موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمةٌ
في يوم الإثنين بعد عِيد "العنصرة"، من كلّ عامٍ، تحتفل الكنيسةُ الكاثوليكيّة –وفقًا للطّقس اللّاتينيّ– بعِيدٍ خاصّ بالعذراء مريم، وهو كونها "أُمّ الكنيسة"؛ وذلك منذ حبريّة البابا فرنسيس (2013-2025). ولقد سبق وكرّمت الكنيسةُ العذراءَ مريم رسميًّا بلقب "أُمّ الكنيسة"، منذ حبريّة البابا بُولس السّادس (1963-1978). وهو لقبٌ ذو جذورٍ آبائيّة (القدّيس أمبروزيُس الميلانيّ) وثيولوجيّة.
أوّلًا: البابا بُولس السّادس
لقد أعلن البابا بُولس السّادس لقبَ "أُمّ الكنيسة" الخاصّ بالعذراء مريم، في ختام المرحلة الثّالثة من المجمع الفاتيكانيّ الثّاني (21 نوفمبر/تشرين الثّاني 1964). فالعذراءُ مريم، إضافةً لكونها "نموذج الكنيسة" في إيمانها ومحبّتها واتّحادها الكامل بالمسيح ابنها، هي "أُمّ الكنيسة" أيضًا، لأنّها ولدت المسيحَ، رأس "الجسد السّريّ"، الذي هو كنيسته. وإذا كانت العذراءُ مريم الأُمّ الحقيقيّة والفيسيولوجيّة للمسيح، رأس الكنيسة، فهي أيضًا الأُمّ الرّوحيّة لكلّ مَن افتداهم ابنها، أي الكنيسة، التي هي جسده السّريّ. إنّها حقًّا أُمّ أعضاء المسيح، لأنّها ساهمت بمحبّتها في ولادة المؤمنين، أعضاء المسيح-الرّأس، في الكنيسة-الجسد.
ثانيًا: البابا يوحنّا بُولس الثّاني
في عام 1987، كرّر البابا يوحنّا بُولس الثّاني (1920-2005) لقبَ "أُمّ الكنيسة" الخاصّ بالعذراء مريم، في رسالته العامّة "أُمّ الفادي". ففي سياق حديثه عن العذراء مريم في حياة الكنيسة، وحياة كلّ مسيحيّ، أوضح ما يلي:
"لقد أعلن بولس السادس رسميًّا، أثناء انعقاد المجمع [الفاتيكانيّ الثّاني]، أن مريم هي أمّ الكنيسة، أعني "أمّ شعب الله بأجمعه، مؤمنين ورعاة". وعاد إلى تأكيد ذلك بقوّة أعظم عام 1968، في صورة الاعتراف بالإيمان المعروفة باسم "دستور إيمان شعب الله"، حيث قال: "نؤمن أن والدة الإله الفائقة القداسة، حوّاء الجديدة، أمّ الكنيسة، تواصل في السماء دورها الوالدي حيال أعضاء المسيح، بإسهامها في ولادة الحياة الإلهيّة في نفوس المفتدين، وتنميتها".
لقد أظهر تعليم المجمع أن حقيقة العذراء الفائقة القداسة، والدة المسيح، تفيد التعمّق في حقيقة الكنيسة. وبولس السادس أيضًا، يوم تكلّم في وثيقة "نور الأمم" غداة أن أقرّها المجمع، أعلن: "أن معرفة حقيقة العقيدة الكاثوليكية بشأن الطوباوية مريم العذراء، ستكون دوماً مدخلًا يمكّننا من أن نتفهَّم في دقة سرّ المسيح والكنيسة". إن مريم حاضرة في الكنيسة بوصفها أمّ المسيح، وفي الوقت نفسه الأم التي أعطاها المسيح الإنسان في شخص الرسول يوحنا، في سرّ الفداء. ذلك ما يجعل مريم، بهذه الأمومة الجديدة في الروح القدس، تلّفنا جميعًا، وكل واحد منّا، في الكنيسة. وبهذا المعنى بالذات نقول أن مريم أمّ الكنيسة، هي في الوقت نفسه، مثال الكنيسة. ذلك أن الكنيسة "يجب أن تجد في العذراء والدة الإله، الصورة الأكثر أمانة للاقتداء الكامل بالمسيح". ذلك ما يطلبه بولس السادس ويتمنّاه.
