31) . ولما نزل موسى من الجبل وجد أن شعب إسرائيل قد صنع له عجلاً من الذهب وشرعوا يعبدونه، فحطم موسى لوحي الشريعة.

 

سادساً: العهد نحو أرض الميعاد (خروج 33)

 

يعود موسى فيصعد الجبل ليكلم الله ويذكر الكتاب بأنّ الله كان يكلم موسى وجهاً لوجه كما يكلم المرء صديقه. فيقول موسى للرب: "أرني مجدك"، فيجيبه الرب سأَمُرُّ بِمجدي أمامك لكنك لا تستطيع أن ترى وجهي، فسترى ظهري فقط.

 

وبعدها يجدد الله العهد مع شعب اسرائيل فيعطي موسى لوحي الشريعة مرة أخرى، ويعده بأن يدخله أرض الميعاد، إذا حفظ الشعب العهد والوصايا. ويخبره بأنه سيقوم بعجائب وعظائم أمام شعب إسرائيل "لم يتم مثلها في الأرض كلها ولا في أي أمة". وبعد أن أقام موسى مع الله في الجبل أربعين يوماً وأربعين ليلة، ينزِلُ من الجبل وقد أشع وجهه وبشرته من مخاطبته لله، وهكذا صار يشع وجهه منذ ذلك الحين كلما دخل أمام الرب ليُكلِمَه.

 

سابعاً: بناء مسكن الرب (خروج 35 – 40)

 

يبدأ بعدها شعب اسرائيل ببناء ونصب مسكن الرب وخيمة الاجتماع عاملين بأدق التفاصيل التي أعطاها الرب لموسى. فيصنع تابوت العهد، وفيه لوحي الشهادة، ويستره بالحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن باقي المسكن. ويصنع مائدة خبز الوجوه، والمنارة، ومذبح البخور، ويضع ستار باب المسكن، وأخيراً يصنع مذبح المحرقة في الخارج، أمام باب مسكن خيمة الاجتماع. ثم يمسح موسى هارون وبنيه كهنة للرب.

 

وعندما تم كل شيء بحسب ما أعطاه الله لموسى، غطى الغمام خيمة الموعد وملأ مجد الرب المسكن. فكان الشعب إذا رأى الشعبُ الغمامَ قد ارتفع يرتحلون ويتبعونه، وإذا لم يرتفع يبقون إلى حين ارتفاعه.

 

ثامناً: الشعب في مريبة والحية النحاسية (عدد 20 – 21)

 

يتابع الشعب مسيرته في الصحراء ويصل إلى مريبة، فيتذمر على الرب ويطلب ماءً. وعندما يكلم الله موسى ويخبره بما عليه أن يفعل، يعصي موسى أوامر الله، فيعاقبه الله ويعلمه بأنه سيرى أرض الميعاد ولكنه لن يدخل مع الشعب إليها.

 

وبعدها يعود الشعب يتذمر على الله مراراً وتكراراً، وأرسل الله حيات فلدغتهم. ولما عادوا فتضرعوا لله بأن يبعدها عنهم، يأمر الله موسى أن يصنع حية نحاسية ويرفها بمرأى الشعب كله، وكل لديغ ينظر إليها يشفى.

 

يتابع الشعب المسير في الصحراء، ويصعد الرب موسى على جبل نيبو ويريه أرض الميعاد، وعندها يموت موسى بحسب كلمة الرب له. ويقود يشوع بن نون بعدها شعب اسرائيل بعد أن كان موسى قد باركه ووضع يديه عليه. ويحمل العبرانيين تابوت العهد حتى يدخلوا أرض كنعان، أرض الميعاد. ووصل الشعب إلى أرض الميعاد، ودخلها في موعد عيد الفصح، وعندها فقط انقطع المن من السماء، وقدم الشعب تقادمه للفصح من تلك الأرض.

