موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٩ ابريل / نيسان ٢٠٢٥

"السّاعة الخلّاصيّة" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 4- 7؛ لو 22: 14-23: 56)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 4- 7؛ لو 22: 14-23: 56)

 

أحدُ الشعانيّن الـمقدّس (ج)

 

مُقدّمة 

 

سنفتتح أسبوع الآلام الـمقدس بأحد الشعانيّن، بعد إنتهاء الزّمن الأربعبينيّ، والّذي سنرافق فيه يسوع في أيامه الأرضيّة الأخيرة وقبل إتمامّه سرّ فصحه الـمجيد. ففي هذا الـمقال كعادتنا سنتوقف أمام نص من سفر النبي اشعيا وهو بعض من آيات النشيد الثالث لعبد الرّبّ (50: 4-7). في هذه الآيات نسمع على لسان العبد، الرسالة الّتي منحها له السيّد الرّبّ كإستباق للسّاعة الخلّاصيّة، الّذي يُتممّها في جسده. وعلى هذا الـمنوال سنقرأ بحسب اللّاهوت اللُوقاوي ما سيقوم به يسوع في حضور تلاميذه (لو 22: 14-23: 56). ففي هذا الأسبوع الخاص بالكنيسة والّذي سنقترب بقوّة نحو السرّ الخلاصيّ، سنفتتح ككنيسة في هذه السنة اليوبيليّة 2025، بأحد الشعانيّن الّذي يهيئنا لقبول سرّ آلام الرّبّ. فقد تتبعنا منذ بدأ مسيرتنا الأربعينيّة والّتي بدأناها في أربعاء الرماد بمرافقة يسوع السائر نحو أورشليم ليقدم ذاته (راج لو 9: 51). ففي هذا الأسبوع سنصل إلى ذُروة مسيرة يسوع ووصوله إلى أورشليم حيث نتوقف أمام عبور يسوع الفصحي من خلال آلام وموت وقيامة الرّبّ. يـمهد هذا الـمقال مع مقالنا القادم لعيد القيامة إعلانًا كاملاً عن حدث القيامة الّذي هو جوهر إيماننا المسيحي والّذي تتجلى فيه قيامتنا أيضًا، من خلال سرد روايّة آلام الرّبّ وموته وقيامته. سنتعمق بهذا الإسبوع بدأ من أحد الشعانيّن في السّاعة الخلّاصيّة، وفقًا لمنطق محدد، في الثلاثيّة المقدسة. تساعدنا نصوص هذا الأسبوع للتوقف أمام ساعة عبد الرّبّ وهي ساعة الآلم والّتي تتوافق مع حقيقة ساعة آلام يسوع الّذي يُحقّق في جسده جوهريّة سرّ الحبّ الإلهي عابراً بسّاعة الخلاص مما يجعل معنى السّاعة الخلاصيّة لّاهوتيّا وإيمانيًا أكثر وضوحاً بالتعمق بهذين النصيّين.

 

 

1. كلمة تسَنْدّ الـمُعيي (اش 50: 4- 7)

 

في هذه الآيات، يقدم النبي اشعيا، بعض من كلمات نشيد عبدُ الرّبّ الثّالث حيث نقرأ على لسانه ما يعلنه في حدث مُعاش بعد قبوله رسالة الله إذ يصف تفاصيل حواسه وما يخططه الرّبّ له وكيف يتقبل ما يعلنه الرّبّ له حيث  هناك كلمة ستكون على لسانه وستكون بمثابة سند للضعفاء مُعلنًا: «آتاني السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسانَ تِلْميذ يَبعَثُ كَلِمَةً لِأَعرِفَ أَن أَسنُدَ الـمُعْيييُنَبِّهُ أُذُني صَباحاً فصَباحاً لِأَسمعَ كتِلْميذ. السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني فلمِ أَعصِ ولا رَجَعتُ إِلى الوَراء. أَسلمتُ ظَهْري لِلضَّارِبين وخَدِّي لِلنَّاتِفين ولم أَستُرْ وَجْهي عنِ الإِهاناتِ والبُصاق» (اش 50: 4- 6). مُبادرة السيد الرّبّ بإختياره هذا التلميذ تُوجب عليه أنّ يسمع كلمة الرّبّ بإنتباه لأنّه سيبثّها للضعيف الّذي يحتاجها وقت شدته. ولهذا يستجيب التلميذ ويهيأ جسده، بفتح أُذنيه للسمع، ولسانه، وظهره، وخده،...؛ وهو لا يتراجع ويعلن اللّاعودة عن قراره مُسلمًا ذاته، في هذه السّاعة الخاصة، لكلّ أنواع الآلام طاعة وحبًا في السيّد الرّبّ. ولكن ما يشد إنتباهنا هو ما يختم هذا النص حيث يعلن التلميذ عن نهاية السّاعة والّتي تنتهي بنصرة الرّبّ وثقته في إنّه لن يُخزى قائلاً: «السَّيِّدُ الرَّبُّ يَنصُرُني لِذلك لم أَخجَلْ مِنَ الإِهانة ولذلك جَعَلتُ وَجْهي كالصَّوَّان وأَنِا عالِمٌ بِأَنِّي لا أَخْزى» (اش 50: 7). إتخاذ التلميذ قراره بطاعة وتبعيّة الرّبّ في رسالته الّتي تتوجب آلام، ومع ذلك، ما يُذهلنا ثقته بأنّ السيّد الرّبّ لن يخزيه. من خلال جسد التلميذ يستعد ليعلن كلمة تُعاون وتنج مَن في إحتياج وشدة. سواء أفعال أم أقوال هذا التلميذ ستصير بمثابة قوّة وسند لـمَن يعبر فترة ضعف أو ألم!

