موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٧ مارس / آذار ٢٠٢١

يا رب، يا رب، اِفتَح لنا بابَ رحمتِك

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يا رب، يا رب، اِفتَح لنا بابَ رحمتِك

يا رب، يا رب، اِفتَح لنا بابَ رحمتِك

 

أيّها الأحبّة جميعًا في المسيح يسوع. نستهلُّ اليوم زمن صومِنا المبارك. وهذا الاستهلالُ يقومُ على حركَتين اثْنَتين: حركة من الخارج إلى الدّاخل، وحركة من الدّاخل إلى الخارج، وكلّ زمن الصّوم يرتكِزُ على هاتين الحركتين.

 

فنحن نَفتَتِحُ هذا الزّمن برتبة خارِجيّة مرئيّة ملموسة، ندعوها رتبة وضع الرّماد، نَذرُّه فوقَ الرّؤوسِ ونرسمه على الجِباه. وبدورِها تقودُنا هذه الحركة الظّاهرة للعَيان، إلى حركة أخرى، غير مرئيّة، في الصّميم والباطِن، يَراها أبوكَ الّذي في الخفية ويجازيك. وهذه الحركة الدّاخلية نَدعوها بحركة الارتداد والنّدامة والتّوبة، والصّلاة والرّجوع إلى الله تعالى. فهو يدعونا على لِسانِ نَبيّه يوئيل أن: "تُوبوا إليّ بكلِّ قلوبِكم". (يوئيل 12:2).

 

وما تبرحُ هذه الحركة الباطنيّة أن تَنعكس مجدَّدًا إلى المحيط الخارجي، فتوبتُك إلى الله تقودُك من كلّ بُد، إلى الصّوم والتّضحية والإماتات الجسدية، لِقَهر كلّ شَرّ وميلٍ إلى الخطأ والمعصية. وأيضًا تقودُكَ إلى ممارسة الصّدقة والمشاركة، وأعمال الخير والمحبّة، تجاه القريب والمحتاج والمعوز. فمحبّة الله تُرشِدني إلى محبّة القريب، ومحبّة القريب علامة على محبّتي لله. "فَمَن كانت لهُ خيرات الدّنيا، ورأى بأخيه حاجةً، فأغلقَ أحشاءَه دونَ أخيه، فكيفَ تُقيم فيه محبّةُ الله" (1 يوحنّا 17:3).

 

هذا باختصارٍ هدفُ الرّماد وجوهرُ هذا الزّمن. رسالتُه هي رسالة توبةٍ داخليةٍ نَصوح، من الصّميمِ والأعماق، نُعبّر عنها بحركات مَرئية وعلامات محسوسة، كتوبة أهل نينوى بإنذار يونان، يومَ افترشوا الرّماد ولبسوا المُسوح (يونان 1:3-10). وسُرعان ما تعود توبتُنا بالنّفع علينا، إذ تستمطرُ لَنَا مراحمَ الله وغفرانَه تعالى، وعلى الآخرين بأعمالِ الرّحمة تجاه بعضنا البعض.

 

مِن ناحية أخرى هذا الزّمن المبارك هو سيفٌ ذو حدّين. فَقَد يكون زمنًا نصنع فيه كلّ ما نصنع، من حركات ظاهرة، بهدف المنافسة أو العُجب، كَما يحذّرنا مِن ذلك القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيلبي (1:2-4)، وبدافعٍ من روح الزّهوِ والغرور، والامتلاءِ من الاعتِداد والاختيال بالذّات. وقَد يكون زمنًا لا تعلم فيه شمالُنا ما تفعلُ يمينُنا، بل أبونا الّذي يَرى في الخفية، يرانا ويُجازينا على قدر أعمالِنا.

 

هذا الزّمن أيضًا، قد يكون زمنَ نَفعٍ وخير روحي ومادّي، علينا وعلى الآخرين. ومع كلّ أسف، هناك خطورة قائِمة في أن يتحوّلَ زمنًا للذّمّ والانتقاد، والتّجريح بالعينِ وبالّلسان، والإيماء بالأصبع، تمامًا كما كان يفعل، ولا يزال، المراؤون المنافقون المتكبّرون، الّذين لا همّ لها ولا غاية، سوى أن يَظهرَ للنّاس أنّهم يتصدّقون أو يُصلّون أو يصومون، ليعظّم النّاس شأنَهم، ولكنّهم يَفقدونَ عند الله أجرَهم.

