موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحدُ الثاني من زمن القيامة الـمجيدة (ج)
مُقدّمة
"المسيح قام" هي تحيتنا كمسيحيّين لمدة خمسين يومًا من بعد القيامة. في العُليّة وهي مكان العشاء الـمعلم الأخير مع تلاميذه وهو ذات المكان الّذي يروي كاتب الإنجيل الرابع بداخله حوار رحيم. في هذا الأسبوع الّذي نضع في مركزه الرحمة الإلهيّة والّتي تجعل قرائتنا الكتابيّة ذات مذاق مختلف في هذا الزمن الفصحيّ حيث يكشف لنا اللقاء الحميم بين القائم وأحد التلاميذ جوهر خاص بوجه الآب الّذي يعكسه الابن الإلهي في توصيله هذه الرحمة الّتي هي لقب الله الآب.
في قرائتنا لهذا الأسبوع الثاني من زّمن القيامة كعاداتا في سلسلتنا الكتابيّة، على التوازي بين الـمزمور الـ 117 من سفر المزامير، بالعهد الأوّل، الّذي يكشف عن بُعد إستباقي عن رحمة الرّبّ الّتي بدأت من الخلق ولن تنتهي وسنتعرف لاحقًا على الأسباب. وبين النص اليوحنّاوي الّذي يبثّ فينا أحداث القيامة من خلال عدة لقاءات تمّت بين يسوع المسيح الـمُمجد أي القائم وبعض من شخصيات محددة من النساء، سواء فرديًا كالـمجدليّة، والرجال كـتوما وبطرس أم جماعيًا في عدة ظهوراته للتلاميذ سواء بالمكان المغلق أم على شاطئ البحر. سنعيش من خلال ظهور القائم لـتوما، بحسب يوحنّا، (20: 19-31)، وفي لقاء مُتميز بين الرّبّ وتلميذه، يعلن الرّبّ الـمُمجد قوة رحمته
1. الحمد للرحمة الإلهيّة (مز 117)
ينتمي الـمزمور الــ 117 (118) إلى مزامير التسبيح والحمدّ. لفظ مزمور "كرم" من العبري هو نشيد يتهلل به كاتب سفر الـمزامير الّذي ينتمي للكتب الحكميّة حاملاً دعوة ليّ ولك، بالشكر والحمدّ للرّبّ، من خلال الفئات الـمختلفة لبني إسرائيل كاشفًا عن السبب: «اْحمَدوا الرَّبَّ لأنه صالِح لانَّ للأبد رَحمَتَه» (مز 117: 1). الرحمة هي هدف التسبيح والشكر للرّبّ. شعب إسرائيل يمثلنا جميعًا بل هو يتجدد فينا. حتى أنّ بيت إسرائيل وبيت هارون الكاهن وكل مَن ينتمي للرّبّ مدعو في هذا الأسبوع الّذي يليّ أحد القيامة مباشرة بأنّ يتهلل ويسبح الرّبّ بسبب رحمته. هذ التكرار الّذي يلّح عليه الكاتب بتريده ليكشف لنا: «لِيَقُلْ بَيتُ إسرائيل: إِنَّ للأبدِ رَحمَتَه لِيَقُلْ بَيتُ هارون: إِنَّ للأبدِ رَحمَتَه لِيَقُلِ الـمُتَّقونَ لِلرَّبّ: إِنَّ للأبدِ رَحمَتَه» (مز 117: 2-4). تصير الرحمة بمثابة اللقب الجديد الّذي يمكننا أنّ نُلقب الرّبّ إلهنا به. يتجذر لفظ الرحمة في العهد الأوّل في اللغة العبريّة من لفظ رحميم أي الأحشاء أو الرحم الّذي يحمل الابن ليلده للحياة. هو المكان الّذي يكشف الرّبّ الإله حنانه علينا كأبناء له إذ ولدنا بمشاعر حنونة وفيّاضة كالأمّ الّتي تلد بنيها وتغمرها بفيض حبّ رحمها الّذي لا ينتهي. الرّبّ هو مصدر الرحمة الّتي يغمسنا فيها ويدعونا الكاتب بأنّ نستمر في التسبيح والحمد لله الذي لا ينتهي من كشف علامات حبّه الّتي تجسدت في حياة بني إسرائيل بالماضي ولازالت تتجدد في حياتنا بالحاضر. فهو السيّد الرّبّ الّذي يقود تاريخنا منذ بدء الخليقة وللأبد.
