موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
نستأنف أيّها القراء الأفاضل مسيرتنا الكتابيّة الّتي تربط العهدّين وتساعدنا على قراءة نور الكلمة بالعهد الثاني على ضوء الواردة بالعهد الأوّل. ونلاحط أن قرائتنا تُكرس في هذا المقال والّذي يُعدّ الأوّل، من بعد الأعياد الفصحيّة، بالزمن العادي بحسب الطقس اللاتيني. تمّ إتباع هذا النمط في الليتورجيّة بالطقس الروماني أو اللاتيني، منذ القرن التاسع، والّذي يعطي الإهتمام للاحتفال بعيد الثالوث المقدس. بالرغم من خطورة اختزال هذه الليتورجية المهيبة إلى احتفال بفكر إيماني أو عقيدة إيمان، فقد استجاب الإصلاح الليتورجي باستعادة البُعد الخلاصي التاريخي للثالوث الإلهي، موضحًا كيف يتمّ الكشف عن هذا السرّ في واقعنا المسيحي، وليس فقط في اللّاهوت الّذي يكشف عن سرّ الخلاص وهذا هو الجانب الأساسي في الليتورجيا. في واقع الأمر، لا يحتفي الاحتفال الليتورجي بالأفكار والشخصيات الإلهيّة وتميّزها، بقدر الدهول في قلب الإحتفال بالأحداث الخلاصيّة التي دُعينا إليها اليّوم ككنيسة. مدعويّن في هذا المقال للتعرّف إلى "وجه الله" الّذي يُعرف بنفسه ليس من خلال الفكر اللّاهوتي الـُمعقد، بل عبر التاريخ. وهو ما يطلق المشروع الثالوثي، حيث يعني المخطط الخلاصيّ الّذي يتم في تاريخنا البشري. وهذا ما سنتعمق فيه من خلال نصّ سفر الخروج بالعهد الأّول (34: 4- 9) الّذي سنكتشفه بعمق على ضوء كلمات كاتب الإنجيل الرابع الواردة على لسان يسوع بالعهد الثاني (3: 16- 18). هادفين من خلال هذا المقال التمييز في حقيقة الإله الثالوثي كإله واحد من الوجهة الكتابيّة.
1. إسم الله- الآب (خر 34: 4- 9)
يدعونا كاتب سفر الخروج للتعمق في وجه الله السائر مع شعبه في زمن موسى. في هذا النصّ (خر 34: 4- 9) بالعهد الأوّل يبدع الكاتب في الكشف عن "وجه الله" الذي كشف بذاته صراحة عن اسمه لموسى أثناء تجديده العهد مع إسرائيل في سيناء بعد حادث العجل الذهبي. إذ يأمر الرّبّ من جديد موسى بنحت لوحين ليعيد كتابة الكلمات العشر من جديد كشريعة لشعبه وبناء على طاعة هذا الأمر وعند تقديم موسى اللوحيّن نُفاجأ برد فعل غريب: «فنَزَلَ الرَّبُّ في الغَمام وَوقَفَ معَه [موسى] هُناكَ. ونادى موسى باسمِ الرَّبّ. ومَرَّ الرَّبُّ قُدَّامَه فنادى: "الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف، وَيحتَمِلُ الإثمَ والمَعصِيَةَ والخَطيئَة، ولكنَّه لا يَتُركُ دونَ عِقابٍ شَيئاً، فيُعاتِبُ إِثْمَ الآباءِ في البَنينَ وفي بَني البَنينَ إِلى الجيلِ الثَّالِثِ والرَّابِع"» (خر 34: 5- 7). من خلال هذه الكلمات لدينا ثلاث طُّرق يكشف بها الله عن ذاته:
1.1. الطريقة الأولى الّتي يعلن بها الله عن ذاته هو الحضور أمام لموسى الّذي يكشف هويته في إسمه المقدس «الرَّبُّ الرَّبّ إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف ... كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء» وهو الإسم الّذي لا يُنطق به من قبل الإنسان فالرّبّ هو الّذي يكشفه من ذاته. إنه اسم الله المقدس الّذي يسمعه موسى على جبل سيناء من صوت الله. لذلك في الفكر اليهودي لمّ تكن هناك إمكانية نطق بأسم الله. لهذا السبب لمّ يمارس اليهود هذه العادة لإدراكهم قدرة إلههم الفائقة فكانوا ولا يزالوا يُكتبون "يهوه" وينطقوه "أدوناي" لعظمة إسم اله بني إسرائيل. في الممارسات السحريّة كان الأمر على العكس تمامًا، فكان يتوجب على الشخص أنّ يعرف اسم إلهه ليتمكن من استدعائه وإجباره على فعل شيء لصالحه باسمه. مَن ينطق باسم الألوهية ويعرفه بالإسم في العصر القديم، كان أداة للسيطرة على الألوهيّة ذاتها. ينجو إله الكتاب المقدس سواء العبري أم المسيحي من رؤية هذه الألوهية. نكتشف إنّ إسم الله يحسب سفر الخروج هو الشخص الّذي لا يمكن إجباره من خلال الممارسات السحرية، ولكنه يريد إقامة علاقة حرة ومتحررة مع شعبه. لا يمكن أن يتحول إله الكتاب المقدس إلى شيء ولا يمكن استغلاله أو إختزاله إلى صنم. بالنسبة لنا كمسيحيين، يُعد هذا جانبًا هامًا للغاية يجب أن نتعلمه مرة أخرى من التقليد اليهودي. يبقى الله «إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه» (يو 1: 18).
