موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٠ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

الخِبْرَاتُ نَبْعُ مَعْرِفَة

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
أجل، إنَّ الحياة كلّها خبرات! فلا يزال هنالك الكثير لنختبره ونتعلَّمه!

أجل، إنَّ الحياة كلّها خبرات! فلا يزال هنالك الكثير لنختبره ونتعلَّمه!

 

يُولدُ الإنسانُ في الحياة ويكبرُ وينضجُ ويتعلَّمُ دروسًا مفيدة وثمينة مِن الحياة وفي الحياة. ويختبرُ ويتعلَّمُ أَنَّ الحياة ليست إِلَّا خبرات! وهذه الخبرات قد تكون مفرحة أو مكدِّرة، مريحة أو متعبة، سعيدة أو كئيبة؛ وهي خبرات يمكنه أَنْ ينقلها للآخرين حتّى يمدَّ لهم يد العون، وحتّى يسير معهم نحو النُّضوج والكمال. فالتَّعليم العميق والحقيقيّ هو ما جاء نتاج خبرة معاشة. فكم مِن كلمات جافة جوفاء خرجت مِن مخازن العقول ومرت بالحناجر والأفواه والأقلام وذهبت مع الريح؟ وكم مِن خبرات عميقة وُلدتْ مِن الحياة وفي الحياة، وتَمَّ التَّعبير عنها بواسطة فمّ أو قلم إنسان فدخلت أعماق إنسان آخر، فتفاعل معها وغيَّرت مِن حياته كثيرًا أو قليلًا؟

 

لقد قِيلَ بحقٍّ: «هل يتعزَّى كسير القلب بالقلب الكسير؟» (جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة)، وهذا صحيح جدًّا، لأَنَّنا كيف نحصد مِن الشَّوك عنبًا أو نأخذ مباشرةً مِن الماء المالح ماء عذبًا؟ ولكن مِن ناحية أخرى، يجب التَّأكيد على أَنَّه قد يتعزَّى كسير القلب بقلب كان كسيرًا، فالقلب الذي كان يومًا ما كسيرًا، وقد مرَّ بخبرة صعبة وممتلئة بالمرارة، فعاشها بجديَّة وصدق وأمانة، وخرج منها كما يخرج الذَّهب المصفَّى مِن النَّار الملتهبة، يمكنه أَنْ يُقدِّم بواسطة خبراته ومعاناته ودموع عينيه تعزية ورجاء للقلوب المحتاجة؛ لأَنَّ الخِبْرَات هي بمثابة نَبْع مَعْرِفَة!

 

قد يسمعُ أو يقرأ الإنسانُ مرة ومرات محاضرات وتعاليم كثيرة، فيشعر أحيانًا بالملل والنُّعاس، وأحيانًا أخرى يكونُ في قمة يقظته يتابع الكلمات كلمة كلمة، لا بعقله فحسب، وإِنَّما بإرادته ووجدانه وكلِّ كيانه، محاولًا أَنْ يقتطف –ولو قليلًا– مِن الثِّمار النَّاضجة المغروسة في شجرة الكلمات المنطوقة. وشتان بين الموقف الأوَّل والموقف الثَّاني! فلماذا هذان الموقفان المتناقضان؟ وتكمن الإجابةُ –بكلّ بساطة– في أنَّه في الموقف الأوَّل كانت كلمات مأخوذة مِن كتاب ما أو مِن فمّ آخرين، وهي تُعاد مرة أخرى على مسامع الأشخاص فحسب، دون اختبار عميق لمعانيها، ودون أَنْ تمرَّ بحياة مُلقيها؛ أمَّا في الموقف الثَّاني، فقد كانت كلمات خارجة مِن بوتقة الحياة وكتاب الخِبْرَات الشَّخصيَّة! فحقًّا ليس مِن يتكلَّم بالفمِّ أو يكتب بالقلم كمِن يتحدّث بدمّ قلبه وعرق جبينه ودموع عينيه!

 

ويحضرننا هنا المشهد المذكور في بشارة مرقس، الذي يسرد قصة شفاء المفلوج الذي حملوه أربعة رجال، ليضعوه أمام يسوع حتّى يشفيه؛ وقد شفاه فعلًا، جسدًا ونفسًا وروحًا (راجع مر 2/1-12). وقد قال له يسوع كلمة استرعت انتباهنا بشدة وجعلتنا نتساءل عن معنها؛ فهو قال له: «قُمْ فَاحمِلْ فِراشَكَ وَاذهَبْ إِلى بيتِكَ» (مر 2/11)! تُرى لماذا؟ هل أرده يسوعُ أَنْ يظلَّ دائمًا مقيَّدًا ومنغلقًا ومحبوسًا في ماضيه وفي خبراته السَّلبيَّة السَّابقة؟ أم أرد منه شيئًا آخر؟ كلا، إنَّ يسوع لم يطلب منه أَنْ يبقى أسيرًا لماضيه الأليم، وإنَّما ربّما أراد أَنْ يقول له هذه الكلمات: "لقد نلتَ الغفران والشِّفاء اللّذين كنتَ تحتاج إليهما، وحملُك لفراشك لهو خير دليل على ذلك؛ فهيا الآن اذهب إلى المرضى إخوتك الذين يحتاجون هم أيضًا إلى ما نلتَه، احملهم إليَّ مستخدّمًا الفراش عينها التي حمُلتَ أنت عليها. فيمكنك من الآن فصاعدًا، أَنْ تكون نافعًا للآخرين مِن خلال خبرات الماضي المؤلمة"!

 

أجل، إنَّ الحياة كلّها خبرات! فلا يزال هنالك الكثير لنختبره ونتعلَّمه! فليتنا نعيش الحياة بجميع أبعادها: السَّعادة والحزن، الرَّجاء واليأس، الغناء والعناء، القائم والقادم، المرض والصّحة، الولادة والموت! فإِنَّ الحياة يجب أَنْ تُعاش وتُختبر قبل أَنْ تُدرس، وأَنْ تكون موضوع "حبٍّ" قبل أَنْ تكون موضوع "فكر"! وعندها لا تضنَّ بخبراتك على الآخرين، فإِنَّك أنت أيضًا تملك الكثير لتُخرجه أكلًا وشرابًا للآخرين! فكلُّ خبرة صادقة تملك قوَّة جبَّارة في أَنْ تُغني الآخرين في عوزهم المعنوي، وتُشبعهم في احتياجهم اللامادي، وترافقهم في مسيرتهم الصعبة! ولنتذكَّر، أخيرًا، المثل الهندي القائل: «صديقي، لا تسر أمامي، فربّما لا أقوى على اتباعك؛ ولا تسر خلفي، فربّما لا أستطيع أن أقودك؛ وإنّما سر بجواري، حتّى يمكنك أنْ ترافقني وأرافقك».