موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥

ميلاد مريم العذراء فجر الخلاص

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

 

القديسان يواكيم وحنة:

 

كان والدا الطفلة مريم المحظوظان القديس يواكيم والقديسة حنة طاعينين في السن، وكانت حنة عاقرًا. وقد تنبأ الله منذ البداية بميلاد العذراء المباركة عندما وعد البشرية الساقطة بامرأة أخرى ستسحق رأس الحية. "فلما تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا لإمراة" (غلاطية ٤: ٤). ظهرت مريم كنجمة صبح في بحر العالم العاصف بالتمرد ضد الله، ظهرت طاهرة، مقدسة، ممتلئة نعمة (أوقات ١: ٢٨) بشرها الملاك وحُبل بها بالروح القدس، أي بدون الخطيئة الأصلية.

 

إن النعمة التي نالتها العذراء المباركة فاقت نعمة الله ليس فقط لها وحدها بل للبشرية بأجمعها بإبنها يسوع المتجسد منها.

 

لماذا ولِدت العذراء مريم من أُمٍ عاقرة؟

 

"لأنها مشيئة الله".

 

في هذا الصدد يقول القدّيس يوحنّا الدمشقي في إحدى عظاته:

 

ولكن لماذا ولدت العذراء الأُمّ من إمرأةٍ عاقر؟ لما هو وحده جديدٌ تحت الشمس، ولتتويج العجائب، كان ينبغي أن تُمهّد السّبل بالعجائب، ومن الحقائق الأكثر ضعة، كان ينبغي أن تُبرز ببطءٍ الحقائق الأكثر عظمة. الطبيعة تركت النعمة تسير أمامها.

 

توقّفت مرتعدةً ولم تُرد أن تكون الأولى. فلمّا كان على العذراء والدة الإله أن تولد من حنّة، لم تجرؤ الطبيعة أن تتقدّم على ثمر النعمة، لكنّها مكثت دون ثمرٍ إلى أن حملت النعمة ثمرها. كان يجب أن تكون بِكرًا تلك التي وجب عليها أن تلد بكر كلّ الخليقة الذي يُثبت كلّ شيء .

 

 

ميلاد العذراء دعوة للتأمل في رسالة الفداء 

 

إن الاحتفال بميلاد السيدة العذراء مريم، الذي نحتفل به كل عام في الثامن من سبتمبر/ أيلول، يشكل دعوة للتأمل ليس فقط في الأهمية المركزية التي اكتسبتها مريم في تاريخ الخلاص، بل وأيضاً في الأهمية العميقة التي تحملها "الرسالة" المرتبطة جوهرياً بميلاده.

 

فمن هذه اللحظة المقدسة تبدأ رسالة ذات أهمية لا تُقاس: رسالة أن تكون أم المخلص يسوع الفادي، التي ستجلب النور إلى عالم غارق في الظلام.

 

إن مريم، منذ مولدها، مقدّر لها أن تقوم برسالة فريدة من نوعها، رسالة ستشهد استعدادها الكامل لأن تصبح القناة التي سيتدخل الله من خلالها في التاريخ البشري. وفي مريم نرى ذروة الاستعداد البشري للاستجابة لدعوة الله. إن حياتها هي طريق الإخلاص المطلق، وهي شهادة حية على كيفية التفاني في خدمة إرادة الله، وكيف يمكن لهذا التفاني أن يؤدي إلى حب وفهم عميقين للتدبير الإلهي.

 

إنّ رسالة مريم، التي تبدأ بميلادها وتتوج بالبشارة، تصبح منارة أمل ومثالاً لكل من يسعى إلى عيش حياة مكرسة لخدمة الله والآخرين. إن دورها ليس فقط دور الأم، بل أيضًا دور التلميذة الأولى، التي تسمع كلمة الله وتضعها موضع التنفيذ بقلب نقي وغير مشروط.

 

إنّ ميلاد العذراء مريم يذكرنا بأن الرسالة ليست مجرد عمل، بل هي كيان. أن نكون حاملين مشعل النور الإلهي، و شهوداً لمحبة الله والقريب ، وأن نكون أدوات لنعمته في العالم.