 

 

2. سّاعة البارّ! (لو 22: 14-23 :56)

 

من بعض السّمَات الخاصة لرواية الآلام حسب رواية لوقا، حيث أنّ كلّ إنجيلي، عندما يقدم رواية الآلام، يركز على نقاط لّاهوتيّة معينة بحسب منهجيته ووجهة نظره الخاصة. يقدم لوقا حياة وموت يسوع كنموذج للموت وللحياة الّتي ترضي الرّبّ، فهو البارّ. سنقرأ، على مثال التلميذ البارّ الّذي نعرفه بعبد الرّبّ، وهو لقب شرفي ليس للتحقير، حدث العشاء الأخير الّذي تفتتح به الليتورجيّة، في عام اليوبيل 2025، روايّة آلام يسوع الـمطّولة في قراءة أحد الشعانيّن حيث تبدأ من  22: 14 وحتى  23: 56. بعد أنّ وصف الإنجيلي وصول جميع التلاميذ إلى الـغرفة الـمُهيأة من يسوع الـبارّ ليتناول الفصح معهم (راج لو 22: 7- 13)، نجدهم بحسب السّاعة وهي ليست بالـمّرة الوحيدة الّتي يكشف عنها كاتب الأعمال اللُوقاويّة، بالرغم من علمنا بأنّ لفظ السّاعة ينتميّ بالأحرى إلى كاتب الإنجيل الرابع. إلّا أن لوقا يعلن صراحة إذ يقول: «فلمَّا أَتَتِ السَّاعة جلَسَ [يسوع] هو وَالرُّسُلُ لِلطَّعام» (لو 22: 14). وقد إستبق، في الإصحاح الرابع عشر، حدث دخول يسوع إلى أورشليم بقوله: «يا أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبياءِ وراجِمةَ الـمُرسَلينَ إِليها! كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءَكِ كَما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها! فلَم تُريدوا. ها هُوَذا بَيتُكُم يُترَكُ لكُم. وإِنِّي أَقولُ لَكُم: لا تَرَونَني حتَّى يَأتيَ يومٌ تَقولونَ فيه: "تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ!"» (لو 14: 34- 35).

 

إلّا إننا نجد لفظ السّاعة، من جديد،  بحسب الفكر اللُوقاويّ، على لسان يسوع بعد أنّ تعليمه بمثل الكراميّن إذ يختتم بحوار مع الكتبة والفريسيّين: «فحَدَّقَ إِلَيهِم [يسوع] وقال: "فما مَعْنى هذِه الآية: الحَجَرُ الَّذي رَذَلَه البَنَّاؤون هو الَّذي صارَ رَأسَ الزَّاوِيَة". كُلُّ مَن وَقَعَ على ذلك الحَجَرِ تَهَشَّم ومَن وَقَعَ علَيهِ هذا الحَجَرُ حطَّمَه؟)) فحاوَلَ الكَتَبَةُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ أَن يَبسُطوا أَيدِيَهُم إِلَيهِ في تِلكَ السَّاعَة، لكِنَّهم خافوا الشَّعب، فقَد أَدركوا أَنَّه بِهِم عَرَّضَ في هذا الـمَثل» (لو 20: 17- 19). فقد تمكن في الإصحاح الثاني والعشرون، الكتبة والفريسييّن من تحقيق هدفهم وإختيار الوقت الـمُلائم وليس بمخططهم بل بحسب مخطط الآب إذ هي سّاعة الخلّاص لكلّ البشريّة.

