موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

هوذا نحن ذاهبون إلى أورشليم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
هوذا نحن ذاهبون إلى أورشليم

هوذا نحن ذاهبون إلى أورشليم

 

الأحد الثالث عشر (الإنجيل لو 9: 51-62)

 

لما انتهى الله من خلق العالم، رأى وإذا كلُّ شيْء فيه جميل. نعم الأرض وكثير من مدنها أيضا جميلة. كل سائح عندما يعود م رحلته يخبر يلهف عن جمال ما شاهد من المدن ومعالمها الأسطورية. لكن قالوا إن أجمل مدينة نشاهدها في العالم هي أورشليم، وهي رمز لأورشليم السّماوية، فمن إذن لا يُحبُّها؟

 

رأيناك من جبل الزيتون يا عروس المدن

روعة أنت أخذنا لك صور أنت جنة عدن

 

وقالوا أيضا: إن أردتَّ أن ترى الجنّة على الأرض، فأدر وجهك إلى أورشليم. أورشليم كانت مدينة يسوع المحبوبة، ولذا أراد أن يموت فيها: هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم، حيث سيموت ابنُ البشر. إنَّ محبّة الوطن غريزة متأصّلة في قلب الإنسان، وشعور لا يمكن خلعه كالمحبّة إلى الأهل. بُقال عن الرّومان المستعمرين في فلسطين، إنَّ قسماُ منهم كانوا من مدينة نابولي شمال روما، وما كانوا قادرين أن ينسوا مسقط رأسهم، فكان شوقهم الدّائم: أن نراكِ من جديد يا نابولي ونموت! أنا شخصيّا عشت ما يزيد على ال 45 سنة في ألمانيا، وأقدر أن أؤكد أنَّ المحبة للوطن كبيرة، فكانت لي الحاجة الملحّة أنني سنويا، أقلّه مرة وأمّا أكثر الأوقات فمرّتين في السنة كنت أزور بلدي الأردن، لأراه وأرى أهلي وأقاربي.

 

كل اليهود، الّذين كانوا ساكنين خارج أورشليم، وحتى إلى اليوم، فيهم حنين لا يوصف لرؤية أورشليم. هم كانوا مجبرين، من سن الثانية عشر، مرّة في السنة أن يزوروا أورشليم ويصلّوا في هيكلها. إن أصعب سنّي حياتهم، كانت استبعادهم في المنفى. فكانوا في منفاهم يوم عيد الفصح أي ذكرى خروجِهم من مصر، يديرون بوجوههم إلى أورشليم متنهّدين وقائلين: السنة القادمة نعيِّد فيك يا أورشليم!

 

يسوع كإنسان، لم يختلف عن بني شعبه، بل كان يحب مدينته مثلهم، والتي زارها لأوّل مرّة، كما يفرض القانون بعمر الأربعين يوما ثم بسنّ الثانية عشرة. وعند ابتداء حياته العلنية فقد زارها حسب الإنجيل 3 مرات، أخرها ليموت فيها، تتميما للوحي. هوذا نحن صاعدون إلى أورشليم وابن البشر سيُسلم فيها ويقتلونه، فيها سيُدفن وسيقوم من بين الأموات، ومن قمّة اجمل هضبة فيها، أي جبل الزيتون سيصعد إلى السّماء. فالإنجيل يقول: لمّا تمّ الزّمان لينتقل من هذا العالم إلى ملكوته: لأنّي من الأب أتيت وإلى الأب أعود، توجه مع تلاميذه على جبل الزيتون.... فيها أتمّ رسالته، وهي التبشير بملكوت الله والخلاص، وذلك بالمناداة بالتوبة والرّجوع عن الشر والاعتراف بأنّه هو المُخلِّص الوحيد.

 

فيها أسّس ديانته، الّتي منها ستنتشر في كلِّ أنحاء العالم. ثمَّ قدّسها بحلول الرّوح القدس فيها. وكتاب الرؤيا يشبّه أورشليم الأرضية بأورشليم السماوية. لقد بنى فيها أساسات ملكوته، ملكوت البرّ والحق والحياة والمحبّة والسّلام، ملكوت القداسة والنّعمة. على هذا الأساس يجب على الرّسل أن يبنوا الملكوت السّماوي. وبما أنّ هذا الملكوت لا ينتشر لوحده، فقد كلّف رسله وأتباعهم بالقيام بواجب التبشير، ابتداءً من أورشليم وإلى أقاصي الأرض، حتى يسمع كلُّ البشر بهذا الملكوت ويؤمنوا به.

 

نعم الله بالذّات يحتاج إلى البشر، حتى من أيّام الفردوس، حيث سلّم لآدم العناية بالأرض ليأكل منها. قال المثل: الله أوجد العمل لكن على الإنسان أن يٌتمِّمه.

