موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

يسوع يشفي ِأَلأصَمَّ المَعقود اللِّسان

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثَّالث والعشرون للسنة: يسوع يشفي ِأَلأصَمَّ المَعقود اللِّسان (مرقس 7: 31-37)

الأحد الثَّالث والعشرون للسنة: يسوع يشفي ِأَلأصَمَّ المَعقود اللِّسان (مرقس 7: 31-37)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 7: 31-37)

 

1 وانصَرَفَ مِن أَراضي صور ومرَّ بِصَيدا قاصِدًا إِلى بَحْرِ الجَليل، ومُجتازًا أَراضِيَ المُدُنِ العَشْر. 32 فجاؤوه بِأَصَمَّ مَعقودِ اللِّسان، وسأَلوه أَن يَضَعَ يدَه عليه. 33 فانفَرَدَ بِه عنِ الجَمْع، وجعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه. 34 ورَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ وتَنَهَّدَ وقالَ له: ((إِفَّتِحْ!)) أَيِ: انفَتِحْ. 35 فانفَتَحَ مِسمَعاه وانحَلَّتْ عُقدَةُ لِسانِه، فَتَكَلَّمَ بِلِسانٍ طَليق. 36 وأَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحَدًا. فكانَ كُلَّما أَكثَرَ مِن تَوصِيَتِهِم، أَكثَروا مِن إِذاعَةِ خَبَرِه. 37 وكانوا يَقولونَ وَهُم في غايةِ الإِعْجاب: ((قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها، إِذ جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!)).

 

 

مقدمة

 

يصف إنجيل مرقس انصراف يسوع من الجليل إلى الأراضي الوثنيَّة، وينفرد بين الأناجيل في رواية شفاء أَلأصَمَّ المَعقود اللِّسان في احدى المدن العشر. وشفاء الأصَمّ يدل على خلاص الله الآتي ومجيء المسيح وملكوت الله إلى البشريَّة بحسب نبوءة أشعيا "آذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم" (أشعيا 6: 5). وهذه معجزة تُظهر كيف أن يسوع يُعيد التَّواصل الإنسان مع الله ومع الآخرين بعد أن قطعت الخطيئة العلاقة بين الإنسان وربِّه وأخيه الإنسان.  ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 7: 31-37)

 

31  وانصَرَفَ مِن أَراضي صور ومرَّ بِصَيدا قاصِدًا إِلى بَحْرِ الجَليل، ومُجتازًا أَراضِيَ المُدُنِ العَشْر

 

تشير عبارة "وانصَرَفَ مِن أَراضي صور ومرَّ بِصَيدا" إلى مسار يسوع من الجنوب (صور) إلى الشِّمال (صيدا) ثم إلى الشَّرق.  أمَّا عبارة " انصَرَفَ " فتشير إلى خروج يسوع من الأراضي الوثنيَّة، تخوم صور وصيدا حيث خلَّص نفس المرأة الكنعانيَّة (مرقس 7: 23-30)؛ ولم يُردْ يسوع أن يبقى كثيرًا بين الأمم حتى لا يتعثر فيه اليهود كمخالف للشَّريعة، إذ يرونه في شركة مع الأمم الوثنيَّة النَّجسة. أمَّا عبارة " صور" فتشير إلى اسم سامي צוֹר معناه " صخر" وهي مدينة فينيقيَّة شهيرة وقديمة جدًا (أشعيا 23: 7). خضعت صور لمصر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد كما تشهد على ذلك ألواح تل العمارنة. وكانت تعتبر صور حصنًا في أيام داود الملك (2 صموئيل 24: 7) وكان لحيرام ملكها علاقةٌ ودِّيَّة ٌمع الملك داود وسليمان حيث أرسل لهما بعض المواد للبناء، فبنى الأول بيته (1 ملوك 5: 1) وبنى الثَّاني الهيكل (1 ملوك 9: 10-14). ثم استولى عليها الرُّومانيون. وفي هذا الفترة الرُّومانيَّة مرّ الرَّب يسوع على شواطئ صور وصيدا (متى 15: 21-28). واتصل به قوم من تلك المنطقة (مرقس 3: 8). وقال يسوع إن مسؤوليَّة تلك المدن الوثنيَّة كانت اقل مسؤوليَّة من المدن التي حول بحيرة طبريَّة بكثير، لأن هذه كانت دومًا تسمع بشارته وترى العجائب (متى 11: 21 -22). ودخلت المسيحيَّة إلى صور منذ بدء العهد الرَّسولي وشُيِّدت فيها كنيسة ذكرى لمرور بولس الرَّسول منها ومكوثه فيها سبعة أيام (أعمال الرسل 21: 3 -4). أمَّا عبارة " ِصَيدا " اسم سامي צִידוֹן (معناه مكان صيد السَّمك)، فتشير إلى مدينة فينيقيَّة قديمة غنيَّة تقع على بعد 35 كم شمالي صور، وتُعتبر أقدم مدن العَالَم واسمها مأخوذ من بكر كنعان بن حام بن نوح (التَّكوين 10: 15). وفي عام 64 ق. م. استولى عليها الرُّومانيون. وقد أتى إلى الجليل قوم من صيدا لسماع بشارة يسوع والشَّهادة لعجائبه (مرقس3: 8). والجدير بالذكر أنَّ يسوع مرَّ في نواحي صور وصيدا مرة واحدة ولم يقل الكتاب المقدس أنه دخلهما (متى 15: 21 ومرقس 7: 24). أمَّا عبارة " قاصِدًا إِلى بَحْرِ الجَليل " فتشير إلى عودة يسوع إلى الجليل كما نقرأ في بعض المخطوطات الأخرى. ذهب يسوع إلى شمال صور، ثم عاد إلى الجنوب الشَّرقي نحو بحيرة طبريَّة ماراَ في المدن العشر.  أمَّا عبارة " بَحْرِ الجَليل" فتشير إلى بحيرة عذبة تستمد مياهها من نهر الأردن واسمها " بَحرِ كِنَّارةَ " יָם כִּנֶּרֶת (عدد 34: 11) ثم " بُحَيْرَةِ جِنَّاسَرِت" גִּנֵּיסַר (لوقا 5: 1) وبحيرة طبريَّة (يوحنا 6: 1)، وهو الاسم المعروف لدى العرب. ولهذه البحيرة شأن عظيم في الأناجيل في تاريخ حياة السَّيد المسيح في بدء حياته العلنيَّة، لأنَّ كفرناحوم التي كثيرًا ما وطأتْها أقدام المسيح تقع على شاطئها. ومنها اختار أربعة من تلاميذه الصَّيَّادين الذين جعلهم "صَيادَي بَشَر" (مرقس1: 17).  وبعد قيامته اجتمع يسوع بهم على شاطئ ذلك البحر، لأنَّهم كانوا قد رجعوا إلى هناك يشتغلون بحرفتهم القديمة. ويبلغ طول شواطئها نحو 53 كم وطولها 21 كم وعرضها 13 كم، ومساحتها تبلغ 166 كم2 وأقصى عمق فيها يصل إلى 43 متر وسطحها يقل ارتفاعًا بنحو 215م عن سطح البحر الأبيض المتوسط. وبسبب انخفاض سطحها فمناخها نصف حار. أمَّا عبارة " المُدُنِ العَشْر" في الأصل اليوناني Δεκάπολις  ديكابولس، (معناها المدن العشر) فتشير إلى  حلف المدن  العشرة الرُّومانيَّة الواقعة  غالبيتها في شرقي الأردن، ما عدا واحدة في شرقي بحيرة طبريَّة. وتقع المدن العشرة بين حدود ربع هيرودس انتيباس وربع هيرودس فيلبس وتخضع لحاكم سوريا. وسكنها مهاجرون يونانيُّون إثر هجوم الإسكندر المقدوني على الشَّرق، وهذه المدن العشر، هي، على الأغلب، وحسب تحديد المؤرِّخ بليني: سكيتوبولس (بيسان)، هيبوس، دمشق، جدارة (أم قيس)، رافانا، قناتا (قنوات)، بلاَّ، ديون، جيراسا (الجرش)، فيلادلفيا، (ربة عمون أي عمان)، ثم أضيفت إليها ثمانية مدن أخرى. وكانت منطقة مزدهرة تجاريًا، نظرًا لموقعها الجغرافي الطَّبيعي وسط سوريَّة. وكانت تتخللها ثلاثة طرق، وتمر بها طريق رئيسيَّة رابعة بين دمشق وشبه الجزيرة العربيَّة. واستمرَّ ازدهارها إلى عهد الرُّومانيِّين؛ وقد ذكرت المدن العشر ثلاث مرات في الأناجيل (متى 4: 25 ومرقس 5: 20 و7: 31) أثناء تجوال المسيح فيها ثلاث مرات، وهذا الأمر يَعني أن يسوع ترك أرض الميعاد، أرض الإيمان، للغوص في قلب أرض غريبة، أرض وثنيَّة.  وليس هدف هذا الآية وصف تنقلات يسوع بقدر ما تشير إلى حدت شفاء الأصَمّ الذي وقع في ارض وثنيَّة التي يحدُّها من جهة الشَّرق المدن العشر ومن جهة الغرب صور وصيدا.  ويذكر إنجيل متى أن المسيح صنع معجزات كثيرة في تلك المنطقة مع أنّه قصدها بغية الرَّاحة والنَّجاة من أعدائه كما ورد في إنجيل متى" فأَتَت إِلَيه جُموعٌ كَثيرة ومعَهم عُرْجٌ وعُمْيٌ وكُسْحانٌ وخُرْسٌ وغَيرُهم كَثيرون، فطَرحُوهم عِندَ قَدَمَيه فشفاهم" (متى 15: 29). واقتصر مرقس الإنجيلي على ذكر أعجوبة واحدة منها ولم يذكرها غيرها، ويصف هنا نطاق انتشار خدمة يسوع وتوسعه في مختلف المناطق.