 

بالنسبة لنا، نحن معشر المسيحيين، إن الاحتفال بميلاد مريم العذراء، هو وقت للتأمل الشخصي والجماعي في رحلة رسالة التبشير والدهون للخلاص. إنه وقت لإعادة تأكيد التزامنا بالاستجابة بسخاء وشجاعة لدعوة الله، والسير في هذا العالم وراء مريم  والتمسك بمثالها وفضائلها. وفي هذا السياق، يُدعى المسيحيون إلى التأمل في كيفية تجسيد رسالة البُشرى، وحمل الإنجيل في حياتهم اليومية، مستوحاة من رسالة مريم، وهي رسالة متجذرة في الإصغاء اليقظ لكلمة الله والخدمة بالمحبة للقريب، وفي بحث مستمر عن العدالة والسلام والمصالحة.

 

 

القداسة والرحمة

 

عيد ميلاد السيدة العذراء مريم هو الوقت الذي تتأمل فيه الكنيسة الجامعة في عمق الرحمة الإلهية ويؤكد على ميلاد مريم أم يسوع، فيمنح المؤمنين الفرصة للتأمل في القداسة والنعمة والرحمة التي تتردد صداها من خلال حياتها وخدمتها المجانية و غير الأنانية. وتتجلى الرحمة بشكل بارز في لحظة ميلادها، وهو الحدث الذي يمثل بداية تحقيق الوعد الإلهي بالفداء والخلاص للبشرية. ومن خلال استعدادها لأن تكون الإناء الذي يختار الله من خلاله أن يتجسٌد.

 

يمكننا أن نبدأ في فهم معنى الرحمة الإلهية، وهو موضوع شاق وصعب لأنه يتجاوز الفهم البشري ويحتضن كل فرد بحب ورحمة لا حدود لها. وفي إحتفالنا اليوم، بعيد ميلاد العذراء، هذا الاحتفال يجعلنا أن ننظر بعين الرحمة إلى القريب باعتباره صفة إلهية يتم التعبير عنها من خلال قبول الآخر بالمسامحة والمغفرة.

 

أصبحت مريم منذ ولادتها رمزًا للقبول غير المشروط لنعمة الله، وهي شخص يرحب بالرحمة الإلهية بأذرع مفتوحة، وبقلب نقي وطاهر، حيث سيجلب هذا القلب الحنون والمملوء رحمةً المخلص، يسوع المسيح، فادي العالم.

 

إنّ الاحتفال بميلاد مريم يعني أننا نتعلم من حياة مريم أهمية العيش في حالة من الانفتاح على رحمة الله وقبولها، والسماح لأنفسنا بالتغير وتحويل حياتنا وحياة الآخرين إلى الأفضل والأحسن من خلال أعمالنا التي يجب أن نقوم بها مع اي إنسان بالحوار البنّاء و اللطف والتفاهم والمحبة بإخلاص.

 

إنّ ميلاد مريم يدعونا إلى التأمل في حياتنا، ودورنا في قبول وتوزيع الرحمة في العالم، مع التأكيد على أهمية الحياة التي نعيشها في انسجام تام مع قيم الرحمة ونكران الذات والتعاطف مع الآخرين. إنه وقت لتذكير أنفسنا بأن الرحمة ليست مجرد هبة نتلقاها، بل هي أيضًا دعوة إلى التصرف بلطف تجاه الآخرين، وإضاءة العالم بنور المحبة والنعمة الإلهية.

 

 

صلاة:

 

أيتها العذراء مريم القديسة، المرأة الفريدة، التي ولدت لهذه الحياة، لتعلن الخلاص والسلام الحقيقيين للكنيسة ولقلوبنا وللبشر المعذبين. أيتها العذراء التي لا تُقهر، يا من بدأتِ منذ ولادتك في تدمير حكم الشيطان وأعماله، نتوسل إليكِ أن تُدمري تعاليمه الباطلة فينا، وأعطنا أن نقاومه دائمًا بالإيمان الحي، لكي يملك يسوع مخلصنا فينا ومعنا. أيتها العذراء الطاهرة، التي ولدت وعاشت دائمًا أنقى من السماوات والملائكة، امنحينا أن نعيش، من الآن فصاعدًا حياة طاهرة، لا تشوبها شائبة، على مثال حياة إبنك يسوع المسيح، آمين.