موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يصف يوحنا الإنجيلي في إنجيل الاحد الخامس (يوحنا 8: 1-11) السيد يسوع المسيح في هيكل أورشليم، في الأيام الاخيرة قبل آلامه، وهو يُعلّم الشعب ويعفو عن المرأة الزانية تأكيدا لتصريحاته "أَنا لا أَحكُمُ على أَحَد" (يوحنا 8: 15)، وبهذا الامر يكشف رحمته تجاه الخطأة ومغفرته لهم، ويدعونا أن نلقي ما نمسك في أيادينا من حجارة التحقير والإدانة والتي نرغب أحيانا في أن نرمي بها الآخرين. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولا: تحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) 1 أَمَّا يسوع فذَهَبَ إِلى جَبَلِ الزَّيتون. تشير عبارة "فذَهَبَ إِلى جَبَلِ الزَّيتون" الى الاستراحة في بيت أحد أصدقائه او قضاء ليلته في الصلاة (لوقا 7:21-38). لأنه كان في النهار يعلم في الهيكل في أيام عيد المظال (يوحنا 7: 14)، وفي الليل يخرج للمبيت في جبل الزيتون. أمَّا عبارة "جبل الزيتون" فتشير الى الاسم المأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجودًا في الجبل بكثرة. ولا تزال توجد فيه بعض أشجاره الكبيرة الحجم والقديمة العهد إلى الآن في بستان الجسمانية. ويشرف هذا الجبل على القدس من الجهة الشرقية (1 ملوك 11: 7). ويُكثر ذكر هذا الجبل في العهد القديم باسم "جبل الزيتون" (2 صموئيل) و"الجبل" (نحميا 8: 15) و"جبل الهلاك" (2 ملوك 23: 13). ويفصل وادي قدرون هذا الجبل عن اورشليم (2 صموئيل 15: 14). وقد حُسبت المسافة بين أقصى قممه الشمالية وبين اورشليم بسفر سبت (اعمال الرسل 1: 12)، وكانت هذه المسافة حسب تعليمات الربيين ألفي ذراع (ما يعادل 914م) من منزل الشخص (عدد 35: 5) او نحو سبع غلوات ونصف أي حوالي1387 م (خروج 16: 29). ومن هذا الجبل توجَّه يسوع الى اورشليم في أحد الشعانين، ومنه بكى يسوع على المدينة ومصيرها القريب (لوقا 19: 37-44)، وقد تحدَّث من سفح ذلك الجبل عن خراب الهيكل وتدمير المدينة (متى 24: 3)، وأخيراً منه صعد يسوع الى السماء. ويسّمي العرب جبل الزيتون في الوقت الحاضر جبل الطور (أي جبل ذو شجر وثمر). 2 وعادَ عِندَ الفَجرِ إِلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم تشير عبارة "الفجر" الى الصباح المبكر حيث جاء السيد المسيح إلى الهيكل لكي يُعلم الشعب كما جاء في اسفار الحكمة "أَنا أُحِبُّ الَّذينَ يُحِبُّوَنني والمُبتَكِرونَ إِلَيَّ يَجِدوَنني" (أمثال 8: 17). أمَّا عبارة "الشَّعبُ" فتشير إلى جموع كثيرة حيث كانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح الباكر كما يؤكد لوقا الإنجيلي" كانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه"(لوقا 21: 38)؛ أمَّا عبارة " أَقبَلَ " ?????? فيحمل استمرارية الحضور. أمَّا عبارة "الشَّعبُ كُلُّه" فتشير الى جموع كثيرة حيث كانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح المُبكر كما ورد في انجيل لوقا " وكانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه " (لوقا 21: 38). أمَّا عبارة " جلَسَ" فتشير الى جلوس كمعلم، إذ كانت هذه عادة المعلمين أن يجلسوا لأنهم كانوا يُعلمون لساعات طويلة (لوقا 4: 20)، ويُذكّرنا هذا المشهد بموسى النبي الذي كان يجلس في المخيم من الصباح حتى المساء لحلّ المسائل التي كانت تنشأ بين الناس (خروج 18: 13) " إِنَّ الشَّعبَ يأتي إِلَيَّ لِيَستَشيرَ الله"، (خروج 18: 16) لمعرفة مراسيمه وشرائعه. أمَّا عبارة "الهَيكلَ" فتشير الى البناء الذي أشاده سليمان الحكيم بن داود لأداء فرائض العبادة اليهودية لله. وقد دمّره البابليون سنة 581 ق. م. وأعاد بناءه اليهود بعدما رجعوا من بابل بقيادة زربابل 520-516 ق.م. ثم وسّعه هيرودس الكبير سنة 20 ق.م. وكان في الهيكل قسمان: قسم لا يدخله الاّ الكهنة ويُقال له القُدس، وفي القدس مكان يُقال له قدس الاقداس لا يدخله الاَّ عظيم الكهنة مرة في السنة؛ وقسم آخر يدخله اليهود وحدهم؛ وكان في خارج الهيكل عدة اروقة يحق لجميع الناس حتى الوثنيين الدخول الى بعضها. فقد كان يسوع يذهب الى الهيكل أثناء النهار، وفي الليل كان يذهب الى جبل الزيتون. وكان السيد المسيح يُعلم في أورشليم وفي الهيكل يوم العيد الأخير كله، أي اليوم الثامن من عيد المظال. 