موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يتناول إنجيل يوم الاحد (لوقا 13: 22-30) موضوع الخلاص: "هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟" من يخلص؟ لكن يسوع لفت انتباه سامعيه من سؤالهم إذا كان عدد الذين يخلصون قليل -الذي كان شائع في العقلية الربَّانية - الى سؤال ماذا نعمل كي نخلص، فوجّههم الى الاجتهاد من أجل الدخول في الملكوت بنعمته من الباب الضيق. ولذلك علينا أن نتخذ القرار المصيري في البحث عن الخلاص، قبل أن يُغلق الباب. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. اولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30) 22 وكانَ يَمُرُّ بِالمُدُنِ والقُرى، فيُعَلِّمُ فيها، وهوَ سائِرٌ إِلى أُورَشَليم تشير عبارة "المُدُنِ والقُرى" الى مدن بيريه وقراها حيث بشَّر التلاميذ السبعون (لوقا 10: 1). أمَّا عبارة "سائِرٌ فتشير الى مسيرة يسوع المسافر وملؤه النشاط الرسولي، حيث يزور البيوت وينتقل من قرية الى قرية ومن مدينة الى أخرى؛ وقد تكررت هذه اللفظة “سائِرٌ باليونانية ??????? ?????????? (88) مرة في إنجيل لوقا دلالة على أهمية مسيرة يسوع نحو اورشليم؛ أمَّا عبارة "سائِرٌ إِلى أُورَشَليم" فتشير الى مسيرة يسوع إلى أورشليم، وهو إتمام المخطط الخلاصي الّذي سوف يُحققه يسوع في المدينة المقدسة، بالموت على الصليب من أجل الجميع. انه السفر الى اورشليم حيث سيصلب هناك؛ حيث نفهمُ من خلال ذلك أنه اختار الطريق الضيق، طريق الصليب. ونستنتج من إنجيل لوقا انه يسوع لم يسافر مباشرة الى اورشليم بل مرَّ في السامرة ثم عاد الى بيريه (لوقا 9: 15-52). أمَّا عبارة "أُورَشَليم" فتشير الى المدينة الموصوفة «بقاتلة الأنبياء». ولوقا الإنجيلي يذكرنا مرارا بهذه الوجهة، وبهذا المصير، مما يعطي لإنجيله الطابع الفصحى. والفصح سيتمُّ في اورشليم، إذ تفرض الشريعة ثلاث زيارات للهيكل في السنة (عيد الفطير، عيد الحصاد (عيد الأسابيع) وعيد الاكواخ (خروج 23: 14-17؛ و34: 22-23 وتثنية الاشتراع 16: 16). وبالتالي يصعد فيها يسوع الى اورشليم ثلاث مرات، وهنا يذكر لوقا الصعود الى اورشليم في السنة الثانية (لوقا 13: 22) في حين ورد ذكر صعود يسوع الى اورشليم في السنة الأولى سابقا (لوقا 9: 51)، لكن يقين الموت المتوقع في صعوده الى اورشليم لم يمنع يسوع من الاستمرار في رسالته في الوعظ وإجراء الشفاء. 23 فقالَ لَه رَجُل: يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟ تشير عبارة " رَجُل " باليونانية ??? (معناها واحد) الى واحد من جملة المجتمعين غير التلاميذ؛ امّا عبارة "يَخلُصونَ " فتشير الى النجاة من العقاب الابدي والفوز بالسعادة الأبدية. اما عبارة " يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟ " فتشير الى سؤال أحد اليهود الذي يعكس الاعتقاد السائد عند معلمهم الربانيين أن الخلاص كان خاصّاً بالشعب المختار فقط؛ ومحتكراً على الذين كانوا أمناء للتوراة. فهو يظن أن فقط القليلون الذين يخلصون، وهم أبناء إبراهيم، حيث عندهم الناموس، ولهم المواعيد. وقد يشير أيضا الى توقع الناس معرفة عدد الذين يخلصون، حيث أنهم يتحدثون عن نتائج الدينونة كأنها عملية حسابية، لكن يسوع بم يجيب مباشرة على السؤال، لان ذلك الاستفسار قد يحمل رغبة مزيفة: لماذا نجتهد ما دام عدد المُخلصين قليل؟ وفي الواقع، يسوع لم يقدّم جوابًا مباشرًا بل قال “اجتَهدوا أنْ تدخلُوا من البابِ الضيِّق. ويعلق البابا فرنسيس "أن الأمر ليس مسألة عدد، إذ ليس من المهم أن نعرف عدد الذين سيخلصون، بل من الأهمية أن يعرف الجميع الطريق الذي يقود إلى الخلاص". 24 فقالَ لهم: اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. أَقولُ لَكم إِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ سَيُحاوِلونَ الدُّخولَ فلا يَستَطيعون. تشير عبارة "قالَ لهم" الى الرجل الذي سال واحد لكنه كان ينوب عن الجمع حيث كان جواب المسيح للجميع لأنه يهمهم كلهم. أمَّا عبارة "اِجتَهِدوا" فتشير الى صيغة الجمع. فالموضوع إذن لا يخصُّ التصرفات الفردية الأخلاقية، بل هو مشكلة جماعية تتعلق بكل الناس حيث حث يسوع الناس ان يلتفتوا الى موضوع خلاصهم عن طريق الجهاد والكفاح والعمل وهي متطلبات الحياة المسيحية "دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله " (لوقا 16: 16)؛ ويعلق البابا غريغوريوس الكبير "اجتهدوا، لأنه ما لم يجاهد الذهن برجولة لا تنهزم أمواج العالم، هذه التي تسحب النفس إلى الأعماق". أمَّا عبارة "البابِ الضَّيِّق" فتشير الى قول مستعار من العرف الذي كان متبعًا في الأعراس في ذلك الوقت، فقد كانت الأعراس تقام ليلًا، وكانت البيوت تُزَّين بالمصابيح، ويدخلها المدعوون من باب