 

وهكذا تم العهد الموسوي، وبدأ شعب إسرائيل يعيدون الفصح متذكرين العظائم التي صنعها الرب فخلصهم من العبودية وأخذهم إلى أرض الحرية. ولكن هل انتهى عهد الله مع شعبه؟

 

*        *        *        *        *

 

العهد الجديد:

 

مقدمة: شعب إسرائيل من أرض مصر إلى حكم الرومان

 

ندرك جميعاً أن العهد الجديد وبشارة المسيح أتت لتكشف الستار عن عبودية ليست ظاهرية بل روحية، وهي عبودية الإنسان للخطيئة. ولكن هذا قد يشتت انتباهنا لوضع شعب إسرائيل الفعلي في بداية العهد الجديد، فقد كان اليهود تحت حكم الرومان، ولم يكونوا أحراراً في أرضهم. وإذا نظرنا تاريخياً نجد أن الإمبراطورية الرومانية هي بشكل أو بآخر امتداد لحضارة الفراعنة، فآخر فرعون هي كليوبترا، وكانت على علاقة بيوليوس قيصر (47 ق.م). وإثر علاقتهم تلك تلت أحداث جعلت الإمبراطورية الرومانية تدثر حضارة الفراعنة وتتربع مكانها. ووقع اليهود تحت حكمهم، ولكنهم كانوا يطلبون ويتضرعون سألين الله أن يعيد الملك لإسرائيل. منتظرين المسيح الذي تنبأ به موسى: "يقيم لك الرب إلهك نبيا مثلي من وسطك، من إخوتك، فله تسمعون" (تث 18 : 15) فيكون لهم المخلص كما كان موسى فأخرجهم من أرض مصر.

 

أولاً: من العليقة إلى البشارة (متى 1 - 2 / لوقا 1 - 2)

 

في وسط هذه الظروف وتحت هذا الحكم، يظهر ملاك الله لمريم العذراء ويبشرها بأنه ستلد طفلاً من الروح القدس وطلب أن تسميه "يسوع" أي "الله يُخلِص" أو "المُخلِّص" فهو الذي سيخلص شعبه. ومع مولده نرى هيرودس يأمُرُ بقتل أطفال بيت لحم ليقتل "ملك اليهود" المنتظر حين سمع كلام المجوس. ويهرب يوسف ومريم بالطفل إلى مصر، ويبقون هناك إلى أن يظهر الملاك ليوسف ويخبره بأن "الذي يريد قتل الطفل قد مات". وعندها يعود يسوع معهم من مصر، كما عاد موسى من مصر، ليبدأ مسيرة حياة تشبه تماماً مسيرة شعب إسرائيل في البرية، التي سنتقصاها بحسب القديس متى الذي كتب إنجيله لليهود "شعب العهد" في الأقسام التالية.

 

ولدى عودة يوسف ومريم إلى اليهودية نراهم يقدمان الطفل يسوع في الهيكل بحسب الشريعة بأن كل فاتح رحم يُنذرُ للرب. ولا نكاد نسمع شيئاً عن حياته كما لم نسمع عن موسى، ولكن نعرف أن يسوع كان ينمو في الحكمة والحظوة لدى الله والناس.

 

ثانياً: من رفع الخمير إلى دعوة التوبة (متى 3 / لوقا 3 / يوحنا 1)

 

قبل أن يبدأ يسوع بشارته، ظهر يوحنا المعمدان داعياً الشعب إلى معمودية توبة لغفران الخطايا، كما تنبأ النبي: ((صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة))، طالباً التوبة لنيل معمودية، وتلك رمزية رفع الخميرة القديمة الفاسدة والتخلص منها في عيد الفطير، فنرى المسيح يستخدمها لاحقاً قائلاً: ((إحذروا خمير الفريسيين)).

 

ثالثاً: من معمودية البحر الأحمر إلى معمودية الأردن (متى 3)

 

وعندما كان الفصح وشيكاً يرى يوحنا يسوع قادماً فيقول: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" مشيراً إلى أن يسوع هو الحمل الحقيقي الذي يرتضيه الله كذبيحة تامة. فيعتمد يسوع على يدي يوحنا المعمدان في نهر الأردن، كما اعتمد شعب إسرائيل في البحر الأحمر، كما يشير القديس بولس في رسالته إلى أهل كورنثس: "كلهم اعتمدوا في موسى في الغمام وفي البحر" (1 كور 10: 2). وعندها يسمع صوت الآب يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" مؤكداً بأنه الحمل الحقيقي الذي ارتضاه الآب ذبيحة له.

