موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

أحشاء رحمة

بقلم :
الراهب بولس رزق الفرنسيسكاني - مصر
الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية تلتقيان تحت شعار: أحشاء رحمة

الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية تلتقيان تحت شعار: أحشاء رحمة

 

احتضنت الرهبنة الفرنسيسكانية اللقاء العاشر، في كنيسة سان جوزيف بوسط البلد، وهو اليوم الذي يجمع سنويًا الرهبان والراهبات والمكرسين والمكرسات من الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة. وقد كان شعار هذا العام "أحشاء رحمة".

 

رحّب الأب مراد مجلّع، الخادم الإقليمي للرهبنة الفرنسيسكانيّة، بكلمة افتتاحية. ثم ألقى الأنبا مكاري، أسقف جنوب شبرا، كلمة شكر للرهبنة وللجنة المنظمّة ممثلة في الأب ميلاد شحاته الفرنسيسكاني. كما شارك المطران كلاوديو لوراتي، مطران اللاتين بمصر، وألقى كلمة وجيزة. وقد حضر أيضًا الأب ريمون جرجس، الزائر العام لإقليم العائلة المقدسة بمصر. وقدّم الأب د. ايليا اسكندر الفرنسيسكاني موضوع هذا العام حول "أحشاء الرحمة"، متطرقًا إلى كيفية تجسيد مشاعر المسيح في الحياة المكرسة".

 

 

وفيما يلي مقتطفات من المحاضرة:

 

 

إنّ أحشاء الرحمة هي قلب ومحور ومركز علاقة الله بالإنسان. فمصطلح "أحشاء الرحمة" يجد أصله وجذوره في الكتاب المقدس إذ يقدّم لنا صورة جلية ومعبرة عن عمق عظمة محبّة الله للإنسان. ففي اللغة العبرية "رحم - رحميم" يعني الارتباط برحم الأم في أحشائه الداخلية، وبذلك يرمز إلى منح الحياة، والمحبة العميقة غير المشروطة. فحب الله وتحرك أحشاءه الداخلية ليس فقط عاطفة، إنما حركة متدفقة من الله تجاه الإنسان فتجعل الله ملتزمًا أن يشفي ويعزي ويخلص ويجدد رغم كل الظروف.

 

 

أولاً: في العهد القديم

 

ذكر مصطلح "أحشاء الرحمة" أكثر من 100 مرة في صيغ مختلفة وبمعاني شتى، منها: في سفر أشعياء النبي (15:49) "إن نسيت الأم رضيعها، فأنا لا أنساك". فهذا الحب مقارنة بحب الأم لرضيعها، حب محيي، يُعطي حياة، ولا يتخلى أبدًا عن من يحب. فحتى لو الأم نسيت، فالله لا ينسى! كما نجد في سفر هوشع النبي (8:11) "تحركت أحشائي في داخلي، وقلبي ارتجف شفقة"، وهذا إعلان عن محبّة الله رغم خيانات الشعب له، مؤكدًا أمانته التي تفوق أية خيانة بشرية.

 

 

ثانيًا: في العهد الجديد

 

إنّ أحشاء رحمة الله، قد تجسّدت في العهد الجديد، في شخص يسوع المسيح الذي هو الإعلان الحقيقي لرحمة الله. فالمسيح عندما رأى الجموع أخذته الشفقة (متى 36:9)، فحركة أحشاء يسوع هي حركة ملؤها الحب. ونجد ذلك أيضًا في نصوص إشباع الجموع (مرقس 34:6)، شفاء خادم قائد المئة (لو 1:7–10)، إقامة ابن أرملة نائين (لوقا 11:7–17)... فكل ما قام به يسوع هو حركة في الأحشاء، لتمثّل شفته على الإنسانيّة، وترجمت إلى لفتات ملموسة: تشفي المرضى وتعزي المحزونين وتحتضن الخطاة وتقيم الموتى.

 

ويجسّد الصليب قمة إعلان رحمة الله، حيث نجد ذروتها في ذبيحة الصليب التي فيها بذل المسيح حياته من أجل خلاصنا. فالصليب هو أسمى تعبير عن الرحمة، وهو علاقة المحبّة التي تحتضن الخاطئ فيطهره ويفتديه ويعيد إليه الحياة. كما أنّ هذه المحبّة لم توجه فقط لأتباع السيّد المسيح، بل حتّى للأعداء، وبشكل غير مشروط: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!" (لو 34:23).

 

وفي مثل "السامري الرحيم" (لوقا 10) الذي أعطاه السيّد المسيح، فإنّنا نجد فيه تعبيرًا عمليًا ملموسًا عن عمق رحمة الله. فهذا الحب يترجم من خلال أعمال السامري الذي لم ينتظر أن يتحرك الآخر تجاهه، بل بادر بأن يكون قريبًا له، واعيًا ومساندًا له.

