موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثاني من زمن الـمجيء (أ)
الـمُقدّمة
مصباح الـملكوت، هو الـمصباح الّذي يربط نصيّ العهديّن الـمقدسيّن إذ نتناول بحسب العهد القديم من نبؤة أشعيا (11: 1-10)، الّذي يعلن لنا الغصن الـمُمجد والّذي بمثابة إستباق بذرة الـملكوت. ثمّ سنتناول من العهد الجديد أوّل ظهور ليوحنّا الـمعمدان بحسب لّاهوت الإنجيليّ بحسب متّى (3: 1-12). حيث يناقش متّى من خلال شخصيّة الـمعمدان هذا الـملكوت الّذي يقترب منا في زمن الـمجئ هذا. يهدف مقالنا هذا بالتعرف على كل الأغصان الهشة الّتي تحمل صورتنا والّتي تنمو بقدر إقترابنا وقبولنا لـمصباح الـملكوت الّذي يسلمه الـمعمدان لي ولك، فنصير بالرغم من هشاشتنا أغصان مزدهرة لأن الطفل الآتي يحمل بذور الـملكوت وما علينا إلّا أنّ نقبل هذا الـمصباح الّذي أطلقنا عليه "مصباح الـملكوت".
1. الغصن الـمسيّانيّ (اش 11: 1-10)
يفتتح النبي أشعيا هذا النص بفعل النمو لغصن من أصل يسّى قائلاً: »يَخرُجُ غُصنٌ مِن جذعِ يَسَّى وَينْمي فَرعٌ مِن أُصولِه ويَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روحُ الـمَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ ويوحي لَه تَقْوى الرَّبّ فلا يَقْضي بِحَسَبِ رُؤيةِ عَينَيه ولا يَحكُمُ بِحَسَبِ سَماعِ أُذُنَيه بل يَقْضي لِلضُّعَفاءِ بِالبِرّ ويَحكُمُ لِبائِسي الأَرض بِالِاستِقامة« )اش 11: 1-3(. الغُصنٌ الـمسيّانيّ، ما هو إلّا حقيقة صغيرة، صامتة، وهشة؛ حقيقة تستحق العناية والحماية والإحترام والدعم، حقيقة غالبًا ما تشترك في خصائص أهم عناصر حياتنا وأكثرها جوهرية. في واقع الأمر، غالبًا ما تكون أهم الأمور وأكثرها حسمًا ليست قوية، صاخبة، وكبيرة، بل صغيرة، صامتة، وهشة، تمامًا كالغُصنٌ. صورة الغُصنٌ هي الصورة الّتي يستخدمها أشعيا النبيّ بمقالنا هذا لوصف عمل الرّبّ العظيم. فالرّبّ هو الّذي يُنبت غُصنٌاً من جذع يسّى، هذا الغُصن هو بمثابة مسيّحه، الّذي سيحل عليه بروحه الإلهيّة. نعم، هذا الغصن الّذي يشير للمسيح هو بمثابة أهم عمل لله في تاريخنا البشري بل ويُقدمه النبيّ في صورة أكثر هشاشة. بالرغم من صغر وهشاشة هذا الغُصنٌ، لكنه مُفعم بالحياة والإمكانيات، والّذي يجب أنّ نُدركه حتى لا نُخاطر بإنكساره أو تجاهله. هذا ما سنراه ينمو بعمق وسيصير بدء للملكوت بحسب بشارة متّى الإنجيلي الّتي سنراها لاحقًا. ويختتم النبيّ هذا الـمقطع مشيراً بعمق إلى قيمة وعمل الغُصنٌ الـمُمجد قائلاً:» في ذلك اليَّومِ أَصلُ يَسَّى القائِمُ رايَةً لِلشُّعوب إِيَّاه تَلتَمِسُ الأُمَم ويَكونُ مَكانُ راحَتِه مَجداً« )اش 11: 10(.
