موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

هوذا ملك اليهود!

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
هوذا ملك اليهود!

هوذا ملك اليهود!

 

الأحد الرابع والثلاثون (لو 23: 35-43)

 

هي غريزة متأصّلة في الإنسان الحاكم، أن يستغلَّ الديانة، كما في الإسلام، ويحكم النّاس باسم الله، ليعلنوا له الطاعة الكاملة، فهو كما هو مُتعارف عليه، ليس فقط نائب الله، بل الإله الصغير على الأرض، له يجب الاحترام والتّقدير والطّاعة العمياء. من هنا عبارات التعييش والتّصفيق، عندما يُذكر اسمه في التجمُّعات والسّاحات الشّعبية. فهل نسينا مثلا الاحترام الزّائد للخُميني في إيران، حيث أعلن أنّه المُستنار، أي الّذي دخلت فيه روح نبيه محمّد، التي بها يحكم إيران، لذا كان الشعب يستمع لكلِّ كلمةٍ يقولها أو قانونٍ يُصدِرُه، كأنّه من وحي الله، كان الجميع يُطيعه ويعمل بوجوبه، إذ لا جدال ولا مُقاومة أو مُساومة عليه، الرّافض له، كان عقابه الموت. الكنيسة والعالم المسيحي لها ملكها. فهل المُلك واحد؟ دعونا نتبع قصة هذا العيد من خلال إنجيل لوقا المقرّر لهذا اليوم.

 

منذ اختتام المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) صارت تنتهي السنة الكنسية بعيدٍ عصري، هو عيد يسوع الملك، لتبدأ السنة الليتورجية الجديدة، الأحد القادم، بأول آحاد المجيء الأربعة. أما اليوم فنُلقي نظرة ًإلى الوراء، على 53 أحداً، أي على سنة خلاص كاملة في حياتنا، فيها كرّمنا المسمّى يسوع المسيح ربَّنا، وسمعنا صوته وكلمته، كل أحد. فما بقي علينا إلاّ أن نُقِرَّ ونعترِفَ، بأنّه فعلا ملكُ العالم، إذ به وحده، وليس بواحد غيرِه، أتى الخلاص إلى العالم. "أنا الألف والياء. أنا البداية والنّهاية (رؤيا 8:1). يوحنا يدعوه "الإله القدير" باليوناني، وتعني سيّد الكل، مسامح الكل، إذ هو حامل خطايا العالم. فإذن إعطاؤه لقب ملك العالم هو حق وعدل.

 

أينما درنا وتوجّهنا في العالم، نجد صوراً ليسوع الملك بأشكالٍ وألوانٍ وأحجامٍ لا تُعدُّ ولا تُوصف. أمّا الرّسومات أو التماثيل في الكنيسة الكاثوليكية فهي أكثر وضوحا، إذ تُقدَّمه في أغلب الأحيان، بصولجانٍ في يده اليُمنى والإنجيل مفتوحاُ على يده اليسرى. على صفحة مكتوب جواب يسوع لبيلاطس: إنَّ مملكتي ليست من هذا العالم. وعلى الصفحة الثانية الكلمات: أنا الطريق والحق والحياة، وهناك بديل: أي على الصفحتين الحرفان اليونانيان فقط الألف والياء A und O، (رؤيا 8:1) للدّلالة على أنّه محور حياتنا، في هذه الدّنيا وفي الآخرة.

 

 فهذه الصُور ما هي غريبة على أيِّ مؤمن، بل واللّقب أيضا، ولو أنّه جاء متأخراً في الكنيسة الكاثوليكية، فقط عام 1925 بمرسوم من البابا بيوس الحادي عشر كعيد خاص به. هذا وكان عصر الملوكية في العالم، وآخر ثلاث ألقاب قياصرة قد انتهى، وبالأخص في روسيا وألمانيا، حيث كان لقب القيصر هو المُهيمن منذ عصور.

