موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٧ مايو / أيار ٢٠٢٣

"مِيراثُنا: «الرّب معنا»" بين كاتبي التكوين والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 46: 1- 10؛ مت 28: 16- 20)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 46: 1- 10؛ مت 28: 16- 20)

 

مُقدّمة

 

أيّها القراء الأفاضل "المسيح قام وصعد". في هذا الأسبوع سنتختتم سلسلة ظهورات القائم في لقائه بتلاميذه الأحد عشر من خلال رؤيته وسماعه وقبول الميراث الّذي سيتركه للكنيسة المستقبليّة. بهذه المناسبة الّتي تشير للحياة المستمرة، حتى بعد جلوس القائم عن يمين الآب بصعوده المجيد، سنقرأ معًا من العهد الأوّل نشيد التهليل الّذي يدعو فيه كاتب سفر المزامير كلّاً منّا ليصفق لتسبيح الرّبّ من خلال المزمور الـ46 (47)، سنكتشف معه المزيد. على ضوء دعوة الكاتب الحكيم سنقرأ حدث صعود القائم أمام الأحد عشر تلميذ والّذي سيفاجئنا بالكثير في كلماته والرسالة الّتي يتركها لتلاميذه وهي بمثابة "الميراث" الّذي يدوم والّذي ليس له نهاية من خلال النص بحسب الإمجيل المتّاويّ (28: 16-20). نهدف في هذا المقال بتأمل القائم الّذي أتمّ رسالته الأرضية لأجلنا إلّا إنّه سيستمر بشكل آخر وهذا ما سنتعرف عليه. وأيضًا مدعويين للسجود مع التلاميذ، كردّ فعل للإعتراف بأالوهيّة القائم بعد إتمامه سرّه الفصحي الّذي سيمتدّ فينا.

 

 

1. مِيراثُ العَليّ (مز 46)

 

يفتتح كاتب سفر المزامير نشيده بدعوتنا كقراء مؤمنين لهذا الكرمي بالتهليل للرّبّ من خلال التصفيق له مُعبراً عن أسباب هذا التهليل قائلا: «صَفِّقي بِالأيدي يا جَميعَ الشُعوب إِهتِفي للهِ بِصَوتِ التَّهْليل فإِنَّ الرَّبَّ عَليّ رَهيب على جَميعِ الأَرضِ مَلِكٌ عَظيم. يُخضِعُ الشُّعوبَ تَحتَنا والأمَمَ تَحتَ أَقْدامِنا. إِختارَ لَنا ميراثَنا فَخرَ يَعْقوبَ الَّذي أَحبَّه» (مز 47: 2-5).  مُلك الله، خضوع الشعوب (الرافضين لملكه) تحت الأقدام، والسبب الأهم هو إختياره للميراث المتميز، والّذي هو فخر لكل نسل يعقوب بل ولكلاً منا اليّوم كمؤمنين بالرّبّ. الرّبّ هو الملك الّذي يُحدد مستقبل شعبه بل والميراث الباق له سيدوم وليس له إنتهاء بفضل الإختيار الإلهي. فحينما أراد العليّ أن يترك ميراث لشعبه لم يترك أموال وأراضي بل ترك ذاته بالكامل. هكذا نحن مدعوين قبول هذا الميراث الّذي لا ينتهي من الفيض الإلهي.

 

 

2. التجليّس الملكيّ (مز 46: 5- 10)

 

يأمر الرّب بحسب الكاتب الحكيم بعد أنّ حددّ الميراث لشعبه وهو إعطائه ملك من نسل يعقوب أنّ يجعله يملك على الأرض كلها ولذا يقوم بتجليسه على عرشه الإلهي مُعلنًا: «صَعِدَ اللهُ بِالهُتاف [...] إِعزِفوا لِمَلِكِنا اْعزِفوا فإِنَّ اللهَ مَلِكُ الأرضِ كُلِّها. إِعزِفوا لَه بِمَهارة [...] مَلَكَ اَللهُ على عَرشِ قُدْسِه جَلَس» (مز 46: 5- 10). الملك الإلهي يجلس على عرش قدسه وهو الّذي يسمح بتجليسه ليسود ملكه على كل الأرض. هذا البُعد الشمولي الّذي يكشف لنا كاتب سفر المزامير وهو لا يملك على مدينة أو بلدة ما أو على شعب محدد بل كل الأرض بكل شعوبها. هذا يشير إلى تجليس الرّبّ كملك على الأرض كلها وعلى كل البشر سواء مؤمنين به أمّ لا، فهو الجالس على العرش وبيده القضاء لكل البشرية.