 

رابعاً: من برية سيناء إلى برية التجربة (متى 4)

 

وبعد معموديته، يتوجه يسوع ويسير إلى البرية كما سار الشعب 40 سنةً فيها، ويصوم يسوع فيها 40 يوماً حتى جاع. في البرية جاع الشعب فتذمر طالباً مأكلاً فحصل على المن الذي صنع منه الخبز، فنرى الشيطان يجرب يسوع بهذا الجوع، فيجيب يسوع: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله".

 

ولكن من كلمة الله سوى يسوع المسيح نفسه؟ وكما ذكرنا سابقاً فقد سمي المن بالمن بمعنى "مَن هوَ؟" لأن الشعب تسآل حينها ولم يدرك ما هو ذاك المن، لنرى يسوع يعطيهم الجواب قائلاً: "أنا هوَ الخبز الحي النازلُ من السماء" (يو 6: 51) فهو الكلمة الحية والخبز الحقيقي الذي يأكل منه الإنسان فلا يموت.

 

خامساً: من جبل حوريب إلى جبل التطويبات (متى 5)

 

كما أقام موسى قضاةً على شعب إسرائيل وعلمهم كيف يقضون بالعدل، نجدُ المسيح يختارُ الرُسلَ الإثني عشر ويَشرع يعلمهم طريق الحق. وكما صعد موسى الجبل ليتلقى الشريعة ليُعلِمها، نجد المسيح يصعد الجبل ويجمع الناس حوله ليعلمهم. وكما أعطى الله موسى على الجبل الوصايا العشرة والشريعة، نجد المسيح يعطي التطويبات التسعة ويكمل الشريعة، فنراه في تلك العظة يستخدم مراراً وتكراراً: "سَمعتُم أنه قِيل... أما أنا فأقول لكم...". وفي تلك العظة (عظة الجبل) يعلمهم أن الله أبٌ، فيعلمهم أن يدعوهُ "أبانا" بعد أن كانوا يخافونَهُ، ولذلِك لم يصعدوا الجبل مع موسى.

 

سادساً: العهد - من أرض الميعاد إلى الملكوت السماوي (متى 8 – 16)

 

وابتداءً من عظة الجبل يبدأ يسوع يُبشر ويكشف أسرار العهد الجديد والملكوت مستخدماً الأمثال: "مَثل ملكوت الله كمَثل..."، مبشراً أن أرض الميعاد الحقيقية هي الملكوت السماوي، فيعلم تلاميذه الطريق للوصول إليه. ونراه يقوم بالعديد من المعجزات التي "لم يتم مثلها في الأرض كلها ولا في أي أمة" كما في العهد القديم.

 

وبعدها نرى يسوع يذهب ببطرس ويعقوب ويوحنا إلى الجبل ويتجلى بمرأى منهم، ويظهر موسى وإيليا يكلمانِه وجهاً لوجه. فموسى الذي لم يرى وجه الله بل ظهره فقط يقف الآن وجهاً لوجه مع المسيح وقد أشع وجهه كالشمس، وهو النور الحق الذي جعل وجه موسى يشع عندما خاطب الله ليتلقى الشريعة.

 

هذه الشريعة التي تلقاها شعب إسرائيل ابتداءً بأعظم الوصايا: "إسمع يا إسرائيل: إنّ الرّب إلهنا هو ربٌّ واحد. فأحبب الرب إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قوتك". وفي التجلي نسمع صوت الآب يكرر نفس العبارة التي سُمِعَت عند المعمودية: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" ولكنه يضيف "فله اسمعوا" مذكراً بما تنبأ به موسى الماثل في هذا المشهد قائلاً "يقيم لك الرب إلهك نبياً مثلي من وسطك، من إخوتك، فله تسمعون".