3 فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ تشير عبارة "الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ" الى معلمي الشعب الذين كانوا يقرأون التوراة ويفسِّرونها وينسخونها، وكان تعليمهم تقليدياً وسلطتهم بشرية. والفِرِّيسيُّونَ هم مجموعة "انفصلت" عن الشعب وتعلّقت بشريعة موسى بحفظها بدقة، كما تعلقت بتقليد الشيوخ (متى 15: 2)؛ وأمَّا الكتبة فهم معلمو الشريعة وقد اعتنوا بدراسة الشريعة والتقاليد لكي يطبِّقوها في حياة الجماعات. أمَّا عبارة " بامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى " فلا تشير الى اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الإلهية. أمَّا عبارة " زنًى " في الأصل اليوناني ??????? فتشير الى كل اتصال جنسي غير شرعي. كأن يضاجع رجل امرأة غيره، أو فتاة مخطوبة لرجل آخر، أو فتاة حرة غير مخطوبة. وكان عقاب هذه الخطيئة الرجم والموت (الاحبار 20: 10 وتثنية الاشتراع 22: 22-29). أمَّا عبارة " فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ" فتشير الى المسافة التي يضعها الكتبة والفرِّيسيِّون بينهم وبين المرأة الزانية، إذ يبتعدون عنها، لأنهم يشعرون بأنّهم بعيدون عن الخطيئة وعن الشر؛ كما لو كانت الخطيئة تخصُّ هذه المرأة وحدها، وبالتالي يعرّضوها لحكم ودينونة الجميع. لكن غيرتهم بشأن خطايا الآخرين كانت مجرد ستارًا لإخفاء شرِّهم. ولكن هل هناك أقسى وأشد من وضع هذه المرأة الخاطئة "في وسَطِ الحَلقَةِ" في الهيكل، لتعريضها للنظرات القاسية من الجموع؟ 4 وقالوا له: يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود تشير عبارة "يا مُعَلِّم" الى نفاق ورياء الفرِّيسيين والكتبة لأنهم دعوه في اليوم السابق مُضللًا (يوحنا 7: 47). أمَّا عبارة " إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود " فتشير الى الكتبة والفريسيين الذين لم يحترموا المرأة، بل اذلُّوها. فكان باستطاعتهم ان يحتفظوا بها ويسالوا يسوع بشأنها دون ان يقدّمونها أمام الشعب. وبالإضافة الى ذلك تطلب الشريعة ان يُرجم الرجل والمرأة معا وليس فقط المرأة الزانية "إِن أُخِذَ رَجُلٌ يُضاجعُ امرَأَةً مُتَزَوِّجَة، فلْيَموتا كِلاهُما" (تثنية 22: 22). أين العدل الإلهي؟ "لا مُحاباةَ فيه"؟ (يعقوب 3: 17). أمَّا عبارة " المَشْهود " في الأصل اليوناني ???????? (معناها ذات الفعل) فتشير الى جُرْم الذي ارتكب بِمَرْأَى النَّاسِ. 5 وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟ تشير عبارة "أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ" الى ما ورد في شريعة موسى "أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة"(احبار 20: 10). كانت وسيلة الحكم بالموت في ذلك الحين هي الرجم. أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطيئة، لكنهم هم أنفسهم ليسوا متحررين منها، كانوا كما قال لهم السيد المسيح مملوئين من الداخل نجاسة (متى 23: 27-28). ليتنا لا نلقي الحجارة على إخوتنا بينما نحن أنفسنا نستحق الرجم. أمَّا عبارة "بِرَجْمِ أَمثالِها " فتشير الى التكلم عنها باحتقار بحيث لا تستحق الوجود على الأرض. لماذا لدينا الرغبة الكبيرة في رجم الآخرين؟ توصّل أحد الفلاسفة إلى القول إن "الإنسان هو عبارة عن ذئب للإنسان الآخر". لا يريد الربّ أن يحمل أحد الحجارة في يديه. لأنّ الحجارة والبغض والغضب تُشوّهنا، وتُؤذينا. أمَّا عبارة "رَجْمِ" فتشير الى نظام الرجم عند اليهود بان تُربط يدا المجرم من الخلف، وهو نصف عارٍ، ويوضع على منصة ارتفاعها ثلاثة أمتار، ثم يدفعه الشاهدان بكل قوة، فإن مات ينتهي الأمر، أمَّا إذا لم يمتْ يحمل أحد الشاهدين حجرًا ضخمًا ويضرب به على صدره، وغالبًا ما تكون الضربة القاضية. وعليه فإن الزانية لا تستحق الوجود على الأرض، ولا السكنى في بيت، بل تُلقى في حفرة وتنهال عليها الحجارة. وهنا فقدَ الكتبة والفريسيون جوهر رسالتهم، وهو الدخول بكل نفس لكي تعرف مشيئة الله، وتتمتع بالحب الإلهي بل تمسكوا في الحرف القاتل. أمَّا عبارة "فأَنتَ ماذا تقول؟" فتشير الى سؤال رجال الدين الذين أشاروا الى الجريمة وحددوا العقاب في نفس الوقت. قاموا بدور المدّعي والقاضي في نفس الوقت، ولم يتركوا أية فرصة للدّفاع. والأسف الشديد: ما يزال هذا المشهد ماثلاً أمامنا حتّى اليوم. لا يزال بعض الناس يشيرون بإصبع الاتهام: هذا كذاب، انبذوه، هذا منافق، احتقروا، هذا كسلان، ارفضوه، هذا حرامي، اسجنوه، هذا كافر، اقتلوه، هذا زاني، اجلدوه، هذا مختلف، دمروه. 