موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ يونيو / حزيران ٢٠٢١

مُكَرّسينَ بالحقّ

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
مُكَرّسينَ بالحقّ

مُكَرّسينَ بالحقّ

 

الأحبّاءُ جميعًا في المسيح يسوع. الزّمن الفصحي زمنٌ يَستمرّ على مَدارِ سَبعةِ أسابيع. والرّقمُ سبعة هو رقمُ الْمِلء والكمال. فالفصحُ بِأسابيعه السّبعة هو صورةٌ مُسبَقة للكمالِ الّذي نَصبو إليه، وَلِلْمِلءِ الّذي نَبْتَغيه جميعًا، عند قيامتِنا مع الرّب، بعد انقضاء هذهِ الغربةِ الأرضية، وعبورنا من الموتِ إلى الحياة. نحن اليوم في الأحدِ السّابع والأخير من آحاد الزّمن الفصحي، ولكنّ الفصحَ بِمَعانيه الرّوحية العَميقة والّلاهوتيّة السّامية، يَبقى حقيقة إيمانٍ، بلا انقضاء ودونَ انتهاء، طول إيامِ حياتِنا.

 

في هذا الأحدِ السّابع للفصح المجيد، نَقرأُ صلاةَ يسوع، وفيها يستودِعُ تلاميذَه وكنيستَه كُلَّها، بين يديّ الآبِ السّماوي. يَكِلُنا إلى حمايتِه وحِفظِهِ. فنحنُ أبناءُ الله وخَاصّتُه، ونحن شعبُ مرعَاه وغنمُ يَده (مزامير 7:95). اللهُ يرعانا ويقودُنا، فَلا يهلِك أحدٌ، إلّا من اختارَ أن يكون ابنًا للهلاك.

 

نحنُ، وإن كنّا في العالم، إلّا أنّنا لَسنا من هذا العالم! فَنَحنُ في الأرضِ مغترِبون عابِرون، نسيرُ صوبَ الوطنِ والْمَقر! وإن كانت أَجسادُنا اليوم تمشي على الأرضِ، فَقلوبُنا مرفوعة إلى العُلى، وإنّها لدى الرّب. فإن كان رجاؤنا مُقتصرًا على هذهِ الحياة الأرضيّة، فنحن أَحقّ النّاسِ بأن يُرثى لَنا (1قور 19:15)، ولكنّ رجاءَنا هو في اللهِ خالِقِنا وغَايَتِنا القُصوى، حيثُ الفِصحُ الأبدي، حيث لا موتٌ ولا بكاءٌ ولا حزنٌ ولا صراخ ولا ألم (رؤيا 4:21)، بل برٌّ وفرحٌ وسلام وحياةٌ أبدية، لا تزول.

 

نحنُ في العالم أَصحابُ دعوةٍ وحامِلو رسالة! فَدَعوتُنا أن نكونَ مُكرّسينَ بالحق ولأجلِ الحق، ورسالتُنا أن نكونَ شهودًا للحق، وما الحقّ إلّا يسوع المسيح، الّذي هو أيضًا الطّريق والحياة، ولا أحدَ سواه. لِذلك حَذارِ من كلّ خَلطٍ ومداهنةٍ وَرياء. فإن كنّا بَشرًا مجتمعين في الإنسانيّة، نُسالمُ جميعَ النّاس ما أَمكَن، نعيشُ وإيّاهم باحترامٍ وكرامة على قَدر ما الأمر بِأيدِينا، إلّا أنّنا لا نَتنازلُ قيدَ أُنملة عن إيمانِنا المطلق بالمسيح يسوع، تحتَ حُجَجٍ وذرائع سَياسيّة أو اجتماعيّة. فالمسيح ليس دعايةً انتخابيّة ولا سلعةً تجاريّة، لكي يَستَخدمها البعضُ في خطابات وشعاراتٍ وإعلاناتٍ، لا تَنبعث منها سوى رائحة الإفكِ والكَذب.

 

نحنُ رُسلُ الحق، والْمُتَنكّرون لِلحقّ عَدِيدونَ جِدًّا! فَالّذينَ يُحاربونَ الحقّ كُثُر، والّذين يَهضِمونَ الحقّ كُثرٌ أيضًا، والّذين يَسلِبونَ الحقّ كثرٌ جدًّا! وكلّ مَن يحارب الحقّ إنّما يحاربُ اللهَ نفسه، والّذي يحاربُ الله، مَصيرُهُ الانكسارُ والفشلُ والانكفاءُ إلى الوراء!

 

نحنُ مرسلون في العالم، واللهُ هو الّذي أَرسَلَنا وكَرّسنا بروحِ الحقّ، الّذي ملأَ الكنيسةَ يومَ العنصرة. فهو مَعنا، يرشِدنا ويُلهِمنا إلى الحقِّ كلّه. وإن كنّا شهودًا للحق، فَنحن حاملون للنّور وأبناءٌ للنّور. وإن كنّا حاملي النّور، فنحن نسيرُ في الطّريق القويم. وإن كنّا نسلِكُ في الطّريق المستقيم، فَمَصيرنا أن نبلغَ الحياةَ الأبديّة، حيث المسيح الّذي هو الطّريقُ والحقُّ والحياة (يوحنّا 6:14).

 

نحنُ رسلُ الحق، وكلُّ من يَبغضُ الحق، يُبغِضُنا ويرفضُ رسالتِنا، ويسعى للقضاءِ على رسالة الله فينا. ومع ذلك لا تَنثَني عزيمتُنا، ولا نَتَقَهقرُ إلى الخلف، فإنْ كانَ اللهُ مَعَنَا فَمَن يكون عَلينا! لِذلك، لم يطلب لنا المسيح هروبًا، بل طلبَ لنا صمودًا. لم يطلب لنا مَناصًا، بل طلب لنا حفظًا ونجاة. فبالرّغم من كلّ الصّعاب والحِراب، وبالرّغم من كلّ سهام الشّرير الْمُستَعرة والموجّهة نَحوَنَا، وبالرّغم من كلّ العَقَبَات والحفر الطّبيعيّة منها وتلك الْمُختَلَقة والْمُصطَنَعة، نظلّ راسخين ثابتين، ثبات الأغصان في الكرمة. عالمين أنّ الشّدةَ الّتي تُصيبُنا، لا تعني بالضّرورةِ انكسارًا ويأسًا، بقدر ما تكون تَقضيبًا وتهذيبًا، لكي نثمرَ أكثرَ فأكثر.

 

نحن ملحُ الأرضِ ونحن نور العالم! فمن أرادَ أن يكون ملحًا، عليه أن يقبلَ بأن يُرشّ أحيانًا فوقَ أطباقٍ شهيّة، لِيَزيدَهَا نَكهةً وَطِيبَة، وفي المقابل، عليه أن يقبل أيضًا، بِأَن يُنثرَ في قارعة الطريق، لكي يُذيب ثلوج كوانين البارِدة. ومَن أراد أن يكونَ لِلعالم نُورًا، عليه أن يكون مستعدًّا لأن يشتعِلَ، لكي يُنير الدّرب للآخرين.

 

يَقول الأديب جبران خليل جُبران: (الحقُّ يحتاجُ إلى رَجُلَين: رجلٌ يَنطِقُ به، ورَجلٌ يفهَمُهُ). ربّما تجد أناسًا يملكون الشّجاعةَ والقوّة لِقَول كلمة حقٍّ في مواقفَ يُراد بها باطل، ولكن ستجد أيضًا من يَصمّونَ آذانَهم، ويُغمِضون أعينَهم، لِئلّا يُدرِكوا بأنّ الحقّ حق.