موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

هذا الرّجل هو أيضًا ابن إبراهيم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
زكا العشّار

زكا العشّار

 

الأحد الحادي والثلاثون (الإنجيل لو 19 1-10)

 

كم من مدينة، كم من قرية وكم من شارعٍ جاب يسوع في الثلاث سنين الماضية على قدميه وهذي هي المرّة الثانية المذكورة، وستكون سفرته الآخيرة، إلى مدينته المحبوبة أورشليم، حيث ستكون نهايته. وصل يسوع إلى أريحا حيث كانت جموع غفيرة ترافقه، إمّا حواليه تسير معه، أو مصطفّة على الشارع، تريد رؤيته أو لمس معطفه. عيون هذه الجموع، كانت شاخصة إليه لترى هذا الإنسان الغريب العجيب، وكلّها آذان صاغية، لتسمع أقواله وكلماته، التي ما نطق إنسان بمثلها. والأهم من ذلك، كلّهم أمل أن يعيشوا أعجوبة جديدة منه. أمّا هو فيبدو وكأنّه لا يرى إلاّ رجلا واحدا، قامتُه أقصرُ مِن صيته، إذ كما وصفه الإنجيل كان معروفا من الكل، اسمه زكّا، كان رئيس جباة المال من شعبه للمستعمِر. تسلّق الشجرة ليس فقط لأنه كان قصير القامة، فهذا قد يعني أنّ كلّ قصيريّ القامات يحب أن يتسلّقوا هم أيضا على الشجر في كلّ المناسبات التي تحدث، لكنه تسلّق على الشجرة أيضا خجلا من شعبه، الذي كان يكرهه لوظيفته المشبوه فيها. هذه الوظيفة كانت مهنة تُشترى، أي تُطرح في المزاد العلني، وبقدر ما كان يدفع الشاري للمُحتل الرّوماني، كان يحصل عليها، وبقدر جهوده وكمّيات المال الضرائب التي يجلبها كان يترقّى إلى الأعلى: فها زكّا كان قد توصّل إلى لقب رئيس الجباة. طبعا هو كان دفع المبلغ المطلوب وحصل على هذه المهنة. وهي تجعل منه أوّلاً إنسانا غنيّاً، وثانيا سارقا علنيّا، وثالثا كذّاباً مرفوضا ومرذولا من جميع الشعب، لأنّه يأخذ منهم المال ويعطيه للمستعمِر، وهذا كان أكبر عار، إذ ذلك كان يعني التّعاون مع المُستعمِر والاعتراف به! زكّا كان عارفاً بالوضع وتحمّل مسؤولية حاله واللوم على نفسه، مقابل المال الكثير، الذي كان هو يفرضه ويقع في يده، لا حسب قوانين ومعلومات واضحة، تحدِّد صلاحيّته، يسلِّمُ قسماً منه للمستعمِر، والباقي لجيبه الخاص. أمّا وكيف كان الجابي يُجمّع الضرائب، فكان ذلك بيده هو، وبلا ضمير يحصّلُه من أصحاب الدّكاكين، على مفترقات الطرق، على مداخل القرى والمدن والجسور. لذا كان الناس عندما يشاهدون الجباة، يتحاشون المرور من قدامهم، حتّى ولا يسلِّمون عليهم لئلا يوقفونهم ويروا ما في جيوبهم. فهكذا كان الجباة من أغنياء زمانهم، على حساب غيرهم.

 

أن يكون يهوديٌّ جابياً، فذاك كان يعني أنه انضمّ للمستعمر ضدّ شعبه، لجمع المال من الشعب للحاكم، وهذا لم يكن مقبولا، لا من الكهنة ولا من الشعب. لذا كان زكّا وأمثالُه مكروهين من الشعب كلِّه، وكانت هذه الوظيفة من أكره الوظائف، وصاحبها لا يتمتّع بسمعة طيبة، إذ هي تآمر ومؤامرة على الشعب. أمّا بالنّسبة للرّومان، فيبدو أن زكّا كان من أخلص الموظّفين لهم، حتّى أعطوه لقب رئيس الجباة. لا رقيب عليه بل هو المراقِب الأعلى، لا يحتاج إلى مشورة، كيف يجمع الضرائب من شعبه. المهم أنه كان مكروهاً من كلِّ صفوفهم. وكانوا يعتبرونه من أكبر الخُطاة، ومحروما من رئيس الكهنة، فلا يجوز الاختلاط به. فمبدئيّاً كان لقاءُ يسوع وزكا غير ممكن، بل لنقل مستحيلا. لكن ما قام به زكّا فقد سهّل اللقاء