 

32 فجاءوه بِأَصَمَّ مَعقودِ اللِّسان، وسأَلوه أَن يَضَعَ يدَه عليه

 

تشير عبارة "فجاءوه" في الأصل اليوناني φέρουσιν αὐτῷ (معناها يقدِّمونه) إلى حاجة الأصَمّ المعقود لأصحابه لإحضاره أمام الرَّبّ يسوع المسيح والتَّوسل من أجله، كونه فاقد القدرة على الإصغاء وعلى التَّكلم بعكس مرضى آخرون كثيرون الذين التجأوا إلى يسوع بنفسهم عن طريق صراخهم مُعبّرين عن حاجتهم إلى الخلاص والشِّفاء كالبرص العشرة (لوقا 17: 11-19)، والأعمى في أريحا (مرقس 10: 46-52). هؤلاء الأشخاص يتجاوزون الاستسلام واللامبالاة ويقودون المريض إلى يسوع مع الأمل أن يشفيه. أمَّا عبارة "أَصَمَّ" في الأصل اليوناني κωφὸν  (معناها فقدان السمع) فتشير إلى إنسان أطرش. له آذان لكنَّه فعلاً لا يسمع، ولا يمكنه التَّعبير عن نفسه، يعيش في عالمه الخاص، منعزلٌ عن الجميع. هو شخص يعيش نصف حياة. لم يكن بإمكانه سماع أي كلمة. لكن كان بإمكانه رؤية ما كان يفعله يسوع ويُعلق البابا فرنسيس " يُعبِّر صممه في الواقع عن عدم قدرته على سماع وعلى فَهمِ، ليس فقط كلام البشر، إنما أيضًا كلمة الله". أمَّا عبارة "مَعقودِ اللِّسان" في الأصل اليوناني μογιλάλον (معناها مُعاق في القدرة على الكلام) فتشير إلى تأتأة أو ثقل اللِّسان حيث يتكلم بصعوبة، وذلك لأنَّه أصم، وبسبب صَمَمِه التوى لسانه، وليس هو بالضُّرورة أخرس بل عاجز عن النَّطق بلهجة واضحة، فهو مُتلعثم وثقيل اللسان. وتُذكرنا هذه الحالة بنبوءة أشعيا النَّبي القائل "حينَئِذ آذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح... ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم (35: 5-6). ولم تتكرَّر هذه اللَّفظة "أَصَمَّ مَعقودِ اللِّسان " سوى مرَّتين في الكتاب المقدس (مرقس7: 32، 37).  وهذا الأصَمّ المعقود اللِّسان يُمثل روحيًا كلَّ إنسان يصُم أذنيه عن سماع كلمة الله، ويعقد لسانه عن النَّطق بها، ويأبى أن يخاطب الله بالصَّلاة، ولذا فهو يمثِّل العاجز عن تسبيح الله، لأنَّه سدَّ أذانه عن سماع كلمة الله، ويمثل العاجز عن الشَّهادة للحق. إنّه صورة عن البشريّة المجروحة، الّتي لا تُصغي إلى صوت الله وصوت الآخرين. وباختصار، إن الرَّجل الأصَمّ معقود اللِّسان هو صورة الإنسان الخاطئ، المُنغلق على ذاته، غير القادر على إقامة علاقة مع الرَّبّ ومع الآخرين، إذ هذه الحياة قائمة، ليس فقط على العيش مع بعض فحسب، إنَّما على الحديث مع بعض أيضًأ، والمشاركة بالكلام في الحياة اليوميَّة.  أمَّا عبارة" وسأَلوه أَن يَضَعَ يدَه عليه" فتشير إلى ثقة أصحاب الأصمِّ في قدرة يسوع على الشِّفاء، وهذا الشفاء يتوقف على اللَّمس، إذ استنتجوا ذلك مما شاهدوه من المسيح قبلا بوضع اليد للبركة، ومثل ذلك كان نعمان الأبرص يتوقع الشِّفاء من إيليا النَّبي " فغَضبَ نَعْمانُ ومَضى وهو يَقولُ في نَفسِه: "كُنتُ أَحسَبُ أنّه يَخرُجُ ويَقِفُ ويَدْعو باسم الرَّبِّ إِلهِه ويحَرِّكُ يَدَه فَوقَ المَكانِ ويَشفِي البَرَص" (2 ملوك 5: 11). لكن يسوع لم يشفِ الأصَّم بهذه الطَّريقة بحسب طلب أصحاب الأصَّم، لكنه اتَّخذ طرقًا مختلفة للشفاء: شفى البعض بالكلمة، والبعض باللَّمس، والبعض بإرساله إلى بركة يغتسل منها، وشفى أكثر المرضى فورًا وبعضهم تدريجيًا (مرقس 8: 23-25). وأمَّا عبارة "وضَعَ يدَه عليه" فتشير إلى تعبير مألوف في العهد الجديد يدل على سلطان يسوع في الشِّفاء. ويُقصد بها أيضا حركة طقسيَّة لوضع الأيدي (مرقس 5: 23) كما حدث مع هارون الكاهن أخ موسى "رَفَعَ هارونُ يَدَيه نَحوَ الشَّعْبِ وبارَكَهم وَنزَلَ، بَعدَ تَقْريبِ ذَبيحةِ الخَطيئَةِ والمُحرَقةِ والذَّبيحةِ السَّلامِيَّة" (أحبار 9: 22). وهذا الأصَمّ المَعقودِ اللِّسان يحتاج إلى وضع يدي المسيح عليه لكي يهبه إمكانيَّة السِّماع لكلمة الله والنَّطق بها.

 

33 فانفَرَدَ بِه عنِ الجَمْع، وجعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه.

 

تشير عبارة " فانفَرَدَ بِه عنِ الجَمْع " إلى انعزال يسوع عن الجمع مع الأصم لمنحه اهتمامًا خاصًا وشخصيًا. يسوع دخل في عزلة الرجل الأصم وعجزه وإنسانيته المجروح كي يخلصه. إنه يجذبه بلطف بعيدًا عن المحيط الوثني، ويدعوه للقاء شخصيّ به، وجهًا لوجه ويعيد إليه إمكانيّة الاتّصال والمشاركة ً في الحياة، ويُشعره بمحبته، وربما كان الانفراد به لتجنُّب تشتت فكر الأصم وتجنب الدِّعاية التي لا حاجة إليها بجذب أنظار الفضوليِّين. أما عبارة "جعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه" فتشير إلى إشارات لا وسائط لشِّفاء لكي يُنبِّه يسوع رجاء الأصَمّ فينال البركة والإيمان بقدرته تعالى.  أمَّا عبارة " جعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه" فتشير إلى اتصال جسدي بين يسوع والأصَمّ. ويحاول يسوع بهذه الحركات إعادة الاتصال في العَالَم الوثني لفتح الأذن الدَّاخليَّة لتسمع الصَّوت الإلهي. أمَّا في المحيط اليهودي فيُهمل هذا الاتصال، لان كلمة يسوع تكفي. ولهذا لا يتكلم متى عن اتصال جسدي في شفاء اعمى أريحا (متى 8: 23). والإصبع هو إشارة للرَّوح القدس (لوقا 11: 20، متى 28:12)، إذ عمل الرُّوح القدس هو فتح حواسنا الرُّوحيَّة حتى ندرك السَّماويات، ويُعلّق القدّيس غريغوريوس الكبير "يُدعى الرُّوح إصبع الرَّبّ. وعندما وضع الرَّبّ أصابعه في إذنيّ الأصَمّ الأبكم، كان يفتح نفس إنسان نحو الإيمان بواسطة مواهب الرُّوح القدس". أمَّا عبارة "تَفَلَ" فتشير إلى استعمال اللَّعاب كدواء، حيث كان الاعتقاد السَّائد في الزَّمن القديم أنَّ اللعاب له خصائص شفائيَّة. يقوم يسوع بذلك بعمل مألوف لكنه يُضفي عليه فعاليَّة جديدة (مرقس7: 33)، أو ربما قصد به إيقاظ إيمان الرَّجل للتَّعاون معه (مرقس 8: 23). ويعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ: " بهذا العمل لقد أعطى شيئًا من ذاتِه كما أعطى ذاتَه "(عظة بعنوان "عن ربّنا"، 10-11) أمَّا عبارة "لَمَسَ لِسانَه" فتشير إلى لمسة يسوع الّتي تجعل الإنسان قادرًا على التَّكلم من جديد، وإقامة علاقة كاملة مع النَّاس. ولمسة يد الرَّبّ تصل إلى كلّ شخص يحتاج إلى الحياة.   وهنا يصف مرقس الإنجيلي طريقة شفاء استخدم بها حركات بشريَّة وجسديَّة محسوسة شبيهة بتعبيرات الخلق، إنَّها تعبر عن كرامة الجسد وهي في الوقت نفسه أداة اتصال وتعبير ودلالة على حنو يسوع ورأفته بالمرضى والمُعاقين. فجميع أسرار الكنيسة هي أيضا عبارة عن حركات محسوسة، بشريَّة وجسديَّة تمر النِّعمة الإلهيَّة والرُّوحيَّة عبرها إلى الإنسان المؤمن.  تعبر "يد يسوع وأصابعه" إلى قوة التدخل الإلهي، التي تعطي الحياة وتحفظها وتشفيها.