صغير يُغلق عقب دخولهم جميعًا. ثم يتمتعون بالأفراح والأنوار، أما الذين يُرفضون فكان لا يفتح لهم الباب مهما قرعوا وكان يبقون في الظلمة الخارجية. وتذكرنا صورة الباب أيضا بالبيت حيث نجد الأمان والمحبة والدفء. يقول لنا يسوع بأنه يوجد باب يُدخلنا إلى عائلة الله، إلى دفء بيت الله وإلى الشراكة معه. هذا الباب هو يسوع نفسه كما صرّح "أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص" (يوحنا 10، 9)، وهو السبيل الوحيد الى الخلاص الذي يقودنا إلى الآب. فالمسيح هو الباب، من يدخل منه ينال الخلاص. ومن خلاله يدخل الإنسان إلى الحياة. هو باب السماء النازل على الأرض "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسان" (يوحنا 1: 51)، الباب الذي يقود الى المراعي التي فيها تُقدم الخيرات الإلهية " أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص يَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرْعًى "(يوحنا 10: 9). وهو الوسيط الوحيد الذي عن طريقه يقدِّم الله ذاته للناس، وبه يجد الناس سبيلهم الى الآب" لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إِلى الآبِ في رُوحٍ واحِد" (أفسس 2: 18)، فهو باب الحياة والخلاص. ويتكلم الرب في إنجيل متى عن ضرورة الدخول من الباب الضيق في العظة على الجبل (متى 7: 13)، وذلك من خلال الابتعاد عن شهوات العالم وملذاته والأنانية واللامبالاة من ناحية، وقبول الاضطهاد لأجل اسم المسيح من ناحية أخرى. ويعلق البابا فرنسيس "أنه من خلال دخول باب يسوع، باب الإيمان والإنجيل، نستطيع الخروج من الأنانية والانغلاق". أمَّا عبارة "الضيق" فتشير الى موضوع "الطريقين": الطريق الضيق والطريق الرحب، حيث يتوجب على الانسان ان يختار أحدهما كما ورد في ملفات قمران. فالطريق الضيق يلمّح الي المتطلبات الجذرية الواردة في عظة التطويبات على الجبل (متى 6: 1-11)، ومن هذا المنطلق، الباب الضيق هو طريق الصليب. لقد طبّق الربّ يسوع قوله واجتازه بسفره نحو أورشليم، فالباب الضيق لنا هو السير في خطاه بما في ذلك من مخاطر وعذابات وعلى ما يقدمه من تعليم جذري على مستوى الوصايا (متى 5: 21)، وما يطلبه من حمل الصليب والسير وراءه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن طريق الخلاص ضيق في مدخله، ولكن إذ تدخله تجد مكانًا متسعًا (راحة)، على عكس الطريق المؤدى للهلاك". وبعبارة أخرى، يسوع هو البابِ الضَّيِّق، وهو الطريق الوحيد للخلاص، وهو الطريق الذي يجب أن يسلكه الجميع لدخول ملكوت الله الآب كما صرَّح يسوع " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي " (يوحنا 14: 6)؛ أمَّا عبارة "لا يَستَطيعون" فتشير الى هؤلاء الذين لا يقدرون ان الدخول من الباب الضيق، لأنهم فاترون واتكاليون. ليس لهم عمق ولا جهد ولا قوة ولا ثبات، إنما يطلبون بابًا واسعًا يشبع شهوات قلوبهم، ويمتِّع أجسادهم بخيرات زمنية. فهم يريدون بابا يحفظ لهم المظهر المتدين، والشكل الصالح أمام الناس، وهم في قلوبهم يرعون أطماعهم. فليس كافيا ان نصغي لكلمات يسوع او نُعجب بمعجزاته، بل من الضروري ان نتحوَّل عن الخطيئة وان نثق في الله ليُخلصنا. ومن هذا المنطلق فإنه لا يجب ان نكتفي بالكلام، بل لا بد من العمل: نأخذ الخيار اللازم بين طريق وطريق، بين تلميذ يكتفي بان يُعلن مشيئة لله وآخر يعملها. وهناك آراء أخرى "انهم لا يستطيعون الدخول" لأنهم طلبوا الدخول بعد فوات الأوان او انه لم يجتهدوا كما يجب ـ او انهم ابوا الدخول من باب الضيق، باب التوبة الايمان وانكار الذات او تأخروا عن الموعد وما دخلوا الباب قبل ان يُغلق. 25 وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا، فيُجيبُكُم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم تشير عبارة "أَقَفَلَ الباب" الى الرفض (متى 25: 10) كما توحي ايضا بفكرة الفرز بين الداخلين وغير الداخلين، حيث أن الباب لن يظل مفتوحا الى ما لا نهاية. هناك نهاية للحياة الأرضية، وهناك وقت مقبول للخلاص، وهناك وقت للدينونة. لقد فتح يسوع باب الخلاص، ولكن المهلة المتاحة لنا كي نجتهد في الدخول ستنتهي يوماً حيث يُقفل باب التوبة، ويبدأ باب الدينونة.؛ لذلك علينا ان نعيش شعار شارل دي فوكو "يجب ان نعيش كل يوم وكأنه يوم الدين. علينا ان نعيشه كأنه اليوم الاخير"؛ ويعلق ابابا فرنسيس "هذا الباب هو الفرصة التي لا ينبغي إضاعتها. لأنه في لحظة ما يقوم رب البيت ويقفل الباب". أمَّا عبارة " فوَقَفتُم في خارِجِه " فتشير الى مثل العذارى الجاهلات اللواتي لم يحتطْن للزيت الإضافي (متى 25: 1-12). أمَّا عبارة "لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" فتشير الى الرب الذي لا يعرف الخطأة الذين لم يحبوه، بل أحبوا العالم. هؤلاء الذين لم يعرفوا طريق الرب في حياتهم، لا يعرفهم الرب في مجيئه الأخير، بمعنى أنه يحسبهم كمن هم غير مستحقين أن يكونوا في معرفته، هم خارج نور بهائه ومجده؛ وقد علَّق القديس ايرونيموس "عند الدينونة لا يعرف الرب الخاطئ بل البار". "يعرف الرب من له، بمعنى أنه يتقبلهم في شركة قويَّة بسبب أعمالهم الصالحة" كما يقول القديس باسيليوس الكبير. 