موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

هَذا الهَيكلُ هوَ أَنْتُم (1قورنتوس 17:3)

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هَذا الهَيكلُ هوَ أَنْتُم

هَذا الهَيكلُ هوَ أَنْتُم

 

عظة الأحد الثّالث والثّلاثون-ج

 

يَكتُب صَاحِبُ الْمَزاميرِ قَائِلًا: ﴿أَحبَبتُ يَا رَبُّ جَمالَ بيتِكَ، وَمُقامَ سُكنَى مَجدِكَ﴾ (مزمور 8:26). ثُمِّ يُردِفُ قَائِلاً: ﴿مَا أحبَّ مساكِنَكَ يا ربَّ القوّات﴾ (مزمور 2:84). فاللهُ الْجَمَالُ الْمُطْلَق، جَعلَ كُلَّ شَيءٍ حَسَنًا جَميلًا، غَايةً في التَّنْظيمِ وَالتَّرتيب. وَلأنَّ الإنسانَ مخلوقٌ عَلى صورةِ اللهِ وَمِثَالِه، نَراهُ يُحبُّ الجَمالَ وَيَسعى لأجلِ الجَمَال، وَلِذلِكَ أبدَعَ في صُنْعِ حَضَاراتٍ وُنُصُبٍ وَمَعالِمَ عَظيمَة، تَقِفُ شاهِدَةً حتّى اليَوم، على الرّوعةِ والإبْداعِ البَشَريّ!

 

وَهَا هُم التّلامِيذُ يَقِفونَ مُنْبَهرينَ أَمَامَ جَمالِ هَيكلِ الله، بِحجارَتِه وتُحَفِهِ الفَريدَة. وَهوَ الهيكَلُ الّذي لَقِيَ الدّمارَ عَلَى يَدِ القَائدِ الرّومانيّ طيطس وَفَيلَقِهِ العَاشِر. فَتَمَّت فيهِ نُبوءَةُ الْمَسيح، إذْ لم يُترَكْ فيهِ حَجَرٌ عَلَى حَجَر! هَذا الهيكلُ الّذي انذَهلَ التّلاميذُ مِن حُسنِهِ الخَارجيّ، هو ذاتُهُ الّذي طَهَّرَهُ يَسوع، لأنَّ جَوهَرَهُ قَد دُنِّسَ، إذْ جَعَلوا مِن بَيتِ الصّلاةِ: ﴿مَغارَةَ لُصوص﴾ (لوقا 46:19).

 

وَلَكِن، أَيُّها الأحبّة، هَل جَمالُ الإنسانِ يَتَوقَّفُ عَلَى مَا ابْتَكَرَ عَقلُهُ وَصَنَعَتْ يَدَاه؟ أَمْ أنَّ جَمالَ الإنسانِ يَبدَأُ مِن الدّاخل، مِن نَفسِهِ وَقَلْبِهِ وَفِكره؟ فَالإنسانُ الّذي أَبدَعَ وَأَخرَجَ إلى النّورِ أُمورًا عَظيمةً تَخدُمُ البَشَريّة، هو نَفسُه الإنسانُ الّذي ارْتَكبَ أُمورًا فَظيعَة، وَأَحداثًا مُروِّعَةً تُدمّرُ الإنسانيّةَ وَالخَليقَة! وَفي هَذا الشَّأنِ يَقولُ سِفرُ تَثنيةِ الاشتراع: ﴿إنّي قَدْ جَعَلتُ أَمَامَكَ الحياةَ والْمَوت، البَرَكَةَ والّلعَنَة، فاخْتَر الحياةَ لِكَي تَحيا﴾ (تثنية الاشتراع 19:30). وَنَحن نعلَمُ، أَنَّنا مَعشَرَ البَشر، اختَرنَا مَرّاتٍ كَثيرة، الْمَوتَ لا الحياة، الشّرَّ لا الخير، الّلعنةَ لا البركة، البَشَاعَةَ لا الجَمال.

 

لِذَلِكَ نَرى يَسوع لا يولي الاهتِمَامَ الأكبر لِجمالِ الْمَظهَر، بِقَدرِ مَا يُولِيهِ لِبَواطِنِ النَّاسِ وَدَواخِلِهم! وَفي الوَقتِ الّذي فيهِ نَبني حُكمَنَا عَلى مَظاهِرَ خَارِجيَّة، يَأتي حَديثُ الْمَسيحِ وَاضِحًا صريحًا: ﴿أَنْتُم تُطهّرونَ ظاهِرَ الكَأسِ والصَّحفَةِ، وَباطِنُكُم مُمْتَلِئٌ نَهبًا وَخُبثًا﴾ (لوقا 39:11-40). وَيَقولُ أيضًا: ﴿مِنَ القَلبِ تَنبَعِثُ الْمَقاصِدُ السَّيئَةُ، والقَتلُ والزّنى والفُحشُ، والسّرِقَةُ وَشهادَةُ الزّورِ والشّتائِم. تِلكَ هيَ الأشياءُ الّتي تُنجِّسُ الإنسان﴾ (متّى 19:15-20).