 

34 ورَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ وتَنَهَّدَ وقالَ له: إِفَّتِحْ! أَيِ: انفَتِحْ"

 

تشير عبارة "رَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ " إلى النَّظر إلى الله العلي القدير " السَّاكِنُ في السَّمَواتِ" (مزمور 2: 4)، إلى علاقته الحميمة مع الله الأب واتحاده به في الشُّعور والعمل (متى 14: 19) ولا شك أن المسيح يعمل المعجزات بسلطانه.  وبهذه الحركة يؤكد يسوع للأصم أن القوة التي ستُشفيه هي من الله، وأنَّه متحدٌ مع الآب. المعجزة هي هبة من العُلى، يلتمسها يسوع من الآب؛ وأن قوة الشِّفاء هي من الله وليست من بَعْلَزَبُول رئيس الشَّياطين (متى 3: 22). وهذه الحركة مألوفة لدى يسوع، حيث أنَّها وردت عند معجزة تكثير الخبز أيضًا (مرقس 6: 41) أمَّا "التَّنهد" فتشير إلى التَّأوه أو الأنين، وهي ليست علامة على الشُّعور العميق والشَّفقة ومشاركة يسوع وتعاطفه مع الإنسان في ألمه وموته فحسب كما كان أنينه واضطرابه وبكائه على قبر لعازر (يوحنا 11: 33)، إنَّما هي أيضا حركة نداء إلى الله أمام عمل صعب كما حدث مع الفريسيِّين الذين يطلبون من يسوع آية (مرقس 8: 12).  تعبر التَّنهد عن عواطف الإنسان البشريَّة الموجودة في شخص يسوع.  إنّها الكلمة عينها التي يستعملها بولس الرَّسول "إنَّ الخَليقةَ جَمْعاءَ تَئِنُّ إِلى اليَومِ مِن آلامِ المَخاض" (رومة 8: 22).  وبعبارة أخرى، يصلي يسوع بجميع حواسه ليُعيد إلى المريض طلاقة لسانه؛ أمَّا عبارة "إِفَّتِحْ! "كلمة آراميَّة אִפַּתַּח (معناها انفَتِحْ). فتشير إلى أمر المسيح الذي كان كافيا ليحدث الشفاء الفوري. يُعيد يسوع السمع للرجل لكي يتكلم دون أدوية، لكن بلمسه بيده، لأنَّه هو نفسه العلاج، والشفاء يأتي منه. وفتح الأذنين هي استعارة لإقامة الملك المسيحاني (أشعيا 35: 5-6)، وعلامة الشِّفاء الدَّاخلي، لانَّ الإنسان، المريض المنعزل عن الله والنَّاس بسبب الخطيئة، هو مُنغلق على ذاته، فهو بحاجة إلى الانفتاح ولإصغاء والحوار والشَّركة.  فالخلاص هو الانفتاح على الحياة، وعلى الآخرين وعلى الأمل. وكلمة " إِفَّتِحْ" تُعبِّر عن إرادة الله أن تكون حواسنا مفتوحة على رسالة يسوع المسيح، ولذا فهي موجَّهة لكل الأمم وكل الوثنيِّين لتنفتح أذانهم ويسمعوا ويفهموا فيؤمنوا. واستعملت هذا الكلمة في الرُّتبة القديمة للمعموديَّة في الكنيسة الأولى. أمَّا عبارة " أَيِ: انفَتِحْ " فتشير إلى ترجمة مرقس الإنجيلي إلى قرائه الرُّومانيِّين لفظة "إِفَّتِحْ الآراميَّة التي تفوه المسيح نفسه بها كما سمعه بطرس بأذنه. تكشف رواية مرقس عن الكلمة الإلهيّة المتجسدة، في شخص يسوع، لتنطق بأفعال الخلق الأول عندما نفخ الله في الإنسان الحياة. وبكلمة تعيد الخلق الجديد لآذن ولسان هذا الأصمّ والأبكّم، لينتصر الإله بكلمته على شرّورنا البشريّة.

 

35 فانفَتَحَ مِسمَعاه وانحَلَّتْ عُقدَةُ لِسانِه، فَتَكَلَّمَ بِلِسانٍ طَليق

 

 تشير عبارة "ف" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) إلى إعلان عن قدرة المسيح فنجد الشِّفاء فوريًا، هنا نحن أمام سرّ الفداء، سرّ التَّضامن: المسيح يُعطينا قوّته بأخذه على عاتقه خطايانا حتى الموت كما يُعلنه بولس الرَّسول "ما كانَ في العَالَم مِن ضُعْف فذاكَ ما اختارَه اللهُ ليُخزِيَ ما كانَ قَوِيًّا" (1 قورنتس 1، 27). أمَّا عبارة "انفَتَحَ مِسمَعاه وانحَلَّتْ عُقدَةُ لِسانِه " فتشير إلى قيمة العلامات التي تؤيِّد تعليمًا دينيًا مستوحى من نبوءة أشعيا "حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم فقَدِ آنفَجَرَتِ المِياهُ في البَرِّيَّة والأَنْهارُ في البادِيَة" (أشعيا 35: 5-6).  وتُبيّن هذه الآية أن يسوع صنع ما وعد به الله حين يأتي ليفدي شعبه. إن شفاء الأصَمّ الأخرس يُتيح للإنسان أن يُدرك مخطَّط الله ويفهمه.  فاذا ما انفتحت آذاننا لسماع كلمة الله، تنفك عقد ألسنتنا للتسبيح والصَّلاة والشَّهادة.  وما عمله يسوع هنا ما هو إلاّ رمز إلى ما يعمله في كل مكان وزمان من فتح الآذان المسدودة عن سمع كلام الله وحل الألسنة المعقودة عن التَّسبيح له تعالى تحقيقا لنبوءة أشعيا " حينَئِذ آذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح " (أشعيا 35: 5). أمَّا عبارة " فَتَكَلَّمَ بِلِسانٍ طَليق" فتشير إلى نتيجة الشفاء التي تتجلى في الرجل يتكلم بشكل صحيح، لِما فعله المسيح فيه. يصف مرقس الإنجيلي قدرة الكلمة الإلهيّة الخلّاقة بالرغم من شرّ الإنسان، إذ تمّ شفاء الرجل فورًا حيث انفتحت إذناه وتمكن من التَّكلم بطلاقة.