26 حينَئِذٍ تَقولونَ: لَقَد أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا. تشير عبارة "أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" الى الّذين يعتقدون أنهم يحظون ببعض الامتيازات على الآخرين وهم متأكدون من الدخول الى الملكوت اعتماداً على أعمالهم الخاصة، او يشير ايضا الى هؤلاء اليهود الذين شاهدوا رسالة يسوع (متى 7: 22-23). لكن قربهم من يسوع لم ينفعهم، فكانوا مثل الذين زحموا يسوع فلم يستفيدوا شيئاً، بينما لمست المرأة المنزوفة طرف ثوبه فشُفيت (لوقا 8: 43-48). لا يكفي ان نعرف الله ونكون قريبين منه، بل حاجتنا الى الايمان به والعمل بمشيئته تعالى والابتعاد عن الاعمال الشريرة (متى 25: 41)؛ وقد يشير أخيراً الى من يظن أن يخلص مجرد التناول من الجسد والدم. أمَّا عبارة "لقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" فتشير من ناحية الى وجود الآباء والأنبياء في الملكوت الذين أرسلهم الله للشعب العهد القديم لكن كبريائه كان السبب في إغلاق الباب أمامه، ومن ناحية أخرى تشير الى تعاليم المسيح التي ذهبت صرخة في وادٍ، إذ رفض اليهود قبول الإيمان ولم يتبعوا الوصايا الإنجيلية التي تؤدي الى الخلاص. 27 فيَقولُ لَكم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم. إِلَيكُم عَنَّي يا فاعِلي السُّوءِ جَميعاً! تشير عبارة "لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" الى يسوع الديّان في نهاية الأزمنة الذي لا يعترف بالذين يصنعون الشر وفعلة الآثم ليجازيهم سواء كانوا من اليهود او من نسل إبراهيم. هؤلاء ليسوا من الله، لأنهم لم يحبوا الله، بل أحبوا العالم. فالانتماء الى ذرية إبراهيم لا يكفي للانتماء الى شعب الله كما اكّد يسوع في تعليمه "لا تُعَلِّلوا النَّفْسَ قاِئلين: ((إِنَّ أَبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنِّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارَةِ أَبناءً لإِبراهيم" (لوقا 3: 8)، بل يجب على الانسان ان يقبل يسوع ويؤمن به ويشهد له ويثمر ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِه (لوقا 13: 25-27). أمَّا عبارة "إِلَيكُم عَنَّي يا فاعِلي السُّوءِ جَميعاً" فتشير الى عقاب فعلة الاثم في يوم الدينونة حيث يظهر مجد الله (اشعيا 2: 11) وعقاب الانسان (اشعيا 10: 3)؛ فمن لا يدخل في منطق الإنجيل الجديد، يصبح غير أمين للشريعة الحقيقية والوحيدة التي وهبها الله، شريعة المحبة. وبالتالي يصبح أسيراً لشريعة ظالمة وغير عادلة وشريرة، لشريعة تحسب الحسابات وتقيس، وتعيش الخلاص وكأنه حق مكتسب، فلذلك لا يعترف الديَّان بهؤلاء. فالانتماء إلى ذرية إبراهيم لا يكفي للانتماء إلى شعب الله (لوقا 3: 8)، بل يجب على الإنسان أن يقبل يسوع وأن يكون معروفا من الديان. وهنا يكشف يسوع أيضا الناس الذين يُظهرون أنهم معه، ولكن ليس لهم علاقة شخصية به. لكن الأمر الهام هو الدينونة، والدينونة ترتبط في علاقتنا بالمسيح، وقبولنا له مخلصاً وطاعتنا له. ويظن كثيرون من الناس أنَّهم متى كانوا صالحين في نظر الناس، ويظهرون متدينين، فإنهم سيكافئون بحياة ابدية، بينما في الواقع، لن يجدي عند الدينونة شيء سوى الايمان بالمسيح، إذ لا شركة بين النور والظلمة. ويعلق القديس كيرلس الكبير "كثيرون آمنوا بالمسيح، وكرَّموا الأعياد المقدَّسة لمجده، ويترددون كثيرًا على الكنائس ليسمعوا تعاليم الإنجيل، لكنهم لا يمارسون ممارسة الفضيلة وقلوبهم خالية من الثمر الروحي. هؤلاء أيضًا سيبكون بمرارة ويكون لهم صريف الأسنان لأن الرب يرفضهم". 28 فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان، إِذ تَرَونَ إبراهيم وإِسحقَ ويعقوبَ وجميعَ الأَنبِياءِ في مَلَكوتِ الله، وتَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين تشير عبارة "هُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" إلى قيامة الجسد، ليشترك مع النفس في الجزاء، لأنه إن كان يوجد بكاء للعيون وصريف للأسنان أي للعظام، فبالحق ستكون قيامة للأجساد. أمَّا عبارة "تَرَونَ أَنفُسَكُم في خارِجِه مَطرودين" الى انفتاح حضن آبائنا إبراهيم واسحق ويعقوب ليستقبلوا المؤمنين من الأمم، بينما يُحرم منه أولادهم حسب الجسد وهم اليهود الذين رفضوا هذا الإيمان، ولم ينعموا بالنور الإلهي معهم، بل يُطرحون خارجًا