موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢

يوحنا المعمدان يُهيّىء مجيء الرب

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني من المجيء: يُوحنَّا المَعمَدان يُهيِّأ مجيء الرب (مَتَّى 3: 1-12)

الأحد الثاني من المجيء: يُوحنَّا المَعمَدان يُهيِّأ مجيء الرب (مَتَّى 3: 1-12)

 

النص الإنجيلي (مَتَّى 3: 1-12)

 

1 في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول: 2 ((توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات)). 3 فهُوَ الَّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه: ((صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة)). 4 وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ. 5 وكانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها، 6 فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم. 7 ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: ((يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ 8 فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم، 9 ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم. 10 ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار. 11 أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 12 بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ)).

 

مقدمة

 

يصف إنجيل الأحد الثاني من المجيء رسالة يُوحنَّا المَعمَدان في إعداد طريق الرب على أرضنا مؤكِّدا "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات"، إذ وجِّهً إلى الناس خطبة، التي تتضمن برنامج حياة وطريق الخلاص (مَتَّى 3: 7-12). فهو مرشدنا في زمن المجيء لاستقبال الرب يسوع. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع نص الإنجيل وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع نص الإنجيلي (مَتَّى 3: 1-12)

 

1 في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول:

 

تشير عبارة "في تِلكَ الأَيَّام" إلى ذلك العصر أو ذلك الزمان، زمان الذي كان فيه طيباريوس قيصر إمبراطورا في رومة، وبيلاطس واليا خامسا على اليهودية.  وحدّد لوقا عمر المسيح في هذا الوقت بحوالي 30 سنة (لوقا 23:3). وقد سبق القدّيس يُوحنَّا المَعمَدان يسوع بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين مــــن عمـــره، وهو السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود؛ أمَّا عبارة "ظهَرَ" فتشير إلى بدء خدمة المَعمَدان قبل خدمة المسيح بشهور في وقتٍ كان الناس فيها قد نسوا صوت الأنبياء لطول تأخرهم. فملاخي آخر الأنبياء، الذين ظهروا كان زمن نبوته عام 430 ق.م، وهذا ما جعل الشعب بحالة شوقٍ غامرٍ لاستقبال نبي، أو مجيء المسيح المنتظر. أمَّا عبارة "يُوحنَّا المَعمَدان" فتشير إلى يُوحنَّا وقد أطلق عليه الشعب اسم المَعمَدان لأنه كان يُعمّد. وُلد تقريبًا سنة 7 ق.م. في عين كارم حسب التقليد المسيحي، وهو ابن زكريا وأليصابات ونسيب يسوع المسيح (لوقا 1: 5-80)، وكان أكبر من المسيح بستة أشهر وكان من انسباء يسوع (لوقا 1: 36). وكان من حق يُوحنَّا أن يصير كاهنًا، ولكنه كُرّس منذ ولادته ليكون سابق المسيح (لوقا 1: 5-25)، فترك الهيكل والكهنوت ذاهبًا إلى البَرِّيَّةِ ليهُيئ الطريق لربِّنا يسوع. وكان ملاخي قد سبق وتنبَّأ عنه (ملاخي 1:3) وتنبأ عن مجيء إيليا قبل المجيء الثاني للمسيح (ملاخي 4: 5)، ولِما كان اليهود لا يفهمون أن هناك مجيء أول ومجيء ثاني، ظنُّوا أن إيليا النبي يجب أن يظهر قبل المسيح. ولكن المَعمَدان جاء في صورة إيليا الساكن في البراري والجبال وبنفس قوته.  أمَّا عبارة "يُنادي" في الأصل اليوناني κηρύσσω وفي العبَرِّيَّةِ יִּקְרְאּ فتشير إلى المناداة باسم الملك كما هو الشأن مع يوسف في مصر "نَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه، وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه: ((اِحذَرْ)). وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر"(تكوين 41: 42-43). ثم انتقل المعنى إلى الحقل الديني أي المناداة باسم الله "أُنفُخوا في البوقِ في صِهْيون وآهتِفوا (نادوا) في جَبَلِ قُدْسي ولْيَرتَعِدْ جَميعُ سُكَانِ الأَرض فإِنَّ يَومَ الرَّبِّ آتٍ وهو قَريب "(يوئيل 2: 1). وهنا تُستعمل هذا الفعل "يُنادي" للدلالة على كرازة يُوحنَّا المَعمَدان، وبالتحديد الإعلان الجمهوري بحادث الخلاص (kerygma) بتهيئة قلوب اليهود، داعيًا إياهم للتوبة. وسوف تستعمل أيضا للدلالة على كرازة يسوع (مَتَّى 4: 17) وكرازة تلاميذ يسوع (مَتَّى 10: 7) وكرازة الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 5: 8). وفي إنجيل مَتَّى، يرد مضمون المناداة بإيجاز بعبارة " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (مَتَّى 3: 2)، أو يُشار إليه بعبارتي " بشارة الملكوت" (مَتَّى 4: 23) أو "البشارة" (مَتَّى 26: 13). ويجدر بالذكر أن فعلي "نادى" و "بشّر" هما شبه مترادفين؛ أمَّا عبارة " بَرِّيَّةِ" فتشير إلى منطقة قليلة السكان والتي تبعد نحو قرابة 32كم عن اورشليم وبيت لحم. ولم تكن بَرِّيَّةِ قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع قُراها (يشوع 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة وغير مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد. وفي هذه البَرِّيَّةِ عاش يُوحنَّا صباه (لوقا 1: 80) على طريق الأنبياء ويرتدي لباس إيليا النبي (2 ملوك 1: 8)؛ والبَرِّيَّةِ تحمل في الكتاب المقدس رنة عميقة. فهناك عاش الشعب العبراني بداية مسيرته مع الرب، وإلى هناك أراد الرب أن يُعيد شعبه (هوشع 2: 16)؛ أمَّا عبارة "اليَهودِيَّةِ" فتشير إلى منطقة غير محددة تحديدًا دقيقًا، تقع بين سلسلة الجبال الممتدة من أورشليم إلى حبرون (الخليل)، والبحر الميت (مَتَّى 3: 5). البَريَّة هي المكان مكان العلاقة الحميمة بين الله والإنسان (هوشع 2: 1-5)؛ ومكان تلقي الشريعة (خروج 20: 1-7)، وهي الطريق الّتي وصل بها بني العهد القديم إلى أرض الميعاد. لذا خرج المعمدان إلى البرية ليدخل بكل بني إسرائيل في مسيرة توبة ولقاء بالرّبّ الّذي سيأتي لأجلهم.

 

2 توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات

 