 

على ضوء هذا التجليس الملكي بالعهد الأوّل والدعوة للتهليل، سنتوقف أما عدد قليل من الآيات الّتي يكشف لنا فيها كاتب الإنجيل الأوّل، مصير يسوع بعد القيامة. من خلال سرده حدث الصعود الرّبّ يعلن عن سرّ إلهي كُشف لنا نحن البشريين بعد أنّ أتمّ خلاصنا. هذا التهليل بالمزمور يُمهد لقاءنا بالقائم قبل جلوسه الملكي عن يمين الله الآب. لكن ما سنتعرف عليه بحسب الإنجيلي متّى هو الّذي يدعونا لتحملّ رسالة القائم والصاعد لأجلنا.

 

 

3. لماذا الجليل؟ (مت 28: 16- 20)

 

«أَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه» (28: 16).هذا الجليل هو الوثني لقد عاد الرّبّ القائم من الموت إلى الجليل الوثني. المكان الّذي بدأ منه بإعلانه الملكوت وإنجيله (راجع مت 4: 15. 17. 23). كان القائم، في منطقة الجليل المحدودة، على موعد مع تلاميذه الذين تفرقوا عندما ضُرب الراعي بالآلم والموت والقيامة (راج مت 28: 8-10). لقد عاد إلى أماكن البدء ليمنحها الامتلاء والإكتمال. يأتي اليّوم، القائم من بين الأموات كالنور الحاسم لينير السالكين في الظلمة وظلال الموت. استدعى الأحد عشر إلى الجليل، كما في بدء لقائه بهم بحسب متّى إذ يقودهم الآن من جليل إلى العالم، حينما أعلن طوباويّة الملكوت (راجع مت 5:1). يرغب يسوع في تكوينهم وجعلهم كنيسة - ekklesia له. وجود القائم من بين الأموات على جبل الجليل يرمز إلى اللقاء بين السماء والأرض، مُعلنًا بشكل رسمي بأنّه نال كل سلطان في السماء وعلى الأرض (راجع مت 28: 18). مكان الإنطلاق في علاقة يسوع بتلاميذه هو ذاته مكان الوصول الّذي سيودعهم تاركا لهم الميراث، الجبل الوثني بالجليل يصير شاهد عيّانً على تسليم الميراث من القائم وكشف سلطانه. من هذا الجبل اليّوم، يرسلنا القائم كتلاميذ له تابعين له عبر التاريخ لنستعيد ككنيسة توحيدها من الأركان الأربعة بالعالم. دون أنّ يُستثنى أحد من الكلمة ومن المشاركة في حياة العائلة الإلهية، من خلال شركة المعمودية مع الآب والابن والروح القدس. واليوم نحن التلاميذ على الجبل، نسجد له ونؤكد طاعتنا لأمره التبشيري: «فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له [...] فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض» (20: 17- 18). يصير الجليل مكان الإعلان للسلطان الإلهي والسجود البشري.

 

 

4. البقاء الإلهي (مت 28: 17-19)

 

يلفت نظرنا كمؤمنين في هذا المقطع تأكيد القائم بقوله: «هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم» (28: 20). هذا الإعلان يحمل تضمينًا شاملاً للإنجيل الأول بأكمله. أعلن الإنجيلي في سطوره الأوّلى لاهوت كريستولوجي بالإنجيل، حينما أمر الملاك من يوسف إعطاء إسم "العمانوئيل" للطفل اّلذي سيولد من مريم إمرأته. تفسير هذا الاسم من العبري «الله معنا» (مت 1: 23). لذلك دُعي يسوع منذ البدء الله الّذي معنا. يلخص هذا الاسم مهمته بالكامل، ويكشف عن هويته العميقة. فيه سيظهر وجه إله إسرائيل مرة أخرى، الذي أظهر نفسه دائمًا بأنه "إله مع ..." ، إله يجعل من نفسه حضوراً حياً وفاعلاً في تاريخ البشر. يستعيد الإنجيلي فكره اللّاهوتي ليكشف عن حقيقة يسوع للكنيسة بعد صعوده إلى السماء. يبقى عمانوئيل الله معنا. قد يبدو غريباً أنه في نفس اللحظة التي يترك فيها يسوع تلاميذه ليعود إلى الآب، يؤكد هويته بالبقاء الأبدي. هذا هو بالضبط ما يكمن في قلب حدث الصعود، صعد يسوع إلى السماء يشير لحضوره الغير مرئي في العالم مستمر فينا تلاميذه بقوله: "أنا معكم!"