 

هذا العام كما في العام الماضي يا أحبّة، نعيش زَمنَ صومنا وتوبتِنا، ضمن ظروف صعبة وقاسية، تُلقي بأوزارِها وأحمالِها الثّقيلة عَلينا وعلى البشرية جمعاء، وتزيد من صومِنا ثقلًا. أَمامَها نشعر بالألم والتّعب، وبكثيرٍ من الخوف والتَّوجّس والقلق! لذلك نحن بحاجة ماسّة أكثر من أي وقتٍ مَضى لله تَعالى، حتّى عندما تُغلق الكنائس وتوصد أبوابُها! بحاجة إليه تعالى أن يُشدّد قلوبَنا عند تَضعفُ وتتراخى. أن يُفيضَ في نفوسِنا سلامًا وسكينة وأمنًا وسكونًا، عندما تقوم الدّنيا وتضطرب، وتعصف رياح الذّعر والخشية. أن يمنحنا رجاءً وأملًا وثقةً، عندما تبعث الأمور من حولِنا على الإحباط والكآبةِ والقنوط. أن يملأَ عيونَنا نورًا بِغَدٍ مُشرق، عندما يكون يومنا مُمْتَلِأ ظلمة وعتمة وقتامة وغشاوة.

 

اِعتدتُ في كلّ عام، وعند بدء زمن الصّوم المبارك، أن اقتبِسَ شيئًا مِمّا جاء في رسالة البطريرك يوحنّا العاشر يازجي لزمن الصّوم، نَظرًا لما تحمل كلماته من رجاء وعزاء، وفكرٍ مسيحي مشرقي رعويّ نيّر، يُسلّط الضّوء على معاني هذا الزّمن السّامية العَظمة. كتب غبطته هذا العام، يقول:

 

((في مُستهل الأربعينية المقدسة، نَحني رُكبةَ النّفسِ أمام الخالق الْمِعطاء، ونسكبُ أمامَه عَبراتِ التّوبة، مُستَمدّينَ شفاعةَ قِدّيسيه، وطالبينَ معونةَ العذراء مريم، وقائلينَ بِفَمٍ واحدٍ وقلبٍ واحد: "يا رب يا رب، افتح لنا بابَ رَحمتِكَ"... هذا ما نحتاجً دومًا أن نقول، ونحن على أعتابِ موسم التوبة، الّذي يُعَبِّدُ دَربَ القيامة. الرحمةُ التي آَثَرَها الله على الذبيحة، هي جوهر الصوم وَكُنْهُه. والصومُ الكبير هو دربُ الرحمة، الذي يقودنا إلى صليبِ المجد، ومنه إلى عتباتِ القبر الفارغ.

 

"يا رب، يا رب، اِفتَح لنا بابَ رحمتِك". نقولُها بِلسانِ البَشرية جَمعاء، بلسانِ الجائعِ والمشرد، بلسان الفقيرِ والمحتاج، بلسانِ هذا الشّرق الذي سَئِمَ ويلاتِ الحروب، وتاقَ إلى سلامِ يسوع... نقولها اليوم، وقد فَقدنَا ونفقدُ إخوةً لنا أحبّاء من جَرّاء الوباءِ الحاصل... نقولها وفي الذّهن، أولئكَ الجنود المجهولون، الكوادِرُ الطّبية والخَدَماتيّة، خط الدفاع الأول. نقولها سائلينَ المسيحَ الإله، أن يَرفعَ عن عَالَمِه الوباءَ الحاضر...

 

يُذكِّرُنا الموسمُ الحاضر بِعَبقٍ من تاريخ المسيحيةِ في هذا الشرق. يُذكّرنا بمسيحيةٍ مَشرِقيّة اِرتَمَت طوال أَلفيّ عام تحتَ صليبِ ربّ المجد. ضيقُها من ضيقِه. آلامُها ظِلُّ آلامِه. تَباشيرُها من بُشرى إنجيله... صبرُها من صَبرِه. إكليلُها على مِثالِ إِكليلِه. أصالةُ شهادتِها من طِيبةِ رُسلِه ومن نَفحَةِ شُهدائِه. أجراسُها من جرسِ بُشراه، وَميرونُها دمُ قلبِها، الّذي سِكَبتهُ في الأجيال، إيمانًا أصيلًا فوّاحًا، بعطر المسيح))