موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الأحد الثالث من زمن الصوم تقدم لنا الكنيسة قراءة من بشارة القديس يوحنا، تسرد فيها لقاء المسيح بالمرأة السامرية عند بئر يعقوب. ونرى فيها حواراً بين صد ورد بين يسوع وتلك المرأة، والذي قد يبدو في ظاهره غريباً نوعاً ما. إن فهمناه نرى فيه بُعداً روحياً، واذا ألقينا عليه بعض الضوء، ونظرنا له بنظرة كتابية وجدنا فيه كنوزاً خفية تحاكي واقعنا وحياتنا. فلنبحث معاً فيه لنكتشف بعض هذه الكنوز.
يبدأ نص الفصل الرابع من بشارة القديس يوحنا بأن المسيح ترك اليهودية وكان متوجهاً إلى الجليل، وكان عليه أن يمر بالسامرة. وإذا ما نظرنا إلى موقع السامرة نجد أنها تقع فعلاً على الطريق بينهما مسير ثلاثة أيام، ولكن كان اليهود، وبسبب العداء المتأصل مع السامريين، يتخذون طريق عبر الأردن متكلفين عناء المسير ليومين إضافيين ليتجنبوا المرور من السامرة. أما المسيح فنراه يتخذ الطريق القويم وليس المعوج إلى مقصده، متجاهلاً الأعراف والتقاليد والقوانين البشرية التي وضعها البشر وليس الله.
فيصل المسيح إلى مدينة سيخارة، بقرب شكيم وهي الأرض التي أعطاها يعقوب ليوسف (تك 48: 21-22) وفيها بئر يعقوب. ونرى المسيح بطبيعته البشرية التامة قد تعب من المسير وجلس على حافة القبر. وكانت الساعة تقارب الظهر، في أشد أوقات النهار حرارةً، وبينما تلاميذه في المدينة يشترون طعاماً، جلس لوحده وكأنه ينتظر، ومن هنا يبدأ أن ينكشف لنا أن للمسيح مُخططا واضحا وجليا لكُلِ ما يعمل مهما بدا غريباً.
فنجدُ إمرأة سامرية جاءت لتستقي لوحدها من البئر في ذلك الوقت ذاته، فيبدأ يسوع بالكلام معها طالباً الماء: "اسقيني"، ونجد المرأة في دهشة وحيرة، فلم يكن اليهود يتكلمون في العلن مع النساء حتى زوجاتهن، وكما لم يكن اليهود يخالطون السامريين، ومن المؤكد أنهم لا يستعملون أوانيهم للأكل أو للشرب باعتبارها نجسة. ولكن المرأة وقد شعرت بأن هذا الرجل من حاجته تنازل عن كبريائه طالباً الماء، أرادت أن ترد له بعض الذل بسؤاله كيف تجرؤ وتسألني وأنت يهودي؟ وبمعنى آخر أين ذهب حقدكم علينا الآن؟
ندرك حينها أن يسوع بادر بالسؤال ليبدأ حواراً مع المرأة لا أكثر، مستعداً للجواب ويبدأ يعلن البشارة لها بالتدريج: "لو كنت تعرفين عطاء الله ومن هو الذي يقول لك: اسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماءً حياً". والماء الحي لدى اليهود كان الماء الجاري من عين ماء أو نهر، وكذلك الماء الذي كان يوضع في الهيكل للطهارة (خر 30: 17-21)، وبهذا يبدأ يسوع يحاول أن يدعو المرأة للارتقاء إلى الأمور الروحية حتى تدرك بأنه وإن كان هو في حاجة جسدية، فهي بحاجة روحية.
ولدى سماعها رد المسيح المفاجىء، تعود المرأة وتتراجع عن وصفه باليهودي، بل تدعوه الآن رباً ومعلماً. ولكن تبقى تحاوره بالعقل الحسي والمنطق، وبنوع من التحدي عن قدرته في إعطائها الماء بدون دلو واضعةً إياه في مقارنةٍ "هل أنتَ أعظم من أبينا يعقوب؟". فما كان من يسوع إلّا أن يرد بمقارنة ما وهبه يعقوب: "الذي يشرب هذا الماء يعطش ثانية" وبين ما يهبه هو: "الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا إياه فلن يعطش أبداً بل الماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجر حياة أبدية"، فهو فعلاً أعظم من يعقوب.