 

36 وأَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحَدًا. فكانَ كُلَّما أَكثَرَ مِن تَوصِيَتِهِم، أَكثَروا مِن إِذاعَةِ خَبَرِه

 

تشير عبارة "أَوصاهم" إلى توصية يسوع أصحاب الذي شفاه وهم الذين تركوا الجمع وانفردوا لمشاهدة المعجزة. أمَّا عبارة "أَلاَّ يُخبِروا أَحَدًا" فتشير إلى طلب يسوع من النَّاس ألاّ يذيعوا أخبار الشِّفاء، لأنَّه لا يريد أن يُنظر إليه كصانع معجزات فحسب فيُخطئ النَّاس في فهم رسالته الحقيقيَّة، لأنَّه لم يحنْ الوقت لكشف معنى المعجزة بشكل نهائي. لان المعجزة تعلن عن سر الخلاص الذي أتى به يسوع إلى النَّاس. والواقع أعلنت المعجزة سر المسيح قبل إعلان البشارة عن سرِّه. أمَّا عبارة "أَكثَروا مِن إِذاعَةِ خَبَرِه" فتشير إلى عدم مراعاة امر السُّكوت هنا كما لو كان من المستحيل أن يُحال دون إشعاع قدرة ابن الله.  وهذا يدل على التأثير الكبير الذي أحدثته معجزات يسوع بين الناس.  فسر المسيح يتجلَّى (مرقس 4: 21-22) ويُكشف خصوصًا من خلال المعجزات.

 

37 وكانوا يَقولونَ وَهُم في غايةِ الإِعْجاب: قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها، إِذ جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!

 

تشير عبارة "وَهُم في غايةِ الإِعْجاب" إلى تعجب الجمع على جواب الإنسان: من هو يسوع؟  الناس أعجبوا بيسوع لدرجة أنهم كانوا يثنون عليه ويعبٍّرون عن اندهاشهم بقدرته على عمل المعجزات بشكل رائع. والإعجاب والدَّهشة هو علامة المقدس. أمَّا عبارة "قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها" فتشير إلى هتاف الشَّعب الذي يستبق اعتراف الجماعة المسيحيَّة بما يصنعه الله بواسطة يسوع في نهاية الأزمنة. وهذا القول يصدق على كل أعمال المسيح على الأرض حسبما قيل عن عمل الله في بداية الخليقة "رأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا " (التَّكوين 1: 37).  فالذي كان يعمل في البدء لأجل الإنسان هو بعينه قد جاء ليُجدِّد الخليقة، ويرد للإنسان بهجته وسلامه. فنحن هنا أمام موضوع الخلق الجديد. جاء يسوع وهو يحمل الشِّفاء لأجساد النَّاس، والخلاص لأرواحهم. لقد كان يخلق من جديد. وهكذا تكوَّنت في يسوع بشريَّة جديدة. وفي الواقع، كان اليهود ينتظرون إعادة بهاء الفردوس في نهاية الأزمنة.  أمَّا عبارة "جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!" فتشير إلى الجمع الذي شاهد يسوع يشفي الصُّم الأخرس (مرقس 9: 25)، وهم يستشهدون بنبوءة أشعيا " حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح" (35: 5). وهنا يؤكد مرقس الإنجيلي أن يسوع حقَّق رجاء الشُّعوب الذي وعد به أشعيا. وتحقَّق هذا الرَّجاء في خليقة جديدة، في إنسان جديد ينفتح مسمعاه وتنحل عقدة لسانه، فيسمع ويتكلم بلسان طليق مُسبِّح الله!

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 7: 31-37)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (مرقس 7: 31-37) نستنتج أنَّه يتمحور حول موضوعين وهما: معجزة الشِّفاء والصَّمت عن إعلان المعجزة. ومن هنا نسأل ما هو موقف يسوع من المعجزة؟ ثم لماذا يوصي السَّيد المسيح بالصَّمت عن إعلان معجزة شفاء الأصَمّ؟

 

السُّؤال الأول: ما هو موقف يسوع من المعجزة؟

 

المعجزة هي آية إلهيَّة فعَّالة تُظهر تجلّي الله وخلاصه حيث أنها تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله. فالمعجزة هي إنجاز "مستحيل" على الإنسان تحقيقه، لكنَّه في متناول الله وحده كما يترنَّم صاحب المزامير "لأَنَّكَ عَظيمٌ وصانعُ العَجائب وَحدَكَ أَنتَ اللّه" (مزمور 86: 10). يُظهر الله ي عن طريق المعجزة مجده كما أكد موسى النَّبي في حديثه عن معجزة المن والسَّلوى "وفي الصَّباحِ تَرَونَ مَجدَ الرَّبّ" (خروج 16: 7)، ويُظهر الله أيضا شعاع قداسته كما جاء في نشيد موسى النَّبي "مَن مِثلُكَ جَليلُ القَداسة مَهيبُ المآثِرِ صانِعُ العَجائب؟ "(خروج 15: 11). وهي أخيرًا تدل على مواهبه المجانيَّة (تثنية 6: 10-12) ومحبّة الرَّبّ كما جاء في قول صاحب المزامير "فلْيَحمَدوا الرَّبَّ لأَجل رَحمَتِه وعَجائِبِه لِبَني البَشَر" (مزمور 8:107).

 

أظهر يسوع من خلال المعجزة محبته لخلاص الإنسان. فمن ناحية تحرَّك يسوع بدافع من حنانه البشري (مرقس 1: 41) وأبعد بقوة معجزاته المرض، والموت، وعِداء الطَّبيعة للإنسان، وباختصار، ذلك الخلل الذي وجد علته في الخطيئة كما قال يسوع لِلمُقعَد: "يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك"(مرقس 2: 5).

 

أظهر يسوع أيضًا القيمة النَّبويَّة للمعجزات التي صنعها هو بنفسه لصالح الوثنيِّين (مرقس 7: 31-37). وكذلك ركّز يسوع أيضا في المعجزة على الصَّلاة في معجزة الشِّفاء " ورَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ "(مرقس 7: 34)، كي يُميِّز السِّحر عن المعجزة. فالمعجزة تأتي من الله وقدرته ومشيئته وأمَّا السِّحر فيأتي من الشَّيطان وأعوانه. 