 

 أمّا الكنيسة الأرثوذوكسية فقد احتفلت به منذ عام 1453 في القسطنطينيّة، إذ كانت هذه المدينة مركز مجلس القيصر الروماني في الشرق. فلمّا انتهى وقته، احتفظ الأساقفة برموز القيصر، وهي معطفه، الذي مع الوقت اختفى وأبدلوه بالبطرشيل والتّاج. القيصر كان يَعتبر نفسه مُمثِّل الله على الأرض، فاحتلّت ملابس الأساقفة الرسميّة، أثناء الاحتفال بالطقوس الدينيّة، رمز السلطة التي زالت مع زوال القيصر.

 

فماذا أرادت الكنيسة بإعلان هذا العيد أن تقول للعالم؟ الجواب نجده في نفس منشور إعلان هذا العيد، من البابا بيوس الحادي عشر، قال: هذا الإعلان يأتي في وقت فراغ الملوك حوالينا، الّذين أحدثوا بلابل في العالم، واليوم نستطيع أن نُظهر ملكا مسالماً، حيث ملكه يقوم على السلام والعدالة والمحبّة والوحدة. فالكنيسة ما أرادت تدخُّلاً سياسيّاً، بل أرادت أن تُظهِر أيُّ ملكٍ سيخلف الملوك، الّذين خرّبوا العالم وتنحوا أو اندثروا. فعلى مبادئِ أيِّ ملك يُمكن بناءُ العالم الجديد، إن لم يكن على مبادئِ مَلِكِ الملوك قاطبة، أي يسوع المسيح، صاحب سلطة بشريّة الّذي هو لا يُقارن بالملوك البشريّين وأغلاطِهِم بل ومظالمهم. فالكنيسة أرادت أن تُري العالم، حاكماً، لا سواد فيه، يَبني على السلام الدائم، لأنّه من فوق، لا ضُعف فيه ولا يعر ف الأزمات الماليّة ولا التّقلُّبات بل الاستقرار، والعدالة والحرّيّة والنظام الدّاخلي والخارجي، لكن أيضا وقبل كلِّ شيء التّسامح والسلام.

 