وهنا نجد يسوع قد استحوذ تماماً على اهتمام المرأة وثقتها، وبدأت تعترف بحاجتها والنقص في حياتها: "يا رب، أعطني هذا الماء"، فهي ولكي ترتوي تأتي دوماً إلى هذا البئر مرغمةً حاملةً دلو شهواتها، وتلقيه في بئر عميق مظلم لتستقي من متاع الدنيا التي فيه، ولا يكون الإرتواء إلّا برهةً ثم تعودُ فتعطش مجدداً.
وعندها يدعوها يسوع إلى مواجهةٍ مع الحقيقةِ ومع ذاتها: "إدعي زوجك"... "ليس لدي زوج"... فقد كان لها خمسة أزواج ومن معها الآن ليس بزوجها. فيظهر لنا حقيقة أن هذه المرأة زانية، وينكشف سبب مجيئها إلى البئر في أسوأ وأحرُّ أوقات النهار، فقد كانت المستقيات تخرج إلى البئر إما في الصباح أو في المساء. وأما هذه المرأة فتخرج حاملةً وصمة عارٍ متجنبة لقاء ومجابهة الآخرين.
أما الآن فقد حملها المسيح على الإقرارِ بحقيقتها، والاعترافِ بأن من معها ليس فعلاً زوجها. فأزواجها الخمسة من المحتمل جداً أنهم كانوا أزواجاً بحسب الشريعة، ويرى الكثير من الأباء أن الخمسة أزواج رمز إلى كتب الشريعة الخمسة نفسها، أما الزوج السادس وهو خارج عن تلك الشريعة فهو الخطيئة وأصنامُ حياتها وشهواتها. وإذا نظرنا إلى هذه الدلالة نرى أن رد المرأة وسؤالها عن مكان العبادة لم يَعُد خارجَ نطاق الحديث، بل في صُلبه. ويكشفُ لنا أن المرأة رغم خطيئتها في شوق وتوق لمعرفة الحق، ولهذا تسأل يسوع وهي تصفه وتَقبلهُ الآن كنبي وليس مُعلماً فحسب.
ويظهر في سؤالها الصراع اليهودي السامري حول مكان العبادة، واختلافهم المُتجذر بعد دخول شعب اسرائيل أرض الموعد بفترةٍ وجيزة، حيث تزوجَ السامريون من غُرباء الأرض وتنجسوا إذ تبعوا عبادة الأوثان. كما ولم يقبلوا سوى كتب الشريعة الخمسة (الأزواج الخمسة) دون كتب الأنبياء، وبنوا هيكلاً في جرزيم، مستندين إلى أن موسى اعتبره مكان العبادة الحق، واختلطت فيه عبادة إله إسرائيل بعبادة الأوثان، ووصل الخلاف أوجه حول إعادة بناء أورشليم والهيكل بعد السبي (نحميا 6: 1-14).
فيجيب يسوع ويبين لها أن اليهود وبقبولهم كتب الشريعة والأنبياء يعرفون الإله الحق بصورة أفضل، أما السامريون فيتبعون آلهة غريبة. ولكنه يكشف لها أن الوقت قد حان ليرتقي العباد الصادقون عن اهتمامهم بكيفيات العبادة والطقوس والشعائر الفارغة إلى روح العبادة الحق، فالطقوس هي لخدمة العبادة، وليس العكس، والله فرض الطقوس ولكن الطقوس لا تستطيع أن تحصر الله لا في المكان ولا في الزمان.
وهنا نرى السامرية وفي سعيها لمعرفة الحق، تنتظر كحال شعب إسرائيل كُلّه النبي المُنتظر كما ورد في كِتاب التثنية ”سأقيمُ لهم نبياً من وسط إخوتهم مِثلك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيخاطبُهم بكلِ ما آمرهُ بِه.“ (تث 18:18)، وأما مُسمى المَشيح أو المَسيح فقد سمعه السامريون من اليهود، وآمنوا بأنه سيكون المرشد. ولذلك نرى المرأة وهي تسمع هذا التعليم الملقى بسلطان من هذا اليهودي الغريب، تَرُدُ بأنه يَجدرُ أن تَسمعَ هذا الكلام من المسيح المنتظر.