بعد إعلان الاسم الذي لا يوصف، أعلن الله عن نفسه بأنه "رحيم ... كَثيرُ الَرَّحمَة"، عالميّن بأن تجذر هذا المصطلح في العبرية هو "رحميم" أي "أحشاء الأمّ". تشير صفة الرحمة الإلهيّة إلى وصف الله بمشاعر الأم تجاه ابنائها. حب إلهي ذو وجه أُنثوي وأمومّي ينسبه الكتاب المقدس إلى الله ويشمل على حبه العميق. دعونا لا ننسى أنّ السيّاق الّذي نقرأ فيه هذا النص هو سيّاق خطيئة إسرائيل لعبادته للعجل الذهبي الّذي تمّ ذوبانه على يديّ هارون بناء على طلب الشعب. حقيقة إن الله يعرّف نفسه بأنه "رحيم" تشير إلى أنه مع إسرائيل هو الغافر، كالأم التي تسامح أبنائها دائمًا. نلاحظ على الفور الانسجام مع ما سبق، يُعرّف الله نفسه من خلال علاقته مع شعبه ليس الّذي يعاقب بل الّذي يغفر. في واقع الأمر، يظهر إنّه "رحيم" في علاقته بإسرائيل.
1.2. الطريقة الثانيّة بعد تعريفه بأنه "رحيم" يُعرّف إله الكتاب المقدس نفسه بأنه "رَؤُوف". وقد تمت ترجمة هذا المصطلح أيضًا، مشددًا على وجه الغفران بلفظ "الرحيم". لكن في الواقع يمكن ترجمتها على إنّه "ملء الجمال". مصطلح يمكن أن يشير إلى الجمال الجسدي والمعنوي. إنه إله الجمال، وعلاقاته تتمتع بالجمال والحرية، بالبقاء والواقعيّة، يمكن للمؤمن أنّ يتحقق، بدءًا من هذا المصطلح، خاصية الله في كونه "إلهًا حُراً". لا يمكن استغلال علاقته بشعبه، لكنها تظل دائمًا مجانية وبدون مبرر. يتم التعبير عن مجانية علاقة الله بالبشرية في مصطلح "نعمة" الذي يشير إليه المصطلح العبريّ cheded كما أن إله الكتاب المقدس "بطيء الغضب". يمكننا أيضًا ترجمة " طَويلُ الأَناةِ". إله يعرف كيف ينتظر ويتبع أوقات الإنسان. صبور الله.
1.3. الطريقة الثالثّة والأخيرة، يعرّف إله الكتاب المقدس نفسه بأنه غني بالمحبة والإخلاص بلفظ "كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء [الأمانة]". تشير الأمانة وهي كلمة مهمة للغاية في جميع الكتب المقدسة العبريّة. في كثير من الأحيان، يتم إقرانها بفضيلة الأمانة أيّemet تشير إلى حقيقة الحب الّذي يختلف عن الولاء أو الإنتماء. إله الكتاب المقدس يظل إلهنا الأمين. وفي هذه الحالة أيضًا، فإن السيّاق الذي يناسب المقطع ليس بقليل، بينما الشعب لا يتمتع بالأمانة، يظل الله أمينًا. بهذا التعبير يظهر الله نفسه ناشطًا بمحبة مجانية وصادقة، والّتي هي أساس علاقته بشعبه. يختار الله إسرائيل ليس لأنّه مجبر باختياره له، ولا بسبب استحقاقه بل بأمانته المجانيّة والمجانيّة بدون سبب (راج تث 7: 7) بينما يظهر الإنسان في اختياراته نفسه متحيزًا وغير ثابت، يأتينا النص بحقيقة الله الحرة والأمينة. فصورة الله الخالق تحمل صورة الله الآب وهو الأقنوم الأوّل من الثالوث المقدس.