في الظلمة؛ فمن ينسحب من عند الرب يكون في الظلمة الخارجيّة، لأن النور يصير خلفه. أمَّا عبارة "مَلَكوتِ الله " فتشير الى وليمة مسيحانية (اشعيا 25: 6) حيث يجتمع المختارون حول الآباء والانبياء كما نستنتج من كلمات يسوع لتلاميذه " اشتَهَيتُ شَهْوَةً شديدةً أَن آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكم قَبلَ أَن أَتأَلَّم. فإِنِّي أَقولُ لَكم: لا آكُلُه بعدَ اليَومِ حتَّى يَتِمَّ في مَلَكوتِ الله "(لوقا 22: 16). والذين لا يلبّون دعوة يسوع يُبعدون عن هذه الوليمة. يوجّه متى الإنجيلي هذا الإنذار الى الشعب اليهودي "وأمَّا بَنو المَلَكوت فَيُلقَوْنَ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة، وهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنان"(متى 8: 12)، في حين أنّ لوقا الإنجيلي لا يقصد الاّ الذين لم يؤمنوا من سامعي يسوع الذين رفضوا ان يؤمنوا. فالدينونة تحكم على اعمالنا وأقوالنا وحياتنا منذ الآن. 29 وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله. تشير عبارة "وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب،" الى نبوءة عن دعوة الأمم الوثنية الذين سيُقبلون من كل اركان العالم الى قاعة الملكوت (اشعيا 2: 2-5) لكي يتمتعوا ببركة الملكوت؛ فالله يقبل في الملكوت حتى الوثنيين الذين يجمعهم من الارياح الأربع أي اقطار الكون الأربعة كما جاء في نبوءة اشعياء "لا تَخَفْ فإِنِّي مَعَكَ وسآتي بِنَسلِكَ مِنَ المَشرِق وأَجمَعُكَ مِنَ المَغرِب. أَقولُ لِلشَّمالِ: هاتِ وللجَنوبِ: لا تَمنعَ. هَلُمَّ بِبَنِيَّ مِن بَعيد وبِبَناتي مِن أَقاصي الأَرض" (اشعيا 43: 5).. لا يُحدد الانتماء الى امة معينة دخول الانسان الى الملكوت، فالشرط الوحيد لدخول الملكوت هو الاعتراف بيسوع واتخاذ القرار باتباعه عن طريق الايمان. ويجب اتّخاذ القرار، قبل ان يُغلق الباب أي قبل أن يكون الوقت متأخّرٌ كثيراً. أما عبارة "فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله" فتشير لجمع أمم من كل لغة لكشف مجده كما جاء في نبوءة اشعيا " ويَأتونَ بِجَميعِ إِخوَتكمَ مِن جَميعِ الأُمَمِ تَقدِمَةً لِلرَّبّ " (أشعيا 66: 20). في خطة الله، أعلن ملكوت الله أولاً لليهود والأخير للأمم (رومة 1: 16)، الذين أتوا الى الكنيسة من زوايا الأرض الأربعة لتشكيل شعب الله الجديد (إشعياء 43: 5–6). 30 فهُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين وأَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين. تشير عبارة "فهُناكَ آخِرونَ يَصيرونَ أَوَّلين" الى الوثنيين الذين تمّت دعوتهم في وقت متأخر لكنهم لبّوا الدعوة قبل اليهود الذين كانوا أوَّل المدعوّين في ملكوت الله كما أكَّد ذلك بولس الرسول "فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ" (رومة 1: 16). وفي الواقع، كثيرون يعرفون الربّ وشاركوا في احتفالات باسمه ولكنّهم لم يدخلوا في فرحه الحقيقيّ. وبالمقابل، هناك من لا يعرفون الربّ، لكنّهم عرفوا كيف يحيون حياتهم بملئها. أمَّا عبارة "أَوَّلونَ يَصيرونَ آخِرين" فتشير الى اليهود، شعب الله، الذين وُجهت كلمة الله لهم أولاً (أعمال 13: 26)، لكنهم صاروا مرفوضين لرفضهم المسيح. ويحذِّر يسوع من أن الكثيرين سيفقدون مكانهم على المائدة السماوية. (إشعياء 63: 15-16). وهكذا يصير الآخرون من الامة الوثنية أولين، والاولون من الامة اليهودية آخرين. الاولون هم الداخلون من الباب الضيق. وباختصار تشدد الآية على ترتيب دخول ملكوت السماوات. ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30) انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 13: 22-30)، نستنتج انه يتمحور حول موضوع الخلاص وسبله. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم الخلاص في المسيح؟ وما هي طرق الخلاص؟ 1) ما هو مفهوم الخلاص في المسيح يسوع؟ الخلاص هي كلمة رئيسية من مصلحات الكتاب المقدس، ويُعبّر عنها باليونانية بلفظة ????: ومعناها أن يخلص المرء، أي أن يُنشل من خطر كاد يهلك فيه، فيحصل على النصر، أو الحياة، أو السلام. والخلاص بمعناه اللاهوتي هبة من الله حيث ان الله هو المُخلص (مزمور 44: 4)، الذي يخلّص البشر، حيث يأتي خلاص الصديقين من الرب (مزمور 37 39-40)، إنه هو نفسه الخلاص (مزمور 27: 1). لأنه سوف يخلص البائسين المساكين (مزمور 72: 4). والخلاص في الكتاب المقدس هو أيضا مرادف للسلام وللسعادة (اٍشعيا 52: 7) وللتطهير (حزقيال 36: 29) وللتحرير (إرميا 31: 7). هذه العناصر من التنبؤات تعتبر تمهيداً مباشرا للعهد الجديد. والواقع أنَّ المسيح هو مخلصنا "وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ" (لوقا 2: 11)؛ ويُظهر متى الانجيلي علاقة هذا الدور باسمه، الذي معناه "الرب يخلص"، "ستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع ????????، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21). وإن سمعان الشيخ يحّيي ظهور ذلك الخلاص على الأرض في تطلع عالمي يشمل الكون كله فأنشد " فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها" (لوقا 2: 30). وأخيراً تُمهِّد كرازة يوحنا المعمدان لسبل الربّ، بحيث إن " كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6). والإنجيل يقدّم الخلاص لكل مؤمن كما يصرّح بولس الرسول "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ" (رومه 1: 16). فان الله " يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4)، لذلك أرسل ابنه كمخلص للعالم كما يُعلن يوحنا الرسول "نَحنُ عايَنَّا ونَشهَد أَنَّ الآبَ أَرسلَ ابنَه مُخَلِّصًا لِلعالَم" (1 يوحنا 4: 14). ولم يأت يسوع لخلاص الجسد فحسب، انما لخلاص الروح ايضا. أنه يُخلّص المرضى، إذ يشفيهم كشفاء المنزوفة (متى 9: 21) وشفاء الرجل ذي اليد الشلاء (مرقس3: 4) والرجل الممسوس (متى 5: 23) وشفاء مرضى كثيرين (متى 6: 56). ويخلِّص يسوع أيضا بطرس والتلاميذ وقد هبَّت عليهم العاصفة (متى 25:8). والشرط الوحيد الذي كان يطلبه يسوع من الناس لشفائهم هو الإيمان به رباً ومخلصا: فإيمانهم " هو الذي يُبرئ المرضى، فقالَ للمرأة المنزوفة على سبيل المثل "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خلَّصَكِ" (لوقا 8: 48)، في حين وبّخ تلاميذه على شكهم عند تسكين العاصفة " فقالَ لَهم: مالَكم خائفين، يا قَليلي الإيمان؟" (متى 8: 26). وأهم من خلاص الجسد قدّم يسوع للبشر خلاص الروح. فكان هدف حياته على الأرض هو خلاص النفوس حيث صرّح " لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه " (لوقا 19: 10)، "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم "(يوحنا 3: 17). ولما ظهر على الأرض إلهنا ومخلّصنا (طيطس 2: 131)، هو الذي جاء ليخلص الخطأة (1 طيموتاوس 1: 15)، فان نعمة مخّلّصنا ومحبته ظهرتا (طيطس 2: 11)، وإذا ما تكلّم فليخلَص البشر كما صرّح يسوع "أَقولُ هذا لِتَنالوا أَنتُمُ الخَلاص" (يوحنا 5: 34). فالمرأة الخاطئة تخلَص لأنه غفر لها خطاياها (لوقا 7: 48-50)، والخلاص يدخل بيت زكا المعترف والتائب (لوقا 19: 9). ولكي ينال المرء الخلاص ينبغي إذاً أن يقبل بالإيمان إنجيل الملكوت كما جاء في مثل الزارع "وأمَّا الَّذي في الأَرضِ الطَّيِّبة فَيُمَثِّلُ الَّذينَ يَسمَعونَ الكَلِمَةَ بِقلبٍ طَيِّبٍ كَريم ويَحفَظونَها، فَيُثمِرونَ بِثَباتِهم" (لوقا 8: 15). وصار المسيح بموته وقيامته" لِجَميعِ الَّذينَ يُطيعوَنه سَبَبَ خَلاصٍ أَبَدِيّ " (عبرانيين 5: 9). وبعد القيامة وحلول الروح القدس، فإن الله أقامه "قائداً ومخلصاً!" (أعمال 5: 31)، لأنه "ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال 4: 12). ويصف اعمال الرسل يسوع بأنه "كَلِمَةُ الخَلاص" (أعمال 13: 26)، وقد وجه أولاً إلى اليهود (أعمال 13: 26)، ومن ثم إلى الأمم الأخرى كما جاء في اعمال الرسل "جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِتَحمِلَ الخَلاصَ إِلى أَقْصى الأَرض" (أعمال 13: 47). ويطلب الرب من الناس، مقابل هذا، أن يؤمنوا لكي ينالوا الخلاص "تَخَلَّصوا مِن هذا الجيلِ الفاسِد" (أعمال 2: 40). فالخلاص حاضر في كل لحظة من الحياة (عبرانيين 2: 3). "وها هُوَذا الآنَ يَومُ الخَلاص" (2 قورنتس 6: 2). 2) ما هي طرق الخلاص التي يقدّمها لنا يسوع المسيح في إنجيل اليوم؟ لم يكتفِ الانجيل ان يُعلن بان يسوع هو المخلص بل كشف طرق الخلاص. وخلال صعوده من الجليل الى مدينة أورشليم سأله رجل على الطريق: " يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟" (لوقا 13: 23). فلم يُجبْ على سؤاله، اذ لم يهتم بعدد الذين يخلصون بل اهتم بسبل الخلاص وكيفية خلاص الناس، حيث أوصى سامعيه ان يطلبوا الخلاص من خلال دخولهم من الباب الضيق محدداً ثلاثة سبل للخلاص، وهي الاهتداء والايمان والاحتياط. السبيل الأول: الاهتداء يُعلن إنجيل لوقا السبيل الأول "اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق" (لوقا 13: 24)، والفعل في اللغة اليونانية ?????????? ، يمكن لهذا الفعل أن يجعلنا نفكر في جهد الإرادة، بمعنى أنه لا يدخل إلى الملكوت سوى أولئك الذين يبذلون أقصى جهد. وهو نفس المصطلح ?????? " أَخذَه الجَهْدُ" (لوقا 22: 44) الذي يستخدمه لوقا الإنجيلي في مشهد بستان الزيتون (الجسمانية)، حين يعيش يسوع صراعه للمضي قدمًا في طاعة أبيه، وفي صراعه إلى أقصى حد كي لا يستسلم لتجربة تخليص نفسه فقط، بل أن يبذل حياته من أجل خلاص الجميع. ويوضح متى الانجيلي بان المطلب الأول لدخول الباب الضيق هو الاهتداء " أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون. ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الحَياة، والَّذينَ يَهتَدونَ إِليهِ قَليلون " (متى 7: 13-14). فالاجتهاد بداية الاهتداء. أنّ الخلاص ليس مسألة انتماء إلى شعب ما، أو شيء يمكن امتلاكه أو حقٌ للشخص، وراثيّاً إلى حدّ كبير، بل هو، في المقام الأوّل، فعل "قرار" شخصيّ: هو الاهتداء. الاهتداء هو السَّيْرُ إلَى طَرِيقِ الخَيْرِ والحق بِتَبَصُّرٍ وَمَعْرِفَةٍ. وما الاهتداء في الكتاب المقدس الاَّ البحت عن الرب (عاموس 5: 4) والبحث عن وجهه (هوشع 5: 15) والاتضاع امامه تعالى (1 ملوك 21: 29) وتوطيد القلب فيه (1 صموئيل 7: 3). وينجم عن البحث عن الله تغيير في السلوك والرجوع الذاتي بندامة وتوبة. وبكلمة أخرى، الاهتداء يعني ان يحيد المرء عمَّا هو شرير ويتَّجه نحو الله، لان الخطيئة تسكن في الانسان داخل عمق الأعماق "أنا" كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِذا كُنتُ أَفعَلُ ما لا أُريد، فلَستُ أَنا أَفعَلُ ذلِك، بلِ الخَطيئَةُ السَّاكِنةُ فِيَّ" (رومة 7: 20). فمن يرغب في دخول الباب الضيق لا يستطيع ذلك بدون جهاد، كما صرّح يسوع المسيح " مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه " (متى 11: 12). لذا ينبغي ان يجاهد الانسان " بِخَوفٍ ورِعدَة " ليثمر خلاصه" (فيلبي 2: 12). وهذا الامر يفترض تدريباً مستمراً على الفضائل كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَمَّا نَحنُ أَبناءَ النَّهار فلْنَكُنْ صاحين، لابِسينَ دِرْعَ الإِيمانِ والمَحبَّة وخُوذةَ رَجاءِ الخَلاص" (1 تسالونيقي 5: 8)، "لِننمو بِها مِن أَجْلِ الخَلاص"(1 بطرس 2: 2). والاجتهاد لدخول الباب الضيق يتطلب عيش التطويبات: الفقر الروحي، والوداعة، والرحمة والطهارة والسعي الى السلام والسير على خطى يسوع المسيح بما في ذلك من مخاطر وعذابات واضطهادات لأجل اسمه القدوس (متى 6: 1-11). ونستنتج مما سبق أنّ حياة الإنسان يجب أن تكون جهد متواصل من أجل إبقاء نار الإيمان مشتعلة، الإيمان الّذي يتعرّض كلّ يوم الى أشكال متعدّدة من الأجواء السيّئة ويُحاط بمخاطر متعدّدة. وهكذا نُدرك من فعل "اجتهدوا" بأنّ الصراع يتمّ خوضه داخل قلوبنا، وهو معركة صارمة ضد الخطايا، وضد الشهوات، وضد مختلف أشكال العنف، وأيضاً ضد المغريات الّتي تأتي من الخارج. فإنّ الخلاص يتمّ الحصول عليه في اللحظة الّتي نطلب فيها نقاوة القلب "قلباً نقيّاً أخلق فيّ يا ربّ" (مزمور 50: 12). السبيل الثاني: الايمان السبيل الثاني للخلاص هو الايمان. وكان اليهود يظنون -وهم القليلون بالنسبة الى الأمم الوثنية – أنهم مخلصون، كونهم ابناء إبراهيم، وعندهم شريعة موسى، ولهم المواعيد. لذا فإنهم يعتقدون ان الانتماء الى إبراهيم يكفي للخلاص. فسأله أحدهم ليتأكد من هذا الامر "يا ربّ، هلِ الَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟". لكن يوحنا المعمدان وبّخهم قائلا: " ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ (?????) أَبناءً (????) لإِبراهيم" (متى 3: 9). أمَّا يسوع المسيح فقد أوضح لهم ليس الانتماء الى إبراهيم وسيلة للخلاص، بل الاجتهاد بالدخول من البابِ الضَّيِّق (لوقا 13: 24) أي دخول باب الإيمان به كما يؤكِّد ذلك بولس الرسول " بِه نَجرُؤُ، إِذا آمنَّا به، على التَّقرُّبِ إِلى اللهِ مُطمَئِنِّين"(أفسس 3: 12). ويعلق القديس كيرلس الكبير "من يريد أن يدخل الباب الضيق يلزمه بالضرورة أن يكون له أولًا الإيمان المستقيم غير الفاسد". ويعلم يسوع ان سبيل الخلاص هو الإيمان به " فمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُص، ومَن لَم يُؤمِنْ يُحكَمْ عَليه" (مرقس 16: 16)، وهو أيضا الدعاء باسمه (أعمال 2: 21). وعلى هذا الأساس يكون اليهود والأمم في وضع واحد. وهم لا يُخلّصون أنفسهم، لكن نعمة الرب يسوع هي التي تُخلصهم كما يؤكِّد ذلك بطرس الرسول الى الرسل والشيوخ بقوله "نَحنُ نُؤمِنُ أَنَّنا بِنعمةِ الرَّبِّ يسوعَ نَنالُ الخَلاصَ كما يَنالُ الخَلاصَ هؤُلاءِ الوثنيون أَيضًا" (أعمال 15: 11). ويُخضع إيمانهم علاوة على هذا بالمعمودية"، التي هي اختبار حق للخلاص كما يصرِّح بطرس الرسول "سفينة نوح هي رَمزٌ لِلمَعْمودِيَّةِ الَّتي تُنَجِّيكُم ُالآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةُ اللهِ بضميرٍ صالِح، بِفَضْلِ قِيَامَةِ يسوعَ المسيح،" (1 بطرس 3: 21). والله يخلّصهم بالرحمة فقط، دون أي اعتبار لأعمالهم (2 طيموتاوس 1: 9)، وبالنعمة (أفسس 2: 5 و8)، بمنحهم الروح القدس (2 تسالونيقي 2: 13). إن كل شخص مدعو إلى