موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥

"الرّبُّ هو مَلكنا" بين كاتبيّ سفر صموئيل الثاني والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (2صم 5: 1- 3؛  لو 23: 35- 43)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (2صم 5: 1- 3؛ لو 23: 35- 43)

 

الأحد الرابع والثلاثيّن (ج)

 

مُقدّمة

 

من خلال قرائتنا لنصوص فيما بين العهديّن بهذا الـمقال سنتناول نصييّن يساعدانا في التعرّف على حقيقة الدور الـملكيّ الّذي يتمتع به الرّبّ. تكشف النصوص في هذا المقال الختاميّ للسنة الليتورجيّة السرّ القادرٌ على إعلان ما وراء الزمن، حيث يرشدنا إلى أفقٍ ليس لها حدود، وننطلق منها إلى تاريخنا البشري بنظرة مختلفة بل جديدة. إنطلاقًا من النهاية، كما سنرى مجددًا في أسابيع زمن المجيء القادمة، يستقبل حاضرنا نورًا جديدًا في ضوء مُلك الرّبّ. إنّ النظر بعيدًا في الـماضي قد يُشلّنا ويجعلنا غير قادرين على النظر إلى حياتنا بثقة. تدعونا نصوص مقالنا هذا والّذي يُختتم به الزمن العاديّ من السنة الطقسيّة (ج)، إلى تأملٍ بالغ الأهميّة لحياة الكنيسة وتاريخ البشريّة. إنّ احتفالنا بملكوت الرّبّ، والّذي نتأمل فيه سيّادة الرّبّ على التاريخ البشريّ والزّمن، يُجنّبنا خطر النظر إلى الـماضي، ويسمح لنا بالعيش من أجل الـمستقبل من اليّوم. مؤمنين أنّ عالـمنا البشريّ، ليس محصورًا في الحاضر بل يسكنه الرجاء مستقبلاً. إنّ مقطع تنصيب داود ملكًا على حبرون (2صم 5: 1- 3) يعلن أنّ إختيار الله منذ القدم لـملك يكشف عن ملك الله. وبناء على هذا سنناقش بحسب إنجيل لوقا لاحقًا (23: 35- 43) كيف أنّ ذروة الإتمام الملكيّ للرّبّ تتجسد في شخص يسوع أثناء موته على الصليب الّذي يعلن قبول أوّل مَن نال الخلاص وتمتع بملكوته وهو اللص اليمين. ومن هذا الوعي بأنّ "الرّبّ هو ملكنا" ينبع فينا روح الشكر والتسبيح طالبين سيادته وملكوته علينا وعلى كلّ الكون.

 

1. ملوكيّة داود (2صم 5: 1-3)

 

في هذه الـمناسبة لعيد الرب ملك الكون، نتعمق في مسح أوّل ملك، بحسب قلب الرّبّ، تمّ إختياره من الرّبّ وكان منارة للشعب إذ بثّ للشعب جوهر علاقته بالرّبّ كملك على الشعب. هذه الخاصية الّتي ميّزت الـملك داود على الـملك شاول الّذي سبقه. حيث أنّ إختيار الرّبّ له وهو لازال بعد شاباً صغيراً، إذ قام صموئيل (راج 1صم 16) بحسب أمر الرّبّ بمسحته الأوّلى بشكل سرّي ببيت أبيه بين أخوته فقط. والثانيّة بشكل علنيّ (راج 2صم 2: 4ت) بعد وفاة شاول. ودامت ملوكيّته على مملكة يهوذا بالجنوب لـمدة ثلاث وثلاثين سنة. ثمّ بمرور الوقت يروي لنا من جديد كاتب سفر صموئيل الثاني رغبة شيوخ إسرائيل في حبرون قائلين: »"هُوَذا نَحنُ عَظمُكَ ولَحمُكَ. حينَ كانَّ شاوُلُ علَينا مَلِكًا أَمس فما قَبلُ، كُنتَ أَنَّتَ تُخرِجُ وتدخِلُ إِسْرائيل، وقد قالَ لَكَ الرَّبّ: أَنَّتَ تَرْعى شَعْبي إِسْرائيل، وأَنَّتَ تَكونُ قائِدًا لإِسْرائيل". وأَقبَلَ جَميعُ شُيوخِ إِسْرائيلَ إِلى الـمَلِكِ في حَبْرون. فقَطعً الـمَلِكُ داوُدُ معَهم عَهدًا في حَبْرونَ أمام الرَّبّ، ومَسَحوا داوُدَ مَلِكًا على إِسْرائيل «(2صم 5: 1- 3). نحج داود، في توحيد بني إسرائيل كملك واحد على كل الأسباط بشمال وجنوب البلاد مما جعله يفسح الـمجال لإعلان مُلك الرّبّ على الشعب الّذي إختاره من خلال مسحه وقطع العهد كملك عليهم، مُمثلاً الـمُلك الإلهي وداعيًا للإنتماء للرّبّ الّذي يملك عليه وعلى الشعب معًا، مما جعله يبدأ عهد الرجاء الـمستقبلي لكلّ بني إسرائيل.