 

سابعاً: من بناء مسكن الرب إلى التنديد بالهيكل (متى 21 – 24)

 

بعد التجلي يصعد يسوع إلى أورشليم يوم الأحد الذي يسبق الفصح (أحد الشعانين)، وفور وصوله يدخل إلى الهيكل ويطرد الباعة مذكراً شعب إسرائيل بنبؤة النبي إرميا قائلاً: "بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (راجع إر 7 : 1 - 15) وفي تلك النبؤة يُنذر الله شعبه بخراب الهيكل الفاسد لريائهم، ونرى يسوع أيضاً يعنف الكتبة والفريسيين على ريائهم ويُنذر بدمار الهيكل، فها هو ذلك الهيكل ومسكن الرب - الذي وصَف الله لموسى كيف يعده بأدق التفاصيل - على شفار الخراب والدمار. وبعد ذلك التعنيف والكلام الذي تلقاه الكتبة والفريسيون اتفقوا وعزموا على أن يمسكوا يسوع ويقتلوه.

 

ثامناً: من الحية النحاسية إلى عود الصليب (متى 26 – 28)

 

إذا عدنا إلى أوامر الله للفصح، نجد أن على كل بيت في إسرائيل يتخذ له حملاً في اليوم العاشر من الشهر، والذي يحتفل به المسيحيون بأحد الشعانين، وقد اتفق الكتبة والفريسيون على قتل يسوع، مختارين حَمَل الذبيحة في ذلك اليوم.

 

أما الحَمَل فيجب أن يكون "حملاً تاماً" من غير عيب، "ذكر حولي" وقد كان يسوع من غير عيب ولا دنس الخطيئة، وهو في عمر الشباب. ويجب أن يُختار "حمل واحد لكل بيت"، وإن كان أكثر من أن يأكُلَه أهل البيت حينها يتشاركون به مع جيرانهم، أما المسيح فكان الذبيحة الواحدة الكاملة التي تكفي أن يشترك فيه العالم بأسره.

 

وكلنا نعرف الآية "عظماً له لا يكسر" وفعلاً لم يكسر عظم المسيح على الصليب. ولكن قد تغيب عنّا حقيقة أن يسوع مات بتهمة التجديف، وكان عقاب التجديف هو الرجم بالحجارة (أح 24 : 16) الذي يتسبب بالتأكيد بكسر العظم، لكن نفاق الفريسيين وعدم تمسكهم بالشريعة حين أسلموه للرومان ليصلبوه، كان الشاهِد على ريائِهم وتحقيقاً للنبؤة.

 

ونتابع "يذبح في اليوم الرابع عشر" وكان هذا اليوم يبدأ من مساء خميس الأسرار وحتى مساء يوم الجمعة العظيمة، "مشوياً بكل ما فيه" والمسيح قدم نفسه بالكامل على الصليب. ويضع من دم الحمل على قائمتي الباب العمودية وعارضته الأفقية، ودم المسيح قد سكب على قائمتي الصليب العمودية والأفقية.

 

ويشدد الله أن يؤكل مع خبز فطير وألّا يبقى منه شيء للصباح، ونرى يسوع قد أنزل عن الصليب حتى لا يبقى على الصليب يوم السبت فقد كان ذاك السبت يوماً مُكَرَماً عند اليهود، وفي نفس الوقت لم يبقى منه شيءٌ للصباح كحمل الفصح الحقيقي.

 

وهنا نعود إلى أوامر الله بما يخص المن السماوي، الذي كان يؤكل في يومه ويَنتن في اليوم التالي، إلّا ما يجمع منه يوم الجمعة، فيبقى صالحاً يوم السبت. والمسيح وهو الخبز الحقيقي بقي محفوظاً في القبر يوم السبت ولم ينل من جسده الفساد.

 

موسى "المُنتَشَل/المُخَلَص من الماء" عَصى كلام الرب، وأخذ الله روحه فمات على الجبل قبل أن يدخل أرض الميعاد. أما يسوع "المُخَلِص" فقد ارتفع فوق الصليب - كما رفع موسى الحياة النحاسية - ومات على جبل الجلجلة، مسلماً حياته إلى مشيئة الآب طوعاً وخياراً و "أسلَمَ الروح" بملءِ إرادته: "إن الآب يحبني لأني أبذل نفسي لأنالها ثانية، ما من أحد ينتزعها مني بل إنني أبذلها برضاي. فلي أن أبذلها ولي أن أنالها ثانية وهذا الأمر تلقيته من أبي" (يو 10: 17 – 18)

 

وإذا أمعنّا بالأحداث التي تلت موت المسيح، تنكشف الأمور على واقعها. فقد اهتزت الأرض، وتصدعت الصخور، و"انشق حجاب الهيكل شطرين" أي بالكامل من أعلاه إلى أسفله، فقد بَطُلت الذبيحة القديمة، وغفرت الخطايا وانكسر الحاجز الذي يفصل الإنسان عن الله بخلاص كامل، فقد ذبح الفصح الحقيقي حقاً.