تشير عبارة "توبوا" في الأصل اليوناني μετανοέω إلى تغيير في العقلية وفي النظر إلى الأمور وتبديل في القلوب من جهة الخطيئة. فالتوبة قبل كل شيء عبارة عن تغيّر القلب والفكر معًا لقبول طريقة فكر الله الجديدة الّتي ستظهر في الابن يسوع المسيح، الحامل الملكوت. لذلك التوبة تتطلب تبنِّي موقف متواضع يقرُّ في الإنسان بعدم الاستحقاق الشخصي، وبالشر الذي يسكنه فيه والحاجة الشخصية للخلاص. عن أي شيء نتوب؟ خاصة عن لا مبالاتنا، عن قساوة قلبنا. التوبة هي إصلاح السيرة والندامة، وتجديد القلب بالرجوع عن الخطيئة إلى الله وإعداد طريق الرب.  وقد تكرر كلمة التوبة ثلاث مرت في هذه النص الإنجيلي (مَتَّى 3: 2، 8، 11). وهو الموضوع الرئيسي الذي عالجه إرميا النبي والأنبياء في العهد القديم؛ فالتوبة تتطلب تغيير الاتّجاه حيث يعطي الإنسان لله الوجه لا الظهر وذلك من خلال اتّحاده بالمسيّح والعودة بلا شرط إلى إله العهد، كما يصف ارميا النبي "إِنَّهم قد وَلَّوني ظُهورَهم لا وُجوهَهم" (إرميا 2: 27). ويُوحّد مَتَّى الإنجيلي بين مواعظ يُوحنَّا المَعمَدان "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (مَتَّى3: 2)، ومواعظ يسوع " تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (مَتَّى 4: 17)، عبَّر اليهود عن هذه التوبة بقبول المعمودية لمغفرة الخطايا وأمَّا المسيحيون فقد عبَّروا عن هذه التوبة بمعمودية الروح القدس. هناك تمييز بين خدمات يوحنا ويسوع الرسولية: يُوحنَّا يُعّمد بالماء، أمَّا يسوع فيعمّد بالروح القدس (مَتَّى 3: 11)؛ أمَّا عبارة "اقتَربَ" فتشير إلى ملكوت الله الذي صار قريبا، وان الله يُحافظ على وعوده، وأنّه على وشك زيارة شعبه. وبالتالي بدء نظام جديد، وتدل العبارة أيضا على الملكوت الحاضر الآن " فقد وافاكُم مَلكوتُ الله"(مَتَّى 12: 28)؛ وهذا الحضور يمكن أن يفهم بطرق مختلفة: إمّا أن هذا الملكوت قد حُقّق تماماً، وإمّا أنه أفتتح افتتاحا سريا في شخص يسوع ونشاطه، على أن يظهر علانية للجميع في وقت قريب. وإذا كان الملكوت قريباً، هنالك حاجة لإعداد أنفسنا لاستقباله بالتوبة؛ أمَّا عبارة "مَلكوتُ السَّموات" فتشير إلى ملكوت ليس من العالم، فمصدره وصفاته ونتائجه كلها سماوية. وهو مصطلح خاص في إنجيل مَتَّى حيث يتكرر 30 مرة، أمّا باقي الإنجيليين فكانوا يستعملون مصطلح ملكوت الله. لأن مَتَّى كان يكتب لليهود الذي اعتادوا أن لا يلفظوا اسم الله. فاستعمل مَتَّى الإنجيلي عبارة "ملكوت السماوات" (33) مرة، واستعمل (4) مرات عبارة "ملكوت الله" (مَتَّى 12: 28، 19: 24، 21: 31). ولا تدل عبارة " ملكوت السماوات " أنَّ هذا الملكوت سماوي، بل أنَّ الرب الذي في السماوات هو الذي يملك على العالم. وقد ورد في العهد القديم أنَّ الملكوت هو للرب، كما يترنَّم صاحب المزامير "لأَنَّ المُلكَ لِلرَّبَ وهو يَسودُ الأمَم" (مزمور 22: 29)، ويُبشّر مَتَّى الإنجيلي بان هذا الملكوت الدائم قد اقترب من الناس في شخص يسوع عندما دخل الله بنفسه إلى تاريخ الجنس البشري كإنسان. فالمسيح يسوع يملك الآن في قلوب المؤمنين، كما يقول الرسول بولس " إِنَّ الكَلامَ بِالقُرْبِ مِنكَ، في فَمِكَ وفي قَلبِك" (رومة 10: 8). لكن ملكوت السماوات لن يتحقق تماما إلاَّ بعد إدانة كل الشر الذي في العالم وإزالته. والملكوت هو معًا واقع حاضر، وجاء مقبل، وهو ليس مكان ندخل إليه بل هو حالة نعيشها. فهدف رسالة يُوحنَّا المَعمَدان هو إعلان ملكوت الله بمجيء المُخلص حقاً. فعلينا أن نصلي قائلين " ليأتِ ملكوتك".

 

3 فهُوَ الَّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه: صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة

 

تشير عبارة "صوت" إلى الصوت الذي يسبق "الكلمة الإلهية"؛ صوت كرازة يُوحنَّا المَعمَدان الذي يوجَّه النظر ليسوع، ويدعو الناس للتوبة ليكونوا مُستعدِّين لقبول الرب يسوع؛ فالغرض الوحيد لوعظ يُوحنَّا المَعمَدان هو توجيه أنظار الناس ليسوع بدعوتهم إلى التوبة، ليكونوا مستعدِّين لقبول الرب؛ وتنطلق رسالة يُوحنَّا النبوية من قوة نبوءته. أمَّا عبارة "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ" فتشير إلى طلب يُوحنَّا المَعمَدان من الناس أن يتوبوا، أي مَن ارتفع قلبه بالكبرياء، أو مَن التهب قلبه بالطمع أو الشهوة فليغيِّر طريقه. والعكس فمن كان يشعر بيأس أو صغر نفس فليكن له رجاء منذ الآن كما تنبأ أشعيا "كُلُّ وادٍ يَرتَفعِ وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يَنخَفِض والمُنعَرِجُ يُقَوَّم ووَعرُ الطَّريقِ يَصيرُ سَهلاَّ" (أشعيا 40: 4). وتصبح طريقنا قويمة للرب عندما نستقبل بتواضعٍ كلماته، وتكون قويمة إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. يعلق القدّيس مَكسيمُس الطورينيّ "عندما كان يوحنّا يتكلّم في أيّامه مُبشِّرًا بالربّ، لم يكن يتوجّه بكلامه إلى الفرّيسيّين فقط بقوله: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة. فهو لا يزال اليوم يصرخ فينا، يهزّ دويّ صوته صحراء خطايانا"(العظة 88). ويُوصينا القديس أمبروسيوس "فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق". فالمسيح وحده يستطيع أن يعطي حياتنا معنى. أمَّا عبارة "واجعَلوا سُبُلَه قويمة" فتشير إلى زمن الاستعداد بعبارة مقتبسة من أشعيا النبي " صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة "(أشعيا 40: 3)، حيث نجد الفرق في عبارة "سُبُلَ إِلهِنا" في سفر أشعيا، وعبارة "سُبُلَه في أنجيل مَتَّى. فمَتَّى الإنجيلي ُطبّق هذه النبوءة على يسوع نفسه. "الرب هو الله في العهد القديم، وهو هنا في العهد الجديد بيسوع المسيح الذي يُهيئ له يُوحنَّا المَعمَدان الطريق، إذ كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعدَّ لنفسه رسولًا؛ ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "إن من يُبشّر بالإيمان المستقيم وبالأعمال الصّالحة لا يفعل غير تحضير قلوب سامعيه للرّب الّذي سيأتي. هكذا فإن النعمة القويّة تستطيع اختراق تلك القلوب ويستطيع نور الحقيقة إضاءتها" (العظة رقم 20 حول الإنجيل).