 

"قد جُعل يسوع آية لشعبه" من خلال بالمعجزة.  فأظهر يسوع أن الملكوت الذي بشَّر به الأنبياء، قائم في شخصه "العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْيًا سَوِيًّا، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 5)، فأثار إعجابًا حمل النَّاس على أن يسألوا أنفسهم من هو، كما حدث في معجزة تسكين العاصفة "فتَعَجَّبَ النَّاسُ وقالوا: مَن هذا حتَّى تُطيعَه الرِّياحُ والبَحر؟" (متى 8: 27). فالمعجزة تدل أنه حقًا هو ما يقوله عن نفسه.

 

لا يجوز أن تُفصل معجزات المسيح عن كلمته. إن كلمة البشارة هي أعظم من المعجزات كما صرّح يسوع "َيَكونُ ابنُ الإِنسانِ آيَةً لِهذا الجيل" (لوقا 11: 32). فهي تفرض نفسها بمثابة الآية الأولى والوحيدة الضُّروريَّة كما قال يسوع لتوما الرَّسول: "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يوحنا 20: 29)، إن البشارة بكلمة الله تؤيَّد بالمعجزات، وتُميز المعجزات عن العلامات الكاذبة كما صرّح يسوع لتلاميذه "فسَيَظهَرُ مُسَحاءُ دَجَّالونَ وأَنبِياءُ كَذَّابونَ يَأتونَ بِآياتٍ وأَعاجيب، لِيُضِلُّوا المُختارينَ لو أَمكَنَ الأَمر" (مرقس 13: 22). وباختصار، يقول الفيلسوف بسكال بليز: "المعجزات تُميِّز التَّعليم، والتَّعليم يُميِّز المعجزات".

 

المعجزة بحد ذاتها ليست علامة ألوهيَّة المسيح. من يُتمَّها يمكن أن يكون نبيًا مثلا إيليا وأليشاع. إنَّما المعجزة التي اجترحها يسوع تستند لمصداقيَّة كلماته، وهو يطلب منا أن نؤمن بكلمته.  معجزة يسوع هي موضوع إيمان لنا أكثر منه علامة تساعدنا على الإيمان، فالمعجزات تُغذِّي إيماننا، لكن لا تُأسِّسه.  نحن نؤمن بيسوع، لأنه يبدِّل حياتنا، ولان إعلان المسيح القائم من الموت يُضفي معنى جديدًا على كل ما نعيشه، ويوّلد علامات جديدة يقرأها إيماننا.

 

معجزة شفاء ِأَلأصَمَّ المَعقود اللِّسان لها طابعٌ خاص. لم تكن كغيرها من المعجزات التي صنعها يسوع، إذ كان من عادته أن يقول كلمةً واحدة، وتحدُثُ المعجزةُ، كمعجزة إحياء ابن أرملة نائين: " أيّها الفتى لكَ أقولُ: قُمْ " (لوقا 7: 11-17)، أو أن يأمر المرض بالزَّوال وهو بعيدٌ عن المريض، فيزول المرض، كمعجزة شفاء خادم قائد المئة (متى8: 5-13)، أو لا يتفوّه بأيّة كلمة، كمعجزة شفاء المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، لكنّه غيّر طريقته في إجراء هذه المعجزة. فقد اخذ الأصمّ المعقود اللِّسان على انفراد، ورفع عينَيْه نحو السَّماء، وتنهّد، وجعل إصبَعيْه في أُذُنَيْه، ولمس لسانه بريقه وقال له: " انفتحْ ". لقد أشرك إنسانيّته في عمله الإلهي: أشرك فمه الذي تكلّم، وقلبه الذي تنهّد، وعينَيْه اللتين وجّه بصرهما نحو السَّماء، وإصبعَيْه اللتين ادخلهما في أُذُنَيْ الأصمّ، ولسانه الذي أعطى الأخرس شيئًا من ريقه. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ قوّته الإلهيّة التي شفت هذا الأصمَّ المعقود اللِّسان، لم تُعِدْ إليه السَّمع، ولم تَفُكَّ عُقدة لسانه بعملٍ مباشر، بل مرّت بقناة إنسانيَّته. ويعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ "من خلال لمس إنسانيّة الرَّبّ يسوع المسيح، أدرك الأصم ألوهيّة يسوع. وبواسطة أصابعه من لحم، شعر الأصمّ بأنّ أحدًا يلمس أُذنَيه ولسانه. بواسطة أصابع ملموسة، ادركَ الألوهيّة غير المتسامية عندما انحلَّتْ عُقدَة لِسانِه" (عظة بعنوان "عن ربّنا"، 10-11).

 

صنع يسوع -وهو إلهٌ وإنسانٌ معًا-هذه المعجزة مُستخدمًا هذه الطَّريقة أمام تلاميذه، لأنَّه كان مزمعًا أن يفرضها يومًا ما عليهم، وعلى الكنيسة من بعدهم، لمنح المؤمنين الحياة الإلهيّة. لذلك كانت هذه المعجزة تمهيدًا لرسم "الأسرار السَّبعة " التي يعمل بها يسوع اليومَ لتقديس نفوس المؤمنين به. يسوع يعمل الآن بوساطة الأسرار المقدّسة، وهي حركات تُحدث النعمة في نفس الشخص التي يتقبلها.

 

كانت هذه الآيات في الكرازة الأولى في الجماعة المسيحيَّة الأولى "تؤيد" يسوع (أعمال الرسل 2: 22)، وتعلن عطفه (أعمال الرسل 10: 38)، وتشير لحقائق كنسيَّة، كالإفخارستيا" في معجزة تكثير الخبز، والمعموديَّة في معجزة شفاء أصمّ (مرقس 7: 31-37)، والنَّشاط الرَّسولي في معجزة الصَّيد العجيب (لوقا 5: 1-11). فتأمّل آيات الحياة النَّابعة من جنب المسيح "المرفوع على الصَّليب" آية ليس أسمى منها (لوقا 12: 33)، يعني الإيمان بأن يسوع هو المسيح، ابن الله العامل في الكنيسة، والحاصل على الحياة باسمه "وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه. (يوحنا 20: 30-31).