 

وخرج الله من هيكل الحجارة الذي صنعه البشر، ليصبح الإنسان الذي صنعه الله هو الهيكل، ودخل يسوع في قبرِ حياتِنا وموتِنا ودحرج الحجر عنه، محطماً الموت بموتِه ومُعطِياً إيانا الحياة الأبدية بقيامته.

 

وبعد قيامته وفي يوم الصعود على جبل الزيتون، ارتفع يسوع بمرأى من تلاميذه وتوارى في الغمام، كما كان الغمام يرتفع عن خيمة المسكن فيرتحل الشعب إلى حيث يقودهم الغمام. أما يسوع فعند صعوده طلب من تلاميذه أن يرتحلوا هم أيضاً إلى وجهتهم قائلاً: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم".

 

*        *        *        *        *

 

وفي الختام، نرى في كل هذا كماً هائلاً من الرموز والعناصر التي يستحيل حدوثها بمحض الصدفة، ونرى أن حياة يسوع بأكملها مسيرة تُوازي مَسيرة الخروج لشعب إسرائيل في العهد القديم.

 

أما السؤال الآن فهو أنه إذا ما سألنا الشعب اليهودي اليوم، أو في زمن القضاة، أو حتى في أيام السبي البابلي: "هل الله يُحبكم؟" ستجد الجواب "نعم بالطبع، فقد خلصنا الله من العبودية وسَخَّر كل شيء أمامنا للعبور والخروج من مصر، لِما قد يتكبد الله هذا العَناء من أجلِ من لا يُحب؟"

 

وإن سألنا التلاميذ والمسيحيين الأولين، الذين اضطهدوا واستشهدوا في سبيل المسيح والبشارة: "هل الله يُحبكم؟" سيكون الجواب: "نعم بالطبع، فقد مات المسيح على الصليب من أجل أن يحررنا من الموت والخطيئة، لِما قد يتكبد الله هذا العناء من أجل من لا يحب؟" فإيمانهم ثابت أن من يحب مثل هذا الحب لا يمكن ألا يكون حبه إلى الأبد.

 

*        *        *        *        *

 

اليوم ومع كل صعوبات الحياة وهمومها التي ترمي بأثقالها عليك، وحين تشعر أنّ ليس هناك رجاء، وحين يهمس الشيطان في أذنِك أن الله لم يعُد يُحبكَ، وأنه قد تركك تلاقي كُل تِلك البلايا والأحزان لوحدِكَ، فتفقد إيمانك بِحُب الله، عندها إرفع عينيك وانظر إلى الصليب، وتذكر حدث الحب العظيم الذي جرى في مثل هذه الأيام قبل ما يقارب الألفي عام. فتدرك أن الله أحبك فعلاً، بل بلغ به الحب أقصى الحدود، أي حد الصليب. هكذا أحبك الله وما يَزال يُحِبُكَ.

 

وإن كان يصعب عليك أن تُصَدِق، لأنك لم تكن واقفاً عند الصليب يومذاك لِتشهد هذا الحُب الذي تناقلته الأجيال، فتذكر أن المسيح في عظته على الجبل أعطى مقابل الوصايا العشرة تسعةَ تطويبات، وإن رأيت أنه انتقص واحدةً منها، فها هو يعود بعد قيامته فيزيدها واحدة، قائلاً لي ولك: "طوبى لمن آمن ولم يرى".

 

اليوم وبملء الإيمان والثقة، أُنقل للعالم حقيقة هذا الحب وعمل الفداء وبشرى الخلاص، وأعلِن هذه البشارة في أيام الفصح المجيد هذه قائلاً: "المسيح قام... حقاً قام...".