2. وجه الله - الابن (يو 3: 16- 18)
نفس وجه الله الّذي تّمّ التعبير عنه في النصّ الأوّل لهذا المقال (خر 34: 4-9). وها هو ابن الله نفسه هو الّذي كشف اسمه لموسى وهو يجدد عهده مع شعب إسرائيل في سيناء بعد حادثة العجل الذهبي. إذّ يرويّ كاتب الإنجيل الرابع في سياقه مُتتبعًا ديناميكيّة الحوار بين يسوع ونيقوديموس الّذي ينتقل بنا الكاتب من حب الله لشعب إسرائيل كما رأيناه بسفر الخروج إلى حب الله للعالم كله بدزن إستنثاء، مُرسلاً بكرمه بأبنه الوحيد الّذي يلتقي هنا بالانسان ويتحاور معه قائلاً: «فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد» (يو 3: 16- 18).في هذا النصّ الإنجيلي نجد إستمراريّة كشف اسم الله الذي نزل أمام موسى على جبل سيناء، في هبة الابن. إنّ الابن، الذي يُعطى حُبا بالعالم (يو 3: 16) يصير الكشف الكامل عن الرحمة والنعمة وطول الأناة والأمانة. الابن هو خُلّاصة حب الآب، لقد أحب الله كثيرًا لدرجة أنه أعطى خُلاصتّه". في هذا المقال نتلّمس تجليّ "أيقونة الثالوث" في الآب الذي يستمر بعد عن كشفه لإسمه باعطاء ابنه لأسباب خاصة به وتتعلق بمحبته. ومع ذلك فهو رواية الله تُحكى في وجه ابنه الوحيد الـمُعطى للعالم. في الابن لا يسمح بامتلاك الآب، بل يسمح بلقائه من خلال ابنه البكر وهو الأقنوم الثاني بالثالوث.
3. أين الرّوح القدس؟ (خر 34: 4- 9؛ يو 3: 16- 18)
عمل الله مع موسى يتميز بدفعة الرّوح القدس، وتجسد الابن تمّ بنعمة الرّوح القدس وهو الّذي قادّ رسالة الابن الأرضية ورافقه. لا نجد الرّوح وهو الأقنوم الثالث من الثالوث بصورة مباشرة بل ضمني في كلا النصيّين، فأينما حل أحد الأقانيم حل الأخرين معه. وهذا يؤكد دور الرّ,ح الباطني والخفي.
الخلّاصة
كما رأينا لقد عّرّف الله نفسه في نص سفر الخروج من خلال صفاته الّتي تضفي وتتضح في علاقته بشعبه (خر 34: 40- 9) أو بالعالم (يو 3: 16- 18). اليّوم تتجلى هذه الصفات في السرّ المسيحي للثالوث، الذي نوهنا إليه في هذا المقال، حيث أكدنا على أنّ علاقة الله علاقة في ذاته هي الحب والأمانة والرحمة وليست صفات خارج عنه، بل هي جوهر حياته. حضور الله الثالوث يجب أن يستمر في حياتنا وايماننا بالله الآب والابن والرّوح. فقد كشف لنا هذا المقال عو إسم إله المسيحيّة هو إله يسمح لنفسه بالتعرف عليه في التاريخ؛ إله يمكن الحديث عنه فقط من خلال "سرد" مسيرة من الحب والأمانة دُعينا جميعًا للدخول فيها. الله هو إله الأنبياء وإله يسوع، هو إله لا يمكن تفسيره أو وصفه، ولكن يمكن لقائه فقط في الابن والرّوح. لكن هذا يعني أننا لا نستطيع التحدث عن الله بمعزل عنا. يترك نفسه يسير معنا. وأختتم معكم برد فعل موسى الّذي «انحَنى إِلى الأَرضِ ساجداً، وقال: "إِن نِلْتُ حَقّاً حُظوَةً في عَينَيكَ، يا رَبّ، فَلْيَسِرِ الرَّبُّ إِذاً في وَسْطِنا، لأَنَّه شَعبٌ قاسي الرِّقاب. فاَغفِرْ إِثمَنا وخَطيئَتَنا واتَّخِذْنا ميراثاً لَكَ"» (خر 34: 8- 9). فليكن السجود أمام الله الثالوث أيقونة حياتنا آب وابن ورّوح قدس، هو ردّ فعلنا أمام عظمة حب الله للعالم الشخصي والعالم البشري. دُمتم في قلب الله الثالوث ودامت أمانته ورحمته لنا جميعًا.