 

 

5. الميراث (مت 28: 17- 20)

 

إن رسالة الكنيسة في العالم متجذرة في هذا الحضور لا يفشل أبدًا. تعبير متّى: «اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس،وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به» (28: 19- 20أ) يستند على: «ها أنا معكم». نجد في قلب سر صعود الرب إستمرار القائم حتى الأبد، فمن المهم ما يرويّه لوقا 24 فيذهب بعيدًا وأن سحابة تختطفه من أنظارهم. يخبرنا هذا الوصف بأنّ حضور القائم من بين الأموات، هو حضور غير مرئي. يتميز وجود القائم في الكنيسة بحضور مختلف عن حضوره التاريخي في الجليل، واليهودية وأورشليم، الآن الرب حاضر بسرّيّة ويمكننا القول في حضور الغائب. عواقب هذا الغياب هامة، يعطي هذا الغياب مساحة الحرية الّتي يمنحها القائم لكنيسته والبشرية. تمامًا كما في حياة كل زوجين يجب أن يحدث الانفصال عن الّذين يُستقبلوا منهم الحياة في وقت ما. كذلك في حياة الكنيسة، صعود يسوع يعني أنه من تلك اللحظة فصاعدًا، تمييز يسوع سيكون سمة أتباعه فيرونه بشكل آخر عبر التاريخ. هذه الحقيقة تحدد أيضًا أن حضور القائم موجود الآن في حياتنا بلفظ «هاءنذا معَكم»، يسوع لن يتخلى عن تلاميذه، ولكنه يعني أن وجوده في العالم مرتبط وممتد الآن في وجود تلاميذه الذين يسكن بينهم.

 

 

الخلّاصة

 

أوحى لنا في هذا المقال، كاتب سفر المزامير الحكيم التعرّف على الله الملك وقدرته وقوته تجاهنا، لذا دعانا كشعبه للتهليل (مز 46). تجلت هذه القوة في فصح يسوع العمانوئيل الّذي أكد بحسب متّى الإنجيلي بأنّه سيبقى معنا، فهو رّبّ الكنيسة الّتي هي نحن. مدعُوين كمسيحيين لتمييز حضور يسوع السائر في طرق العالم اليوم بالقرب منا ومعنا. يدعونا عيد صعود الرّبّ اليّوم للتساؤل عن معنى جديد يعطي حياة للكنيسة ولا ننظر له بأنه حدث تمّ  الماضي البعيد؟ إذا تأملنا الأحداث الّتي كشف عن يسوع الإله سنجد إنّ زمن الصعود هو زمننا، الوقت الّذي نعيش فيه. نحن الوراثّ للأحد عشر الّذين كانوا من الجليل الذين فوجئوا بأنقلات أنوفهم إلى الأسفل بسجود أمام الإله القائم والصاعد. من تلك اللحظة فصاعدًا سنستأنف ككنيسة رحلتنا الّتي يقودها يسوع الصاعد إلى  الآب. لا تزال الكنيسة في هذا الأحد تحتفل بجوهر علاقتها بالقائم من بين الأموات. ومع ذلك، فإن "عيد الصعود" له نكهة خاصة لأنه يمسى،عيد سرّي يكشف عن حضور وغياب القائم من بين الأموات في حياة الكنيسة والبشرية. ذلك السرّ الذي نعيش نحن فيه ككنيسة في كل عصر ونجد فيه معنى لوجودنا. دُمتم أيها القراء حضور مرئي عن يسوع الغير مرئي، ووارثين تلمسون حضور "الرّبّ معنا" في كل شئ وتصيرون ميراثه الّذي لا ينتهي. عيد صعود مبارك.