موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٥

إحباط الشيطان

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
كلُّ إنسانٍ صار لأخيه شيطانًا

كلُّ إنسانٍ صار لأخيه شيطانًا

 

كان هناك ناسك متعبد يمضي نهاره في الصلاة والتأمل في صومعته، لا يعرفه أحد ولا يعرف مكان إقامته شبح. لكنه تفاجأ يومًا بزيارة الشيطان متخفيًا بلباس راهب. ما هذه المهزلة؟ قال الراهب لزائره المتخفي. أتفتكر أنك بلباسك الكاذب هذا ستربح نفوسًا أكثر؟ عفوًا، أجاب الشيطان، متهيّبًا. فأنا ما أردت تخويفك بل آتيك بطلب ضروري، وسأكون ممنونًا لك إن ساعدتني به.

 

بلا شك هذه خدعة من خدعك الجديدة، قال الناسك مبتسمًا، وهيأ نفسه بحذر تام.

 

لكنني جادّ بكل معنى الكلمة، قال الشيطان. ألا انظر أيها المتعبّد، إن كلَّ ما يحلم به الشيطان هو التجوّل بين الناس ليغريهم ويلقى له أتباعًا بينهم، ولكن هذا الحلم ما عاد ممكنًا، إذ كلُّ ما كنت أتمنى أن أفعله بنفسي يتم اليوم بدوني. فالبشر أنفسهم أخذوا مكاني اليوم ويقومون هم بالعمل الذي كنت أعرق لعمله. هم مستسلمون لي اليوم بدون أي جهد مني، يتعدّون على وصايا الله بلا انقطاع. يولدون أنانيين من بطن أمهم، يشتهون فقط الدنيويات والخداعات والخيانات. لا يميّزون بين الصالح والخطأ، وكلمة أخلاق صارت معدومة في تصرفاتهم اليومية. وما عاد شيء يفرحهم أكثر من محاربة وقتل بعضهم البعض، يخدعون بعضهم بأرقى الطرق ويكذبون على بعضهم بذكاء خارق، حتى إنَّ الشيطان بكل ذكائه لا يملك مقدرتهم على الكذب. شغلهم الشاغل هو الاستهلاك والمنافع الشخصية، مرادهم التسلّط على النجوم ويستغلون خراب الطبيعة بكل ما في يدهم من وسائل قوة وحنكة.

 

أنا عارف بهذا كله، قال الناسك، فالبشر ما كانوا بعيدين عن الله مثل اليوم. هذا صحيح، قال الشيطان، ولا أحد يستطيع وصف ما يفعلون. لكن هذا كله لصالحك، قال الناسك للشيطان، ويجب أن يفرحك ويسعدك ما تشاهد منهم، فهم لا يفعلون إلا ما يرضيك ويعجبك!

 

لا، إنّ كلِّ هذه الشرور الصادرة منهم لا تعجبني بتاتًا، إذ ما عاد لي فيه أي ضلع، صاح الشيطان غاضبًا، وقد كاد يفقد أعصابه. ففي الماضي، يا رجل الله! كنتُ سعيدًا في وظيفتي، ولو أنني كنت أجد صعوبة وأحتاج إلى جهد جهيد ودائم، لقنص أيِّ ضعيف وإقناعه ليسمع لي، فكان كل البشر يخافون الله. كانوا يسمعون كلمة الله ويعيشون بموجبها. لقد كانت ثقافتهم دينية عميقة قائمة على معرفة الله ومحبّته فكنت أحتاج إلى خِدَعٍ ومراوغات وحيل لإقناعهم، وما كُنت أنجح، بل كانت كلُّ أساليبي تبوء بالفشل معهم. وكم كنت اتهلل وأفرح وأرقص، لمّا كانت محاولاتي تنجح في إقناع فرد واحد كي يترك كلّ شيء ويتبعني. فكنت أفرح فرحا عظيما لهذا النجاح، فهل تفهم هذا؟ وأما الآن يا أيها الناسك، فأنا أوصل إلى أهدافي بدون أن أعمل أي شيء.

 

نعم إن هذا حقيقة مؤلمة ومحزنة، قال الناسك. حتى الشيطان غير راض من هذا الوضع! بالطبع، تابع الشيطان. لذا فأنا أريد أن أناشدك، أن تتوسل لربّك أن يردّ العالم إلى وضعه القديم، فأرجع وأستمتع بوظيفتي. لكن الله خلق البشر بإرادة حرّة، كي يختاروا هم ماذا يفعلون، قال الناسك. هم المسؤولون عن أنفسهم، يقدرون أن يختاروا الخضوع لإلهم أو يرفضوه، هم يختاروا الخير أو الشر كما يطيب لهم، فما لي أن أتدخل في تصميم الله!

 

لكنّني أرجوك رجاء حارّاً: اليوم وقبل أن تخلد إلى النوم، أن تتلو صلاة قصيرة، كي يرجع الناس إلى حالتهم القديمة!... فهزّ الناسك رأسه، وقال: بما أنّك مصرّ، فليكن لك ما تريد! وانسحب الشيطان قليلا إلى الوراء، وحنى رأسه ثم اختفى مثلما أتى!

 

إلى هذه الدرجة وصلنا، قال الناسك في نفسه متنهدًا. حتى الشيطان نفسُه يتشكّى من سوء أحوال البشر! فكما قال المثل: كلُّ إنسانٍ صار لأخيه شيطانًا!