6 وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض. تشير عبارة" لِيُحرِجوهُ" في الأصل اليوناني ??????????? (معناها مُجرِّبون) الى نفس اسم ابليس المُجرِّب (متى 4: 1-3). انهم يريدون إيقاع يسوع في ورطة. فإذا افتى يسوع برجم الزانية ثار عليه الرومان لان لهم الصلاحية وحدها إنزال عقوبة الموت (يوحنا 18: 31)، أين الرحمة التي ينادي بها؟ إنه يٌناقض كامل رسالته التي تدعو إلى المحبة والمغفرة. وإذا افتى بتبرئتها ثار عليه معلمو الشعب، الفريسيون والكتبة، إذ يخالف شريعة موسى، ويفتح بابًا للزنى. ويُعلق القديس اوغسطينوس "هذه الكلمات والآراء ربما كانوا قادرين على إشعال الحسد ضد يسوع، وإثارة الإتهامات ضده، وتكون سببًا لطلب إدانته. ولكن هذه ضد من؟ لقد وقفت الحماقة ضد الاستقامة، والبطلان ضد الحق، والقلب الفاسد ضد القلب المستقيم، والجهالة ضد الحكمة". أمَّا عبارة "انحنَى يسوعُ" فتشير الى حُزنه على ما وصل إليه حال الإنسان الذي خلقه حراً؛ إذ صار مستعبداً فالمراءة الزانية مستعبدة لشهواتها والكتبة والفرِّيسيين مستعبدين للخطيئة والخبث. أمَّا عبارة "يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض" فتشير الى هذا الذي سبق فكتب الوصايا العشرة بإصبعه على حجارة، وسلمها لموسى (خروج 18: 31). ربما قام يسوع بهذا العمل ليتجاهل عمدا سؤال الكتبة والفريسيين، تصرف يسوع بالتأكيد كما لو لم يكن قد سمع المشتكون على المرأة؛ او ربما يدل على عدم استساغته لما عرض عليه من مهمة (يوحنا 3: 17، لو 9: 56، 12: 14). او مراعاة لمشاعر المرأة الزانية، فثبت نظره على الأرض وليس عليها. ويعلق القديس يوحنا اذهبي الفم "إن سألت: ماذا كتب السيد المسيح على الأرض؟ أجبتك: يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلًا للكتبة والفريسيين، وتبكيتًا لخطاياهم". ربما كتب لهم خطاياهم ليرى كل واحد صورة نفسه دون أن يفضحهم أمام الآخرين. "ولم يكتب يسوع على رخامٍ أو نحاسٍ بل على التراب، لأنه كتب خطاياهم إلى لحظات وتزول، كتبها على الأرض في التراب لكي تُدفن مع التراب وتنتهي. كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب " كما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم. 7 فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر! تشير عبارة " فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال " الى موقفهم الملح، ولا يستسلمون ويستمرون في التشكيك به عندما يبدو أن يسوع لا يصغي إليهم؛ أمَّا عبارة "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر" فتشير الى دعوة للتفكير والتدبير، قبل الحكم والتكفير، ودعوة لفحص الذات وللتنازل عن الكبرياء الروحي. نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية وجابههم بمعناها الادبي في حياتهم؛ وضع يسوع كلٌّ منهم أمام ضعفه وخطيئته وأمام مشكلة من الذي ينفذه، من الذي يستحق؟ وموقفه هذا لا يأتي للهروب من العدالة، لأنه لم يعترض على حكم الشريعة انه أتى لا ليُبطل الشريعة بل ليُكمل (متى 5: 17)، لكنه سألهم عمن يتأهل للبدء بالرجم. فمن يريد ان ينفِّذ القانون عليه ان يكون مع القانون، وليس من الخاطئين. ويعلق القديس اوغسطينوس "هذا هو صوت العدالة. لتُعاقب الخاطئة، ولكن ليس بواسطة الخطأة. ليُنفذ الناموس لكن ليس بكاسري الناموس". وهنا يُذكر يسوع الكتبة والفريسيين بما تقضيه الشريعة (ثنية الاشتراع 17: 5-7) كي يتجنب الفخ المنصوب له او يذكرهم بأنهم خاطئين فلا يدينوا لئلا يُدانوا (متى 7: 1-2). ومن هنا نقل يسوع القضية من امرأة وحيدة خاطئة، الى الجمع كله بدءاً بالفريسيين والكتبة الذين ارادوا ان يحرجوه فأحرجهم. وكأن يسوع يقول لهم "لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُوا لها؟ (متى 7: 3) "لم يسقط السيد المسيح في الشباك المنصوبة له، بل بالأحرى سقطوا هم فيها" كما يقول القديس أوغسطينوس. أمَّا عبارة " يَرميها بِحَجَر " فتشير الى الرجم، والحجر هو رمز لرجم الشر. 8 ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض تشير عبارة "انحَنى ثانِيةً " الى تكرار العمل مما يدل على تصميمه على تجنب عمل الحكم على المرأة؛ أمَّا عبارة " يَخُطُّ في الأَرض" فتشير الى ما جاء في بعض المخطوطات أنه كان يكتب على الأرض خطاياهم. ويؤكد ذلك القديس ايرونيموس: "إن يسوع دوّن خطايا مُتّهميها على التراب"، كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب، قرأ كل منهم فيها خطيته الخفيةِّ. أمَّا يسوع ما جِاء ليدين العالَم بل ليُخَلِّصَ العالَم" (يوحنا 12: 47)، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلًا للكتبة والفريسيين، وتبكيتًا لخطاياهم". وكأنه يقول للفريسيين "إن كنتم تدينونها، فالأولى أن تدينوا أنفسكم أيضًا، وإن آثرتم رجمها فبالأولى وجب رجمكم." وعليه فان السيد المسيح أنقذ المرأة الزانية من الموت، ولم يخالف الناموس، لأنه عادل ورحيمًا. إحدى الترجمات القديمة تضيف الى العدد المتكرر الكلمات" وكتب على الارض خطيئة كل واحد فيهم". 