موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٥

البابا لاوُن الرَّابع عشر وقضيّةُ السَّلام

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
البابا لاوُن الرَّابع عشر وقضيّةُ السَّلام

البابا لاوُن الرَّابع عشر وقضيّةُ السَّلام

 

ثمّة موضوعٌ مركزيّ، قد بَرَزَ جليًّا في الشّهور الأُولى من حَبريّة البابا لاوُن الرَّابع عشر، ويبدو أنّه سيكون محوريًّا بالنّسبة لشخصيّته وحَبريّته، أعني "السّلام" بأبعاده المتنوعّة. إنّه محورٌ يلخّص ويختزل المحاور الأُخرى كلّها في حَبريّته؛ وهو هاجسٌ لقداسة البابا منذ اليوم الأوّل لاختياره. ولا غرابةَ في ذلك، فمسيحُنا هو "ملك السّلام" و"مبشّر بالسّلام" و"صانع السّلام"؛ والمسيحيّون –على غرار ملكهم وربّهم ومعلّمهم– مدعوّن ليكونوا مسالمين و"صانعي سلام". وعلى نحوٍ آخر، فإنّ عَالَمنا المعاصر في أَمَسِّ الحاجة إلى السّلام المجرَّد والمجرِّد من السّلاح، والحقيقيّ والعادل والشّامل والدّائم.

 

في بركته الأُولى لمدينة روما وللعالم (8 مايو/أيَّار 2025)، توجّه البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى الأشخاص المجتمعين في ساحة القدّيس بُطرس بروما، ومن خلالهم إلى البشريّة جمعاء، بهذه الكلمات: «السّلام لكم جميعًا! أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، هذه هي التّحيّة الأولى التي قالها المسيح القائم من بين الأموات، والرّاعي الصّالح، الذي بذل حياته من أجل قطيع الله. أودّ أنا أيضًا أن تصِلَ تحيّة السّلام هذه إلى قلوبكم، وإلى عائلاتكم، وإلى كلّ النّاس، أينما كانوا، وإلى كلّ الشّعوب، وإلى كلّ الأرض. السّلام لكم! هذا هو سلام المسيح القائم من بين الأموات، إنّه سلام مجرَّد من السّلاح، وسلام يُجرِّدُ من السّلاح، ومتواضع ومثابر. إنّه سلام يأتي من الله، الذي يحبّنا كلّنا من دون شروط».

 

نحن جميعًا في أَمَسِّ الحاجة إلى سلام القلوب والأشخاص والعائلات والمجتمعات والدّول؛ ولكن، ماذا يعني "السّلام"؟

 

ينبغي لنا –كأشخاص وشعوب وكنائس وأديان– ألاَّ نكتفي بتعريفه سلبيًّا؛ وإنّما مطلوب منّا البلوغ –نظريًّا وعمليًّا– إلى أبعاده ومعانيه الإيجابيّة. فكلمة "السّلام" «قد نعتبرها مرّاتٍ كثيرة بصورة "سلبيّة"، فتعني مجرّد غياب الحرب والصّراع [...] لذلك، يبدو السّلام هدنة بسيطة، أو فاصل راحة بين معركة وأخرى، لأنّه، مهما اجتهدنا، تبقى التّوتّرات حاضرة دائمًا، مثل الجمر تحت الرّماد، جاهز لأن يشتعل في كلّ وقت. في المنظور المسيحيّ –وفي خبرات أديان أخرى أيضًا– السّلام هو أوّلًا عطيّة: أوّل عطيّة أعطانا إياها السّيّد المسيح: "سَلامي أُعْطيكم" (يوحنّا 14، 27). وهو عطيّة فعّالة، تُشرك الآخرين، وتهتمّ وتُلزم كلّ واحد منّا، بغضّ النّظر عن خلفيّته الثّقافيّة أو انتمائه الدّينيّ، وتتطلّب أوّلًا أن نعمل لنبدِّل أنفسنا. السّلام يُبنى في القلب وابتداءً من القلب، باقتلاع الكبرياء والانتقام، ويضبط اللسان، لأنّه يمكننا أن نجرح ونقتل بالكلام، ليس فقط بالسّلاح».

 

أجل، إنّ «السّلام يبدأ من داخل كلّ واحد منّا: من الطّريقة التي ننظر بها إلى الآخرين، والتي نصغي بها إليهم، ونتكلّم عليهم. وبهذا المعنى، فإنّ الطّريقة التي نتواصل بها لها أهمّيّة أساسيّة: يجب أن نقول "لا" لحرب الكلمات والصّور، ويجب أن نرفض منطق الحرب». وفي عَالَمٍ مجروح بسبب العنف والنّزاعات، عبّر البابا لاوُن الرَّابع عشر أمام ممثِّلي الكنائس الأخرى والجماعات الكنسيّة والأديان والتّقاليد الديّنية الأخرى (19 مايو/أيَّار 2025)، عن يقينه بأنّنا «إن كنّا على وفاق وأحرارًا من مسايرة الأيديولوجيّة والعوامل السّياسيّة، أنّنا سنكون قادرين على أن نقول بفعّالية "لا" للحرب و"نعم" للسّلام، و"لا" لسباق التّسلّح و"نعم" لنزع السّلاح، و"لا" لاقتصاد يُفقِر الشّعوب والأرض و"نعم" للتنمية المتكاملة». ولرُبّما «الرّياضة هي طريق لبناء السّلام، لأنّها مدرسة احترام ونزاهة، تعزّز ثقافة اللقاء والأخوّة».

 

أثناء "صلاة الملاك" ("إفرحي يا ملكة السّماء")، في عِيد جسد الرَّبّ ودمه الأقدسَين (22 يونيو/حزيران 2025)، وفي سياق مآسِي الحروب والصّراعات والنّزاعات في أرجاءٍ عديدة من المعمورة، عاد البابا لاوُن الرَّابع عشر ليؤكّد من جديدٍ على أهمّيّة السّلام المنشود، المجرَّد والمجرِّد من السّلاح:

 

«اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، الإنسانيّة تصرُخ وتَطلُب السّلام. إنّه صراخٌ يتطلّب تحمّل المسؤوليّة والتعقّل، ويجب ألّا يَخنقه ضجيج الأسلحة والكلام الرّنّان الذي يحثُّ على الصّراع. كلّ عضوٍ في المجتمع الدّوليّ عليه مسؤوليّة أخلاقيّة، لأن يُوقِفَ مأساة الحرب قبل أن تتحوّل إلى كارثة لا يمكن توقيفها. لا توجد صراعات "بعيدة" عندما يكون الإنسان وكرامته هو المهدّد. الحرب لا تحلّ المشاكل، بل تُضاعفها وتخلّف جراحًا عميقة في تاريخ الشّعوب، تستغرق أجيالًا لتلتئم. لا يُمكن لأيّ انتصارٍ عسكريّ أن يعوّض ألم الأمّهات، وخوف الأطفال، والمُستقبل الذي يدمَّر. لِتُصْمِتْ الدّبلوماسيّة صوت الأسلحة! ولْتُخَطِطِ الأمم لمستقبلها بأعمال السّلام، لا بالعُنف والصّراعات الدّمويّة!».

 

إنّ رُوحَ اللهِ والمسيحِ هو مَن يمنحنا، ويمنح الكنيسةَ والعالمَ أجمع السّلامَ الحقيقيّ: «في عالمٍ ممزّق وخالٍ من السّلام، الرّوح القدس يعلّمنا أن نسير معًا. الأرض ستستريح، والعدل سيتحقّق، والفقراء سيفرحون، والسّلام سيعود إن لم نتحرّك بعد الآن مثل المفترسين، بل مثل الحجّاج». فعلينا أن «نطلب إلى روح المحبّة والسّلام، أن يفتح الحدود، ويهدم الجدران، ويُذيب الكراهية، ويساعدنا لنعيش أبناء للآب الوحيد الذي في السّماوات».

 

في عَالَمنا المعاصر المضطَرِب والمتزعزع هذا، يمكننا الالتجاء إلى العذراء مَريم أيضًا، وطَلْب شفاعتها المقتدرة، من أجل السّلام الحقيقيّ والعادل والدّائم. ولذا، ففي "صلاة الملاك" الأُولى (11 مايو/أيّار 2025)، التَمَسَ البابا لاوُن الرَّابع عشر السّلامَ من "ملكة السّلام": «كم من النّزاعات الأخرى ما تزال مشتعلة في العالم! أُوكل هذا النّداء من قلبي إلى ملكة السّلام، لكي ترفعُه إلى الرّبّ يسوع، فيمحنا معجزة السّلام». ومنذ "صلاة الملاك" الأُولى هذه، قد عاد قداسةُ البابا ليلتمس مرارًا وتكرارًا الأمرَ عينه: «والآن، بشفاعة سيِّدتنا مريم العذراء، لنطلب من الرّوح القدس عطيّة السّلام. أوّلًا السّلام في القلوب: لأنّ القلب المسالم وحده يستطيع أن ينشر السّلام، في العائلة، وفي المجتمع، وفي العلاقات الدوليّة. ليَفتح روحُ المسيح القائم من بين الأموات طرق المصالحة حيث توجد الحروب، وليُنِر المسؤولين، وليمنحهم الشّجاعة ليقوموا بخطوات تهدئة وحوار».

 

في نهاية المطاف، «لن تتعب الكنيسة من التّرديد: لتصمت الأسلحة». وعلى المستوى الشّخصيّ والجماعيّ والاجتماعيّ، ينبغي لنا أن نأخذ على محمل الجدّ والعمل، في الصّمت والصّلاة وبذل الذّات، قناعةَ البابا لاوُن الرَّابع عشر بشأن السّلام كقضيّةٍ ومسلكٍ في حياتنا: «إنّ السّلامَ ليس يوتوبيا روحيّة، بل هو طريقٌ متواضع، مصنوعٌ من لفتات يوميّة، حيث يتضافر فيها الصّبر والشّجاعة، الاستماع والعمل».