2. بشارة يوحنّا (مت 3: 1)
يفتتح متّى الإنجيلي هذا الـمقطع بوصف خاص عن الـمعمدان بل عند أوّل ظهور له، ويصيف إلينا نحن في زمن الـمجئ قائلاً: «في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا الـمعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ [...] كانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ» (مت 3: 1. 4). يوحنّا الـمهيئ يساعدنا اليّوم في تفسير معنى الغصن الّذي تنبأ أشعيا قبلاً من خلال الوصف الّذي نقرأه ففي البريّة حيث خرج الشعب من مصر ووصل إلى أرض الـميعاد، يستعيد الـمعمدان مسيرة الشعب بملابسه ومُناداته. مدعوين للإصغاء للـمعمدان في بشارته حتّى نخرج للبريّة لنسمع للجديد الّذي جاء خصيصًا ليكشفه لنا. هذا الفقير في الـملبس والـمآكل والواعظ بالبرّية هو من سيكسف لنا عن حقيقة الغصن الّذي لم يُكشف بعد بحسب نبؤة أشعيا.
3. غصن الـملكوت (مت 3: 2- 12)
فيقول: «"توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات".فهُوَ الّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه:"صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة"» (مت 3: 2- 3). هذا ما يؤكد ما نوهنا إليه بحسب أشعيا بأعلى حيث إنّه إستبق في نبؤته عن الـملكوت الّذي سيولد بقربنا بل هو أقرب إلينا أكثر مما نتخيل. وكما يقول ق. أغسطينوس أن الـمعمدان هو مجرد "صوت" ليسوع الآتي الّذي هو "كلمة الله".
يعلن الـمعمدان في هذا الـمقطع الإنجيليّ بإنّ ملكوت الله القريب، الّذي أعلنه يوحنا الـمعمدان، يشبه غصنًا. في زمن يوحنّا أعلن عن تجلّى ملكوت الله القريب في جسدٍ هشّ، الّذي كشف عن هويّة يسوع البشريّة وابن الله معًا. رجلٌ كسائر البشر، حمل الخير والشفاء، في طرق الجليل واليهوديّة. هذا الغصن أتى وتقدم بجرأة ناثرًا بذور ملكوت الله الـمُثمرة. الغصن الّذي يعلن عنه يوحنا كان غصنًا طريًا في ولادته وتجسده وماعلنا إلّا إدراكه وسط أحداث تاريخنا البشري. مع هذا الغصن الهشّ الآتي من الـملكوت، في شخص يسوع البشريّ، تأتينا روح الرّبّ الـمُعزّية والـمُستقرّة عليه ليمنحها لكلّ منا. تجسد هذا الابن هو بمثابة ولادة ونمو هذا الغصن الّذي يتجذر في بشريتنا مانحًا إيانا حياة بحسب قول الـمعمدان: «أَنا أُعمِّدُكم في الـماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. بيَدِه الـمذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ» (مت 3: 11- 12). هذا هو الغصن القوي الّذي سيقوم بأعمال قويّة بالتظهير من الشرّ والشرير والخطيئة أيضًا بقوة الرّوح القدس الّذي إستبق أشعيا بالكشف عنها. لهذا السبب، إستطاع في نظر البشر، هذا الطفل، وهو رمز للغصن الطريّ، أما في نظر الله فهو "عظيم" بل أيضًا "ابن العلي" (راج لو 1).
حتى اليّوم، إذا نظرنا إلى تاريخ البشرية، قد لا نجد شيئًا يدفعنا إلى التفكير في سيّادة الله القريبة، فهناك من الظلم، والحروب، والأمراض، والإنتهاكات، ويمكننا أنّ نتسأل في وسط هذه الظروف "أين ملكوت الله؟" ومع ذلك، ينبت ملكوت الله في كلّ البذور الـمُحبة والـمجانية، في العطاء والسلام، في العدل الّذي لا تنقص في أخاديد التاريخ البشري ليؤتي بثماره فينا وفي حياتنا. كما سنرى لاحقًا بعد ولادة يسوع وإنسانية الشفافة، الّتي ستكشف عن العلامات الصغيرة. أما نحن بمثابة الأغصان الهشّة حيث سيستقر علينا روح الله: «روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرّبّ» (راج اش 11). إنّ روح الله هو الّذي يُقوي بأغصان الـملكوت الهشة حتّى اليّوم.