9 فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة. تشير عبارة "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد" الى إدراك الكتبة والفرِّيسيين انهم كلهم خطأة عند محاسبة ضمائرهم وانهم قد دينوا في بواعث قلوبهم. انسحب قضاة هذه المرأة مثل قضاة سُوسَنَّة (دانيال 13: 1-64)، وانسحب الجميع إذ انكشفوا أمام الرب. أمَّا عبارة "يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ " فتشير الى انسحاب الشيوخ قبل الشباب؛ وبالتأكيد إن الشيوخ كانوا أكثر إدراكاً لخطاياهم من الشباب، بسبب سنوات عمرهم الأكثر، او أنهم فهموا قوة كلام السيد المسيح قبل غيرهم؛ وتعلموا انهم لن يكونوا قادرين من الآن فصاعدًا على اتهام أي شخص دون أن يتذكروا أنهم مُشاركون في الشر الذي يرونه في الآخر. أمَّا عبارة "بَقِيَ يسوعُ وَحده" فتشير الى يسوع وحده بلا خطيئة؛ ويعلق القديس أوغسطينوس: "بقي اثنان في الساحة المرأة البائسة والرحمة اللامتناهية". لم يبق سوى المسيح الديّان وحده. ولكنه في مجيئه الأول لم يأت ليدين بل ليكفر عن خطايا البشر بدمه. 10 فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: "أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟ تشير عبارة " أَينَ هُم" الى سؤال عن الكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكون المرأة الزانية مما يدل على تبرئتها. وبانسحاب المدعين والشهود سقطت القضية وبقيت المرأة ولم تنسحب وهذا دليل على بداية مشاعر التوبة والانسحاق عندها. اما عبارة " أَيَّتُها المَرأَة " فتشير الى مخاطبة يسوع للمرأة ا بكل احترام لإنسانيتها ومشاعرها وكرامتها. ولم يقل يا زانية او يا ساقطة أو يا نجسة. خاطبها بلغة المحبة السماوية الحريصة على خلاص النفس البشريّة. أمَّا عبارة "أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" فتشير الى عدم جراءة الخطأة ان يحكموا على المرأة الزانية. بقي يسوع، القدوس البار، صاحب الرحمة امام المرأة الزانية، التي عاشت الخطيئة والشقاء. بقيت المرأة الزانية وحدها تقف أمام ديان العالم كله الذي ما جاء ليدين بل ليخلص. 11 فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة. تشير عبارة " لا، يا ربّ " الى جواب بلا تلعثم أو بكاء، بل بلهجة الواثق برحمة الله وهو يدل على تغيير عظيم في حياتها. اعترفت بيسوع أنه رب، وعرفت أنها تحررت وتخلّصت من مُتَّهميها وطالبي قتلها.. اما عبارة "أَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" فتشير الى رحمة يسوع إله الرحمة الذي لم يحكم على الزانية، لأن الرب لا يريد أن الموت للخاطئ، "بل أن يرجع عن طريقه فيحيا" (راجع حزقيال 33، 11)، حتى انه لم يسألها أيّ شيء عن خطيئتها، وعن ماذا اقترفت. ولم يوبّخها ولا ينظر إلى ماضيها بل حرَّرها من قيود حكامها المنافقين الخاطئين؛ وقد غفر لها إظهارا لرحمة الله الواسعة للخاطئين. ودعاها يسوع أن تقبل الغفران لذاتها ففتح لها أبواب الرجاء أمامها فنالت الخلاص والغفران ودعاها ان لا تخطأ بعد. لم يأتِ يسوع ليدين العالم بل ليخلصه كما حدث مع المرأة الخاطئة (لوقا 7: 36-50). لم يُنهِ يسوع عن تقييم بموضوعية، بل يُنهي عن الحكم على سائر الناس، فينسب الى نفسه السلطان الخاص بالله الديان وحده "السَّمَواتُ تُخبِرُ بِعَدلِه لِأَن اللهَ هو الدَّيَّان" (مزمور 50: 6). وظهر يسوع ليدين الخطيئة لكنه يريد خلاص الخطأة. انه لا يستخف بالخطيئة او يتجاوز عنها بأي شكل، لان بر الله يدين الخطيئة. والدرس الذي علمه لليهود هو ان البشر ليسوا المُنفِّذين لعقاب الله. ان الحق الكائن في المسيح وبّخ الكذب في الكتبة والفريسيين، والطهارة الكائنة فيه أدانت الشهوة الكائنة في المرأة الزانية. أمَّا عبارة " إذهبي" فتشير الى منح يسوع المرأة بركة وسلام مع غفران