 

 

3. الفصح بـملكوت الله (لو 22: 17- 20)

 

تأتينا كلمات السرد اللُوقاوي في هذه الليلة بإعلان يسوع رغبته القلبيّة حيث يعلن علانيّة، في فصحه العبري الأخير، أمام تلاميذه: «اِشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً أَن آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكم قَبلَ أَن أَتأَلَّم. فإِنِّي أَقولُ لَكم: لا آكُلُه بعدَ اليَومِ حتَّى يَتِمَّ في مَلَكوتِ الله» (لو 22: 15- 15). وبهذا القول يسبق يسوع، ساعته الخلاصيّة الّتي ستتم بعد ساعات ليست بكثيرة في جسده، والتلاميذ لا يدركون بعد حقيقة إعلان آكل الفصح بملكوت الله وليس بينهم ثانيّة. وبهذا التمهيد اللّاهوتي حاول فيه الإنجيلي منذ بدء بشارته الكشف عنه والآن نجد أنّ مسيرة يسوع الأرضية بالقرب من الإنتهاء وهو يُتمم البرنامج الّذي أعلنه عند بدءه رسالته العلنيّة، فيما يخص ملكوت الله، منذ بدءه الثلاث سنوات الأخيرة حينما أعلن للجموع: «يَجِبُ عَلَّي أَنَّ أُبَشِّرَ سائرَ الـمُدُنِ أَيضاً بِمَلَكوتِ الله، فإِنِّي لِهذا أُرسِلْت» (لو 4: 43). والآن يصل يسوع إلى هدف وغايّة رسالته الّتي أرسله الآب لأجلها.

 

بعد إعلان يسوع رغبته يترك للتلاميذ جوهره فهو لن يحتفل جسديًا بالفصصح العبري بين تلاميذه ثانيّة إلّا إنّه سيفتتح بتأسيس سرّ الإفخارستيا معهم مسيرة جديدة من الفصح الـمسيحي. حتى تلاميذه لنّ يحتفلوا ثانيّة بالفصح العبري بل كلّ الأعياد ستتجدد وتأخذ مجالاً جديداً على ضوء آلام وموت وقيامة الرّبّ الّذي يترك ذاته في علامات الخبز والخمر بعد أنّ أخذ الخبز والخمر قائلاً: «خُذوا هذا واقتَسِموهُ بَينكم، فإِنِّي أَقولُ لَكم: لن أَشرَبَ بَعدَ اليَومِ مِن عَصيرِ الكَرمَةِ حتَّى يَأتيَ مَلَكوتُ الله [...] هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري [...] هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم» (لو 22: 17- 20). بذل جسد يسوع وإراقة دمه سيصيران مجالاً لفتح ملكوت الله وإتمام الفصح الجديد عابراً بآلامه وبموته هذا الـملكوت الأبدي وهو ملكوت الله.

 

 

4. إتمّام السّاعة (لو 23: 47- 49)

 