هذه الصلة الخاصة التي تربط بين أمّ المسيح والكنيسة، يمكنها أن تزيد إضاءة سرّ "المرأة". تلك التي تلازم وحي مخطّط الخلاص الذي أعدّه الله للبشرية، منذ الفصول الأولى من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. ذلك، أن مريم، الحاضرة في الكنيسة بوصفها أمّ الفادي، تسهم في حنان الأمومة، "في المعركة ضدّ قوى الظلام"، هذه المعركة التي نشهدها عبر تاريخ البشر كلّه. وانطلاقًا من التطابق بين الكنيسة "والمرأة الملتحفة بالشمس" (رؤيا 12 : 1)، يمكن القول أن "الكنيسة، قد بلغت، في شخص العذراء الطوباويّة، الكمال الذي يجعلها "لا كلف فيها ولا غضن"، ولذلك، فإذ يرفع المسيحيون أعينهم، في إيمان، إلى مريم، عبر مسيرتهم على الأرض، "يصوّبون جهدهم للنموّ في القداسة". إن مريم، ابنة صهيون المثلى، تساعد أبناءها جميعًا، حيثما كانوا، وأيًّا كانت طريقة عيشهم، على أن يجدوا في المسيح الطريق التي تقود إلى بيت الآب. فالكنيسة، تحافظ، إذن، في حياتها كلها، على صلتها بوالدة الإله، وهذه الصلة تشمل، في سرّ الخلاص، الماضي والحاضر والمستقبل. وهي تكرمها، بوصفها أمّ البشرية، بحسب الروح، ووسيطة النعمة».
ثالثًا: البابا فرنسيس
منذ الـ11 من شهر فبراير/شباط لعام 2018، وهو تاريخ توقيع المرسوم من قبل "مجمع العبادة الإلهيّة"، يُحتفَل بعِيد العذراء مريم "أُمّ الكنيسة"، من قِبل الكنيسة الكاثوليكيّة. فلقد قرّر البابا فرنسيس إدراجَ هذا العِيد المريميّ في الطّقس اللّاتينيّ، ليكون يوم الإثنين الذي يلي عِيد العنصرة، للاحتفال به سنويًّا. ويرمي هذا الاحتفال إلى تأصيل البُعد-الحِسّ الأُموميّ للكنيسة، وإلى تعزيز التّقوى المريميّة الأصيّلة، وإلى التّذكير بأنّ نموّ الحياة المسيحيّة يجب أن يرتكز على سِرّ الصّليب، وعلى الإفخارستيا، وعلى العذراء مريم، أُمّ الفادي والمفديين.
خُلاصةٌ
إنّ العذراءَ مريم ليست "نموذج الكنيسة" فحسب، بل هي "أُمّ الكنيسة" أيضًا. وانطلاقًا من "أُمومتها" حيال كنيسة المسيح، ابنها، تمارس دورًا مهمًّا في مُرافقة المؤمنين –جماعةً وأفرادًا– على مرّ العصور. ولذا، فيؤكّد المجمعُ المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني (دستور عقائديّ في الكنيسة "نور الأُمم"، بنود 60-65)، وكتابُ "التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة" (بنود 963-970)، على الدّور الأُموميّ الذي تقوم به العذراءُ مريم تجاه الكنيسة بأسرها؛ وأنّه «انطلاقًا من الرضى الذي حَمَلَته بإيمانها يوم البشارة وحافظت عليه دون ترددٍّ تحت الصليب، تستمرُّ أمومة مريم في تدبير النعمة دون ما انقطاع حتى يبلغ المختارون الكمال الأبدي».