 

كان يسوع على الأرض يعمل بنفسه أعمالًا مباشرة، ولا يلجأ إلى أحد ليُشرِكَه معه في أعماله. أمّا اليومَ فهو يعمل بوساطة خدّام الكنيسة، مِنَ الأساقفة والكهنة، وعن طريق منح الأسرار المقدّسة السَّبعة التي رسمها للمؤمنين قبل أن يصعد إلى السَّماء. وهذه الأسرار السَّبعة المقدّسة ترافقنا من المهد إلى اللَّحد: المعموديّة تَلِدُنا للحياة الإلهيّة، والميرون يُثبّت فينا هذه الحياة، والقربان الأقدس يُغذِّيها وينمّيها، وسرّ التَّوبة يُعيدها إلينا إذا ما فقدناها بالخطيئة، والمسحة الأخيرة تصون نفس الإنسان المريض من هجمات الشَّيطان عند ساعة الموت، وسرّ الزَّواج يقدّس الزَّوجين ويؤازرهما على أن يعيشا عيشة المحبّة المتبادلة.  أمّا سرّ الكهنوت فهو الوسيلة الرُّوحيّة الكبرى التي يمنح بها يسوع، الكاهنُ الأعظم، المؤمنينَ به الأسرارَ المقدّسة، فتكون حياتهم الأرضيّة منتعشة بالحياة الإلهيّة التي تؤهّلهم للحياة الأبديّة.  ويؤكد إنجيل اليوم أن يسوع حقَّق رجاء الشُّعوب الذي وعد به أشعيا. ويتحقق هذا الرَّجاء في خليقة جديدة في إنسان جديد، إنسان ينفتح مسمعاه وتنحل عقدة لسانه، فيسمع ويتكلم بلسان طليق.

 

السُّؤال الثَّاني: لماذا يوصي السَّيد المسيح بالصَّمت عن إعلان معجزة شفاء الأصَمّ؟

 

السُّكوت هو من المواضيع الأساسيَّة في إنجيل مرقس. في نظر مرقس لا يتضمن رد فعل يسوع بالتَّوصية بالصَّمت في إعلان المعجزة استنكارًا لهويته ابن الله وأنَّه المسيح المنتظر، بل هذا الإعلان سابق لأوانه قبل انتهاء رسالة يسوع بالموت والقيامة.

 

أ) فرض الصَّمت على المستفيدين من معجزاته:

 

في إنجيل مرقس فرض يسوع الصَّمت على المستفيدين من معجزاته: بعد إبراء الأبرص (مرقس 1: 44)، وإحياء ابنة يائيرس (مرقس 5: 43) وشفاء الأصَمّ (مرقس 7: 36) وأخيرا شفاء اعمى بيت صيدا (مرقس 8: 26).  وقد فرض يسوع الصَّمت بعد هذه المعجزات، لأنَّها ظواهر مقنعة خاصة ًبمسيحانيَّة يسوع ولاهوته، كما يبدو ذلك جليًا من جواب يسوع إلى يوحنا المعمدان حيث يُعدِّد فيها علامات مسيحانيته ولاهوته "العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْيًا سَوِيًّا، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون،" (متى 11: 5). " والفُقراءُ يُبَشَّرون هو العنصر الجازم بنظر مرقس الإنجيلي، لان الإجابة بالإيمان تحتم إلى إعلان البشارة؛ فالشِّفاءات التي قام بها يسوع هي جزء من إعلان هذه البشارة، لان أعمال يسوع أوضح تعبيرًا من أقواله. وهذه المعجزات من الشِّفاء هي علامات تظهر أعمال قوة الإلهيَّة وتدعو إلى الإيمان والتَّوبة.

 

لا يريد المسيح أن يعرف الجمع حاليًا أنَّه المسيح. لانَّ هذا اللَّقب شديد الالتباس، وقد يُثير اليهود بأنَّه المسيح المنتظر بحسب مفاهيمهم فيثوروا على الرُّومان. ولا يريد يسوع أن يُنظر إليه الجمع كصانع معجزات فحسب، وبالتَّالي يُخطئ النَّاس فهم رسالته الحقيقيَّة، إنَّما يريد يسوع أن نعرفه مخلص نهاية الأزمنة، وعلامة مجيئه، هي نبوءة أشعيا النَّبي "حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح" (35: 5). وفي الواقع، يسوع بشفائه الأصَمّ الأخرس يتممَّ ما أنبأ به أشعيا النَّبي.

 

معجزة يسوع لا تتحدث أولًا عن قدرته بقدر ما تتحدث عن رسالته. لم يأتِ يسوع ليشفِ طبلة أذن أو أذن داخليّة، إنّما أتى ليشفِ صمم القلوب. بشفائه للأصمّ، يريد يسوع أيضًا أن نفهم بأنه هو من ننتظر، المسيح الموعود من الله، والمُعلن عنه من قبل النَّبي أشعيا، ولكن مسيحًا لا يُمكن الاعتراف به واستقباله إلاَّ في حقيقتنا وحقيقة الله.

 

نرى المشهد نفسه يتكرَّر لدى شفاء أصمّ من المدن العشر. فيسوع يوصي الجمع ألاَّ يخبروا أحدًا؛ لأنه لم يرد أن يُنظر إليه كصانع معجزات فحسب فيخطئوا فهم رسالته الحقيقية، لكن هتاف المرضى المتعافين والشَّعب الذين شاهدوا شفاءات يسوع يستبق إعلان الرُّسل للبشارة بموت المسيح وقيامته (مرقس 7: 36) ونرى المشهد يتكرَّر في شفاء أعمى في بيت صيدا (مرقس 8: 26). ومن هنا نرى أن المرضى المتعافين قد صاروا صورة سابقة للمُبشرين بالإنجيل (متى 5: 19-20 و7: 36).

 

يوضِّح مرقس الإنجيلي أن سر المسيح سيبقى غامضًا حتى الموت على الصَّليب.  ولن يُكشف إلاّ بعد القيامة، ولذلك فان المعجزات لا تُفهم ألا بعد موته وقيامته المجيدة من بين الأموات (مرقس 5: 43).

 

نستنتج مما سبق انه حين لا يعمل النَّاس بوصية الصَّمت التي فرضها يسوع، فالنَّاس لا يستنتجون أن يسوع هو المسيح، إنما يدهشون لأعماله ولكنهم لا يعطونه لقب المسيح الموافق لأعماله "وكانوا يَقولونَ وَهُم في غايةِ الإِعْجاب: قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها، إِذ جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!" (مرقس 7: 37). ونلاحظ تدرجًا من شفاء الأصَمّ الأخرس إلى شفاء أعمى بيت صيدا (مرقس 8: 22-26).  تعدّى الأصَمّ وصية الصَّمت (مرقس 7: 36) ولكن النَّاس لا يستنتجون شيئا عن شخصيَّة يسوع، بل يكتفون بان يُعجبوا به (مرقس 7: 37)، أمَّا الأعمى في بيت صيدا فلم يتجاوز وصية الصَّمت (مرقس 8: 26) ولكن التَّلاميذ وحدهم يصلون إلى استنتاج عن شخص يسوع " أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29). فيفرض عليهم يسوع الصَّمت (مرقس 8: 30).