 

مَرَضُ زكّا ما كان جسديا بل نفسيا.  نعم كل هذه الصفات كانت تنقصه. فبالمقابل يمكننا أن نتصوّر، كم كانت فرحته كبيرة، عندما رأه يسوع وقال له، انزل! فأنا أريد أن أكون اليوم ضيفَك. هذه الجملة هي مُختصر ما سيحصل لاحقا. هذه الدعوة كانت كالصاعقة لليهود، حيث كان مستحيلا مخالطةُ الجابي المحروم، كذلك التّلاميذ، الذين كانوا أصلاً يهودا. فتذمّروا كلّهم...(لو 7:19) إنّ هناك لحظات أو مُقابلات في الحياة لا تتنسى، لأنّها تُغيِّر مجرى الحياة

 

فمن يفتكر أن هذا اللقاء لربّما يُغيّر من موقف الفريسيين، هو مخطئُ الظن، إذ موقفهم بقى هو هو، أي التّذمر عليه، إذ من جلس مع الخطأة هو نفسه خاطئ، هذا كان تفكيرهم وسيبقى "هو يُجالس الخطأة ويأكل معهم". ممكن أن نقول هذا، عن أيّ واحد يجلس مع الخطأة، لكن هل نقدر أن نقول هذا الشيء عن يسوع، الّذي كان مشابهاً للبشر في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة؟ لماذا اختار يسوع هذا الموقف؟ هو أعطاهم الجواب فوراً: هم ليسوا الأصحاء الذين يحتاجون إلى طبيب، لكن المرضى. إنَّ فكر يسوع هو غير فكر المحتجّين. فهو يبرهن لهم أن ليس كلَّ الشعب، كما يدّعون، هم المختارين، لأنّهم أبناءُ إبراهيم، بل أيضاً بينهم خطأة. فكم وكم مِنهم، مَن كان رؤساء الكهنة قد طردهم، بسبب خطيئة شخصية. وبالنسبة للاعتقاد الساري، كان المطرود من الشعب على الأرض هو أيضا مطرود من الخلاص الأبدي. فلمثل هؤلاء جاء يسوع. الحقَّ أقول لكم، إنه سيكون فرح بخاطئٍ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى التوبة. "إن ابن البشر قد جاء ليفتش عن الضائع ويخلِّصه (لو 10:19).

 

لقاء زكّا هذا بيسوع قد غيّر كلَّ حياتِه وكلَّ تخطيطِه. وهذا واضح. فمَن اختلط بالمخلّص يجب أن يخلص. وما جرى من حديث مع يسوع وهذا الجابي، يُبرهِن ذلك. فها زكا، على غناه الفاحش، ما كان وجد راحة البال في المال، بل كما يظهر، هو يريد أن يرجع مادّيا فقير، لكن غنيّاً بنعمة الله، لأنّه أحبّ يسوع كثيرا. هو الآن يريد أن يُقاسم ما يملك، بدل أن يجمع ويُكدِّس: إني أعيد أربع أضعاف لم ظلمتهم، وهكذا هو يعود من جديد ويُصبحُ ابنا لإبراهيم. فكما قال بطرس ليسوع: على كلمتِك أُلقي الشبكة، فاصطاد كثيرا. كذلك زكّا أجاب على كلمة يسوع، فنزل من الشجرة وأصبح إنسانا جديداً

 