واليّوم في رواية آلام يسوع بحسب لوقا نقرأ تحديد إتمام يسوع لهذه الساعة الخلاصيّة بالوصف اللُوقاوي الفريد إذ هناك شخصيّة خاصة إفتتح بها لوقا حوار يسوع مع مريم ويوسف حينما فُقد بالهيكل حينما قال: «ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟» (لو 2: 49). وها نحن الآن آخر كلمة ليسوع بحسب لوقا هي صرخته للآب وقت إتمّام ساعته الّتي يتمم فيها إرادة الآب وخلاص الإنسان معًا: «وكانَتِ السَّاعَةُ نَحوَ الظُّهر، فخَيَّمَ الظَّلامُ على الأَرضِ كُلِّها حتَّى الثَّالِثَة، لِأَنَّ الشَّمسَ قدِ احتَجَبَت. وانشَقَّ حِجابُ الـمَقدِسِ مِنَ الوَسَط.  فصاحَ يسوعُ بِأَعلى صَوتِه قال: ((يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي!)) قالَ هذا ولَفَظَ الرُّوح.  فَلَمَّا رأَى قائِدُ الـمِائَةِ ما حَدَثَ، مَجَّدَ اللهَ وقال: ((حقّاً هذا الرَّجُلُ كانَ بارّاً!))   وكذلِكَ الجَماهيرُ الَّتي احتَشَدَت، لِتَرى ذلِكَ الـمَشهدَ فعايَنَت ما حَدَث، رَجَعَت جَميعاً وهي تَقرَعُ الصُّدور. وَوَقَفَ عن بُعدٍ جميعُ أَصدِقائِه والنِّسوَةُ اللَّواتي تَبِعنَهُ مِنَ الجَليل، وكانوا يَنظُرونَ إِلى تِلكَ الأُمور» (لو 23: 47- 49). هذه هي السّاعة الخلّاصية الّتي منح فيها يسوع ذاته للعالم بموته الخلّاصي وصالحنا بالله الآب، فاتحًا باب الرجاء في الحياة الأبديّة من خلال صرخته الّتي إنتصر بها على الـموت والشرّ والشرير. بينما يصارع يسوع ليصالحنا الآب هناك بعض من الفئات اليهوديّة الـمعاصرة له كانت تنظر فقط لحدث عبور يسوع  من الـموت إلى الحياة، كالجماهير والأصدقاء والنساء الّذين تبعوه وعرفوه إلّا أنّ هناك شخص واحد إعلن إيمانه، نعم هو قائد الـمئة الوثني!  إيمان قائد الـمئة ينفرد لوقا بوضع صفة خاصة في إعتراف على لسان قائد الـمئة، والّذي يشير بقوله إلى يسوع: «حقّاً هذا الرَّجُلُ كانَ بارّاً!» (لو 23: 47). بينما الإنجيليّين الإزائيّين الآخرين وضعا تعبيرًا مختلفًا على لسانه فقالا: «كان هذا ابنَ اللهِ حقّاً» (مت 27: 45؛ راج مر 15: 39). إذن، بموت يسوع تمّت ساعته الخلّاصيّة وبإعتراف قائد الـمئة الّذي إنفرد بإعلانه إتمّام هذا الخلاص بموت البارّ وصارت معروفة ساعة يسوع البارّ ليس بإعتراف تلاميذه والجموع الّتي تبعته. ونحن كمؤمنين مسيحييّن ماذا يمكننا القول عن تقديم يسوع لخلاصنا اليّوم؟

 

 

الخّلاصة

 

في هذا الأسبوع الـمقدس الّذي يفتتحه يسوع بدخوله أورشليم، توقفنا من خلال نصيّ بكلّا العهدين. توقفنا، بنص العهد الأوّل، لـمناقشة ساعة العبد البارّ الّذي تممّ فيها رسالته الخلّاصيّة بشكل إستباقي لآلام يسوع ابن الله. هذا التلميذ الّذي واجه الألم بلا رجعة بحسب كلمات نشيده الثالث بنبؤة اشعيا (50: 4- 7) وراهن فقط على رجائه في السيّد الرّبّ. بالنسبة للروايّة الـمطولة لآلام يسوع بحسب لوقا الإنجيلي (لو 22: 14-23: 56) بالعهد الثاني فقد إخترنا بمقالنا هذا بعض التلميحات اللّاهوتيّ’ الّتي أشار فيها الكاتب إلى ساعة يسوع الخلّاصيّة الّتي بدأت بإحتفاله بعشاء الفصح العبري مع تلاميذه ومنذ هذا الوقت بدأ يسوع بتسليم ميراثه لتلاميذه وفي ذات الليلة تم إعتقال يسوع والبدء في محاكمته. إلّا أنّ بين المعاصرين له هناك كثيرون كانوا من الـمتفرجين عن بُعد ولكن هناك الوثني قائد الـمئة الّذي إعترف ببنوة يسوع الإلهيّة من خلال غفرانه وتقديم ذاته بمجانيّة لخلاصنا. في هذا اليّوم مدعويّن برفع رؤسنا بشكر للرّبّ الّذي لازال يقدم خلاصه ويحررنا وما علينا إلّا بالإعتراف بأنّ يسوع هو ابن الله، وساعته لازالت مستمرة ليصالحنا بالآب وليخلصنا من جديد بفضل عفرانه وحبّه الإلهي. دُمتم في قبول دائم لسّاعة يسوع الخلّاصية الّتي ستحملنا للقاء القائم.