 

وانطلاقًا من نداء القديس بولس في رسالته إلى أهل فيلبي "لتكن فيكم مشاعر المسيح"، فتمثّل هذه الآية دعوة قوية لجعل حياتنا تتوافق وتتناغم مع حياة المسيح. فالأمر لا يتعلق بتقليد المسيح ظاهريًا، بل اتخاذ أسلوبه الخاص في التفكير والأحساس والحب. وهذا يعيدنا إلى روح الخدمة التي مارسها السيّد المسيح، الذي صار خادمًا، وغسل أرجل التلاميذ، تاركًا لنا مثالاً في الخدمة المتواضعة.

 

 

ثالثًا: كيف نعيش مشاعر المسيح في حياتنا المكرسة

 

1: عيش التواضع في الجماعة الرهبانية

إنّ قبول المكرّس ضعفه، تمثّل دعوة للاعتراف بأن كل الأشياء هي عطية من الله.

 

2: ممارسة الطاعة على أنها محبة خالصة الله

أولاً طاعة لإرادة الله: فالمكرس مثل المسيح مدعو إلى تمييز مخطط الله وقبوله بثقة حتى لو كان هذا المخطط ينطوي على تضحيات. وثانيًا: طاعة الرؤساء والجماعة الرهبانية، فالطاعة هنا ليست مجرد تنفيذ أوامر بل تدريب على الحرية الداخلية التي تساعد على العيش المشترك.

 

3: تنمية الرحمة تجاه الآخرين

للمكرس دعوة في أن يمتلك "أحشاء رحمة"، وأن يجعل من نفسه قريبًا لكل من هو متألم وضعيف، وأن يظهر له محبة عملية، وليس فقط تعاطفًا. وأن يكون أيضًا أداة للتعزية، فالرحمة تترجم في الإصغاء والحضور وحمل الرجاء لمن يعيش مواقف مؤلمة.

 

4: حب شامل ومجاني

على مثال يسوع (حب حتّى الصليب)، فإنّ المكرس مدعو إلى بذل ذاته دون تحفظ حتى عندما يتطلب الحب التضحية ويتجلى هذا في الخدمة الأخوية والغفران غير المشروط. أما روح الصلاة فتمثّل النبع لهذه المحبة، فالصلاة في حياة المكرس على مثال المسيح هي علاقة حميمة مع الآب التي تغذي الحياة، وتجعل من القلب قادرًا على أن يحب مثل السيّد المسيح.

 

5: عيش روح الخدمة والشهادة

إنّ المكرّس مدعو أن يكون خادمًا للإخوة، وأن يعيش هذه الخدمة كأسلوب حياة، ليس من خلال أعمال خارقة، إنما بأعمال يوميّة والتي يمكن أن تبدو وكأنها وضيعة. كما أنّه مدعو لكي يشهد لمحبّة السيّد المسيح في العالم، وهنا تصبح الخدمة أداة لجعل الحب مرئيًا وملموسًا للجميع.

 

 

رابعًا: الأدوات التي بها نرعى وننمي فينا مشاعر المسيح

 

قدّم الأب ايليا اسكندر بعض الأدوات التي يمكن من خلالها إنماء مشاعر المسيح:

 

1. الصلاة وكلمة الله: فالصلاة والتأمل يساعدنا على إعادة اكتشاف مشاعر المسيح، والعلاقة التي تربطه مع الآب، نبع كل محبّة.

 

2. حياة الأسرار: إنّ الافخارستيا هي المكان المميّز أو المكان الخاص الذي فيه ينال المكرس حب المسيح، ويتحول حبًا لهذا الحب.

 

3. الحياة الأخوية: الجماعة الرهبانية هي المحيط الذي فيه المكرس يتعلم ويمارس مشاعر المسيح من خلال المغفرة والمشاركة وقبول الآخر والتدريب على المغفرة غير المشروطة.

 

4. الرسالة: إنّ الحياة الرسولية تعني الخروج لملاقاة الآخرين، خاصة من هم الأكثر احتياجًا. وبالتالي تمثّل الرسالة تعبير عملي على عيش مشاعر المسيح، والتي على المكرّس الانطلاق من جماعته الرهبانية ويعود إليها.

 

 

هذا وشمل اليوم لقاء المحبة والصلاة وتبادل الخبرات والروحانيات. قام بإعداد وتنظيم اليوم الإخوة الدارسين بالرهبنة الفرنسيسكانية. نشكر الله على نعمة استمرار هذه اللقاءات التي تنمي وتعمّق وتُغني حياة من تكرسوا على اسم المسيح وتدفع إلى الصلاة من أجل الكنيسة والعالم.