هذه حالة يسوع، هو يُفتِّش عن الضائعين. إنَّ ابني هذا كان ضائعاً فوُجِد. نعم عاد إلى البيت الأبوي. إنَّ ابنّ البشر قد جاء ليُفتِّش ويُخلِّص ما فُقِد (لو 19:10). قصّة يسوع هذه مع الجابي اليوم باشرت بالمشاهدة وجهاُ لوجه. رئيس الجباة مشتاق لمشاهدة يسوع، ولأنّه قصير القامة، تسلّق على شجرة، لذا فهي قد أصبحت من إحدى مشاهير القصص مع يسوع، التي تبقى عالقة في الذّاكرة. الحابي ينظر من فوق إلى تحت، بعكس يسوع فهو ينظر من تحت إلى فوق. ذاك يرى يسوع بعين الجسد، وأمّا يسوع، فيرى العشّار بعين القلب، قال صاحب المزامير (مز 22:44) هو يشاهد في قعر قلبنا". يسوع يرى خلف فضولية العشار ومقصدِه، السّببَ الذي دفعه لهذا التّصرّف. يسوع يرى قلق العشّار وعدم رضاه عن نفسه وتصرّفاته، رغم ماله الكثير وسلطته بل وجبروته في مكان عمله. يسوع يريد تغيير حياة هذا الرّجل، وحيث جاء يسوع أو مرّ، فهو يجلب الخلاص معه: "كان يصنع الخير حيثما مرّ"، قالت الأناجيل. هو كان يُعامِل الكلَّ هكذا، وليس فقط هذا الحابي لأنه ابنُ إبراهيم. فأن يكون الإنسان ابنَ إبراهيم أو من نسله، هو ليس اختيار شخصي، إذ لا أحد يقدر أن يختار أهلاً كما يُريد. إن يسوع في خطاباته وأقواله، لا يتحيّز لفئة مُعيّنة، بل هو كلٌّ للكل، لكلِّ الأجيال ولكلِّ الأزمنة. فما من إنسان محروم من مواعيده، الّتي أعطاها للآباء والتي بمجيئه راحت تتحقّق أوّلا بأوّل. وممّا لا شكَّ فيه، أنَّ لوقا يذكر هذه القصة وفي باله أن يقول، إن السّماء هي ليست فقط للفقراء، كما عنى يسوع:" طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السّموات"، بل وأيضا للأغنياء، لأن وعود الله بالخلاص سارية المفعول للطّرفين، ويسوع بنظر إلى القلب ويقدِّم الخلاص والحياة الأبديّة لكلِّ إنسان، حتى لؤلئك الّذين يريدن وجود الحياة بعيداُ عن الله. فإرادته جائزة حتّى للّذين نفتكر أنّهم ليسوا أهلاً للحياة الأبدية: اليوم أريد أن أكون ضيفاً عندك. يسوع اختار هذا الخاطئ، لأنّه كان يعرف أنّه قريبا من التوبة: "وقف زكا قدام يسوع وقال: يا رب، ها إني أُعطي الفقراء نصف أموالي، وإن كنت قد ظلمت أحدا شيئا، أردُّ عليه أربعة أضعاف (لو 8:19). فتغيّرت طريقه، تغيّر اتجاه حياته. بكلمة تاب. فقال يسوع كلمته: اليوم حصل خلاص لهذا البيت (لو 10:19).

 

حسب التقليد، إنّ زكّا أصبح فيما بعد مرافقاً لبطرس، وأن بطرس قد أقامه أُسقفاُ على القيصرية ذاتِ الشاطئ الجميل، فابتدأت القيصرية تلعب دورا كبيرا في المنطقة. لوقا، كتب لنا قصّة زكا، الّتي كانن سمعها من فمه في القيصرية، إذ لوقا أيضا كان يقيم في القيصرية ويسافر من هناك إلى الرعايا المجاورة.

 

نعم، يسوع يريد أن يكون دائما ضيفاً حيث الحاجة للخلاص، بل للتفتيش عن الخروف الضائع في ملكوته. لذا فهنو يترك ال 99 الآخرين ليفتّش عن الواحد. ففي قصة هذا الجابي يترك يسوع الجماهير ويلحق هذا الواحد، الذي هو بحاجة للخلاص. هو لا ينسى ال 99 لكن عنده أولويّات. يسوع يرى أنَّ هذا الواحد هو بحاجة له أكثر من ال 99 الباقية. فبالتالي زكّا هو كل واحد منّا، يريد أن يرى الخلاص الّذي قدّمه يسوع لزكّا. لكن المهم هو الاستعداد الدّاخلي، الذي شعر به زكّا حتى طلب رؤية يسوع وإضافته في قلبه. فهو ما أفاده لا غناه ولا سلطته ولا وشهرته ولا انحداره من دم إبراهيم. فما من شيء من هذا، هو الذي جاب له السعادة، إذِ الإنسان لا يعيش من الخبز وحده بل من كلّ كلمة تخرج من فم الله؟ لقد خلقتنا لك يا رب، ولن يستريح قلبنا إلا فيك. آمين