وقوة ترفض بها الخطيئة وتختبر معنى جديد للفرح ونوره. جاء يسوع ليعطي الناس فرصة جديدة في الحياة. وأمَّا عبارة "ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" فتشير الى توصية يسوع للمرأة بان تقطع صلتها بماضيها المظلم وتتوب وتنظر إلى الأمام، وتأخذ قصدا لمستقبلها بان تبدأ حياة جديدة وان لا تعود إلى الخطيئة، وأمَّا إذا عادت الى خطيئتها فيصدق المثل القائل: "عادَ الكَلْبُ إِلى قَيْئِه يَلحَسُه " او "ما اغتَسَلَتِ الخِنزيرةُ حتَّى تَمَرَّغَت في الطِّين" (2 بطرس 2: 22). المسيح هنا لم يتساهل مع الشر بل هو غفر مع توصية ألاَّ تخطئ ثانية. فالمسيح لا يقبل الخطيئة لكنه يقبل الخاطئ حين يعود بالتوبة. لقاء يسوع مع المرأة الزانية كان نقطة تحوّل في حياتها بفضل نظرته الرحيمة وبالتالي مغفرته المجانية لها. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: إدانة الزنى ورحمة السيد المسيح للمرأة الزانية 1) إدانة الزنى الزنى هو فعل ينهك حرمة تابعية المرأة لرجلها أو خطيبها "وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (الاحبار 20: 10)؛ لذا حُرِّم تحريماً باتاً كما جاء في الوصايا العشر "لا تَزْنِ" (خروج 20: 14)؛ إذ ان الرجل والمرأة، هي وهو، واحداً في أمانة متبادلة كما جاء في سفر التكوين "قالَ الإِنسان: ((هذهِ المَرَّةَ هي عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحْمي. هذه تُسَمَّى اَمرَأَةً لأَنَّها مِنِ آمرِئٍ أُخِذَت)) ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (تكوين 2: 23-24). وقد أدان الحكماء التردُّد على المومسات،" لا تَلْقَ المَرأَةَ البَغِيَّ لِئَلاَّ تَقَعَ في أَشْراكِها (سيراخ 9: 3). ولم يترَّدد السيد المسيح أيضا من إدانة خطيئة الزانية، إذ كشف عن كل أبعاد الأمانة الزوجية "سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ، أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه" (متى 5: 27-28)؛ وانطلاقا من هذا المبدأ يزني بالقلب من يشتهي الاقتران بغير قرينته. فالزنى هو ضد قانون الخالق العادل والمقدس فيما يختص بسعادة الجنس البشري (خروج 20: 14)، ويحتل الزنى المرتبة الأولى في "أعمال الجسد" (غلاطية 5: 19). وبيّن يسوع أيضا أن الزواج يربط الزوجين برباط غير قابل للانفصام فلا "يكونانِ اثنَينِ بعدَ ذلكَ، بل جَسَدٌ واحد. فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان" (متى 19: 6). ومن هنا جاء تعليم القديس بولس الرسول "لِيَكُنِ الزَّواجُ مُكَرَّمًا عِندَ جَميعِ النَّاس، ولْيَكُنِ الفِراشُ بَريئًا مِنَ الدَّنَس، فإِنَّ الزُّناةَ والفاسِقينَ سيَدينُهمُ الله"(عبرانيين 13: 4). لذا تَحرم خطيئة الزنى دخول الملكوت " أمَّا تَعلَمونَ أَنَّ الفُجَّارَ لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله؟"(1 قورنتس 6: 9)، ومن خلال هذه الإدانات تسلّط كلمة الله الضوء على الأمانة الزوجية، التي هي في الوقت نفسه ثمرة الحب وشرطه. ادان يسوع خطيئة الزانية والعقاب النابع من دينونته العادلة، ولكن برحمته خلص المرأة الزانية ولم يحكم عليها. إنه يرحم ولا يرجم، بل أدان من يحكم عليها من الفريسيين والكتبة بقولهم “إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود "(يوحنا 8: 4). فقد عاملهم بالعدل، أمَّا الزانية فعاملها بالرحمة. 2) عدل يسوع تجاه الفريسيين: خانت المرأة الزانية زوجها، وبموجب الشريعة الموسوية، تستحق الموت رجماً "أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة"(احبار 20: 10). تجاهل رؤساء اليهود الشريعة إذ احضروها بدون الرجل. وقد طالبت الشريعة برجم كلا الطرفين. ولكنهم استخدموا المرأة الزانية فخا لاصطياد يسوع. فلو قال الاَّ تُرجم لأمسكوه بسبب انتهاكه لشريعة موسى. ولو حثَّهم على رجمها لشكوه الى الرومان الذين لا يسمحون لليهود بتنفيذ حكم الإعدام بأنفسهم. كما لم يهمّهم أبدًا أمر المرأة بأنها أُخِذت في زنىً! لقد أرادوها فقط مصيدةً ليسوع. “فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض"(يوحنا 8: 6). هذا الصمت والكتابة في التراب غايتان: الأولى، هي تسكين روع المرأة الزانية وإعطاؤها شعورا بالثقة. والثانية، هي رغبة يسوع في أن يُساعد خصومها وخصومه على الدخول إلى أعماق ذواتهم كي يكشفوا صورة نفوسهم الملوّثة بالخطيئة ويُقنعهم بصمته أن الخاطئ لا يجوز له ان يرجم خاطئا مثله. ولمّا