موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٢ أغسطس / آب ٢٠٢١

من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الإبد

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الإبد

من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الإبد

الأحد العشرون (الإنجيل يو 6: 51-58)

 

من يتصفّح كتاب التعليم الآخير، والذي صدر بعد المجمع المسكوني الثاني، في أواخر القرن الماضي وبرعاية البابا اللاحق بندكتس السادس عشر، ويقرأ فيه ما طاب له، يخرج بالإنطباع: هناك كلمات كثيرة فيه، لا نجدها في أي كتاب آخر. التعليم المسيحي قائم على شرح محتوى الدّيانة، التي تُعلِّمها التوراة، وكما يقول المثل في كثير من المواقع، بكلمات لاهوتية غير مفهومة، يُتمتِمُ بها المؤمن، دون أن يفهم طول أو عمق معناها. فمثلا يوحنا يذكر بين أوّل سطور إنجيله، العبارة "الكلمة صار جسداً وسكن بيننا"(14:1). هذه الكلمة تأتي في صلاة قانون الإيمان وفي صلاة بشارة الملاك للعذراء. فمن الممكن أنّ اللاهوتي بالذات لم يُدرك، ما حوت هذه الكلمة وما عنته في طيّاتها، أي تجسّد الله في صورة بشر. لكن الجهالة في الدّين، وقلَّة الفهم لكلمة جسد، برزت أيضا في إنجيل يوحنا، بعد أعجوبة تكثير الخبز، وخطاب يسوع، أنه سيعطي العالم خبزا جديدا، هو جسده. فمن يأكل من هذا الخبز، يحيا إلى الأبد. هنا تقوم قمّة الجهل بفهم لغة الدّيانة الخاصة وتفسيرِها. ومن هنا أيضاً حِدَّةُ الجدال بين يسوع، وبين الّذين لم يفهموا ما عنى به، "فخاصم اليهود بعضُهم بعضاً وقالوا: كيف يستطيع هذا أن يعطينا جسده لنأكله"(يو 52:6). هم لم يستوعبوا من البداية، أنّه يتكلَّمُ عن خبزٍ، غيرِ  الخبز الأرضي. هم أرضيّون، ولم يفتكروا، كما يقول بولس، إلاّ لما هو أرضي، لا بما هو فوق"كولسي 2:3)، لذا كانت ردّةُ فعلهم هذه، التي لا نُميِّزُها عن ردة فعل أطفال، يسمعون هذه الكلمة لأوَّلِ مرّة. فكلمة خبز، تعني لهم حرفيّا، قطعة الخبز الذي بين أيديهم، وكلُّ تأويلٍ هو فوق طاقة فهمهم. فهذا ما أخبرت به مربيّة ومعلِّمة دين في الصفوف الإبتدائية، أنها شرحت لمستمعيها أعجوبة تكثير الخبز وطبعا لفتت أنظارهم إلى الأُعجوبة الأكبر، وهي إنشاء القربان ، وتحويل هذا الخبز إلى جسده، الذي أمرنا بأكله، كي نحصل على الحياة الأبدية، فكانت ردة الفعل عند الأولاد بديهية، أي الإشمئزاز من أكل اللحم البشري.

 

هذه بالضبط ، ردّة فعل الكثيرين، بعد أعجوبة تكثير الخبز وإعلان يسوع عن تأسيس سرِّ القربان. فالمستمعون فهموا قوله حرفيّا: كيف يستطيع هذا أن يُعطينا جسده لنأكله، مُظهرين الإستياء العميق والرّفض القاطع لهذا الكلام. لأنّ طقوس كل الدّيانات، التي كانت معروفة، كانت لا تتميّز عن بعضها البعض بشيء، بل كلُّها بالتالي، كانت تنتهي بأكل نصف اللحوم التي تُذبح في معابد الآله. نصفها يُحرق مرضاة للآلهة ،ونصفها الثاني كانت تُقسّم على المصلين، الذين كانوا يعتبرونه شرفا كبيراً، أن يجلسوا على طاولة آلهتهم، ويأكلوا من تقادمهم، حيث يعتبرون ذلك، ربطَ صداقة معهم. بل أيضا كانوا يعتقدون، أنَّ مَن أكل من هذه التقادم، كانت تدخل فيهم قوّةٌ وحياةٌ خاصة من آلهتهم.

 

فما كان الأوثان يصبون إليه، أي الإتحاد بألهتم والحصول على حياتهم فيهم، نتيجةً لأكل لحوم التقادم، هذا جعله يسوع ممكناً لكلّ البشر. فهو يُعطينا جسده لنأكله، ودمه لنشربه،  فنحصل بمفعولهما على الحياة الأبديّة.  فلمّا قال يسوع هذا، ثار عليه الكثيرون واحتجوا: هذا كلام قاسٍ، من يستطيع سماعَه؟ فكانت النتيجة أنَّ كثيرين تركوه. لكنّ يسوع بقي على قوله، وكرّر هذا القول، عدّة مرات، كما يذكر يوحنا. فيسوع ما قصد أن يعمل من تلاميذه، آكِلي لحوم بشر، كما اتّهمتهم الإشاعات الكاذبة، أثناء اضطهادات نيرون في روما، حيث قيل عنهم: إنّهم يأكلون لحوم الأطفال. فهذا الإتّهامُ الفارغ، قائم على محدوديّة التفكير. فاللحم لحم، والدّم دم، كأنَّ لا وجود للسرِّ المقدّس في ديانة يسوع، والتحويل الجوهري، الّذي يُحوِّل الخبز إلى جسده، والخمر إلى دمه الحيّ الحقيقي، الذي قال عنه: هذا الخبز هو جسدي، الذي أبذله ليحيا العالم. هدف يسوع واضح، هو الإتحادُ به والحصولُ على الحياة الأبديّة، التي لا نحصل عليها، إلا إذا أكلنا جسده وشربنا دمه، تحت شكلي الخبز والخمر، اللذان يصبحان بكلام التقديس، فعلا جسده ودمه بيننا. فإن أكلنا هذا الخبز وشربنا هذه الخمر، التي تتحوّل بكلام التقديس إلى جسده ودمه الحقيقين، تدخل حياته فينا، لنحيا إلى الأبد. فكما أنَّ الطعام المادي، الذي نأكله، يتحوّل فينا إلى قوّة، ويحفظنا لنحيا على هذه الأرض، كذلك إذا أكلنا جسده وشربنا دمه، يتحولان فينا إلى حياته الإلهية. نعم، من يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الخمر، يحيا إلى الأبد . آمين