عبور باب الإيمان، إلى الدخول في حياة يسوع وجعله يدخل في حياتنا، لكي يحوِّلها ويجدِّدها ويُعطيها الفرح الكامل والدائم. ولكن دخول باب الايمان يتطلب الاختيار. فإن على الناس ان يختاروا أمَّا يؤمنوا به أو يرفضوه، وبالتالي فهم يُحدِّدون مصيرهم: الخلاص أو الهلاك كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّنا عِندَ اللهِ رائِحةُ المسيحِ الطَّيِّبةُ بَينَ الَّذينَ يَسلُكونَ طَريقَ الخَلاصِ وطَريقَ الهَلاك، الحياة أو الموت. (2 قورنتس 2: 15). أمَّا الذين يؤمنون ويعترفون بإيمانهم فيخلصون كما صرّح بولس الرسول "فإذا شَهِدتَ بِفَمِكَ أَنَّ يسوعَ رَبّ، وآمَنتَ بِقَلبِكَ أَنَّ اللّهَ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات، نِلتَ الخَلاص" (رومة 10: 9). يجب ألا نخاف من عبور باب الإيمان بيسوع، وألا َّ نخاف من الخروج من أنانيتنا، ومن انغلاقنا، ومن لامبالاتنا تجاه الآخرين. والايمان لا يقوم على الكلام فحسب بل على الاعمال فقد اكّد يسوع “لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 7: 21). لا يكفي أننا ولدنا مسيحيين لا بل علينا أن نعيش مسيحيتنا بعمقها، علينا أن نجاهد الجهاد الروحي لنتمكن من الحصول على ملكوت الله. ويعلق البابا فرنسيس "أننا ولدنا في بيئة مسيحية لا يعني أننا حصلنا على كرت العبور إلى ملكوت الله، لا بل علينا العمل بجدٍ لنحصل على هذه النعمة. لسنا أبدًا مسيحيين بالعلامة! بل مسيحيون حقيقيون، في القلب. أن نكون مسيحيين هو أن نعيش الإيمان ونشهد له في أعمال المحبَّة ونعزِّز العدالة ونقوم بأعمال خيّرة". فالخلاص لا يقدم لنا بشكل آلي وتلقائي كوننا مسيحيين، بمعنى انّ الانتماء الى الكنيسة ليس كفالة وضمانة لدخول للملكوت، ويقول يسوع " لَيس مَن يقولُ لي "يا رّب، يا رّب" يدخل ملكوتَ السَّمَوات، بَل مَن يَعمَلُ بِمَشيئةِ أبي الذي في السّموات" (متى 7: 21)؛ كذلك قبول المعمودية لا يكفل الخلاص ولا يكفي أيضاً أن نكون أكلنا وشربنا مع يسوع في سرّ القربان المقدس إذا لم نترك لهذه الاسرار أن تغيّر من قلوبنا ومن افكارنا ومن سلوكنا في عائلاتنا ومع الآخرين. ونتيجة لذلك فقد أصبح كثيرون يطلبون الدخول من باب الايمان، الباب الضيق، ولا يقدرون، لأنهم يطلبون بابًا واسعًا يشبع شهوات قلوبهم، ويُمتع أجسادهم بخيرات زمنية، بل يريدون أيضا بابا يحفظ لهم المظهر المُتدين، والشكل الصالح أمام الناس، وهم في قلوبهم يرعون أطماعهم. وأخيرا من يريد أن يدخل باب الايمان، عليه المثابرة على السير في هذا الطريق حتىِ النهاية كما صرّح يسوع "الَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهايَةِ فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 24: 13) لذلك يتطلب دخول الباب الثبات على الإيمان مهما كانت الشدائد. ونستنتج مما سبق أنَّ الايمان بيسوع هو الطريق الوحيد الى الخلاص، " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 6)، هو وحده الذي مات لأجل خطايانا، وجعلنا مقبولين امام الله. وأمَّا الباب الضيق فهو طريق الصليب، واختيار الباب الضيق هو اختيار طريق الصليب. "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني. ِأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حياتَه يَفقِدُها. وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَه في سَبيلي فإِنَّه يُخَلِّصُها " (لوقا 9: 23-24). ويريد يسوع أن يحمل الجميع فيه ومعه صليبه لينعموا بملكوته خلال الدخول من الباب الضيق، منطلقًا بهم من أورشليم الأرضية الى اورشليم السماويَّة، ليعاينوا سلامه الحقيقي ويمارسونه. السبيل الثالث: الاحتياط يُحدِّد يسوع سبيلا ثالثا لكي ندخل الباب الضيق، وهو الاحتياط "إِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" (لوقا 13: 25). وفي هذا الصدد يقول اوغست كونت، مؤسس علم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "اعرفْ كي تحتاط، احتاط ْ كي تصل الهدف". من لا يعرف لا يستطيع ان يحتاط، ومن لا يحتاط لنفسه يجد الباب مًغلقا كما حدت مع العذارى الجاهلات الخمسة "بينَما هُنَّ ذاهِبات لِيَشتَرينَ، وَصَلَ العَريس، فدخَلَت مَعَه المُستَعِدَّاتُ إِلى رَدهَةِ العُرْس وأُغلِقَ الباب"(متى 25: 10). لذلك أوصى يسوع الجميع "اِجتَهِدوا أَن تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. أَقولُ لَكم إِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ سَيُحاوِلونَ الدُّخولَ فلا يَستَطيعون. لم يذكر المسيح إذا كان عدد الخالصين كبيرا او صغيراً بل ذكر ان الكثيرين يكونون خارج الباب وبذلك يخسرون الحياة الأبدية. الأشخاص الذين يتنظرون لنهاية حياتهم لإتباع المسيح ويؤجِّلون كل شيء إلى اللحظة الأخيرة هم أمام