 

4 وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ

 

عبارة "لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد" تشير إلى لباس الأنبياء التقليدي (زكريا 13: 4)، ولا سيما لباس إيليا النبي (2 ملوك 1: 8) الذي رآه يسوع في شخص يُوحنَّا المَعمَدان (مَتَّى 17: 9-13). إن إيليا النبي لا بدَّ أن يعود ليقوم بدعوة أخيرة إلى التوبة، قبل الدينونة الأخيرة (مَتَّى 11: 14). وقد كان انتظار نبي للأزمنة الأخيرة منتشرا في بيئات مختلفة، ولربما كان يستند إلى قول موسى "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون"(ثنية الاشتراع 18: 15). وكان المعمدان هو أوّل من اختبر هذه الحياة في البَريَّة من خلال معايشته التوبة، مُبتدأً بها من خلال التغييّر في ذاته متجهًا نحو البَريَّة مما يعني تخليه عن مراكز السلطة والمؤسسات (متى 3: 1 .4). وبالرغم من إنّ المعمدان هو ابن الكاهن زكريا، إلا إنّه تخلى بإرادته عن إرداء الثياب الكهنوتية الّتي تنتمي لنسله بالميراث. أمَّا عبارة "الجَراد" في أصل اليوناني ἀκρίδες وهي ترجمة من الكلمة العبَرِّيَّةِ חֲגָבִים فتشير إلى نوع من الحشرات من فصيلة الجندب مشهور بكثرة عدده وشدة شراهته. والنوع المذكور بكثرة في الكتاب المقدس هو النوع الاعتيادي المسمّى باللاتينية ايديبودا الراحلة Oedipoda Migratoria. وكان الجراد يعتبر في الشريعة من الحشرات الطائرة (لاويين 11: 21 و22). كان يُوحنَّا المَعمَدان يأكله ولا يزال يؤكل في بعض بلدان الشرق (مَتَّى 3: 4) وغالبًا كان الأسينيون يأكلونه، وكيفية أكله هو أن تقطع أرجله وأجنحته ورأسه وتنزع أمعاؤه ويشوَّى اللحم الباقي على نار هادئة، وقد يُقلى في الزيت أو يُجفّف في الشمس ويُسحق، ثم يحفظ إلى حين الحاجة فيستعاض به عن الدقيق، وهو اكل الناس الفقراء جدًا؛ وأمَّا عبارة "العَسلَ البَرِّيّ" فتشير إلى العسل الذي يجدونه في الصخور وجذوع الأشجار. ونستنج من ذلك أنَّ يُوحنَّا المَعمَدان لم يكرز بناموس الله قط، لكنه عاشه.

 

5 وكانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها

 

تشير عبارة "تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم" إلى امر جديد عكس العادة، حيث يتوجَّه الجماهير من كل مكان إلى أورشليم، في حين هنا تخرج الجماهير من اورشليم. فلم يُعد هيكل اورشليم مصدر توجّه الجماهير، بل المسيح الذي يُهيِّأ له يُوحنَّا المَعمَدان. وعليه تدلُّ الآية على أنَّ الجماهير خرجت من كل المدن لتشهد لأوَّل نبي حقيقي على مدى أربعمائة عام، ولترى مثالًا حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين لريائهم، إذ كانوا يتمسكون بحرفية الناموس، لكنهم يتجاهلون مضمونه الحقيقي فيُذكّرهم أنّه يجب عليهم أن يتوبوا لاستقبال المسيح من ناحية؛ ومن ناحية أخرى كسب يُوحنَّا المَعمَدان الجماهير لصَفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين الذين كانوا يستخدمون الدين لتأييد موقفهم السياسي. لقد كانت رسالته قوية وصادقة وكان الشعب في انتظار نبي مثل أيليا (ملاخي 4: 5)، وبدا يُوحنَّا هو ذاك النبي. فلكي نرجع إلى الله ونلتقي به، علينا أن نخرج من العالم.

 

6 فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم

 

تشير عبارة "يَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ" إلى معمودية يُوحنَّا المَعمَدان التي كانت تُعرض على الجميع، ولا تُمنح إلاّ مرة واحدة، بعكس الاغتسال الطقسي اليهودي للحسيديم חֲסִידָים التي كان يتم يوميا للتطهير من النجاسات الطقسية (مرقس 6: 4)؛ كما تختلف معمودية يُوحنَّا عن معمودية الدخلاء التي كانت تطهّرهم لتمكِّنهم من الاتصال باليهود (مرقس 1: 4)؛ وفي أيام يُوحنَّا المَعمَدان انتشرت هذه الممارسة انتشارا واسعا، كما هو الحال في شأن جماعة قمران ( الاسَّينيين) حيث كان الاغتسال اليومي تعبيراً عن مثالهم الأعلى في الطهارة وهم ينتظرون للتطهير الجذري (القانون 2: 25-3: 12). وباختصار، فإنّ معمودية يُوحنَّا مرتبطة بالتوبة، فهي تُمهد للمعمودية التي أتى بها يسوع، معمودية الروح القدس والنار (مَتَّى 3: 11)؛ أمَّا عبارة "نَهرِ الأُردُنِّ" اسم عبري יַּרְדֵּן (معناه الوارد المنحدر، إذ تتدفق مياهه من أقصى الشمال على ارتفاع 2200 متر فوق مستوى سطح البحر نزولا إلى البحر الميت على ارتفاع حوالي 350 متر تحت مستوى سطح البحر) فتشير إلى النهر الذي ينبع من جبل الشيخ (حرمون) ويفصل بين فلسطين والأردن ويصب في البحر الميت مارا ببحيرة طبَرِّيَّةِ، ويبلغ طوله حوالي 251 كم.  وطوله بشكل خط مستقيم حوالي 140 كم، وطول سهله حوالي 360 كم وهو أهم أنهار فلسطين وله ثلاثة منابع: روافد هي نهر بانياس التي (قيصرية فيلبس قديماً) القادم من سوريا ونهر اللدان (الدان) القادم من شمالي فلسطين ونهر الحاصباني القادم من لبنان. وعند نهر الأردن جدّد بنو إسرائيل عهدهم مع الله (يشوع 1: 2)، ودعاهم يُوحنَّا المَعمَدان في نفس المكان أن يجدِّدوا عهدهم. وهناك أيضا كان يُوحنَّا المَعمَدان يبشر ويعمد في الفترة الأولى من بشارته في موقع عند نهر الأردن معروف باسم "المغطس" وهو يقع في "وادي الخرار" في المملكة الأردنية الهاشمية. ويذكر يُوحنَّا الإنجيلي الموقع باسم " بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ" (يُوحنَّا 28:1) وهناك عدة ينابيع طبيعية تشكل بركاً يبدأ منها تدفق المياه إلى وادي الخرار، وتصب في النهاية في نهر الأردن. وقد تمَّ إدراج هذا الموقع المقدس على قائمة التراث العالمي تحت مسمى "موقع المعمودية بيت عنيا عبر الأردن"؛ أمَّا عبارة "مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" فتشير إلى علامة ندامة داخلية لقبول المعمودية. فالاعتراف بالخطايا معروف في العهد القديم، ولا سيما في بعض الظروف مثل عيد التكفير (الأحبار 5: 5-5-6) أو في رُتب تجديد العهد (عزرا 10: 1) 17). وهذا الإقرار بالخطايا يُمثل عودة الإنسان إلى الله للحصول على الغفران (المزمور 32: 5). وحافظت الكنيسة على هذا الإقرار بالخطايا منذ انطلاقها مع بطرس الرسول الذي دعا المؤمنين الجُدد إلى التوبة والعماد لتُغفر خطاياهم " فقالَ لَهم بُطرُس "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أعمال الرسل 2: 38). فالهدف الثاني لرسالة يُوحنَّا هو تهيئة الشعب ليستعدَّ كي يكون قريباً من الله وذلك بحضِّهم على ترك خطاياهم ثم الاعتماد بالماء للتأكيد على توبتهم.