 

يختم الكاتب هذا الـمقطع بتحديد عُمر داود ومدة مُلكه مشيراً: »وكانَّ داوُدُ اِبنَ ثَلاثينَ سَنَةً يَومَ ملك، ومَلَكَ أَربَعينَ سَنَة. ملك في حَبْرونَ على يَهوذا سَبعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر، ومَلَكَ في أورَشَليم ثَلاثًا وثَلاثينَ سَنَةً على كُلِّ إسْرائيلَ وَيهوذا« (2صم 5: 4- 5). الـمدة الّتي خدم فيها داود الرّبّ من خلال مُلكه على شعبه كانت أربعين سنة، وكما وعد الرّبّ أن من أحشائه سيختار الـمسيّا (راج 2صم 7) هكذا نجد العلاقة بين مُلك داود ومُلك يسوع السريّ الّذي لا ينتمي لـمُلك سياسيّ أو وطنيّ وهذا ما سنتعرف عليه من خلال قرأتنا لنص العهد الجديد الّذي يروي مستقبل بني إسرائيل انطلاقًا من موت يسوع الخلاصيّ. ينطلق مُلك يسوع بالعهد الجديد من تاريخ إسرائيل، أي من زمن داود. هذا قد يثير دهشتنا للوهلة الأوّلى كقراء لـمقطع الإنجيل الّذي يروي حدث خاص أثناء موت يسوع على الصليب. لـماذا إختار الليتورجيين هذا النص في اليّوم الإحتفالي بـملك الرّب على الكون؟

 

 

2. رسالة الرجاء (لو 23: 35- 38)

 

 اُختير هذا المقطع اللُوقاوي لأنّه يتحدث عن الـمُلك الجديد الّذي يصل في ذروته إلى الـمسيح الرّبّ، وهو ما سلّط عليه كاتب سفر صموئيل الثّاني (5: 1- 5) بسرده مسح داود ملكًا على إسرائيل. سنناقش سبب إختيار الليتورجيين لهذا النص الـمناسبٌ بشكلٍ خاص للتعبير عما ذكرناه قبلاً. مدعوييّن من الآن وصاعدا بمقالنا هذا لـمواجهة هذا التناقض الظاهري، بين سرّ القيامة وسرّ الـموت الآتي حاملًا رسالة رجاء إلهيّة. يروي الإنجيليّ نظرات الشعب وإستهزاء الرّؤساء الشعب ليسوع وهو مُعلقًا على الصليب قائلين» خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ الـمُختار! «(لو 23: 35). الإعتراف بشكل ساخر بأنّ يسوع الـمصلوب هو مسيح الله الـمختار! فحتّى وإنّ كان بجهل السخريّة إلّأ أنّه مُعلن أثناء موت يسوع على لسان الساخريّن بأنّ يسوع هو الـمسيّا أي الـملك. نحن كمؤمنين نختبر هذه الـملوكيّة الـمليئة بالرجاء في كلّ مرة نصلي قائلين: »ليأت ملكوتك«.