من جديد يكرر المرنم تسبيحه للرّبّ بصوت فردي قائلاً: «أَحمَدكَ لأنَّكَ أَحبَبتَني وخَلاصًا كُنتَ لي. الحَجَرُ الَّذي رَذَلَه البَنَّاؤون قد صارَ رأسَ الزَّاوِيَة مِن عِندِ الرَّبِّ كانَ ذلك وهو عَجَبٌ في أَعيُينا. هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبُّ فلنبتَهِجْ ونَفرَحْ فيه [...] تَبارَكَ الآتي باْسمِ الرَّبِّ نُبارِكُكم مِن بَيتِ الرَّبِّ. الرَّبّ هو اللهُ وقد أَنارَنا» (مز 117: 21- 27). يشدد الكاتب على رحمة الرّبّ، إله بني إسرائيل، داعيًا إيانا بأنّ نفرح بهذه الرحمة الّتي نتمتع بها بشكل يوميّ متى إستمرينا في التسبيح والحمد للرحمة الّتي تتجلى بحياتنا يومًا بعد يّوم.
2. علامات الرحمة (يو 20: 19- 23)
على ضوء اللقب الجديد الّذي منحه كاتب سفر المزامير لبني إسرائيل سنتنعم بلقاء فريد من نوعه، حيث إلتقى القائم بأحد تلاميذه الّذين لم يتواجدوا في فترة عبوره الفصحيّ، حيث ترافق رحمة المسيح القائم التلميذ الغائب عن حدث قوي غيّر وجه البشريّة فكشف لنا الأحشاء الإلهيّة الّتي لازالت قابلة لتلد من جديد مَن كان منا غائبًا أو مَن يجهل أو مَن لأسبابه يعاني من ضعف إيمانه. فيعلن الإنجيلي في يوم الأحد التالي للقيامة، أي بعد أسبوع من عبوره سرّه الفصحي. تأتينا مباردة القائم بظهوره الحيّ وعدد تلاميذه الخائفين مكتملاً: «فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: "السَّلامُ علَيكم!" قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ» (يو 20: 19- 20). من جديد يسوع القائم يرافق تلاميذه الغائبين ليس فقط جسديًا بل أيضًا إيمانيًا وهذه الـمباردة تعلن إنتصاره على كلّ العوائق والتحديات سواء الّتي للتلاميذ أم الّتي لدينا اليّوم. يسوع القائم يكشف عن علامات حبه الرحيمة وهي الـمطبوعة في يديه ورجليه وجنبه. وجود يسوع علامة على أنّ رحمة الرّبّ الّتي بدأت بالـماضي مع شعبه لم تتوقف بل إستمرت عابراً قرون وقرون ليتواصل مع شعبه الـمُتمثل اليّوم في التلاميذ الـمرافق للقائم. وتأتي نتيجة العلامات الّتي طبعت في جسد يسوع كعلامات رحمة الله الآب إلينا في قوله التالي: «"السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً". قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم» (يو 20: 21- 23).
يعطي القائم بمجانيّة وبدون أنّ يطلب منه أحد نعمتيّ السّلام والرّوح القدس وهن علامتيّ رحمة الله بعد قيامة ابنه الإلهي.