 

7 ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟

 

تشير عبارة "الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ" إلى المقاربة بينهم بالرغم من انهما حزبين دينيّن متناقضين عقائديًا وسياسيًا. الفريسيون هم أهم طوائف اليهود الدينية، التي كانت قد ظهرت فيما بين العهدين، أيام المكابيين سنة 150ق.م. وهدفهم الدفاع عن وجهة النظر الدينية عند اليهود أمام التأثير الهلنستي. والاسم "الفِرِّيسيِّونَ" هو صيغة يونانية Φαρισαῖος للفظة العبَرِّيَّةِ הַפְּרוּשִׁים أي "المفروزون"، فهم "المنعزلون" عن كل ما ليس يهوديًا. ويظهرون هنا للمرّة الأولى في الإنجيل، ويُسمُّون أنفسهم "الحسيديم" חֲסִידָים أي الأتقياء، ويتعلّقون بشريعة موسى بدقة والتقاليد الشفوية أي تقليد الشيوخ (مَتَّى 15: 2)، وكانوا حماة الطقسي في الديانة اليهودية؛ أمَّا عبارة "الصدُّوقيون" فتشير إلى طائفة يهودية كبيرة، ويرجح انهم نشأوا أصلا كمضادين للفرِّيسيين. ويشتق اسمهم من اسم صادوق رئيس الكهنة، ومعنى اسم صادوق في اللفظ العبري צַּדּוּקִ "صادق" ومعناه البار. وهم يؤمنون بأسفار موسى الخمسة فقط (من سفر التكوين إلى سفر تثنية الاشتراع) باعتبارها هي وحدها كلمة الله، ولا يؤمنون بقيامة الموتى والملائكة ولا يتمسَّكوا بتقليد الشيوخ (أعمال الرسل 23: 8)؛ وقد علموا أنَّ الفضيلة تراعى من اجل نفسها، وليس من أجل أي أجر، وأنكروا القيامة. وقد ارتبطوا بعالم السياسة. أمَّا عبارة "قالَ لَهم" فتشير إلى تعليم يُوحنَّا المَعمَدان عن التوبة الحقيقية التي تتوجّه أولا إلى الرؤساء: الفريسيين والصدوقيين. أمَّا عبارة "الأَفاعي" في الصيغة اليونانية فتشير ἔχιδνα إلى الصنف السام من الأفاعي. وهذه الأفعى رمز للقضاء الذي يحل بالأشرار كما قال الحكيم صوفَرُ النَّعماتِيُّ "رَضَعَ سُمَّ الأَصْلال فقَتَلَه لِسانُ الأَفْعى" (أيوب 20: 16)، وهي رمز أيضا إلى تدبير الشر الذي يريده الأشرار " ينقُفونَ بَيضَ الحَيَّات ويَنسِجونَ خيوطَ العَنْكَبوت. وبَيضُهم مَن أَكَلَ مِنه يَموت وما كُسِرَ مِنه يَنشَقُّ عن أَفْعى"(أشعيا 59: 5)، أمَّا عبارة "أَولادَ الأَفاعي" فتشير إلى تدبير الشر التي يريده الفِرِّيسيِّونَ والصَّدُّوقيِّونَ، وفيه إشارة إلى نسل الحية (التكوين 3: 15)؛ إذ لم يكن يُوحنَّا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، ويعلَّق القديس يُوحنَّا الذهبي الفم "حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل صغارها  بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات يبيدون معلّميهم بأيديهم"؛ أمَّا عبارة "الغَضَبِ الآتي" فتشير إلى الدينونة الآتية (ملاخي 3: 2) فالغضب يدل على موقف الله من الخطيئة، والعقاب الذي يُصيب الخاطئين (أشعيا 3: 27-33). ينبئ يُوحنَّا المَعمَدان بمجيء الديان الوشيك، لكن يسوع يظهر بمظهر العبد الوديع المتواضع (مَتَّى 12: 18-21)، الذي يقول بولس الرسول فيه إنه يُنجّي من الغضب " تَنتَظِروا أَن يَأتِيَ مِنَ السَّمَواتِ ابنُه الَّذي أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات، أَلا وهو يسوعُ الَّذي يُنَجِّينا مِنَ الغَضَبِ الآتي" (1 تسالونيقي 1: 10).

 

8 فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم

 

تشير عبارة "ثَمَر" إلى دعوة يُوحنَّا إلى الناس إلى ما هو أكثر من مجرد طقوس، إنما هي دعوة إلى تغيير سلوك وعدم الاكتفاء في مظهر خاص من مظاهر التقوى أو الأخلاق. فتغيير الحياة هي علامة التوبة الحقيقية. إذا كانت هناك توبة، فتظهر في السلوك، وألاَّ كانت توبة كاذبة. التوبة التي بلا ثمر هي من مظاهر الرياء.  ودخول ملكوت الله ليس امتيازا خاصا بجنس أو أمَّه معينة بل هو مفتوح للجميع على أساس التوبة والإيمان كما جاء في تعليم بولس الرسول " فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع. فإِذا كُنتُم لِلمسيح فأَنتُم إِذًا نَسْلُ إِبراهيم وأَنتُمُ الوَرَثَةُ وَفقًا لِلوَعْد"(غلاطية 3: 28-29).

 

9 ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم

 

تشير عبارة "لا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ" إلى الادعاء بانَّه يكفي مُجرّد الانتماء إلى شعب ما، وإلى تقليد معيّن، كي يشعر الفرد بالأمان، وأنّ كلّ شيء على ما يرام. إن العائق الحقيقيّ للقاء الربّ هو الافتراض أننا أبرار، لأننا من نسب إبراهيم مثل الفريسيين. لكن أعمالهم تتنافى مع إيمان إبراهيم. أمَّا عبارة "إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم" فتشير إلى اعتقاد اليهود أنَّ الخلاص يقوم بالولادة أو بارتباط ديني أو الانتماء إلى شعب ما وتقليد ما لكونهم ورثة حقيقيين لإبراهيم الذي كان له الوعد. فهم يظنُّون أنهم يخلصون لمجرد انتسابهم لإبراهيم. ولكن المَعمَدان يشرح لهم أن الخلاص ليس ميراثًا من الآباء. وإن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم. فقد أوضح لهم المعمدان بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، فالخلاص يقوم على الإيمان كما جاء في تعليم بولس الرسول لليهود " فلَيسَ اليَهودِيُّ بِما يَبْدو في الظَّاهِر، ولا الخِتانُ بِما يَبْدو في ظاهِرِ الجَسَد، بلِ اليَهودِيُّ هو بِما في الباطِن، والخِتانُ خِتانُ القَلْبِ العائِدُ إلى الرُّوح، لا إلى حَرْفِ الشَّريعة" (رومة 2: 28-29). بالإيمان نبرهن عن صُدقنا بسلوكنا تجاهه. الرب هو الذي جعل منا أبناء إبراهيم، أبناء الإيمان، وما يعمله فينا هو نعمة مجانية؛ أمَّا عبارة "الحِجارةِ" في الأصل العبري אבנין فتشير إلى تلك الحجارة التي كانت ملقاة على الأرض التي تدل على كل قلب تقسى وتحجر، والله يحركه بالتوبة فيصير ابنًا لإبراهيم. وكل من تحجَّر قلبه، فالله قادر أن يحوّله مرة أخرى إلى قلب لحم كما جاء في نبوءات حزقيال " أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم "(حزقيال 36: 26). ويرى القديس أوغسطينوس "أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا". ويقصد يُوحنَّا المَعمَدان أن الأُمَّة اليهودية لم تمتلك في عيني الله، بسبب انتمائهم إلى إبراهيم أكثر مما للحجار. كذلك نحن لا فائدة منا إن كنا مسيحيين بالاسم فقط، فإن لم يستطيع الآخرون أن يروا إيماننا في طريقة حياتنا.

 

10 ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار

 

تشير عبارة "الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر" إلى آلة من آلات المحطِّبين (ثنية الإشتراع 19: 5)، التي تدل على دينونة قريبة تُقطع الشجرة التي لا تثمر بعد أن تُعطى لها مهلة (لوقا 13: 7)؛ أمَّا عبارة "فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ" فتشير إلى الناس الذين يدّعون أنهم يؤمنون بالله، لكنهم لا يعيشون حسب وصاياه المقدسة؛ وأمَّا عبارة "تُلقى في النار" فتشير إلى عقاب ينتظر الهالكين. فهذا المثل يشير للغضب القادم. فالمسيح أتى ليُبشِّر بيوم مقبول وسنة مقبولة، فإمَّا أن يستجيب الإنسان له أو تأتي عليه الدينونة. وبالتالي فإنّ المسيح الّذي كان يُبشّر به يُوحنَّا المَعمَدان بصورة الفأس فهو في المقام الأوّل ديَّان لا يُظهر الرحمة، ولكنّه يَحُلّ مشكلة الشر والخطيئة تماماً كما كان الجميع يتوقّعون. وكشف يُوحنَّا المَعمَدان أن المؤمن الحقيقي مثله مثل شجرةٍ مثمرةٍ، في حين من لم يَصدقْ في إيمانه فهو مثل شجرة غير مثمرة تُقطع وتلقى في النار، هكذا مدعي الإيمان، وهو فارغ من الأعمال، فهو بلا ثمر، فيلقى في النار.