 

ثمّ من جديد نقرأ سخريّة الجُنودُ بالقول وبالكتابة معًا: »"إن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!" وكانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ خُطَّ فيها: "هذا مَلِكُ اليَهود"« (لو 23: 37- 38). نعم، ففي اللحظة الّتي يُصلب فيها يسوع ويختبر الظُلم والموت، تظهر رسالة الرجاء الّتي تُناقض الموت وتُظهر عجزه في مواجهة الحياة. هذه المواجهة بين الحياة والموت، هذه المواجهة الّتي تُمثل تناقضًا بين الحياة والـموت. يظهر الـملكوت في أقوال وأفعال الساخريّن من يسوع وقت تقديم ذاته وإعلان الـملكوت الإلهيّ على الأرض من خلال الـموت والقيامة الغير متوقعة من البشر ولكنها مُخططة ومُهيأة من الله الآب وتحمل والـملكوت الأبديّ.

 

 

3. الرّبّ هو ملكنا (لو 23: 39- 42)

 

بينما تتشابك النظرات وتتوالى كلمات الإتهامات على يسوع وهو على الصليب، ينفرد لوقا بسرد حوار خاص يكشف عن مُلك الرّبّ الجالس على عرشه وهو الصليل. وهو يناقض العرش الـملكي بشريًا من خلال صوت اللص اليمين الّذي يكتشف هويّة يسوع الحقيقيّة بينما: »أَحَدُ الـمُجرمَينِ الـمُعَلَّقَينِ على الصَّليبِ يَشتُمُه فيَقول: "أَلستَ الـمسيح؟ فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا!" فانتَهَرَه الآخَرُ قال: "أَوَما تَخافُ الله وأَنتَ تُعاني العِقابَ نَفْسَه! أَمَّا نَحنُ فعِقابُنا عَدْل، لِأَنَّنا نَلْقى ما تَستوجِبُه أَعمْالُنا. أَمَّا هو فلَم يَعمَلْ سُوءًا"» (لو 23: 39- 42). لا سيما في الحوار الّذي دار بين يسوع وأحد المجرمين المصلوبيّن معه. هذا المجرم هو أوّل إنسان، باستثناء أخنوخ وإيليا في العهد القديم، وطأت قدمي هذا اللص اليمين أرض الـملكوت الأبديّ. وهو بلا شك أوّل مَن تمتع بتجديد كلّ ما أنجزه الآب من خلال الابن، الّذي بذل حياته من أجل البشريّة. وهو أوّل مَن اِنجذب إلى الـمسيح، ورُفع من الأرض مباشرة إلى يمين الآب. هذا الإنسان اللص هو رمز يمثل بشريتنا الخاطئة الّتي جاء يسوع، بصفته الراعيّ الصالح، ليبحث عنها ويخلّصها. إنّه يُمثل كلّاً منا، فهو يدرك أنّ حياته ليست رهينة لخطأه أو جريمته. هذا اللص هو الوحيد بحسب لوقا الّذي نجح في أنّ يكتشف هويّة يسوع كملك حقيقي ناطقًا باسمه "يسوع" أي مخلص. هذا اللص يدعونا للتوقف في بدء مسيرة توبة حقّة حيث نتوق للتجديد، بالرغم من تقيدنا بالشرّ الّذي يحيط بنا إلى الإعتراف بالرّبّ ملكنا.

 

 

4. اليّوم الـملكيّ (لو 23: 43)

 

هنا يروي لوقا الإنجيلي، تلميذ بطرس الرسول، كلمات يسوع الـملك الحقيقي الّذي يورث ويستجيب بمجانيّة لكلّ مّن يلجأ إليه، باخر حوار قبل موته الـمباشر مع اللص اليمين التائب بحسب لوقا 23: 42-43:

 

اللص اليمين: "أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ".