العهد القديم يتكلّم عن 40 ملِكاٌ، حكموا إسرائيل، لكنّه يستثني ثلاثةً فقط منهم، كانوا صالحين، وأمّا الباقون فكلُهم قطعوا العهود مع يهوى ووصاياه، لذا انقسمت ممالكهم، فجاء الرّومان واستعمروا البلاد، وأذلّوا أهلها مثلما نعرفها لمّا جاء يسوع. فكان اليهود يأملون بمجيءِ مُنقِذٍ سياسيٍّ، أو مَلِكٍ، يُعلن الحرب على المستعمر، ويُنقِذُهم من وطأته، بطردٍه من الأرض، إذ في التّوراة الّتي كانوا كلُّهم يعرفونها، كان الكلام عن رجلٍ قدير، وعادل وصالح وحكيم. فلمّ جاء يسوع ودخل أورشليم بذاك الاحتفال، الّذي شابه بعُنصُرِه احتفال القادة والملوك الظّافرين، عندما كانوا يعودون ظافرين من الحروب، افتكر اليهود انّ ساعة خلاصهم قد اقتربت، وأنّه هو الّذي سيقود الشّعبَ، لمقاومة الرّومان. لكن آمالُهم خابت، عندما نادى يسوع بالتّخلّي عن القوّة، وإبدالَها بمحبّة الأعداء والتّسامح، لذا أعلن اليهود سُخطهم عليه بل رفضوه وأسلموه هم لأعدائِهم الرّومان للتّخلِّص منه، بأشنع عملّية صلبٍ عرفها التّاريخ. لذا فاستهزاءً بهذا الشعب وبيسوع نفسِه، أمر بيلاطس بكتابة لوحة فوق رأسه على الصّليب، مُعلِناً عليها سببَ صلبه، وهو: يسوع النّاصري ملكٌ اليهود! غيرَ مُكترثٍ لاحتجاج اليهود عليه. وهذا مقضب من بيلاطس على الطّرفين، أي على اليهود، الّذين كان في بالهم المناداة بملك لمقاومة الاستعمار، وعلى يسوع نفسه، كي يُبرِّرَ موقفَه، أمام رئيسه القيصر أغسطس في روما، فهو سبب كافٍ لتبرير صلب هذا المتمرّد على السلطة، إنْ حدثَ منه ايُّ احتجاج على صلبه. هذا ونحن نعرف، أن تلاميذه أوّلا افتكروا بأنه سيؤسّس ملكوتا على الأرض، فطلبوا منه ألا ينساهم عند توزيع الوظائف في هذا الملكوت. وآخرون، كانوا يريدون المناداة به ملكاَ بعد أُعجوبة تكثير الخبز. وهذا كان في شمال البلاد، أي بداية المُقاومة ضد الاستعمار، واستقطابِ جيشا للصّعود إلى أورشليم وبداية الثورة، التي كانت من وقت لآخر تتكرّر، وفي إحداها قُبِضَ على برأبّا، رئيسِها، فأُلقي في السجن، لكن بالتالي أطلق بيلاطس سراحه، طَلَباً من الشعب، وأسلم يسوع البريء من الثورة للصلب فداءً عنه. ويا للعجب، بعد سنة من هذا الحدث، إذا يسوع يقف أمام كرسي الحاكم بيلاطس، وأمام الشعب المخذول، لأنه، أي يسوع، لم يقبل أن يصير ملكاً، فسأله بيلاطس: هل أنت ملك؟ فيجيبه يسوع: نعم، أنا ملك! لكن مملكتي ليست من هذا العالم. يسوع يُعلن نفسه ملكاً، ليس في بداية حياته العلنية، ولكن ساعاتٍ فقط قبل الحكم عليه بالموت. وعلى الصليب يستهزئ به الجنود، حانين الرّؤوسَ والرُّكبَ أمامه قائلين: السّلام يا ملك اليهود!... إن كنت ملك اليهود، فانزل عن الصليب حتّى نؤمن بك! أمّا يسوع فلم يقع في هذه التجربة المغرية، كما لم يقع في أي تجربة سابقة. وهنا على الصليب، من سيدخل في ملكوته: أعني الخطأة الّذين يتوبون، كلص اليمين: اليوم ستكون معي في ملكوتي

 

الآن نفهم كلماتِه: نعم أنا ملك، لكنَّ مملكتي ليست من هذا العالم، إذ معايير مملكته تختلف عن معايير ممالكنا الأرضية. هو لا يريد استغلال السّلطة، ولو كانت سلطةُ المُلوكِ بيده. فالسلطة له تعني محبّة، خدمة: لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدُم، ويبذل نفسه عن الكثيرين.

 

فهذا هو محتوى عيدِ اليوم. يسوع يُعلن نفسه ملكاً في آخرِ حياته، ويعني ماذا تعني السلطة للملك، وهي خدمةٌ وبذلُ الذّات عن أتباعه وليس العكس: إذ ليس حبٌّ أعظمُ مِن أن يموت الإنسان عن أحبائه. الكنيسة تحتفل بهذا العيد يوم الأحد الآخير من السّنة الليتورجية. وهذا العيد يريد أن يقول لنا، إنّ حُكْمَ الله ليس بالتّاج والصولجان والسيف، كحكم الملوك الأرضيين، لكن بالمحبّة والخدمة والسلام. إن مُلكَه عليه طابع المُلك النّهائي، أي مُلكاً وافياً شاملاً، أي يملك على كلَّ شي وعلى كلِّ مخلوق، وهو يملك على كلِّ شيء بسلطة الله أبيه. يملك على قلوب كلِّ البشر، فيعُمَّ ملك الحق والعدالة والمحبّة والسّلام بين البشر أجمعين. فبوسعنا أن ننشر هذا الملكوت، بحيث نحن نصبح رُسُلَ سلام وإحلال السّلام حولنا. أما نصلّي: ليأتِ ملكوتُك؟ لكن هذا الملكوت فقط بواسطتنا، نحن عُمّاله.