 

11 أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار

 

تشير عبارة "أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة" إلى معمودية الماء التي هي علامة خارجية للتوبة، والعلامة الحقيقية فهي التوبة. فالمعمودية تفترض التوبة. ولهذا لم يُعمّد يُوحنَّا الفريسيين والصدوقيين، لأنهم لم يعطوا ثمرا يدلُّ على التوبة (مَتَّى 3: 7-8)؛ وأمَّا عبارة "ألآتي بَعدِي" فتشير إلى السيد المسيح الموكب الرسمي الأخير وهو الأهم. وهكذا يعلن مَتَّى الإنجيلي إلى أتباع يُوحنَّا المَعمَدان (أعمال الرسل 19: 1) أنَّ رئيسهم يُوحنَّا لم يكن هو المسيح، بل سابق المسيح ومُهيّا الطريق له؛ أمَّا عبارة "فهو أَقْوى مِنِّي" فتشير إلى وصف يسوع بالقوي، وهي صفة تُطلق على الله في العهد القديم " أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيب، حافِظُ العَهدِ والرَّحمَةِ لِلَّذينَ يُحِبُّونَكَ ويَحفَظونَ وَصاياكَ "(دانيال 9: 4)، وتطلق هذه العبارة أيضا على المسيح المنتظر في العهد الجديد. ولم ترد هذه الصفة إلاَّ مرتين في إنجيل مَتَّى (مَتَّى 12: 29)، إذ يفضل مَتَّى كلمة "سلطان" على كلمة "قوة" كما جاء في وصف تعاليمه "لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم. (مَتَّى 7: 29)، كما جاء أيضا في وصف قدرته على مغفرة الخطايا "فلِكَي تَعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لَه في الأَرضِ سُلطانٌ يَغْفِرُ بِه الخَطايا "(مَتَّى 9: 6)، وفي وصف قوّته "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (مَتَّى 28: 18)؛ أن القوة هي من صفات المسيح (أشعيا 11: 2)، ستظهر خاصة في صراع يسوع مع الشيطان (مرقس 3: 27)؛ أمَّا عبارة "أَخلَعَ نَعْلَيْه" فتشير إلى عمل من أعمال العبيد. ذاك هو وضع يُوحنَّا بالنسبة إلى يسوع؛ لقد شعر يُوحنَّا أنه ليس مستحقا أنَّ يؤدِّي، ولو واجبا صغيرا للرب يسوع. هذا هو سر تواضع يُوحنَّا المَعمَدان وبالتالي عظمته؛ أمَّا عبارة "إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" فتشير إلى الفرق بين يُوحنَّا " أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة" ويسوع الذي "سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار".  وسيكون هذا التطهير الناتج عن معمودية يسوع أعمق بكثير من التطهير الناتج عن الاعتماد بالماء.  يعلق القدّيس ايرونيموس " يمثّل يوحنّا الشريعة، ويمثّل يسوع الإنجيل. في الواقع، يقول يوحنّا: " وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي"، وفي موضع آخَر: " لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30): هكذا يقارن الشريعة بالإنجيل. ثمّ يقول: "أَنا –أي الشريعة– عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ –أي الإنجيل– "إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). يوحنا يلقّن الشريعة ويسوع يحمل نور النعمة. يوحنا يُعمِّد من أجل التوبة، ويسوع   يعطي نعمة العماد.  أمَّا عبارة " النَّار "فتشير إلى عمل الله الذي يُطهّر ويمتحن "مَنِ الَّذي يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه ومَنِ الَّذي يَقِفُ عِندَ ظهورِه؟ فإِنَّه مِثلُ نارِ السَّبَّاك "(ملاخي 3: 2). فنار الروح القدس يحرق الفساد في حياة المؤمن ويلهبه من أجل الله، كما جاء في وصف أرميا النبي" كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة" (ارميا 20: 9). إن الصفة المُميزة للمؤمن المسيحي هي انه ينقاد بروح الله كما يصرّح بولس الرسول " إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا" (رومة 8: 14). فإذا أراد الإنسان أن يشارك الله في قداسته، عليه أن يمرّ في النار كالمعدن. ولكن إن رفض، كانت النار التي تمرّ في حياته غضبا وعقاباً (1 قورنتس 3: 12-13). هذا الأقوى هو إله وإنسان يسوع المسيح.

 

12 بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ

 

تشير عبارة "المِذْرى" إلى خشبة ذات أطراف الأصابع، ترفع بها الحبوب المختلطة بالتبن والقش، فتتساقط الحبوب للأسفل لثقلها، أمَّا القش والتبن فيطيران بعيداً. وبهذا تجمع الحبوب وحدها والتبن وحده، وهذا كله يتم ّفي مكان متسع بجانب الحقل يُسمَّى البيدر أو الجرن. وهذه العملية تسمى التذرية أي تنقية الحنطة من التبن؛ وبالتالي فإنّ المسيح الّذي كان يُبشّر به يُوحنَّا المَعمَدان بصورة المِذرة فهو في المقام الأوّل ديَّان لا يُظهر الرحمة، ولكنّه يَحُلّ مشكلة الشر والخطيئة تماماً كما كان الجميع يتوقّعون. أمَّا عبارة " القمح" فتشير إلى الجزء النافع من النبات، وهو يُجمع في المخازن.  أمَّا التبن فهو قشرة خارجية لا قيمة لها تحرق؛ كذلك الآن يعيش الأبرار مع الأشرار، والمؤمنون مع غير المؤمنين، حتى يأتي يوم الرب العظيم الذي يقوم بنفسه بالتذرية. أمَّا عبارة " الأَهراء" في الأصل اليوناني ἀποθήκη فتشير إلى المخزن أو البيت الكبير الذي يجمع فيه القمح، وهي رمز إلى الدينونة كما يؤكد مَتَّى الإنجيلي "يُرسِلُ ملائِكَتَه ومَعَهُمُ البُوقُ الكَبير، فيَجمَعونَ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَطرافِ السَّمَواتِ إلى أَطرافِها الأُخرى" (مَتَّى 24: 31)؛ أمَّا عبارة "نارٍ " فتشير هنا إلى الغضب، والغضب هو موقف الله من الخطيئة (أشعيا 30: 27-33)؛ أمَّا عبارة "لا تُطْفأ" فتشير إلى نار لن تُخمد أبدا حتى يتمَّ غرضها كما يُصرّح أشعيا النبي "لا تَنطَفِئُ لَيلاً ولا نَهاراً ودُخانُها يَصعَدُ مَدى الدَّهر ومِن جيلٍ إلى جيلٍ تَخرَب وإلى أَبَدِ الآبِدينَ لا يَجْتازُ فيها أَحَد" (أشعيا 34: 10)، فالحصاد صورة عن الدينونة الأخيرة في نهاية الأزمنة، وفيه يتم فصل الصالح عن الرديء (مَتَّى 13: 30). إن عملية الدينونة مستمرة خلال عصر الإنجيل إذ يُفصل القمح من التبن بواسطة قبول الإنجيل أو رفضه. ويبلغ ذلك حد الكمال في اليوم الأخير.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مَتَّى 3: 1-12)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (مَتَّى 3: 1-12) يمكن أن نستنتج أنَّ النص يتمحور حول رسالة يُوحنَّا المَعمَدان في البَرِّيَّةِ لإعداد الطريق لمجيء الرب، وذلك من خلال رسالته النبوية والتعليمية.

