موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

"مُعايّنة الرّبّ" بين كاتبي سفر الحكمة والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اي 19: 23- 27؛ يو 6: 37- 40)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اي 19: 23- 27؛ يو 6: 37- 40)

 

الأحد الحادي والثلاثيّن (ج)

 

مُقدّمة

 

يقع عيد جميع القديسين الّذي نحتفل به ككنيسة كاثوليكيّة في أوّل نوفمبر من كلّ عام. ويليّه مباشرة، نحتفل بعيد الراقديّن في الرّبّ، وهم الّذين نجحوا في مُعاينة الرّبّ بحياتهم وإستمروا في معاينته في الأبديّة. يقع هذا العيد يوم الأحد الـمُكرس لقيامة الرّبّ وللفصح الأسبوعيّ. لذلك تأتينا النصوص الطقسيّة الّتي سنناقشها فيما بين العهديّن بين نص العهد الأوّل من خلال السفر الحكميّ وهو سفر أيّوب (19: 23- 27)، حيث نناقش رد فعل إنسان بشريّ مثلنا، حيث يرى ما وراء الألم، إذ يُعاين ما هو إلهي وهو لازال بجسده الـمتألم على الأرض! كيف تمكن أيّوب من ذلك؟ بالتوازي أيضًا لهذا النص سنقرأ بعض آيات بحسب كاتب الإنجيل الرابع (يو 6: 36- 40) من خطاب يسوع الّذي سيكشف عن مخطط الآب لي ولك من خلال نزوله على الأرض من مجده. إذن، معاينة الرّبّ نجد مفتاحها في قبول شخص يسوع الّذي يدعونا لبعض الخطوات الّتي سنتعرف عليها لندخل في خطة الله من خلال معاينتا له بحياتنا. هل سننجح؟ فاختياراتنا تساعدنا على القيامة أو غيرها! نهدف من خلال هذا الـمقال أنّ ننفتح على فضيلة أيّوب وعلى فعلين كشف عنهما يسوع بحسب اللّاهوت اليوحنّاويّ.

 

 

1. الثقة بالفاديّ الحيّ (اي 19: 23- 27)

 

أمام الكثير من أقوال أصدقاء أيّوب، وهو من الأسفار الحكميّة، تأتينا إجابته عليهم في هذا النص الـمُطول الّذي يستمر في كلّ الإصحاح التاسع عشر بكامله. نقرأ: «فأَجابَ أَيُوبُ وقال» (أي 19: 1). فتأتي كلماته الناتجة عن خبرة الآم عميقة وبعد فقدانه الأبناء وميراثه حتى نالت خسارته من جسده. وهنا تأتي كلماته مُدافعًا أحيانًا عن الرّبّ بثقة. وهو هنا يمثلنا بعد أنّ عمّ على تفكيره بعض من التقلبات بسبب التحديات وما يواجهه من متاعب إلّا إنّه يقظ في وصفه الرّبّ قائلاً: «مَن لي بِأَن تُكتَبَ أقوالي ومَن لي بِأَن تُحفَرَ في سِفْرٍ بإِزْميلٍ مِن حَديدٍ وبِالرَّصاص أَن تنقَشَ في الصَّخرِ لِلأَبَد؟ فادِيَّ حَيٌّ وسيقوم الأَخيرَ على التُّراب. وبَعدَ أَن يَكونَ جِلْدي قد تَمَزَّق أُعايِنُ اللهَ في جَسَديأُعايِنُه أَنا بِنَفْسي وعَينايَ تَرَيانِه لا غَيري قد فَنِيَت كُلْيَتايَ في داخِلي» (اي 19: 23- 27). نجح أيّوب بسبب ثقته بالرّبّ، بالرغم من صعوبة آلامه، في الفصل بين ما سمعه عن الرّبّ وبين ما إختبره في حياته عنه. لذا تأتينا البُشرى السّارة على لسانه بقوله "فاديّ حيّ". يعلن أيّوب، رجل الإيمان، بقوله: "أُعاين الله" بأنّ الله قد فداه وخلّصه إذ بحياة الله نال حياة حقيقيّة منه سواء في حياته الأرضيّة أو بعد فناء جسده. مما يفتح لنا بابًا ويدعونا لنتمكن من مُعاينة الله أي رؤيته أثناء حياتنا الأرضيّة.

 

 

2. شموليّة الخلاص (يو 6: 37)

 

نستمر من خلال كلمات يسوع بحسب يوحنّا في الكشف عن معاينة الله. ففي الإصحاح السادس بحسب يوحنّا، يقدم لنا خطبة يسوع عن الطعام السماوي. وبعد أنّ أشبع الجياع بتكثيره السمك والخبز، يقدم لنا الإنجيليّ في تلك الآيات القليلة على لسان يسوع أمام مُعارضيه وقابليه من السامعين له، قائلاً: «جَميعُ الَّذينَ يُعطيني الآبُ إِيَّاهُم يُقبِلونَ إِليَّ ومَن أَقَبَلَ إِليَّ لا أُلقيهِ في الخارج» (يو 6: 37). يكشف يسوع بقوله هذا عن سرّ إلهي جديد كان كامنًا بينه وبين الله الآب، وهو إنّ كل إنسان بشري هو عطيّة وهديّة من الآب للابن. لذا مَن يقبل الابن يكون داخل هذه العلاقة البنويّة بين الآب والابن. لكي ندخل في هذه العلاقة ولا نُلقى خارج علاقة الحبّ بين الآب والابن، ما علينا إلّا أنّ نقبل يسوع الابن بحياتنا. دون تزييف مدعوين بأنّ نقوم بخلع قناعنا الّذي يخفي حقيقتنا وهي أنّ نقبل يسوع في أدق تفاصيل حياتنا حتى الّتي لا ندركها ولكن إيماننا في الآب والابن إنهما يعملان معًا ليشملانا بالخلاص الأبديّ. وهنا تبدأ مسيرتنا في معاينة ورؤية يد الرّبّ في حياتنا وهو يعمل بدقة وجديّة معًا.