 

كما ولنشر رسالته يحتاج من جديد ليدٍ عاملة معه، فاختار 12 صيادي سمك بُسطاء، التقى بهم على شط بحيرة طبريا، وبعد تدريبهم بمرافقتهم وسماعهم إليه، سلّمهم هذه المهمة: اذهبوا وبشروا جميع البشر وعلموهم جميع ما قلته لكم (متى 19:28). لقد كانوا مسرورين بخدمة سيدهم، وأخلصوا له بالعمل، إلى حدِّ أنهم كانوا ينفعلون، عندما لم يكن أحد يستقبلهم أو يرفضهم. مَن منّا ينفعل اليوم، عندما يرفض النّاس الإيمان وتعليم الكنيسة، مِثْل ابني زبدى، لقد استأذنا من سيّدهما أن يسمح لهما بإنزال نار من السماء لإحراق السامرة بسكانها، بسبب رفضها لدخول يسوع إليها. بينما هو فيهدئهما، إذ لا إجبار للقبول بديانته. هو يدعو كلًّ واحدٍ لينضمَّ إليه، لكنّه لا يُجبر أحداً، بل يترك حرّيّة الاختيار لكلِّ واحد. ديانته لا تٌحرّض على العنف والقوّة، ولا مجال فيها لاختيار الحرب والجهاد، حتّى ولو حرباً مقدّسة، كما ادّعا البعض بوجودها، لكن كلَّ واحِدٍ سيؤدي حسابا في اليوم الأخير عن أعماله ورفضه لهذه الدّيانة. من لا يقبلكم، أنفضوا غبار أرجلكم عليه وغادِروه إلى غيره. فنلاحظ إذن، كم هو ضروريٌ نشر هذه الديانة، وهذا يأتي عن طريق المدارس الدّينية والمُرسلين في البلاد البعيدة. ولنقل إنَّ كلَّ مُعمَّد ومُثبَّت، هو مسؤول عن نشرها وتعريفها.

 

إنَّ الله لم يُرسلنا إلى هذا العالم سدىً، لنعيش ونتكيّف مثلما نشاء، أو يطيب أو يحلو لنا، بل أرسل كلَّ واحدٍ منّا مع مُهمَّة مُعيّنة، لإصلاح وتجديد العالم، الّذي خرّبته خطيئة أبوينا آدم وحواء. هذا وحينما ننتهي من هذه المُهمة، يُرجعنا إلى حيث أتينا ويرسل آخَرِين لمتابعة العمل. حياة يسوع ابتدأت من الجليل وانتهت في أورشليم. فكان في طريقه يمضي أيّامه وحياته في التبشير وصنع الخير لكلِّ محتاج ولايٍّ كان. كذلك مفروض علينا أن نعمل.

 

إنَّ أوّلَ جملة من إنجيل اليوم هي: لمّا حانت أيّام ارتفاع يسوع، عزم على الاتجاه إلى أورشليم، هي دعوة من يسوع لنا، كي نقوم بالخطوة الأولى معه، باتّجاه مدينته المحبوبة. هذا لا يعني أن يسوع كان في الصباح اللاحق قد وصل أورشليم، طبعاٌ لا. هذه كانت بداية الفصل التّاسع، ولمّا وصل إلى أورشليم سنكون في الفصل التّاسع عشر. فبين هذه الفصول، نقرأ ونتابع كيف جرت حياة يسوع وما عمل من خير للبشر على طريقه، وهذا كثير. فهو ما كان يتجاهل طلبا، ولا يترك محتاجا، بدون معالجة وضعه. كان يشفي المرضى، يُشبع الجياع، يسامح الخطأة، أيضاً يتجادل مع أعداء الشريعة، الّذين يستغلّونها لمصالحهم، يُقابل من يحتاج المُقابلة، وإنجيل اليوم يتكلّم عن أربع مقابلات، وهي أكيد لم تجرِ كلُّها في نفس اليوم، بل في أزمان وأماكن مختلفة، لكن الإنجيلي لوقا يذكرُها كلّها متلاحقة. في إحدى المقابلات يقول للمتحدث معه: من وضع يده على المحراث ونظر إلى الخلف، فلن يستحقّني. هو يبقى واقفاً، لكنّه لا ينسى الهدف، وإلى أين هو ذاهب. هو يُرسلنا اليوم، لنقوم بما قام به، إذ نحن معاونوه، فقد عاد من الصعب اليوم العيش كمسيحي والمحافظة على وصايا الله، في عالمٍ ما عاد مسيحيّا بل لا يهمّه ماذا يعني أن أكون مسيحيّاُ.( والمهم هو وضع حياة في حياتنا اليومية، وليس فقط سنينا، قال الدكتور الجرّاح الفرنسي (Axel Carel 1873-1944). فلا يكفي مثلا أن نزور الكنيسة بالمناسبات، وأمّا باقي الآحاد والأعياد فنبقى في البيت، ومن وقت لآخر نحضر قداس الأحد المُذاع، ونحن متمدّدين على الكنباية، بجانبنا مأكولات محبّذة لدينا، وبينها قزازة مشروبنا المُفضّل. الكيان المسيحي أيضا لا يقوم على إعطاء حسنةٍ لفقير أو لمشروع في الكنيسة. الكيان المسيحي يتطلّب تدخُّلَنا والتزامنا بعمل الخير وشهادَتَنا العملية، ليصبح عالمُنا أكثر عدالةً وسلاما. يسوع دعانا جميعا لنتبعه، وهذا لا يعني أن نصبح جميعنا كهنة ورهبانا، ونترك العالم وشأنه، لا، يسوع ما عنى هذا، بل طلب فقط، أن يشهد كلُّ تلميذ له بأعماله، أينما يعيش: في العائلة، في مكان العمل، وأن نعمل كلَّ شيء محبّةً به، وبطريقة تجعل من يرانا يتمثّل بنا. الحق أقول لكم، إن أجركم لن يضيع، إذ أعمالنا، الّتي نقوم بها من مسقط رأسنا الأرضي وإلى أورشليم السّماوية، تابعة لنا، وعنها سننال أجرنا. آمين!