 

 

1. رسالة يُوحنَّا المَعمَدان النبوية

 

هيّأ يُوحنَّا المَعمَدان طريق الرب من خلال رسالته النبوية. إن الجميع ينظرون إلى يُوحنَّا كنبي. وفي الواقع، إنّه أُسْوة بأنبياء الأيام السالفة، يترجم الشريعة في عبارات تفيد في الحياة اليومية، فكان يُوحنَّا على سيبل المثال يحذر ويوبخ هيرودس انتيباس "إِنَّ هِيروديّا امرَأَةِ أَخيهِ فِيلبُّس لا تَحِلُّ لَكَ" (مَتَّى 14: 4). وإنه يُنذر باقتراب الغضب والخلاص "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات، فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم" (مَتَّى 3: 2 و8). وبواسطة يُوحنَّا يُقدِّم كل الأنبياء الشهادة ليسوع " فَجَميعُ الأَنبِياءِ قد تَنَبَّأوا، وكذلك الشَّريعة، حتَّى يُوحنَّا (مَتَّى 11 :13). ويضيف لوقا البشير " ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ يوحنا بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله" (لوقا 16:16).

 

يُقدَّم يُوحنَّا على ضوء نبوات الأنبياء، على أن الله اختاره لإعداد قلوب الناس لمجيء يسوع المسيح. إنه يُبشر بالدينونة الأخيرة وبمجيء الملكوت. فكان لا بدَّ من وجوده كي نلمس الفرق بين تعاليم النبوة وموضوعها وهو المسيح. فيُوحنَّا يُميِّز نبوياً المسيح " ذاك " الذي هو موجود في العالم دون أن يعرفه العالم، مشير إليه " أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" (يُوحنَّا 1: 26). فكان ليُوحنَّا رسالة نبوية حول مجيء المسيح من خلال مظهره ومأكله وتواضعه وموته.

 

ا) رسالة نبوية من خلال مظهره ومأكله

 

يصف مَتَّى الإنجيلي يُوحنَّا المَعمَدان بقوله "كانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ. " وكان هذا لباس الأنبياء (زكريا 4:13). لقد قدّم مَتَّى الإنجيلي هذا المظهر لتذكير اليهود إيليّا النبي الغيُّور، فقد جاء يُوحنَّا المَعمَدان كإيليّا يسبق الرب. ويُوحنَّا المَعمَدان الذي قدّر له أن يكون إيليا الجديد " يَرُدُّ كَثيراً مِن بَني إِسرائيلَ إِلى الرَّبِّ إلهِهِم 17 ويَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً"(لوقا 1: 16 -17)، يُذكّرنا بالنبي إيليا العظيم بمَلبسه بأنّه " رَجُلٌ علَيه لِباسٌ مِن شَعَر وعلى حَقوَيه إِزارٌ مِن جِلْد" (2 ملوك 1: 8) وبطريقة الحياة الخشنة (مَتَّى 3: 4) التي مارسها في البَرِّيَّةِ منذ شبابه، وهي العلامة الّتي تؤكد، دون التباس، أنّ المسيح آتٍ. ونتيجة لذلك يذهب الناس إلى البَرِّيَّةِ، وهي مكان الارتداد والتوبة، ومكان الإصغاء، من أجل رؤية إيليّا الجديد هذا، المُرسل من السماء.

 

لم يلبس يُوحنَّا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة ليدعو للتوبة. تحوّل يُوحنَّا عن كلّ شيء من أجل أن يتطلّع إلى الربّ فقط. ليس لديه أيّ شيء في البَرِّية؛ كلّ ما كان يملك هو ثوبه من وبر الإبل، وأيّ طعام استطاع أن يجده في البرية. إنّ يُوحنَّا يعيش الرسالة الّتي كان يُعلنها. ويُعلق العلامة أوريجانوس "كانت صرخات يُوحنَّا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه".

 

يظهر يُوحنَّا بما فيه من غيرة متّقدة أنه إيليا الجديد المنتظر الذي من واجبه إعداد الناس لمجيء المسيح (مَتَّى 11: 14)، كما تنبأ ملاخي النبي "هاءَنَذا أُرسِلُ إليكم إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبلَ أَن يأتي يَومُ الرَّبِّ العَظيمُ الرَّهيب" (ملاخي 3: 23). وكان عمله " أن َيَرُدُّ قُلوبَ الآباءِ إلى البَنينَ وقُلوبَ البَنينَ إلى آبائِهم، لِئَلاَّ آتي وأَضرِبَ الأَرضَ بِالتَّحْريم" (ملاخي 3: 24)، وهي آخر مهلة حدَّدها الله لتسكين الغضب قبل أن يتفجر كما جاء في كتابات يشوع بن سيراخ " اَكتُتِبتَ في إنْذاراتٍ للأيَّام الآتِيَة لِتُسَكِّنَ الغَضَبَ قَبلَ اْنفِجارِهَ وتردَّ قَلبَ الأبِ إلى الاْبن وتُصلِحَ أَسْباطَ يَعْقوب" (يشوع بن سيراخ 48: 10).

 

إن هذا الانتظار للأزمنة الأخيرة (مرقس 15: 35-36) قد تَمَّ في يُوحنَّا المَعمَدان، كما صرّح يسوع المسيح لتلاميذه "إِنَّ إِيلِيَّا آتٍ وسيُصلِحُ كُلَّ شَيء. ولكن أَقولُ لَكم إِنَّ إِيلِيَّا قد أَتى، فلَم يَعرِفوه، بَل صَنَعوا بِه كُلَّ ما أَرادوا. وكذلك ابنُ الإِنسانِ سَيُعاني مِنهُمُ الآلام. ففَهِمَ التَّلاميذُ أَنَّه كَلَّمهم على يُوحنَّا المَعمَدان"(مَتَّى 17: 10-13)، لكن بطريقة سريّة، لأن يُوحنَّا لم يَكنْ هو إيليا كما جاء في رد يُوحنَّا على من سأَلوه قال: " لَستُ إِيَّاه" (يُوحنَّا 1: 21).  وإن كانت كرازته تردُّ قلوب الأبناء إلى آبائهم فلم يكن هو الذي يسكِّن غضب الله. قد حقَّق يُوحنَّا المَعمَدان مثال إيليا فيما يختص بالمناداة بالتوبة في البَرِّيَّةِ (مَتَّى 3: 4). لكن يسوع هو الذي حقَّق صفاته الرئيسية في الشفاء والخلاص. فمنذ الناصرة حدّد المسيح رسالته الشاملة بالمقارنة مع رسالة إيليا (لوقا 4: 25-26). لكن لم يبُالِ اليهود برسالته.

 

ب) رسالة نبوية من خلال تواضعه

 

أقرّ المَعمَدان أنه لا يستحقّ أن يحلّ سير حذاء الذي يأتي بعده، مع أنه "كائن قبله" (يُوحنَّا1: 19-30). "وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه "(مَتَّى 3: 11)، وهنا يتنبأ المَعمَدان عن مجيء المسيح "من يأتي" ويعمّد بالروح والنار (مَتَّى 3: 11-12)، وهو يسوع الذي نزل عليه الروح أثناء اعتماده على يده (يُوحنَّا 1: 31-34).