خطر حقيقي إلا وهو قدوم الميعاد قبل الانتهاء من تحقيق أهدافهم ووجباتهم. فالاحتياط من شأنه أن يساعدنا لتخطي مشكلة العمل في اخر لحظة. فالسيد المسيح يدعونا اليوم إلى المحاولة وعدم اليأس، إلى التخطيط وعدم العيش بعشوائية، وأخيرا ان نحتاط ولا نترك عملنا للحظة الأخيرة. ويتطلب الاحتياط التوبة. فينبغي على المرء أن يتوب ما دام هنالك وقت، إن أراد ألاّ يهلك كما جاء في تعليم يسوع المسيح" إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم" (لوقا 13: 3). ويُعلق البابا فرنسيس "إن باب يسوع ضيق، ليس لأنه غرفة للتعذيب، كلا، بل لأنه يطلب منا أن نفتح له قلبنا، وأن نعترف بخطايانا التي تحتاج إلى خلاصه ومغفرته ومحبته رحمته". وقام الله بكل شيء من اجل خلاصنا، وعقيدة النعمة تعملنا بان الخلاص هبة مجانية من الله. لكن يسوع يضع شرطا للخلاص الا وهو ان يتوب الناس عن طرقهم المعوجّة وان يرجعوا الى الله معترفين بخطاياهم لكن هذه الامر ليست سهلة. لأنها تخالف ميل طبيعتنا البشرية الساقطة. فمن جهة يرغب كل إنسان بان يدخل ملكوت الله، ولكنه لا يرغب بان يقبل شروط الله لدخوله هذا الملكوت. والاحتياط في الحياة المسيحية واجب مفروض، لأن كل يوم يمرُّ بنا يقرِّب الخلاص إلينا هذا كما يصرح بولس الرسول "وإِنَّكُم لَعالِمونَ بِأَيِّ وَقْتٍ نَحنُ: قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا" (رومة 13: 11). والباب ضيق في بدايته على الأرض، حتى إن التلاميذ يتساءلون قائلين: " مَن تُراهُ يَقدِرُ أَن يَخلُص؟" (متى 19: 25). لكن كلمة اشعيا تحثنا "قَوُّوا الأَيدِيَ المُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة" (اشعيا 35: 3). من يدخل الباب الضيق يجد ما صرّح به يسوع المسيح " نِيري لَطيف وحِملي خَفيف " (متى 11: 30). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إن طريق الخلاص ضيق بسبب التجارب في مدخله، ولكن إذ تدخله تجد مكانًا متسعًا (راحة)، على عكس الطريق المؤدى للهلاك". والواقع في داخل الباب مليء بالتعازي، وفي نهايته مجدٌ أبدي. والاحتياط مطلوب أخيراً، لان الباب لن يظل مفتوحا الى ما نهاية لكنه سيغلق، " وإِذا قامَ رَبُّ البَيتِ وأَقَفَلَ الباب، فوَقَفتُم في خارِجِه وأَخَذتُم تَقرَعونَ البابَ وتقولون: يا ربُّ افتَحْ لَنا، فيُجيبُكُم: لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم" (لوقا 13: 25) ونستنتج مما سبق ان وقت الخلاص ينتهي بالدينونة. وفي الدينونة لم يذكر المسيح إذا كان عدد المخلصين كبيرا او صغيراً بل يذكر بان الكثيرين سيتواجدون خارج الملكوت السماوي وبذلك يخسرون الحياة الأبدية. لنبدأ الآن تغيير طريقنا نحو الله الذي ينتظرنا قائلاً: " تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم"(متى 25: 34). ولم يتردَّد القديس أوغسطينوس وصية ان يترك لنا هذه الوصية " لا نقلّد الأكثرية المستهينة بدخول الباب الضيق كي لا نخسر دفء بيت الله". الخلاصة يعلمنا يسوع بالإنجيل ان ملكوت الله مفتوح للجميع "وسَوفَ يَأتي النَّاسُ مِنَ المَشرِقِ والمغرِب، ومِنَ الشَّمالِ والجَنوب، فيجِلسونَ على المائِدَةِ في مَلَكوتِ الله". ولكن من جهة أخرى المعرفة وحدها لا تكفي لدخول ملكوت الله كأولئك الذي يصرخون "لَقَد أَكَلْنا وِشَرِبنْا أَمامَكَ، ولقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا" فيسوع قال لنا مرارًا "ليسَ من يقولُ لي "يا ربّ، يا ربّ يدخلُ ملكوتَ السَّموات، بل من يعملُ بمشيئةِ أبي الذي في السَّموات...". يجب ان يقترن القول العمل، وعلى الإيمان أن يحرّكَ الكيان، وعلى الصلاة أن ترافق أعمال المحبة والرحمة.. جاء يسوع الى العالم مخلصا لجميع البشر على حد سواء. وبدأ بشارة الخلاص مع اليهود ثم انتقل الى الوثنيين. فيوجّه لنا يسوع دعوة ملحة حتى يتمكن الجميع، دون استثناء، من تقبّل الخلاص، والدخول إلى الملكوت. وحدَّد ثلاثة سبل لخول الانسان الباب الضيق المؤدي الى الخلاص، وهي: الاهتداء والايمان والاحتياط. ومن هذا المنطلق، يجب علينا ألاَّ نريد أن نكون من مصاف "الايدي المُستَرخِيَةَ والرُكَبِ المُلتَوِيَة" (العبرانيين 12: 12، إشعياء 35: 3) بل ان نسعى جاهدين من أجل الدخول من الباب الضيق. فمن سلك فيه ينال الخلاص فيسمع صوت سيده يقول له "أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (متى 25: 21). دعاء أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم يسوع ابنك أن تساعدنا لندخل من الباب الضيق، باب الاجتهاد والإيمان، والالتزام الشخصيّ مع الربّ، وهكذا نصل الى طريق الخلاص الواسعة لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن"(يوحنا 3: 15). أعطنا يا رب أن نجتهد ليلاً نهاراً لندخل من "الباب الضيق".