في حياتنا الشخصية والجماعية، أهم الأشياء هي تحديدًا هذه الأغصان الهشة. لنسمح لأنظارنا بأنّ تجذبها علامات القوة الظاهرة في الضعف. قد نسعى وراء اليقين والقوة، بل وحتى نسعى وراء العلامات العظيمة ومع ذلك، فإن الأمور الـمهمة في الحياة، تلك الّتي تحتوي على ملكوت الله الّذي يقترب منا بل وفينا. هذه الأغُصان الـهشة، هي الّتي تكون موضع لإستقرار روح الرّبّ عليها، ليُكسوها بقوته. هل نعرف كيف نرى هذه الأغُصان ونحميها؟ مدعوين للتعرف على أسماء الأغُصان الّتي يجب أنّ نحميها في حياتنا كمؤمنيّن اليّوم. لنتعمق في الحقيقة الّتي تتجلى فيها قوة الله في قلب هشاشتنا. بحسب كلمات النبي أشعيا وفكر متّى الإنجيليّ، يقدما كلا الكاتبين صورة لـمَن يرون غصنًا ينبت، لـمَن يُلاحظون نموه الصامت. يُرشدنا كلا الكاتبيّن إلى الاتجاه الّذي يجب أنّ ننظر إليه لندرك عمل الله في وجودنا، في تاريخنا الشخصيّ والجماعيّ، في تاريخ بشريتنا. يعلنا لنا بكلام بسيط: "انظروا إلى الأغُصان، ما لا يُصدر صوتًا، بل ينمو. لا تنظروا إلى ما يُثير ضجةً بل يُدمر، انظروا إلى الغصن الّذي ينمو، لأنّه هناك تتجلى قدرة الله". في زمن المجيء، يُعلّمنا أشعيا ويوحنا أنّ مدعوين للنظر إلى الأغُصان لنكتشف أين يزدهر ملكوت الله وينضج. زمن المجيء هو الزّمن الّذي يُعلّمنا أنّ نعتني بالأغُصان الصغيرة، لأنّ عليها يحلّ روح الله ليُثري حياتنا بقوته ويغنيها. تُحفّزنا تعاليم أشعيا ويوحنّا الـمعمدان على اليقظة لنُدرك زيارة الله في حياتنا، وحضور الـملكوت القريب، ومجيئه!
الخُلّاصة
ناقشنا بمقالنا هذا الـمقال معنى الغصن الّذي إستبق به أشعيا (11: 1- 10)، مشيراً إلى أنّ هذا الغصن من أصل يسّى ولم يُفهم حتى أعلن الـمعمدان بحسب قرأتنا لـمقطع الإنجيل متّى (3: 1- 12) حيث أخبرنا الـمعمدان في بشارته وأعلن بأنّ الـملكوت قريب وهذا الـملكوت ما هو إلّا الغصن الّذي نمى وأعطى بذوراً وهذه البذور تصير مصباحًا في هذا الزّمن الّذي نستعد فيه لـميلاد يسوع. حيث أنّ غصن الـملكوت ينمو فينا، من هنا والآن مدعوين بأنّ نقبل بشارة الـمعمدان الّذي آتى حاملاً مصباح الـملكوت الّذي إستبق به إشعيا في صورة الغصن. مدعوين في هذا الأسبوع الثاني من زمن الـمجئ بأنّ نقبل مصباح الـملكوت القريب منا بل بداخلنا. دُمتم في قبول لـمصباح الـملكوت.