3. اللقاء الـمتميّز (يو 20: 24- 29)
يروي شاهد العيّان وهو كاتب الإنجيل الرابع والّذي يعيش حدث الظهور الإلهي للمرة التانية مع التلاميذ ولكنه يأتي بعدسته المتمركزة على لقاء القائم بأحد الحاضرين من تلاميذ يسوع ذاكراً إسمه، وهو توما. حيث أشار بصعوبة إيمان توما بسرد التالي: «على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع. فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: "رأَينا الرَّبّ". فقالَ لَهم: "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن"» (يو 20: 24- 25). فقد أكدّوا التلاميذ العشر برواياتهم بأنّهم تمتعوا برؤية الـمعلم قائمًا ولم يُصدقهم، لأنّه بالفعل حدث فائق الطبيعة. لذا يبادر يسوع ثانية، بعد ثماني أيّام، ليرافق التلميذ الّذي يُمثلنا ويشبهنا، والّذي يصعب عليه أنّ يعبر من اللإيمان إلى الإيمان ومن الغياب للحضور، والأبواب مغلقة سارداً هذا الحوار بين يسوع وتوما (يو 20: 27-29):
القائم: هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً.
توما: رَبِّي وإِلهي!
القائم: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا.
يرتكز الإنجيليّ في لّأهوته على الرؤية الّـتي ترافق الإيمان. حيث تأتي من جديد رحمة القائم لترافق حالة من يعاني أزمة إيمانيّة ودون أنّ يطلب يأتي لينجده من اللإيمان.
4. قفزة الرحمة (يو 20: 30- 31)
كما تجلت رحمة الرّبّ مع شعبه هكذا تتجلى رحمة القائم على أحد تلاميذه الّذي عبر بكلمة القائم وبكشف رحمته له بشكل خاص. هذا هو اقائم الّذي لن يترك أي منا في صراع أو تحديّ إيماني لا يجد له مخرج فكم بالأخرى متى شعرنا بضعف إيماني أو إزومة باطنية تشككنا في رحمة الله ولجأنا له فحتمًا سيأتي وسيكشف هذا الوجه الرحيم الّذي يرتكز علينا نهاراً وليلاً ليعلنه لنا وما علينا إلّا أن نسمه لذاواتنا بالخروج مما يعزلنا عن التمتع برحمته وعن الدخول في حوار لطلب نجدته. وعلى ضوء هذه المصالحة والإعتراف بألوهيّة يسوع يختم الإنجيليّ هذا اللقاء بدعوة خاصة قائلاً: «وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه» (يو 20: 30- 31).
لازال يسوع يأتي في ليلة إيماننا الضعيف لينشلنا وينجدنا ويعاوننا في العبور كما عبر هو في جسده سرّ الآلام وتكللّت بالقيامة ويدعونا الإنجيليّ بشدة إلى التحلي بالإيمان بيسوع المسيح كوجه الرحمة الّذي يكشف اليّوم أحشاء الآب الّتي تلدنا من جديد وتحنو علنيا بالرغم من غيابنا وشك قلوبنا. دعوة الإنجيلي اليّوم لي ولك ومدعوين في هذا الزمن الفصحي وبالأخص في هذا الأسبوع أنّ نتمتع بالرحمة الإلهيّة الّتي تنجدنا لنقفز من الشك للإيمام ومن الظلمة للنّور ومن العنف للرحمة، فتكون قفزة الرحمة متجسدة بحياتنا.
الخلّاصة
توقفنا في هذا الـمقال على لفظ الرحمة من الوجهة الكتابية سواء بالـمزمور الـ 117 أم بلقاء القائم بتوما (يو 20: 19- 31) الّذي رافق كلا منهما رحمة الله الآب بالعهد الأوّل إذ علنيا التهليل والتسبيح للرّبّ. ومن جهة أخرى مدعوين أنّ بمارس قفزة الرحمة سواء مع كاتب سفر الـمزامير أم مع السّرد اليوحنّاويّ فنعبر مع توما في حضور القائم من اللإيمان إلى الإيمان، ونقفز من الشدة والعنف إلى الرحمة فهذه صفة الله الّتي تميز أبنائه الّتي أعلنها أيضًا لوقا الإنجيلي على لسان يسوع الـمعلم ولازال يهمس بها في آذاننا حتى اليّوم قائلاً: «كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم» (لو 6: 36). دُمتم في رحمة دائمة.