يسوع: "الحَقَّ أَقولُ لَكَ: سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس".

 

"اليّوم" يخاطب يسوع اللص اليمين، من على الصليب قائلتً: "اليّوم ستكون معيّ في الفردوس!". لفظ "اليوم" في اللّاهوت اللوقاويّ بالغ الأهميّة والدلالة الكتابيّة. لدينا بحسب إنجيل لوقا خمسة من "الأيّام العظيمة" (راج لو 2: 22؛ 4: 21؛ 5: 26: 19: 9؛ 23: 43). سلسلة هذه الأيّام الخمسة الّتي تُخلّد رواية الإنجيليّة للوقا لها أهميّة خاصة في فكره، الّذي يرى زمن يسوع "كمركز الزّمان". يتعلق لفظ اليّوم في كلٌّ من هذه العبارات بتحقيق سرّه الخلاصي من ميلاد يسوع، وبدء رسالته في مجمع الناصرة، وإعجاب معاصريه بأعماله، ولقائه الخلاصيّ مع زكا العشار، وأخيرًا الكلمات الـموجهة إلى اللص الـمصلوب بجواره. كل هذه التكرارات تُشكّل إعلانات بوجود اليّوم الـمَلكي وهو يوم يسوع الّذي يتجلّى فيه خلاص الله لكلّ بشرٍ من خلال مُلكه الإلهي وليس البشري.

 

نحن مع هذا اللص نشعر بأنّ كلمة يسوع اليّوم موجهه ليّ ولك بشكل خاص. لأنّ هذا اللص يمثلنا جميعًا في كلّ عصورنا، مما يفتح لنا مجالاً ليصل إلينا يوم خلاصه من هنا والآن. وهو اليّوم الّذي تحقق بالكامل في سرّ يسوع الفصحيّ. نعم، يكمن اكتمال تاريخنا في التوسع التدريجيّ لفصح المسيح وقيامته ليشمل كلّ نقص في فينا. إنّه غريب هذا اللص، عاش ومات لصًا أيضًا لأنّ أخر جريمة أتمّها هي سرقة الـملكوت من ربّ الـملكوت ذاته.

 

 

الخلّاصة

 

تتعبنا بمقالنا هذا في قرأتنا فيما بين العهديّن، تحت عنوان "الرّبّ هو ملكنا" من الـماضي وللأبد. حيث رأينا في مُلك داود بماضي بني إسرائيل (2صم 5: 1- 3) كيف أنّ الرّبّ إستمر أنّ يملك على شعبه من خلال أشخاص بشرييّن مثل داود نجحوا في أنّ تعلنوا ملكوت الله بإعترافهم "الرّبّ هو ملكنا". وأي ملك بشري ما هو إّلا حضور للملك الإلهي. وعلى هذا الـمنوال قرأنا رسالة الرجاء الإلهيّة الّتي كتبها الله منذ القدم في نسل داود أذ خرج الـمسيا أي الـملك الـمنتظر من نسله بحسب الإنجيل اللوقاوي (23: 35- 43) وبشكل إنعكاسي أظهر يسوع من خلال موته وقيامته هذا الـملكوت الّذي قَبل فيه بمجانيّة اللص اليميّن الّذي إعترف بربوبيته وبملكوته بل طلب أنّ يكون معه في ملكوته. بخلاف تلميذيه يوحنا ويعقوب إبني زبدي الّذين طلبا أنّ يجلسا عن يمينه ويساره في ملكه (راج مر 10: 35- 40). أدرك هذا اللص أنّ يسوع هو الـملك الحقيقيّ وأنّ موته ظلمًا والّذي تحقق كان بسبب الخلاص به ولكلّ البشريّة فأسرع بطلبه وناله بقوله: "أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ" (لو 23: 42). هذا هو جوهر الإعتراف بأنّ الرّبّ هو ملكنا وليس سواه. دُمتم في أمانة وإعتراف بسيادة ربّ وملكنا إلى الأبد.