موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٩ يوليو / تموز ٢٠٢٠

هاجيا صوفيا: ما بين المطامع السياسيّة والأمنيات الدينيّة

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك، حاصل على درجة الدكتوراة في اللاهوت العقائدي من الجامعة الحبرية "الأوربانيانا" بروما، ويدرّس حاليًا في العاصمة الكولومبية بوغوتا

د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك، حاصل على درجة الدكتوراة في اللاهوت العقائدي من الجامعة الحبرية "الأوربانيانا" بروما، ويدرّس حاليًا في العاصمة الكولومبية بوغوتا

 

إنّ الكاتدرائية البيزنطية "هاجيا صوفيا"، إحدى التحف المعمارية المسيحية والإنسانية الباقية من الزمن المنصرم، تُعدّ اليوم حائرة ما بين المطامع السياسية الأردوغانية (نسبة إلى أردوغان) والأمنيات الدينية الإسلامية (نسبة إلى "الإسلاميين" و"الإسلام السياسي"). فمن جهة، يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستعمال الدين الإسلامي في مطامعه وأغراضه السياسية (لخدمته وخدمة انتخاباته ومشروعه ومشروع أنصاره، وتحويل الأنظار عن الأوضاع الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة والسياسة والاقتصاد). ومن جهة أخرى، يحاول تيار "الإسلام السياسي"، كما فعل دائمًا، اللجوء إلى السياسة من أجل البلوغ إلى أمنياته وطموحاته التي يطلق عليها "دينية" و"نصرة للإسلام".

 

فنحن إذًا أمام إيديولوجيتين معاصرتين؛ الأولى تقوم باستخدام خسيس ورخيص للدين وتتلاعب به في سبيل مطامعها السياسية؛ والثانية تتجه إلى توظيف السياسة والاحتماء بها بغرض فرض مفهوم سياسي معين تلصقه بالإسلام. وعلى رغم الاختلاف في التوجه لهاتين الإيديولوجيتين، إلا أنّ العامل المشترك بينهما هو الأهداف الشخصية والجماعية والحزبية.

 

فعلى إخواننا المسلمين المُؤمِنين والعقلاء والشرفاء ألا يقعوا في فخ تبرير السِّياسات الأردوغانية ومزامع "الإسلام السياسي". ففي رأيي الشخصي، إنّ ما يقوم به هذا الرجل وهذه الجماعات لا ولن يفيد الإسلام والمسلمين بشيء. فبينما أردوغان يريد أنْ يروّج لنفسه أمام أنصاره من المسلمين على أنه "الضد-أتاتورك العلماني" و"خليفة المسلمين المعاصر"، وعلى أنه ينصر "المشروع الإسلامي"، تقوم جماعات "الإسلام السياسي" بدفع الإسلام نحو التفسير العنيف والاستعماري. ولكنني أعتقد أنه في جعبة الإسلام والمسلمين المُؤمِنين الكثير من النصوص والمواقف والأفعال التي تدعو إلى السلام ونبذ العنف والتعايش بين البشر وأتْباع الأديان الأخرى. فيمكن للكثيرين من المسلمين المُؤمِنين والعقلاء والشرفاء الوقوف ضد هذا الرجل وهذه الجماعات، ومناهضة أفعالهم. فليعطينا إله السلام والمحبة سلامه ومحبته لنا ولأوطاننا.

 

وعلى صعيد آخر، عندما قال البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إنه يفكّر في "هاجيا صوفيا" ويشعر بالألم، لم يقصد على الإطلاق أنه يرفض الأمر بسبب عبادة إله آخر وخطأ من قبل إخواننا المسلمين؛ وإنما - في اعتقادي- هو يرفض التلاعب بالدين واستعماله بشكل خسيس ورخيص في أمور سياسية خاطئة واستعمارية واستبدادية، ويرفض أيضًا عدم احترام الأديان الأخرى وأتْباعها، ويشجب التصرف غير الحضاري الذي قام به أردوغان في خضون القرن الحادي والعشرين. فيكفي هنا العودة إلى المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥)، لنتذكّر معًا ما تعلّمه الكنيسة الكاثوليكية بشأن الإسلام والمسلمين، وموقفها تجاه "إله الإسلام": «تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي، القيّوم، الرحمن القدير، فاطر السماوات والأرض الذي كلّم الناس. إنهم يجتهدون في التسليم بكلّ نفوسهم لأحكام الله وإن خفيت مقاصده، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه. وبرغم أنهم لا يعترفون بيسوع إلهًا فإنهم يكرّمونه نبيًّا ويكرّمون أمّه العذراء مريم ويذكرونها في خشوع. ثُمَّ إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس عندما يبعثون أحياء، من أجل هذا يقدّرون الحياة الأدبيّة ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم. ولئن كان عبر الزمان قد وقعت منازعات وعداوات بين المسيحيّين والمسلمين، فإن المجمع يهيب بالجميع أن ينسوا الماضي، وأن يجعلوا، باجتهاد صادق، سبيلًا للتفاهم فيما بينهم، وأن يتماسكوا، من أجل جميع الناس، على حماية وتعزيز العدالة الاجتماعيّة والقيم الأدبيّة والسلام والحرية» (وثيقة "في عصرنا"، تصريح حول "علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية"، بند 3).

 

وأخيرًا، إنه لمن الأفضل إعادة قراءة «وثيقة "الأخوة الإنسانية" من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» (التي وقّع عليها البابا فرنسيس وشيخ الأزهَر أحمد الطيب، في العاصمة الإماراتيّة أبوظبي، في فبراير 2019)، وتذكّر ما تحتويه من تعاليم قيّمة: «باسمِ اللهِ وباسمِ كُلِّ ما سَبَقَ، يُعلِنُ الأزهَرُ الشريفُ - ومِن حَوْلِه المُسلِمُونَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها - والكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ - ومِن حولِها الكاثوليك من الشَّرقِ والغَرْبِ - تَبنِّي ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا. إنَّنا نحن - المُؤمِنين باللهِ وبلِقائِه وبحِسابِه - ومن مُنطَلَقِ مَسؤُوليَّتِنا الدِّينيَّةِ والأدَبيَّةِ، وعَبْرَ هذه الوثيقةِ، نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ. ونَتَوجَّهُ للمُفكِّرينَ والفَلاسِفةِ ورِجالِ الدِّينِ والفَنَّانِينَ والإعلاميِّين والمُبدِعِينَ في كُلِّ مكانٍ ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان [...] إنَّ هذه الوثيقةَ، إذ تَعتَمِدُ كُلَّ ما سبَقَها من وَثائِقَ عالَمِيَّةٍ نَبَّهَتْ إلى أهميَّةِ دَوْرِ الأديانِ في بِناءِ السَّلامِ العالميِّ، فإنَّها تُؤكِّدُ الآتي:  [...] - أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ، وكلُّ محاولةٍ للتعرُّضِ لِدُورِ العبادةِ، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجيرِ أو التهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدوليَّةِ».