موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٩ يوليو / تموز ٢٠٢٥

في حضرة الموت والألم حيال فاجعة انتحار الأب الإيطالي ماتيو بالتسانو

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
وحده الرّبّ، الذي "يفحص ويعرف" كلَّ واحدٍ منّا، يعرف فَهْمَ أعمق أسرار النّفس البشريّة

وحده الرّبّ، الذي "يفحص ويعرف" كلَّ واحدٍ منّا، يعرف فَهْمَ أعمق أسرار النّفس البشريّة

 

منذ أن عرفتُ الخبرَ المفجع، من خلال الصُّحف والمواقع الإيطاليّة، وخاصةً من خلال الصّفحة الرّسميّة لإيبارشيّة "نوفارا" الإيطاليّة، المتعلّق بانتحار الأب الإيطاليّ "ماتّيو بالتسانو"، وهو في رَيْعَان حياته وشبابه وخدمته الكهنوتيّة، دخلتُ في نَوْبة صمتٍ متألّم ومتأمّل في آنٍ واحدٍ حيال هذه الفاجِعة، ولا سيّما في صمتٍ وحزنٍ مقدَّسَيْن في حَضْرَة الموت والألم. وبعد انتشار الخبر على نطاقٍ واسعٍ، وكثرة التّعليقات المتنوّعة، بل والمتناقضة أحيانًا، على شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وبلغات مختلفة (إيطاليّة، وإسبانيّة، وإنجليزيّة، وعربيّة)، عَزَمتُ وقرّرتُ أن أنشر تعليقي الوجيز هذا حيال هذه الفاجِعة الإنسانيّة، والمتّسمة بجوانب دينيّة أيضًا.

 

أوّلًا: وفقًا للصّفحة الرّسميّة لإيبارشيّة "نوفارا" الإيطاليّة، وُلِد الأب الإيطاليّ "ماتّيو بالتسانو"، التّابع لرعيّة "غريناسكو" الإيطاليّة، في الـ3 من يناير/كانون الثّاني لعام 1990؛ وسُيِّم كاهنًا في الـ10 من يونيو/حزيران لعام 2017، من قِبل صاحب النّيافة الأنبا "فرانكو جوليو برامبيلّا"، أسقف "نوفارا". وقد عُثِر على الأب "ماتّيو بالتسانو" جُثّةً هامدةً، في الـ5 من يوليو/تمّوز لهذا العام (2025)، بعد أن أقدم على الانتحار.

 

ثانيًا: الإقدام على الانتحار يمكن أن يحدث بين الإكليروس والمكرّسين والخُدّام، على تنوّع مذاهبهم وكنائسهم وجماعاتهم الكنسيّة، وكذلك بين العَلمانيّين المسيحيّين، وبين جميع الأشخاص على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم. فمع الأسف الشّديد، إنّه كأسٌ مرير تتجرّعه البشريّةُ على مرّ الأزمنة وتباين الأماكن.

 

ثالثًا: إضافةً إلى البيانات والتّصريحات الرّسميّة لإيبارشيّة "نوفارا" الإيطاليّة، لم تصدر حتّى الآن نتائجُ التّحقيقات الرّسميّة، لمحاولة فَهْم الدّوافع المحتملة الكامنة وراء هذا الانتحار المفجع والمحزن. فمَن يا تُرى يعرف حقيقة ما حدث مع الأب "ماتّيو بالتسانو"؟ ومَن يدرك جيّدًا الدّوافع الجوهريّة لما حدث له؟ بل، مَن منّا عارفٌ وفاحصٌ لأعماق القلب البشريّ وأسراره؟

 

رابعًا: وانطلاقًا من هذا كلّه، لا يحقّ لأحدٍ أيًّا كان أن يتسرّع بإدانة الأب المنتقل، وإصادر الأحكام عليه، وكأنه يجلس على "كرسي موسى"، ومدركٌ لخفايا قلوب الأنام. وأعتقد أنّه يجدر بنا جميعًا الصّمتُ بعض الوقت (أيّام أو شهور) أمام حَضْرَة الموت والألم وفجاعة الانتحار، وعلينا التّريُّث حتّى تصدر جهاتُ التّحقيق نتائجها الرّسميّة حيال هذه الواقعة الغريبة على المجتمع الكهنوتيّ الإيطاليّ.

 

خامسًا: ومع ذلك، استغربتُ أشدّ الاستغراب عندما راح بعضهم يتّهم المؤمنين العَلمانيّين بطريقةٍ غير مباشرة، وبعضهم فعلها بطريقةٍ مباشرة، من جرّاء انتحار الأب "ماتّيو بالتسانو"؛ وكأنّ العَلمانيّين –في وجهة نظرهم–  مذنبون في حقّه، وفي حقّ كلّ كاهن، مع تقديرنا واحترامنا الكاملَيْن لكلّ كاهنٍ وخادم! ولماذا يَسُود الاعتقاد –بوَعْي أو بدون وَعْي–، بأنّ دعوة الإكليروس ومعايشتها، أصعب من دعوة الزّواج والعائلة ومعايشتها؟ ولماذا شرع بعضهم –بسهولةٍ مفرطة– في تنسيق العظات وتقديم النّصائح للعَلمانيّين، وكأنّ هؤلاء الأخيرين هم المسؤولون الوحيدون أو الأوّلون لما يحدّث مع الإكليروس من أزمات؟ إنّني مقتنعٌ تمامّ الاقتناع بأنّ الحياة الإكليروسيّة أو الرّهبانيّة لها محاسنها ومآسيها، ولها آلامها وتعزياتها، كما هو الحال مع الدّعوة العلمانيّة أو الزّوجيّة أيضًا.

 

سادسًا: يمكن أن تتعدّد التّفسيراتُ حيال فاجِعة انتحار الأب "ماتّيو بالتسانو"؛ ولكنّ الواقع والواقعة يؤدّيان إلى نفس المصير: لقد مات منتحرًا. ومع ذلك، وجب علينا – كجماعة المؤمنين والإكليروس– أن نعيد التّفكير في اعتقاداتنا وممارستنا، إذ إنّ التّفسير النّفسيّ (الاكتئاب وغيره)، الذي رُبّما له جانبه العاطفيّ أيضًا، لا يكفي وحده لشرح كلّ أبعاد مصاعب الإكليروس وأزماتهم. فرُبّما ثمّة جوانبٌ أخرى علينا تدارسها ومناقشتها بصراحةٍ وجِدّيّة؛ فمنها ما هو رعويّ، ومنها ما هو إداريّ وكنسيّ، ومنها ما هو إنسانيّ، ومنها ما هو روحيّ، ومنها ما هو لاهوتيّ، ومنها ما هو خاصّ بالتّكوين الشّامل والمتكامل. أليس من المعقول والأجدر أن نراجع طريقةَ تكوين الإكليريكيّين والإكليروس، ومراعاة أحوال الكهنة الماديّة والنّفسيّة والعاطفيّة والإنسانيّة أيضًا؟ وهل يمكننا أن نتدراس ونعيد التّفكير معًا في طبيعة وأبعاد "سِرّ الدّرجة" في أيّامنا المعاصرة، لتواكب التّطوُّر البشريّ والمجتمعيّ، وثقافة العصر وفلسفته، والأوضاع العمليّة والحيّاتيّة والعلائقيّة للأشخاص الراهنين، ولا سيّما المرشَّحين "لسِرّ الدّرجة"، وحتى تتلاءم أيضًا مع عصر شبكات التّواصل الاجتماعيّ، والذّكاء الاصطناعيّ، وإلى آخره من تطوّرات علميّة وعمليّة؟

 

وأخيرًا: أجد أنّ كلمات المونسنيور "فرانكو جوديتشى"، نائب صاحب النّيافة الأنبا "فرانكو جوليو برامبيلّا"، أسقف إيبارشيّة "نوفارا"، في ما يخصّ الإكليروس والحياة المكرَّسة، لهي معبّرةٌ وأدّق ما يمكن أن يُقال بشأن الواقعة المفجة والمحزنة الخاصّة بانتحار الأب الإيطاليّ "ماتّيو بالتسانو": «وحده الرّبّ، الذي "يفحص ويعرف" كلَّ واحدٍ منّا، يعرف فَهْمَ أعمق أسرار النّفس البشريّة. فنرفع إلى إله الرّحمة الصّلاة من أجل الأب ماتّيو، أخينا في الكهنوت، مُعربين عن قربنا الإنسانيّ، في هذه اللّحظة المأسويّة، من عائلته ومن جميع أبناء رعيّة كانّوبيو».