 

بعدما أعدَّ يُوحنَّا المَعمَدان البشر لملاقاة الرب، احتجب بعد مجيء يسوع كما صرّح يُوحنَّا نفسه لليهود "أَنتُم بِأَنفُسِكم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يُوحنَّا 3: 28). وكما وصف يُوحنَّا البشير " جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" (يُوحنَّا 1: 7-8). ومن هذا المنطلق، واجب كل نبي أن يصغر لكي يعظم المسيح، كما صرّح يُوحنَّا المَعمَدان "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يُوحنَّا 3: 30)، وذلك لكي تُبنى الكنيسة في الرب، وفي الروح، وترتفع هيكلاً مقدسا يسكن فيه الله كما يُعلمنا بولس الرسول "فيه يُحكَمُ البِناءُ كُلُّه وَيرتَفِعُ لِيَكونَ هَيكلاً مُقدَّسًا في الرَّبّ، وبِه أَنتُم أَيضًا تُبنَونَ معًا لِتَصيروا مَسكِنًا للهِ في الرُّوح" (أفسس 2: 21-22).

 

نستنج مما سبق أنَّ حكمة القدير تُسرّ بالكشف عن ذاتها، بواسطة المتواضعين الذين يحتقرهم العالم، كما جاء في تعليم بولس الرسول "وما كانَ في العالَمِ مِن غَيرِ حَسَبٍ ونَسَبٍ وكان مُحتَقَراً فذاكَ ما اختارَهُ الله: اِختارَ غَيرَ المَوجودِ لِيُزيلَ المَوجود، حتَّى لا يَفتَخِرَ بَشَرٌ أَمامَ الله"(1 قورنتس 1: 28-29). فسرُّ نجاح يُوحنَّا المَعمَدان هو تواضعه؛ فما أعظم التواضع الذي يتحلّى به ذاك الذي يرسله الرب، ليُعدّ له الطريق!

 

ج) رسالة نبوية من خلال موته

 

لم يكتف المَعمَدان أن يتنبأ عن مجي المسيح من خلال حياته، بل تنبا عنه أيضا من خلال موته. فلم يكن ليُوحنَّا المَعمَدان أية قوَّة أو جاه في النظام السياسي، إلاّ أنه كان شجاعاً لا يخاف المواجهة والتحدِّي، ولا يقبل إنصاف الحلول. فكان يتحدث بسلطان لا يُقاوم. لأنه كان يتكلم بالحق (لوقا 1: 17). وكان يحثُّ الناس على ترك خطاياهم ويُعمّدهم كرمز لتوبتهم (مَتَّى 3: 9).

 

حثَّ يُوحنَّا المَعمَدان الملك هيرودس على الاعتراف بخطيئته، وندّد بزنى هذا الملك، أمَّا هيروديَّا التي تزوَّجت هيرودس خلافا للشريعة، فقرَّرت أن تتخلص منه فعرّضته للسجن ثم للقتل (مَتَّى 14: 3-12). وبالرغم من أنها تمكَّنت من قتله إلاَّ أنَّها لم تقدر أن توقف رسالته.

 

جاء المسيح الذي كان يُوحنَّا المَعمَدان ينادي به وبدأ خدمته، وبهذا أتمَّ يُوحنَّا رسالته. الشهادة للحق أهم من الحياة ذاتها. فأصبح استشهاده مقدّمة إلى آلام ابن الإنسان، كما جاء في جواب يسوع على سؤال التلاميذ "إِنَّ إِيلِيَّا يَأتي أَوَّلاً ويُصلِحُ كُلَّ شَيء. فكيفَ كُتِبَ في شأَنِ ابنِ الإِنسان أَنَّه سَيُعاني آلاماً شديدةً ويُزدَرى؟ على أَنِّي أَقولُ لَكم إِنَّ إِيليَّا قد أَتى، وصَنَعوا بِه كُلَّ ما أَرادوا كَما كُتِبَ في شأَنِه " (مرقس 9: 11-13). فاستحقَّ المَعمَدان من سيدنا يسوع المسيح أعظم شهادة، إذ نظر بإعجاب إلى يُوحنَّا المَعمَدان بوصفه آخر الأنبياء وأعظمهم معلنًا" لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحنَّا المَعمَدان".

 

وبما أن ملكوت الله قد افتتح عصراً جديداً، يتابع يسوع قوله: "ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه " (مَتَّى 11: 11-12). فعلينا أن نكون شهوداً ليسوع المسيح في حياتنا، وذلك من خلال أعمالنا، وسيرتنا الحميدة، وإيماننا القوي والراسخ بيسوع، وأن نؤدي الشهادة بجرأة، كما أدَّاها يُوحنَّا المَعمَدان الذي لم يثنيه عن القيام بهذه الشهادة، لا مصاعب، ولا سجن، ولا استشهاد في سبيل الحق.

 

 

2. رسالة يُوحنَّا التعليمية

 

لم يُهيّ يُوحنَّا المَعمَدان طريق الرب من خلال رسالته النبوية فحسب، أنما أيضا من خلال رسالته التعليمية. وتتضمن رسالة التعليمية محورين: دعوة للتوبة والمعمودية.

 

أ) دعوة للتوبة لإعداد مجيء الرب

 

في مطلع إنجيل مَتَّى نجد الدعوة إلى التوبة التي حملها الأنبياء في كرازة يُوحنَّا المَعمَدان، آخر الأنبياء وخاتمهم. وإن جملة واحدة تلخص رسالته بكاملها " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (مَتَّى 3: 2). يطلب يُوحنَّا من مستمعيه تحويل أفكارهم وقلوبهم بعيداً عن كلّ ما كانوا يعتبرونه هدف حياتهم وأن يتطلّعوا إلى الربّ فقط. والسبب هو أنّ "ملكوت السماوات قد اقترب". وأمَّا إنجيل لوقا فيلخِّص رسالة يُوحنَّا المَعمَدان أيضا بقوله "يَرُدُّ كَثيراً مِن بَني إِسرائيلَ إلى الرَّبِّ إلهِهِم ويَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً " (لوقا 1: 16-17).

 

إنّ كلمة توبة هي مركزيّة في المقطع الإنجيلي لهذا اليوم وتتكرّر ثلاث مرّات (لوقا 3: 2، 8 11). والتوبة هي تغيير الاتجاه والقلب والعقل من جهة العالم والخطيئة لهداية الإنسان، ويتِّجه نحو الله ويرجع إليه. إنها التحوّل عن الخطيئة إلى الله. إنها تغييرٌ في السلوك بحيث يُدير الإنسان وجهه لا ظهره لله تعالى، ويقوم بتصحيح المفاهيم الخاطئة الّتي قد تُعطّله عن الاقتراب إلى السيّد المسيح. ولذلك فان يُوحنَّا المَعمَدان يناشد مستمعيه أن يحوّلوا وجوههم إلى 180 درجة، من حياة التركيز على الذات، الذي يؤدي إلى تصرفات خاطئة مثل الكذب، والخداع، والسرقة، والنميمة، والانتقام، والفساد، وخطايا الجنس والحسد والبغض، إلى إتباع طريق الله، كما هي مدوّنة في كلمته في الكتاب المقدس. وهذا الأمر يتطلب ثلاث خطوات: خطوة إلى الماضي، وهي الندامة، وخطوة إلى الحاضر، وهي الاعتراف، كما يؤكد يُوحنَّا المَعمَدان، وخطوة إلى المستقبل، وهو القصد بعدم العودة إلى الخطيئة اعتمادا على نعمة الله. ومن يقبل التوبة تنفتح عيناه الروحية التي أغلقتها الخطيئة. ومن تفتَّحت عيناه يعرف المسيح حين يظهر، وهكذا كان يُوحنَّا يُهيئ الطريق للمسيح. يعلق العلامة أوريجانوس "إن التوبة هي تهيئةٌ لمعمودية يُوحنَّا، فيقول: الصوت الصارخ في البَرِّيَّةِ، السابق للمسيح، كرز في بَرِّيَّةِ النفس التي لم تكن تعرف السلام. نورٌ بهيج وملتئمٌ يأتي أولاً، ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. ثم يتبعه النور الحقيقي مثلما قال يُوحنَّا نفسه " لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يُوحنَّا 30:3).