 

ففوق كل التغييرات السّياسة والدّاخلية في الكنيسة الشرقيّة، ما هي إلا الاعتراف بالحقيقة، أي أنَّ المسيح وحده، هو الملك الحقيقي، ولو أنَّ اللّقب ملك ليسوع، هو مُضلِّل لكنَّه في الحقيقة لا علاقة له مع دور الملك الأرضي، كما وهذا أيضا ما أوضحته الكنيسة، فهو فقط لقب لُغوي بِدورٍ مُختلف، إذ الملك فقط كان ينتصر في الحروب ويخلِّص شعبه. وهذا هو معنى يسوع الملك، ليس بسلطة وحروب، لكن بطريق الخلاص وانتصاره على الشّر والموت. أين شوكتك يا موت

 

فليحيا ملكنا يسوع. وليملك حبُّه علينا من الآن وإلى الأبد.

 

 

أيها القرّاء والمستمعون الأعزاء!

 

أنا هو من تسمّيه إذاعة مريم يوميًا منذ 6 سنوات بلا انقطاع، الأب ايمانويل بدر. الذي كنت أوافيكم يوميًا، أوّلا بمقطع شعري من الإنجيل من تأليفي، وبكرزة آخر الأسبوع، للطقس اللاتيني. بهذه الكرزة أنهي عملي الفخري مع إذاعة مريم، (وأيضًا مع صفحة أبونا) إذ ما اشتغلت لمال بل للتبشير العلني مجّانًا، وآخذ سنة سبتية للراحة والتأمل. إذ من الصعب أن تعرفوا، كم أخذ مني ذلك من جهد ومثابرة، وتنشيط لنفسي، بل كم من ساعات تأمل وصلاة وقراءة وبحث في مجلدات علمية دينية لاهوتية تصفّحت، قد احتجت، لأعدّ لكم ما سمعتموه/ أو قرأتموه مني من 6 سنوات في راديو مريم. من ناحية أخرى هكذا بقيت مرتبطًا في عالم الثقافة ليس فقط الدينية بل والعامّة لقد كانت وصارت وستبقى كلمة الله لي، قوتي وسندي، وقد قدّمت عنها في حياتي اليومية وكلامي وأمثالي، شهادة حيّة، حاولت أن أوصلها لكم. هذا وقد حاولت طيلة هذه المدة أن أبقى وإياكم على اتصال مع كلمة الله الحية، التي شهدتُّ لها علنا وفسّرتها لكم بكرزاتي الأسبوعية كما فهمتها وعشتها. فأرجو أن أكون قد أفدتكم بعض الشيء في تقوية إيمانكم بما سمعتم مني.

 

كلمة آخيرة! أشكر كل من سمع لبعض إن لم يكن لكل كرازاتي طيلة هذه السنين الست الماضية، أو قرأها وتأثّر بهذه أو تلك الفكرة منها. أشكر جميع العاملين في راديو مريم اللغة العربية، وعلى رأسهم السيد داؤود سمعان، الذين شجعوني، منذ البداية، منذ أن تعرّفنا على بعضنا، للمساهمة بدعم برنامج راديو مريم، بعملي الديني الروحي، وبنشر هذه المخطوطات القيّمة، بالنسبة لي، لتبقى تشهد لي في هذا العالم. إذ المخطوطات تبقى مرجعا للتاريخ. كما وأشكر صفحة أبونا والعاملين فيها، الذين أيضا شجعوني منذ البداية لإغناء صفحتهم بمواضيع إيمانية كثيرة. هذا وسأقوم بنشر هذا الكرزات كاملة، وتوزيعها مجانا للإفادة والاستفادة. لكم جميعا أتمنى بركة وحماية ملكنا يسوع، الذي نحتفل اليوم بعيد ملكه. كما وأطلب لي ولكم حماية أمنا مريم التي مجّدتها أنا في أكثر من 25 قصيدة، أذيعت كلها في هذا الراديو، الذي يحمل اسمها. استودعكم الله ورحمته! صلوا لي كما أنا أصلي لكم.