 

 

3. لا للهلاك، نعم للقيامة (يو 6: 38- 39)

 

يعلن يسوع في خطبته، بحسب اللّاهوت اليوحنّاويّ، عن سبب تجسده من قِبل الآب قائلاً: «فقَد نَزَلتُ مِنَ السَّماء لا لِأَعمَلَ بِمَشيئتي بل بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَنيومَشيَئةُ الَّذي أَرسَلَني أَلاَّ أُهلِكَ أَحَداً مِن جَميعِ ما أَعْطانيه بل أُقيمُه في اليَّومِ الأَخير» (يو 6: 38- 39). الـمشيئة الإلهيّة، تكمن في اللّاهلاك وقوة الخلاص بقيامة كل من يقبل الابن في اليّوم الأخير، أي الإنتقال من العالم الأرضيّ للأبديّة. وهنا يؤكد الإنجيليّ بحسب منهجيته بأنّ قيامتنا بعد عبورنا الجسديّ، ستتم بحسب إختيارنا متى قبلنا يسوع الابن سيّد ورّبّ حياتنا من هنا والآن، أي أثناء حياتنا البشريّة. وهنا متى قبلنا يسوع إخترنا قيامتنا، والعكس صحيح فالهلاك ينال ممن لا يقبله لأنّه هو مُحقق قيامتنا وخلاصنا وهذا من خلال قيامته وعبوره سره الفصحيّ (راج يو 19- 20). إذن هدف الله ومشئيته هو اللّاهلاك بل القيامة. إذن الدور الإلهيّ واضح في تقديم الخلاص مجانًا للكلّ، إذن ما هو دورنا كبشر لنتعاون مع الرّبّ في خطته الخلّاصيّة؟

 

لنجب على هذا التساؤل يدعونا يسوع لإختيار القيامة بشكل يوميّ في حياتنا البشريّة ليس فقط بقبول الابن وهو أساسيّ ولكن من خلال قوله: »فمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير «(يو 6: 40). بحسب اللّاهوت اليوحنّاويّ يرتبطا فعل يرى بفعل يؤمن، إذ أنّ مَن يؤمن حقيقة بالرّبّ يتمكن من رؤيته ويتلمس يده في حياته اليوميّة بشكل يفوق الطبيعة. إذ أنّ حياتنا بالإيمان تفتح أمامنا الكثير لنرى يد الآب الّتي تعمل من خلال الابن بقلوبنا وتكشف عن خطته الخلّاصية من جانب وتفتح عيوننا لنرى حقيقة الله ونحن نحيا حياتنا، كأيّوب، بتحدياتها وبصعوباتها وهنا يأتي الإيمان بالرّب الّذي يستمر في خلاصنا وينتصر في أيام حياتنا الأرضيّة لنبدأ في مُعاينته حتى نتحد معه في الأبديّة. إذن إيماننا ورؤيتنا النابعين من علاقتنا بالرّبّ، يكشفا عن تجاوبنا في الخطة الخلاصيّة الّتي هي قيامتنا. حيث تبدأ مُعاينتا للرّبّ من هنا والآن وتستمر بعد عبورنا إليه.

 

 

الخلّاصة

 

إخترنا عنوانًا لـمقالنا هذا بـ "مُعايّنة الرّبّ". حيث ناقشنا كلمات أيّوب (اي 19: 23- 27) النابعة عن تجربته الـمؤلـمة بأنّه «يُعاين الله». هذه الـمُعاينة لن تتم من حياة ملائكيّة سعيدة بل على العكس، يصير الألم البشريّ وسيلة يستخدمها الله ليكشف عن ذاته. ويصبح الشرّ الّذي نشكو منه، أداة في يد الله لنعاين تحريره وخلاصه لنا. فقد إختبر أيّوب، كما وضحنا، بقوله: «فاديّ حيّ» بأنّ رؤية تبدأ من واقعنا ولن ننتظر عبورنا الجسديّ لنراه بل من قلب ظروفنا اليوميّة يفدينا ويحيا هو فينا. على هذا الـمنوال ناقشنا تأكيد يسوع في خطابه بحسب يوحنّا (6: 37- 40) بأنّ نزوله على أرضنا كشفت عن وجه الله الآب وهو لن يصير سببًا بعد للـموت مَن يراه، بل على العكس مَن منا يراه هو مَن يؤمن حقيقة بالرّبّ فيرى حضوره وحبّه ورحمته في أدق تفاصيل حياته. إذن معاينة الرّبّ ليست بعيدة الـمنال عنا بل هي تعتمد على إختيارنا وقبولنا للابن الإلهي الّذي نراه ونأكل جسده ودمه ويحاور قلوبنا بكلمته ويعمل في حياتنا كاشفًأ عن وجه أبينا السماويّ وخطته الخلاصيّة من هنا والآن. إذن لا نخشى الألم كأيّوب لأنّ الآب والابن يعملا بحياتنا بقوة الرّوح القدس. مدعويّن في الإستمرار في  الإيمان بالرّبّ والتركيز على رؤيّته بحياتنا يومًا بعد يوم. دُمتم بقلوب ترى ما يعمله الله الآب والابن والرّوح القدس لخلاصنا ولقيامتنا من خلال مُعاينة الرّبّ بحياتنا دون شك.