 

إنَّ التوبة بلا ثمر هي مظاهر ورياء. وكان اليهود يعتقدون أنهم يُخلِّصون لمجرد انتسابهم لإبراهيم. فشرح يُوحنَّا لهم أن الخلاص ليس مِيراثًا من الآباء، وان الانتماء إلى ذرية إبراهيم لن يُجدي نفعاً فقال لهم "لا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم. فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم" (مَتَّى 3: 9). فجميع البشر ينبغي أن يعترفوا بأنهم خطأة، وأن يثمروا ثمراً يليق بالتوبة "أَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم" (مَتَّى 3: 8)، وأن يتبنّوا سلوكاً جديداً ملائماً لحياتهم الجديدة (لوقا 3: 10-14). ويُعلق القديس يُوحنَّا الذهبي الفم: "جاء يُوحنَّا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة. فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة".

 

يفتح مجيء المسيح بابًا للرجاء؛ ولكنّ يُوحنَّا يُركِّز خاصة على الدينونة التي تسبق هذا الرجاء، كما جاء في كلامه للفريسيين والصدوقيين "مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟" (مَتَّى 3: 7). وباختصار، رسالة التوبة هي بشرى سارّة لمن يتجاوبون معها، ويُصغون إليها ويطلبون الغفران، ولكنّها بشرى مُرعبة للّذين يأبون الإصغاء ويرفضون مصدر رجائهم الأبديّ ألا وهو يسوع المسيح.

 

ب) دعوة للمعمودية لإعداد مجيء الرب

 

لم يهيّا يُوحنَّا المَعمَدان مجيء الرب يسوع من خلال دعوة الناس إلى التوبة فحسب، بل أيضا من خلال معمودية الماء. كان عمل يُوحنَّا المَعمَدان الأساسي هو تأسيس سر المعمودية " الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ" (يُوحنَّا 1: 33)؛ فكان يُعرض معمودية الماء كعلامة للتوبة. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "إنَّ يُوحنَّا لم يُبشّر فقط، إنما نشر معموديّة التّوبة. لم يستطع أن يُعطي معمودية تغفر الخطايا، لأن مغفرة الخطايا تمنح لنا فقط من خلال معموديّة الرّب يسوع المسيح" (العظة رقم 20 حول الإنجيل).

 

وبما أنَّ يُوحنَّا لم يكن باستطاعته إعطاء العماد الّذي يغفر الخطايا، أعلن عن مجيء من يستطيع ذلك بعده. تُعدّ معمودية يُوحنَّا التائبين لمعمودية النار والروح القدس، التي سيمنحها المسيح " أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (مَتَّى 3: 11). كان يُوحنَّا المَعمَدان ينبئ بالعماد في الروح والنار، لذلك لم تكن معمودية يُوحنَّا إلا مؤقتاً، ويُعلق القديس أمبروسيوس "كثيرين يتطلّعون إلى يُوحنَّا المَعمَدان كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيئة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها". ولم تكن معموديّة يُوحنَّا تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، ولم يكن لها أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به معمودية المسيح، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.

 

كانت معمودية يُوحنَّا المَعمَدان معروضة على الشعب اليهودي بأسره، لا على الخطأة والمهتدين وحدهم. إنها معمودية فريدة تمنح في البَرِّيَّةِ من اًجل التوبة وغفران الخطايا كما جاء في إنجيل مرقس " ظَهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان في البَرِّيَّةِ، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا"(مرقس 1: 4). وتفرض المعمودية الاعتراف وبذل الجهد للهداية النهائية التي ينبغي أن يُعبّر عنها بالشعائر الطقسية "يَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (مَتَّى 3: 6). وهي توبة تتطلّب جهداً في تجديد الحياة (مرقس 1: 4-5)، إذ لا يُفيد المرء أن يكون ابناً لإبراهيم إن لم يمارس البرّ (مَتَّى 3: 8-9)، الذي يُحدِّد يُوحنَّا التزاماته لجمهور البسطاء (لوقا 3: 10-14).

 

يركز يُوحنَّا المَعمَدان على ضرورة النقاوة الروحية في هذه المعمودية، دون التخلي عن الوظائف كما كان موقفه مع العشَّارين والجنود؛ فأوصى العشارين "لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم " (لوقا 3: 10)، وأوصى الجنود "لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم "(لوقا:3: 14). أمَّا الفريسيون والكتبة فلم يؤمنوا به (مَتَّى 21: 25). فعندما أتوا إليه، أنذرهم بأن غضب الله سوف يقضي على كل شجرة غير مثمرة (مَتَّى 3: 10).

 

يختلف يسوع عن يُوحنَّا المَعمَدان (مَتَّى 11: 3)، إنه يطالب يسوع مثله بالتوبة الكاملة، ولكن بدلاً من أن ينبئ بالإدانة الوشيكة على يد إلهٍ منتقم ٍ (مَتَّى 3: 7-12)، فهو يعلن سنة مرضيّة (لوقا 4: 19). هذا هو الوضع الذي ينتهجه يسوع لنفسه، إذ يَعد بالفرح الذين يكتشفون الكنز (مَتَّى 13: 44-45). وما أسعد الذين يعيشون بتلك الساعة!

 

ولما أعلن يُوحنَّا عن يسوع أنه حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (يُوحنَّا 1: 29)، لم يكن يعرف كيف سيرفع الخطيئة، كما كان لا يدرك سبب رغبة المسيح في الاعتماد منه (مَتَّى 3: 13-15). ولكي يرفع يسوع الخطيئة، كان عليه أن يقبل معمودية أخرى لم تكن معمودية يُوحنَّا إلا مجرّد تمهيدا لها، وهي معمودية الآلام (مرقس 10: 38، لوقا 12: 50). وسيتمّم يسوع هكذا كل برّ (مَتَّى 3: 15)، لا بإهلاك الخطأة، بل بتبرير الجموع الذين حمل خطاياهم (أشعيا 7:53 -8 ،11-12).

 

 

خلاصة

 

يدعونا الإنجيل اليوم للتوبة أيّ التغييّر الجذري كيوحنا المعمدان. إنَّ شهادة يُوحنَّا المَعمَدان تسند شهادة يسوع الذي جاء إلى العالم ليشهد للحق وليُخلصه (يُوحنَّا 18:37). وفي مقابل هذه الرسالة، يُمدح يسوع رسوله الأمين، يُوحنَّا المَعمَدان داعياً إيّاه "السّراج المتّقد المنير" (يُوحنَّا 5: 35)، و"أعظم نبيّ في أولاد النساء" (مَتَّى 11: 11)، ولكنه يستدرك " أن أصغر الذين في ملكوت السماوات أكبر منه"، مظهراً بذلك تفوّق نعمة الملكوت على موهبة النبوّة، دون أن يحطّ من شأن قداسة يُوحنَّا المَعمَدان. ولكن يبقى يُوحنَّا المَعمَدان ذاك النبي، بل خاتم الأنبياء الّذي يُعدّ لمجيء المسيح، وهو مثالنا في زمن المجيء.

 

 

دعاء

 

أيَّها الرب الاله، إنك تُحيي فينا الرجاء في رؤية يوم المسيح المنتظر، ساعدنا أن نُعدّ قلوبنا وقلوب إخوتنا من خلال ردم أودية الخطيئة وتسوية جبال الكبرياء، كي تكون مستعدة لمجيئك القريب، أشركنا في قوة الروح القدس الذي ملأ يُوحنَّا المَعمَدان، كي نعرف كيف ننتظر مجيء الرب بروح الصلاة والتواضع والتوبة. استجبنا أيَّها الرب المبارك إلى دهر الدهور آمين.