 

ب) فرض الصَّمت على الشَّياطين:

 

لم يفرض يسوع فقط الصَّمت على المستفيدين من معجزاته بل فرضه أيضًا على الشَّياطين. يكفي أن نتصفح إنجيل مرقس حتى يتَّضح لنا ذلك: في بدء إنجيل مرقس لم يدع الشَّياطين تفشي سره (مرقس1: 34) مع انَّهم يُعبرون عن حقيقة كشفها صوت الله وشهد بها الإيمان المسيحي بان يسوع هو المسيح ابن الله وقدوس الله. وهذه العبارات التي يستعملها الشَّياطين "أنت قدوس الله" (مرقس 1: 24)، "أنت المسيح" (مرقس 8: 29)، "يسوع، ابن الله العلي" (مرقس 5: 7) تكشف عن هوية يسوع الحقيقيَّة.  ولكن هذه العبارات يجب ألاّ تُذاع وإلا بعد الحُكم على يسوع بالموت، كما دلّت عِلة الحكم عليه (مرقس 14: 61-62).

 

 يفرض يسوع الصَّمت عن هذه الألقاب، لا لعدم موافقته عليها، بل لانَّ هناك ساعة حدَّدها يسوع نفسه للكشف عن هويته. وتلك السَّاعة هي ساعة الآلام (مرقس 14: 41) فإن إفشاء هوية يسوع يؤدِّي حتما إلى تسليمه إلى الموت.  لذلك ينبغي على يسوع أن يحتفظ بهذه الهوية إلى ساعة المُحدَّدة لآلامه.

 

 يريد يسوع أن يؤمن النَّاس أن هو المسيح بسبب أقواله وأعماله وليس بسبب شهادة الشَّياطين. وأراد يسوع أن يُعلن حقيقة كونه المسيح في التَّوقيت الذي يختاره هو، وليس في الوقت الذي يختاره الشَّيطان.

 

نستنتج مما سبق أن يسوع امر النَّاس بالصَّمت وعدم إعلان المعجزة، لأنه لا يريد أن يعرف النَّاس قبل الأوان انه المسيح، لانَّ هذا اللَّقب شديد الالتباس، وستظل هوية المسيح غامضة حتى الموت على الصَّليب؛ حينئذ فقط نستطيع أن نجزم ونقول انه المسيح المنتظر ليس فقط مجترح العجائب وصاحب القدرة الإلهيَّة، بل هو حامل الخلاص النِّهائي إلى البشريَّة.  

 

 

الخلاصة

 

بعد فصح سنة 32‌م، ‏ ولِدى عودة يسوع من رحلته إلى أراضي وثنيَّة من صور وصيدا وصيدون في فينيقيَّة، ‏ أتى "إلى بحر الجليل، ‏ مجتازًا نواحي المدن العشر (ديكا بوليس). ‏ وفي مكان ما من هذه المنطقة شفى رجلا أَصَمَّ مَعقود اللِّسان، وفي وقت لاحق أطعم عجائبيًا جمعًا مؤلفًا من 4000 شخص‏ (مرقس 7: 32 -8: 9).  وهذه المعجزات تُذكرنا بالفترة المسيحانيّة حيث يأتي الله نفسه مخلّصًا وشافيًا، كما جاء في نبوءة أشعيا " حينَئِذ تتَفتَحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم " (أشعيا 35: 5-67).

 

أجرى يسوع في الأراضي الوثنيَّة أعجوبة لصالح أصم اخرس في قلب بلد بحاجة إلى تبشيره. كان لهذه المعجزة طابعٌ خاص، إذ أشرك يسوع إنسانيّته في عمله الإلهي: أشرك فمه الذي تكلّم، وقلبه الذي تنهّد، وعينَيْه اللتين وجّه بصرهما نحو السَّماء، وإصبعَيْه اللتين ادخلهما في أُذُنَيْ الأصَمّ، ولسانه الذي أعطى الأصَمّ شيئًا من لعابه. تُعيدنا هذه الحركات إلى رواية خلق الإنسان (تكوين 2: 7)، حيث يقوم الله بتشكيل مخلوقه بيديه، يجبله بالماء الّذي خلقه، ينفخ في أنفه نَفَس الحياة. وبهذا فقط يُصبح الإنسان كائنًا حيًّا. ومن هذا المنطلق يرى مرقس الإنجيلي في المعجزة معنى رسالة يسوع المسيح بين البشر، وهي بداية جديدة، وحياة جديدة يحملها ويَمنحها للجميع، حياة شركة كاملة مع الكون والله (مرقس 1: 13).  وبشكل عام ، هذا النص يعكس قوة يسوع في الشفاء ويؤكد انه يجلب الشفاء الروحي والجسدي للأفراد،  كما يظهر العلاقة العميقة بين يسوع والآب السَّماوي ودعوة يسوع إلى الإيمان.

 

هذا الأصَمّ مَعقودِ اللِّسان رمزٌ لكل إنسان يصم أذنيه عن سماع كلمة الله ويعقد لسانه عن النُّطق بها، ويأبى أن يخاطب الله بالصَّلاة. والمسيح إنَّما جاء ليُعيد إلى الأصَمّ سمعه، وإلى المعقود اللِّسان نطقه. يُعلمنا الإنجيل أن يسوع يهتم بحاجاتنا الجسديَّة وبحاجاتنا الرُّوحيَّة معًا. فلا نتردّد أن نسلم للرِّب نفسنا بكل ثقة وإيمان، والرَّبّ كفيل أن يفتح أذنينا وان يحلَّ عقدة لساننا. وهذ الأمر لا يكلفنا ألا طلبًا ولا يكلفه إلا كلمة. فاذا ما انفتحت آذاننا لسماع كلمة الله فلا بدَّ أن تنفك عقد ألسنتنا للتسبيح والصَّلاة والشَّهادة. 

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الحبيب، الذي جعل الصَّمّ يسمعون والبكم ينطقون، أن نتمكّن عاجلًا من سماع كلامك بأذنينا، ومن إعلان إيماننا به بفمنا لحمد الله الآب وتسبيحه فنكون أداة لرحمتك وسلامك كي نجد الشِّفاء في نفوسنا ونساعد الآخرين في أن يجدوا الشِّفاء والسَّلامة فيك يا الله. آمين