الحُّوا عليه ان يحكم عليها، اتخذ موقف العدل تجاه من حكموا عليها، وموقف الرحمة تجاه المرأة الزانية. فلم يحكم عليها فحسب، بل أعادهم الى ضميرهم بقوله "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة" أي انظروا في داخل نفوسكم، قبل إصدار أحكام قاسية. عندئذٍ "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ" (يوحنا 8: 11). ارتدَّ حكم الفريسيين المرائين عليهم: إذ ما من أحد قد يرجم نفسه بحجر. ادان يسوع الفريسيين والكتبة حين اعترفوا بخطاياهم، وذلك بانسحابهم الواحد تلو الآخر. إذ إن الفريسيين المرائين ينكرون رحمة الله ويُحبون أن يحكموا على الآخرين ويفرحون بأخطائهم ويعتقدون أنهم ينقذون الحقيقة برجم الخاطئين بحيث تصبح القوانين والشرائع حجارًا لرجم الآخرين. وفي هذا الصدد كتب القديس أمبروسيوس "حيث تكون الرحمة يكون الله؛ وأمَّا حيث تكون القساوة والتصلب والحكم فربما تجدون خدام الله ولكنكم لن تجدوا الله"؛ لان الرب لا يحتمل المنافقين والمرائين، ذوي الأقنعة والقلوب المزدوجة كما لا يحتمل الذين يتَّهمون الآخرين ويحاكمونهم؛ لأن جوهر المسيحية هو المصالحة بين الله والإنسان، وبالتالي يسوع يحارب قلب المرائين المتحجّر والقاسي: إن انتهاك حياة شخص آخر، مذنبًا كان أم بريئًا، بالحجارة أو بالسلطة هو رفض لله الذي يقيم في هؤلاء الأشخاص الزناة والخطأة. أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطيئة، لكن ظهر أنهم هم أنفسهم ليسوا متحرِّرين منها، كانوا كما وصفهم السيد المسيح ممتلئون من الداخل نجاسة "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً"(متى 23: 27-28). لم يتحاشى السيد المسيح الشبكة التي نصبوها له، وإنما سمح لهم أن يسقطوا في ذات الشبكة، إذ شعروا بالعارٍ أمام الجمع. ولم يستطيعوا تنفيذ الناموس، ولم يوجد أحد منهم مستحقًا أن يرفع أول حجرٍ يلقيه بها المرأة الزانية. "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ"(يوحنا 8: 9). فقد حوَّل السيد المسيح أنظارهم من التطلع إلى تصرفات المرأة الزانية أو من انتظار الحكم عليها إلى ضمائرهم الداخلية، ليروا الفساد الداخلي، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله. لقد اكتشفوا فسادهم، وبدلًا من الاعتراف به وقبول مشورة طبيب النفوس هربوا كما حدث في معركة داود ضد بشالوم "فأَنَّقَلَبَ النَّصرُ في ذلِكَ اليَومِ إِلى مَناحَةٍ عِندَ كُلِّ الشَّعْب" (2 صموئيل 19: 3). كل ما فعلوه أنهم خشوا الفضيحة والعار فهربوا لا إلى المسيح مُخلصهم، بل إلى خارج المسيح حتى لا يفضحهم نوره. إن كلمات يسوع وتصرفاته تُزيل الأحكام المسبّقة، لأنه برحمته يقودنا أبعد من الأحكام الأخلاقية، فهو يطلب من العين الاَّ ترى الخطيئة في الآخر بل أن ترى النور فيه. فمن يدين أخاه يُدان، وبالحكم الذي يَحكم به على الغير يُحكم عليه "لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم" (لوقا 6: 37)، لان الحكم لله كما يقول القديس بولس الرسول " فلا تَدينوا أَحَدًا قَبْلَ الأَوان، قَبلَ أَن يَأتِيَ الرَّبّ، فهو الَّذي يُنيرُ خَفايا الظُّلُمات ويَكشِفُ عن نِيَّاتِ القُلوب، وعِندَئِذٍ يَنالُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اللهِ ما يَعودُ علَيه مِنَ الثَّناء. (1 قورنتس 4: 5). وبعد ان حارب يسوع الشر في اللذين استعبدهم الشر، اهتم بالذين اعتبرهم المجتمع خاطئين وأولهم المرأة الزانية ونستنتج مما سبق ان هناك تعارض بين تصرف الكتبة والفريسيين من جهة وتصرف يسوع من جهة أخرى. فالكتبة والفريسيون يريدون الحكم على المرأة لأنهم يعتبرون أنفسهم حماة الشريعة والعدالة وتطبيقها بأمانة، فيدعوهم يسوع إلى إدراك كونهم بشرا خطأة، لا يمكنهم منح أنفسهم حق البت في حياة أو موت مَن هم مثلهم. أمَّا يسوع فيريد أن يخلِّصها، لأنه يجسد رحمة الله الذي بالمغفرة يفدي وبالمصالحة يُجدد. 3) رحمة يسوع تجاه الزانية يسوع هو الوحيد القادر أن يرمي الحجر الأوّل، هو الوحيد المعصوم من أي خطيئة. ومع ذلك، لم يحكم يسوع على الزانية، انما ادان يسوع خطيئتها، ولكن برحمته غفر للمرأة الزانية وخلّصها. إنه ذهب أبعد من الشريعة! لم يقل للمرأة أنّ الزنى ليس خطيئةً، ولكنّه لم يحاكمها بحسب الشريعة. وهذا هو سرّ الرحمة. فالرحمة لا تمحو الخطايا؛ انما يغفر الله الخطايا بواسطة الرحمة. فالله يغفر لنا بلمسة حنانه ورحمته. وقف يسوع أمام المرأة