وبهذا نصل إلى قمة هذا اللقاء، وبكلمات يسوع: "أنا هو، أنا الذي يكلمك". وهنا يجب ألا يغفل عنا معنى هذا التصريح من يسوع، فقد كان منذ برهة أمامها ذلك اليهودي الذي يطلبُ شُربة ماء، ثم رأتْ أنهُ ربٌ ومعلم، وبعدها أدركت أنهُ نَبي. أما الآن فكشف لها أنه أعظم من نبي، فهو المسيح بذاته. ولكنه لم يتوقف هناك، فحين قال "أنا هو" وباليونانية "egw eimi"، فقد استعمل ذات الكلمات جواب الله لموسى التي نجدها في سفر الخروج "أنا هو الذي هو" (خر 3: 14)، فيكون هذا أول تصريح ليسوع يكشف فيها عن هويته ليس بأنه المسيح فقط بل أنه ابن الله والله نفسه.
أما المرأة وأمام هذه الكلمات نراها قد "تركت جرتها" وذهبت تخبرُ أهل المدينة بما جرى. تركت شهواتها وما يعيقها خلفها عند يسوع، وتحررت من خوفها وتسترها على عارها وهروبها من الناس وبدأت تعلن البشارة "أتُراهُ المسيح؟"، وكانت قد شربت من هذا الماء الحي دون أن تَعلم، ودون أن تُدرك "من هو" الذي يُكلِمُها، ومع ذلك تَفجَرَ هذا الماء فيها عينَ ماءٍ تَفيضُ حياةً أبديةً على الآخرين فعلاً كما قال المسيح.
أما المسيح فنراه وإذ عادَ تلاميذه بطعامٍ لهُ ليَأكل، يُخبرهم بأن لديهِ طعام لا يَعرفونه، ونرى بأنه ارتوى لا من ماء الجرة الذي سقتهُ لهُ السامرية، بل بذلك الإيمان الذي اشتعل فيها وجعلها تُخبر أهل المدينة كلهم، وهم "الحقول التي ابيضت للحصاد"، وقد جاءوا ليسمعوا كلامه وتَعليمه، فيَعمل بمشيئة الآب الذي أرسَلهُ، ويعلنَ بشرى الخلاص.
إن نظرنا لهذا المشهد عند البئر، نرى مخطط الله الخلاصي في أجلِّ صورةٍ له. فنجده ينتظر ويبحث عن الخاطىء، عن هذه المرأة السامرية والزانية، وهذه الصفات الثلاث كفيلةٌ أن تجعلها أبعد ما يكون عن الشريعة. وكذلك هو حالنا نحن الكنيسة، التي نشأت من الأمم الوثنية البعيدة والغريبة التي قبلت كلام المسيح مثل هذه المرأة. فكما كان السامريون على خطأ حينما أخذوا كتب الشريعة وتركوا الباقي، فكذلك صار اليهود على خطأ عندما قبلوا كتب الشريعة والأنبياء ولكنهم رفضوا ذاك الذي تحدثت وأنبأت عنه هذه الكتب، فلم يقبلوا بشارة المسيح.
وكما كان البئر مكان لقاء العروس في العهد القديم؛ فعند البئر وُجدت لإسحاق عروسُه رِفقة (تك 24: 10-27)، ووَجَد يعقوب عروسَه راحيل (تك 29: 1-11)، ووَجد موسى عروسَه صفورة (خر 2: 15-22). فكذلك المسيح الذي كان جالساً عند البئر بانتظار تلك المرأة التي لا زوج لها، وكأنه ينتظر عروسه ليكون هو عريسها الأخير الذي يعنى بها حقاً. فقد جاء المسيح باحثاً عن عروسه الكنيسة، تاركاً وراءه مثالاً يُحتذى به في المحبة الطاهرة والحقيقية، كما بكلمات القديس بولس: "أيُها الرجال، أحِبُوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة وجادَ بنفسه مِن أجلها" (أف 5: 25).
اليوم وأمام هذا المشهد في بريةِ حياتنا، وعند بِئر مِتاع هذا العالم الفانية، حيثُ نترددُ دوماً لنروي عَطشنا بِما نُدرك أنه لا يرويه سوى بُرهة، نرى أن الله من فيض محبته يأتي باحثاً عني وعنك، وينتظرنا هناك عند ساعة الظهر، في أشد الأوقات والمحن، فيقول لك "اسقيني"، وعندها تَرِدُ إلى أذهاننا الصورة الأسمى لذلك الحب التي شهدها جبل الجلجلة يوم الجمعة العظيمة والساعة تقارب الظهر، يصرخ المسيح قائلاً لي ولك: "أنا عطشان... اسقيني"، وما هي إلّا لحظات حتى تتفجر من جنبه ينابيع ماء الحياة من أجلي ومن أجلك، فكما أنه يقول لنا كما كان الحال مع السامرية: ايمانك يرويني... فهلا آمنت؟