 

يَا أَحبَّة، لَقدَ خَلقَ اللهُ الإنسانَ حسنًا جِدًّا، إذ: ﴿دونَ الإلهِ حَططتَهُ قليلًا، بالْمَجدِ والكرامَةِ كَلَّلتَهُ﴾ (مزمور 6:8). كَمَا أنّهُ جَعلَ مِنَّا هَياكِلَ لَه، يُقيمُ فيهَا وَيُقدِّسُها، عَلى حَدِّ قَولِ بُولسَ الرّسول، في رِسَالتِهِ الأولى إلى أَهلِ قُورنتوس: ﴿أَمَا تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وَأنَّ روحَ اللهِ حالٌّ فيكم. مَن هَدَمَ هَيكلَ اللهِ هَدَمَهُ الله، لأنَّ هيكلَ اللهِ مُقَدَّس، وَهَذا الهيكلُ هَوَ أَنْتُم﴾ (1قورنتوس 16:3-17).

 

فَمَا الفائِدةُ إذًا مِن جَمالِ الخارج، إذا كانَ الدّاخِلُ قَذِرًا مُلَطَّخًا؟ مَا الفَائِدةُ مِن جَمالِ أَجسادِنَا وَبهاءِ ثِيابِنا وَزينَتِنا وَحُليِّنَا وَعِطرِنا، إذا كانَ بَاطِنُنا مُتَّسِخًا، مَليئًا بالرّذائِلِ وَالزَّلات؟ أَصبحَ كَثيرونَ يَصرِفونَ الكَثيرَ منَ الوقتِ والجُهدِ لِصَقلِ أَجسَادِهم في الأنديةِ الرّياضِيَّة، وَلَكنَّهُم لا يَبْذِلونَ أَيَّ مَجهودٍ لِصَقلِ نُفوسِهم، وتَهذيبِ أَخلاقِهم وتَجميلِهَا!

 

لِذَلِكَ، نحنُ الآدميّين حالُنَا كَحَالِ هؤلاءِ في الإنجيل، لا نَلْتَفِتُ إلّا إلى الْمَظَاهر! نُريدُ أَنْ نَظهرَ أَمامَ النّاسِ بِأبهى مَظْهَر وَأَحسنِ مَنْظَر، واللهُ يَعلمُ كَمْ فِينَا مِن أُمورٍ اتَّسَخَت، وَهي بِحاجَةٍ إلى تَنْقيةٍ وَتطْهير، سَواءً عَلَى مُستَوى الفِكرِ وَالقَلبِ والنَّظَرِ وَالِّلسَان والسُّلوك، وَغيرِها مِنَ الأمورِ الّتي أَصَابَها الخَرابُ وَالعَطَب! فَمَهمَا أَتْقَنا الدّورَ أَمَامَ النّاس، وَظَهرنَا بِمَظهَرِ أَتْقَى وَأَنْقَى وَأَحْلَى النّاس، وَأَكثرِهم دِينًا وتَدَيُّنًا، فَهنُاكَ رَبُّ النَّاس، الّذي يَعلَمُ بخفَايَا وَخَبَايَا النَّاس! فَعَلى الأقل كُنْ صَادِقًا مَع رَبِّك، وَأَصلِحْ مَا في ذاتِكَ مِن عَطَب، قَبَلَ أنْ يُصيبَك مَا أَصابَ الهيكلَ الجميلَ، حينَ لا يَبْقَى فِيك حَجَرٌ عَلَى حَجَر. يقولُ الشّاعِر:

 

لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ وَالْمَظَاهِرُ تَخْدَعُ                           فَلا تَحْكُمَنَّ بالّذي تَرَى وَتَسْمَعُ

 

فَرُبَّ بَاكٍ وَدَمُعُهُ مُزيَّفٌ                                 وَرُبَّ بَاسِمٍ وَقَلبُهُ يَدْمَعُ

 

وَرُبَّ غَنِيٍّ تَعِسٌ بِمَالِهِ                                    وَرُبَّ فَقيرٍ بِالُّلقمَةِ يَستَمتِعُ

 

وَرُبَّ صَحيحٍ وَفِكرُهُ عَليلٌ                              وَرُبَّ عَليلٍ وَعَقلُهُ مَجمَعُ

 

وَرُبَّ هَزيلٍ في صَدْرِهِ أَسَدٌ                              وَرُبَّ جَسيمٍ مِن قِطَّةٍ يَفزَعُ

 

ورُبَّ حَسنَاءُ حَوَتْ كُلَّ الْمَفاتِنِ                        وَعَقلُهَا في جَيبِ حَقيبَتِهَا يَقبَعُ

 

فَلَيسَ كُلُّ مَا نَرَى دَلَّ عَلى الوَرَى                      فَالعينُ تَرَى لَكنَّهَا لا تَتَوَقَّعُ

 

عَاشِر النَّاسَ لِتُدرِكَ أَصْلَهَا                              فَحَقيقَةُ الْمَرءِ بِالعِشْرَةِ تَسْطَعُ