موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ مارس / آذار ٢٠٢١

هَا قَد أَتَيتُ لأعمَلَ بمشيئتِكَ يا الله

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هَا قَد أَتَيتُ لأعمَلَ بمشيئتِكَ يا الله

هَا قَد أَتَيتُ لأعمَلَ بمشيئتِكَ يا الله

 

أيّها الأحبّة أينَما كُنتم. قَطَعنا الأسبوعَ الأوّل من زمن الصّومِ المبارك. وها نحن ندخلُ الأسبوعَ الثّاني، من هذا الزّمن المليءِ بالخبرات الرّوحية والطّقوس الّليتورجيّة، والغَنيّ بالصّلواتِ والتّعبّدات والقراءاتِ والتّرانيم، وأعمالِ الرّحمة بأنواعِها. وجميعها تُسهم في تعزيزِ مستوى استعدادِنا الحَسَن، للاحتفالِ بالفصحِ المجيد وقيامة الرّب.

 

في إنجيلِ الأحد الأوّل من الصّوم، كُنّا قد تأمّلنا في نصّ التّجربة من بشارة القدّيس مرقس، الّذي يُخبرنا باختصار دون تفاصيل، عن واقعة مكوثِ يسوع في البرّية، يختبِر التّجارب ويُصارِع العدوّ الّلئيم. واليوم في إنجيل الأحد الثّاني من الصّوم، تستمرّ جولتُنا في رحاب بشارة مرقس، متأمّلين في نصٍّ مُغايرٍ تمامًا، ألا وهو واقعةُ التّجلّي!

 

لِماذا هو مغايرٌ ومختلِفٌ تمامًا، عن نص الأسبوع الماضي؟ بدايةً، واقعةُ مُكوثِ يسوع ووصومِه وتجاربِه، تجري أحداثُها إلى الشّرق من أورشليم (اسم القدس في الكتاب المقدس، حتّى لا تختلطَ السّياسة مع الدين، عند القارئ العزيز)، في برّيةٍ نائية خالية، وأرضٍ يابسة وقاحِلة، تفتقِرُ إلى الغطاء النّباتي الأخضر، ولا تَكسوها سوى شُجيرات صغيرة قصيرة مُترامية، الواحِدة بعيدة عن الأخرى. أمّا واقعة تجلّي المسيح، فتجري أحداثُها إلى الشّمال الغربي من أورشليم، فوق جبلِ طابور قُربَ مدينة النّاصرة، في منطقة خضراء تكسوها الأشجار الباسقة المتراصّة، وكأنّهم جُندٌ قد رَصّوا الصّفوفَ وَزمّوا الأكتاف، فتكاد لا ترى الأرضَ البُنّية من شِدّةِ تراصِّها واخضرارِها.

 

ثمّ أنّ واقعةَ التّجربة، تجري أحداثُها في أكثرِ بقاعِ الأرضِ انخفاضًا، حيث تنخفض هذه البقعةُ البرّية نحوَ مِئتي متر عن سطح البحر. بَينَما واقعة التّجلّي تجري أحداثُها فوق جبلٍ عالٍ، يرتفع نحو ستمائة متر عن مستوى سطح البحر. في واقعة التّجربة يسوع في الأرض السّفلى، وفي الأسفل عادةً ما يكون مَدى الرّؤية محدودًا أو مُشوّشًا، والأفق ضيّقٌ بلا امتداد واسِع. بينَما في واقعة التّجلي، يسوعُ يقف فوق الأرضِ العَالية، وفي الأعلى يكون المدى أَبعد وأوضَح، والرّؤية أشمل، والأفقُ أوسع وأَرحَب.

 

في واقعة التّجربة، يسوع يختبرُ الضّعفَ والوَهَنَ والتّعبَ البشري، النّاجم عن أسابيع الصّيام الْمُضنِي، وما قَاسَاه أيضًا من صنوف الحرمان في تلك البرية الْمُقفِرة. بالإضافة إلى أنّه يختبرُ التَّجارب، وما تَعنيه من صعوباتٍ وتحدّيات، ومع ذلك لَم ينهزِم، بل خرجَ منتَصِرًا. أمّا في واقعة التّجلّي، فيسوع يكشِف عن جانب العَظَمة والقوّة والمهابة، كما يقول المزمور الثّالث والتّسعين: "الرّبُّ مَلَكَ والجلالَ لَبِس، لَبسَ الرّب العزّةَ وَتَمنطَقَ بها" (مز 1:93).