الزانية كمن يقف أمام شخص يهمُّه حياتها وتاريخها، وقف ليكون أقرب إليها ويُكلّمها، فقد فهم جوهر هذه النفس؛ وحاول ان يُدرك الحقيقة التي لديها، ويدعوها الى التوبة. فلم يتوقّف عند الخطيئة وإنما عند ألمها وحاجتها. فهي تعيش بشعور بالذنب بسبب أخطائها الماضي، لكن يسوع يفتح أبواب سجنها ويُحرِّرها، لأنه يعرف أن الإنسان لا يُساوي خطيئته، والله لا يهمّه ماضيها إنما مستقبلها. فسألها يسوع أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" (يوحنا 8: 10). وكأنّ به يقول لها: "أنتِ وحدكِ الآن أمام الله، بدون اتهامات وبدون أحكام! أنتِ والله فقط! فقالت: "لا، يا ربّ!"، لم تُبرّر نفسها بل اعترفت بخطيئتها. وقد وصف القديس أوغسطينوس هذا المشهد بقوله: "بقيت الرحمة والبؤس وجها لوجه". اخذ يسوع موقفا متعاطفا، ملؤه رقةً ورحمة ًوصفحاً، اخذ موقفا يتحدّى موقف الرأي العام. ولم ينظر الى قضية الزنى في ظاهرها، بل نظر الى داخل قلب الزانية. فلم يحكم عليها ولم يدنْها، بل غَّيَّر نفسها التي أقفرت وتوحشت بالخطيئة، وحوّلها إلى سلامه. فقال لها " وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ" (يوحنا 8: 11)؛ وبهذه الكلمات أعاد يسوع الى المرأة الزانية شرفها وكرامتها. وفي هذا الصدد قال البابا فرنسيس "رحمة الله هي نور محبة وحنان كبير! إنها لمسة حنان الله على جراح خطايانا؛ لان مغفرة الله هي محبّة حقيقيّة تحثُّ الإنسان ليصبح أفضل ما بإمكانه أن يصير ". 4) العبرة والدروس نستنتج من موقف يسوع تجاه اليهود والمرأة لزانية بعض الدروس التي أراد السيد المسيح ان يعلمنا إياها: أ) ادانة الخطيئة: يعلمنا يسوع انه لا يتجاهل خطيئة الزنى او يتجاوز عنها، بل ادانها. إن طهارة يسوع أدانت خطيئة المرآة الزانية. فالعهد الجديد ليس عهد تساهل مع الخطيئة. فإِذا كانَ الكَلامُ الَّذي أُعلِنَ على لِسانِ المَلائِكَةِ قد أُثبِتَ فنالَت كُلُّ مَعصِيَةٍ ومُخالَفَةٍ جَزاءً عادِلا، كَيْفَ نَنْجو نَحنُ إِذا أَهمَلْنا مِثْلَ هذا الخَلاصِ الَّذي شُرِعَ في إِعْلانِه على لِسانِ الرَّبّ" (العبرانيين 2: 1-3). يكره يسوع الخطيئة ويرفضها، ولكنه أيضاً يغفر لصاحبها إن تاب حقاً عن خطاياه. ب) رحمة الخاطئ: برحمته خلص المرأة الزانية ولم يحكم عليها. إنما طالب التوبة فقال للمراءة الزانية " إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" (يوحنا 8: 11). يقبل المسيح الخاطئ ولكنه لا يقبل أن يستمر الخاطئ في خطيئته. فالله يغفر ويُحرّر، ومغفرته تُعيد الإنسان إلى مسيرته. لقد أعلن "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 23: 35). مَن دعانا لنغفر "سبعين مرّة سبع مرّات" (متى 18: 22). ولا يجوز ان نعتبر الرحمة الالهية ضعفاً، بل هي دعوة إلى التوبة. يُعيد يسوع الخاطئ إلى الدرب الصحيح كما جاء في نبوءة حزقيال "لعَلَّ هَوايَ في مَوتِ الشِّرَّير؟ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا؟ "(حزقيال 18: 23). وفي الواقع، تكشف قصة تعامل السيد المسيح مع المرأة الخاطئة عن طبيعة السيد المسيح الملتهبة بالحب نحو الخطأة. يعلمنا السيد المسيح ان نقترب منه حتى لو كان لدينا خطيئة خطيرة، لأن الرب، وهو الشخص البارّ الوحيد، الذي لا يريد أن يُديننا، ولكنه يريد فقط أن نتغيّر. فيُحذرنا من اليأس والرجاء الباطل، فمن ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له يقتل نفسه باليأس، ومن يُهمل في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل ج) عدم إدانة الآخرين: يعلمنا السيد المسيح أن نفعل شيئين: أحدهما هو إفراغ أيدينا وإسقاط حجارة إدانة الآخرين، لأنه لا يحق لأحد أن يُعلن حكمًا إلا إذا كان بلا خطيئة من ناحية، ويُعلمنا ايضا، وأن ندين كل خطيئة في حياتنا قبل ان ندين اخانا على ونذكر نفوسنا دائما " مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!"(يوحنا 8:7) متذكرين كلمات الرب يسوع " لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُ " (متى 7: 1). وليست الشريعة بها عيب، ولكن العيب في البشر، وهو فساد الشهود. إن الحق في يسوع وبَّخ الكذب في الكتبة والفريسيين. لقد نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية وجابهه الكتبة والفريسيين بمعناها الادبي في حياتهم، لان نفس الخطيئة التي تسكن في المرأة الزانية تسكن فيهم أيضًا وقد حدث معهم كما حدث في قصة سوسنة (دانيال 13: 1-64)، ونابوت اليزرعيلي (1 ملوك 21: 10، 13). يدعونا الرب إلى عدم الحكم الظالم على الآخرين بل نعلن لكل خاطئ غفران الله. وللأسف الشّديد كثيرا ما يتكرر أيامنا مشهد الاتهام الآخرين دون محاسبة الذات أو تحكيم العقل والضمير. كما من السهل علينا أن نقذف الحجارة، الخيار لنا. ماذا نفعل؟ الحجر بين يدينا. وإن وجدنا ت نفوسنا في موقف الديان والناقد والمحاسب للآخرين، فنتذكر الحجر، ونتذكر من يحق له أن يرمي بالحجر. كلنا خطأ، وكلنا بحاجة لرحمة الله! د) يسوع وحده الديان: كل إنسان خاطئ أمام الربّ، وأن الربّ وحده ديان قلب الإنسان. فلنتقدم الآن بتوبة الى المسيح الذي مازال يكتب خطايانا على الرمال فإذا اعترفنا بخطايانا غفرت لنا، ونسمع صوت الرب على فم الكاهن مغفورة لك خطاياك. لا تعود تخطئ. اذهب بسلام الرب معك. الخلاصة وفي رحلات يسوع التبشيرية التقى يسوع المسيح مع ثلاث نساء كن قد ارتكبن جريمة الزنى، وهنّ: المرأة السامرية (يوحنا 4: 18)، والمرأة التي جاءته في بيت سمعان الفريسي (لوقا 7: 37)، والمرأة الزانية. وكانت تتميز معاملات يسوع مع كل واحدة منهن بشفقته ورقّته ورحمته وخاصة في الرواية الأخيرة. عندما كان يعلم يسوع في الهيكل، في صباح ما، قدَّم اليه اليهود امرأة أمسكت في زنى (يوحنا 8: 3-4) وكانوا يريدون ان يوقعوه في ورطة (يوحنا 8: 6) ووجهوا اليه سؤلاً عن العقاب الذي يجب ان يوقع على الزانية (يوحنا 8: 5)، فاذا أوصى يسوع بعدم الرجم، يجد نفسه مخالفا لشريعة موسى. وإذا أوصى بالرجم فانه سيتعارض مع قانون روما الذي يُقرِّر لنفسه الحق بإنزال عقوبة الموت. أمَّا يسوع فانحنى الى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض وذلك دلالة على انه لا ينطق بحكم. وعندما الحُّوا عليه في سؤالهم قال لهم " مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!" (يوحنا 8: 7) فاحسًّ اليهود انهم دينوا في بواعث قلوبهم. لقد نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية وجابههم بمعناها الادبي في حياتهم. ولما بقي يسوع والمرأة وحدهما لم يشاء ان ينطق بحكم دينونتها، ولكنه أوصاها بان لا تخطئ أيضا (يوحنا 8: 11)، انه لا يستخف بالخطيئة او يتجاوز عنها باي شكل، لان بر الله يدين الخطيئة. لا يخبرنا إنجيل يوحنا عن اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الإلهية، لتجد شريعة المسيح قانونها الداخلي الجذَّاب، فتنعم بالصوت الإلهي "ما جِئتُ لأَدينَ العالَم بل لأُخَلِّصَ العالَم " (يوحنا 12: 47). فلا تجد من يحكم عليها بالموت الأبدي، بل من يشتريها بالدم الثمين ويهبها برَّه السماوي، ويشفع فيها أمام الآب، ويدخل بها إلى الأحضان الإلهية. وتحوَّلت هذه القصة بفضل رحمة المسيح من وقوف في محكمة إلى دخولٍ في الملكوت. ويحُذرنا القديس أوغسطينوس من اليأس والرجاء الباطل "من ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له، يقتل نفسه باليأس، ومن يسترخي مهملًا في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل". إنّ فرح الإنجيل يملأ قلب حياة جميع الذين يلتقون الرّب يسوع المسيح. فمن يستسلمون له يتحرّرون من الخطيئة والحزن والفراغ الداخليّ والعزلة. مع الرّب يسوع المسيح يُولد الفرح دائمًا وينبعث من جديد. لنصغي أخيراً الى دعوة البابا فرنسيس: "أدعو كلّ مسيحيّ أينما وجد وفي أي ظروف كان، إلى أن يُجدّد اليوم لقاءه الشخصيّ مع الرّب يسوع المسيح، أو على الأقلّ، أن يأخذ قرارًا بأن يدعَ الرّب يسوع المسيح ان يلتقي به، او أن يبحث عنه كلّ يوم باستمرار. لا يفكّر أحد أنّ هذه الدعوة غير موجّهة له، لأنّ لا أحد مستبعدًا عن الفرح الذي يحمله إلينا الرب" (البابا بولس السادس). دعاء "يا ربّ، لقد خُدعنا بطرق عديدة وهربنا من حبّك، ومع ذلك هاءنذا نحن أمامك مرّة جديدة لتجديد عهدنا معك. إننا نحتاج إليك. خلّصنا يا ربّ واقبلنا مجدّدًا بين ذراعيك المفتوحتين ". يا رب، أنت وحدك الذي يستطيع أن يرمينا بحجارة كثيرة، لأنّك الوحيد بدون خطيئة. ولكنك لا ترمينا بأية حجرة ولا تحكم علينا. شكراً يا رب، من أجل حبّك ومن أجل مغفرتك. شكراً لأنّك تحبّنا حتى حين نقع في الخطيئة. شكراً لأنّك حوَّلتَ حجارتنا المتّسخة إلى حجارة ثمينة ذات قيمة. شكراً لك لأنّك أعطيتنا الامكانية لمعرفة خطايانا وعيش لحظات المصالحة معك. أعطنا ألاَّ نرمي بعد الآن بالحجارة الآخرين. أعطنا أن نعيش في محبتك، أصدقاء لك وأصدقاء للجميع.