 

في واقعةِ التّجربة، يسوعُ كان وحيدًا لا يَصحبُه أيّ إنسان، ولا يُرافقه سوى شيطان مُجرِّب، ووحوش البرّية، وملائكة يخدمونَه. بينَما في واقعة التّجلّي، نرى بِرفقَتِه ثلاثة من تلاميذه، هم: بطرس ويعقوب ويوحنّا، بالإضافة إلى حُضورِ أَهَمّ قُطبَين في العهد القديم: موسى ويمثّل قُطبَ الشّريعة، وإيليّا ويمثّل قُطبَ النّبوّة. فالتّجلّي كان بمثابةِ تأكيدٍ لامتدادِ عمل الخلاص، ولارتباط العهدين معًا، وبأنّ المسيحَ أَتَى مُكمِّلًا وَمُتمًّا، لِما بَدَأَته الشّريعةُ وَأَنبَأَت بِه الأنبياء.

 

دونَ أن نَنسى وأن نغفلَ عن حضورِ الآب، الّذي كَلّمَهم بِصوتِه من الغمام، قائِلًا: "هذا هو ابني الحبيب، فَله اسمعوا". فالتّجلّي يا أحبّة، بالإضافةِ إلى أنّه حدثٌ، فيه يَكشفُ الله لنا عن ذاتِه، ويوحي لَنا بشيءٍ من طَبيعتِه وَمَاهيّتِه، فإنّه كذلكَ دعوةٌ لِلسّماع لصوتِ الله في حياتِنا، أي أنّه دعوة لِطاعة الله، والعملِ بمشيئتِه ووصاياه.

 

في النّهاية، بعدَ كلّ هذهِ المقارنات، أُريد أن أطرحَ عَليكم تساؤلًا، جالَ في خاطري وأنا أكتبُ هذه العِظة، وطرحتُه كَذلِكَ على نفسي، فقلتُ: في حدث التّجلّي عَاين بطرسُ ورأى مجدَ المسيح وبهاءَه، فَراقَ له المشهدُ وطاب له المكوث هناك، ولم يَشَأ أن ينزل، بل أرادَ أن يستقرَّ فوق الجبل، مع المسيح الإله الجبّار، وينصبَ ثلاثَ خيام هُناك.

 

ولَكن، ماذا لو كان بطرس حاضرًا مع المسيحِ في البرّية، في ذاك المكان النّائي والْمُوحِش، حيثُ يسوع الجائع الضّعيف، الخائر القوى؟ هل كان بطرس سيتّخذُ نفس الموقف، ويُعرِب عن رغبته بالمكوث والبقاءِ هناك، أم أنّه سيهرب ويَفرّ بجلدِه دون رجعة؟! طبعا سيهرب، دون أن نُفَلسفَ الأمور كثيرًا.

 

الْمَغزى من هكذا تساؤل، هو أن نُشيرَ إلى حَقيقة أنْ لا أحد يحبّ ويريد البقاء، أو حتّى مجرّد (مرور الكرام) في أرضِ الآلام وبقعة الأوجاعِ ووادي الدّموع. لا أحد يحبّ أن يختبرَ الضّيقات والتّحدّيات والمنغّصاتِ والصّعوبات والتّجارب، أو حتّى أن يختبرَ مواقف الوَحدة والعُزلة، لأنّها مواقف موحِشَة ومُرعِبَة لكثيرين.

 

كُلّنا كبطرس، نبحث عن المجدِ والعَظمة، عن السّيادةِ والقوّة، عن الرّاحةِ والسلطان، عن الشّهرة والصيت، عن أن نكونَ محطَّ اهتمامِ الآخرين، أو أن نكون برفقة المهمّين و(أصحاب الذّوات) في المجتمع... كلّنا نسعى وراء مواقفِ التّجلّي ومشاعر الرّبوبية، إن جاز لي التّعبير، ونرغب في الاستقرار والمكوث هناك فوق ذاك الجبل، دون نزول إلى الأسفل.

 

ولكنّك يا صَديقي، سَتَنزِل! شئتَ أم أبيت، وأحيانًا إلى ستنزل إلى قعر الوادي إلى الدَّرْكِ الأسفل، كما صَعدتَ يومًا إلى قمّة الجبل. فلا شيءٌ يدوم، ولا حالةٌ لإنسان تَبقى. فعزيزُ القومِ حقيرُهم غدًا. وغَنيُّ اليوم فقيرُ الغَد، والكريمُ يصبح لئيمًا، والوَجيهُ يَغدو ذليلًا، والحسيبُ يُمسي خَسيسًا.

 

مَشهد التّجربة ومَشهد التّجلّي، مَشهدان فيهما الكثيرُ من المتناقِضات، تَمْلَأهُما الكثيرُ من المفارقات، يُعلّماننا أن الحياةَ عجلةٌ تدور، وأنا وأنت ونحنُ كلّنا نَدور معها من كلّ بد. ولكن، فَليَحذَر كلّ واحدٍ مِن أَن تهرسَهُ العجلة أثناءَ دورانِها!