موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

ملامح طفولة يسوع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الأول بعد الميلاد: العائلة المقدسة (لوقا 2: 22-40)

الاحد الأول بعد الميلاد: العائلة المقدسة (لوقا 2: 22-40)

 

الاحد الأول بعد الميلاد: العائلة المقدسة (لوقا 2: 22-40)

 

النص الإنجيلي (لوقا 2: 22-40)

 

22 ولـمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدا بِه إِلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ، 23 كما كُتِبَ في شَريعةِ الرَّبِّ مِن أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ، 24 ولِيُقَرِّبا كما وَرَدَ في شَريعَةِ الرَّبّ: زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام. 25 وكانَ في أُورَشَليمَ رَجُلٌ بارٌّ تَقيٌّ اسمُه سِمعان، يَنتَظرُ الفَرَجَ لإِسرائيل، والرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه. 26 وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قد أَوحى إِلَيه أَنَّه لا يَرى الموتَ قَبلَ أَن يُعايِنَ مَسيحَ الرَّبّ. 27 فأَتى الـهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح. ولـمّا دَخَلَ بِالطِّفلِ يَسوعَ أَبَواه، لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة، 28 حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ فقال: 29 ((الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ 30 فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ 31 الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها 32 نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل)). 33 وكانَ أَبوه وأُمُّهُ يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه. 34 وبارَكَهما سِمعان، ثُمَّ قالَ لِمَريَمَ أُمِّه: ((ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. 35 وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة)). 36 وكانَت هُناكَ نَبِيَّةٌ هيَ حَنَّةُ ابنَةُ فانوئيل مِن سِبْطِ آشِر، طاعِنَةٌ في السِّنّ، عاشَت مَعَ زَوجِها سَبعَ سَنَواتٍ 37 ثُمَّ بَقِيَت أَرمَلَةً فَبَلَغَتِ الرَّابِعَةَ والثَّمانينَ مِن عُمرِها، لا تُفارِقُ الـهَيكَل، مُتَعَبِّدَةً بِالصَّومِ والصَّلاةِ لَيلَ نَهار. 38 فحَضَرَت في تِلكَ السَّاعَة، وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم. 39 ولَـمَّا أَتَمَّا جَميعَ ما تَفرِضُه شَريعَةُ الرَّبّ، رَجَعا إِلى الجَليل إِلى مَدينَتِهِما النَّاصِرة. 40 وكانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه.

 

المقدمة

 

يصف لوقا الانجيلي في هذا النص الانجيلي (لوقا 2: 22-40) مدى أمانة مريم ويوسف لشريعة الرب ولقائهما في الهيكل مع سمعان الشيخ، آخر أنبياء العهد القديم، الذي يُحيي مجيء يسوع المخلص، ويكشف لأبويه بعض ملامح جديدة من شخصيته ورسالته. ويسوع في العائلة المقدسة خير قدوة للمسيحيِّين. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وأبعاده الروحية.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 2: 22-40)

 

22 ولـمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدا بِه إِلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ،

 

ترد عبارة "طُهورِهما" في بعض المخطوطات كقراءة ثانية، وهي "طهوره" او " طهورها" حيث أنّ الشريعة تتناول الأم: "أَيَّةُ اَمرَأَةٍ حَبلَت فَولَدَت ذَكَراً تَكونُ نَجِسَةً سَبعَةَ أَيَّام، كأَيَّامِ طَمْثِها تَكونُ أَيَّامُ نَجاسَتِها، وفي اليَومِ الثَّامِنِ تُختَنُ قُلفَةُ المَولود، وثَلاثَةً وثَلاثينَ يوماً تَظَلُّ في تَطْهيرِ دَمِها. لا تَمَسُّ شَيئاً مِنَ الأَقْداس ولا تَدخُلُ المَقدِس، حتَّى تَتِمَّ أَيَّامُ طُهرها" (أحبار 12: 2-4). ومن هذا المنطلق، بعد ختان المسيح انتظرت مريم يوم تطهيرها (تحسب المرأة في الشريعة نجسة حين تلد، لأنها ولدت ابنا يحمل خطايا أبويه ومحكوم عليه بالموت، والموت نجاسة، والنجاسة تُحرِّم دخول الهيكل)، وعند إتمام الأربعين يوماً من الميلاد، حملت الطفل يسوع وصعدت به إلى الهيكل لتُتطهَّر. أمَّا عبارة " صَعِدا بِه " فتشير الى صعود العائلة المقدس الى اورشليم قبل مجيء المجوس، والا لكان على الصبي يسوع خطر من هيرودس لحسده وقصد قتله.  أمَّا عبارة " أُورَشَليم " فتشير هنا الى الهيكل في اورشليم حيث جاء الابوان يوسف ومريم بيسوع لتقديمه للرب. فظهر هنا يسوع طفلا في الهيكل حيث استقبله سمعان الشيخ وحنة النبية (لوقا 2: 46)، وعاد يسوع الى الهيكل أثناء رسالته العلنية لطرد الباعة من الهيكل ويعلم فيه كما جاء في الانجيل "دَخَلَ الهَيكلَ فأَخَذَ يَطرُدُ الباعَة ويقولُ لَهم: ((مَكتوبٌ: سَيَكونُ بَيتي بَيتَ صَلاة، وأَنتُم جَعلتُموهُ مَغارَةَ لُصوصوكانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَومٍ في الهَيكَل" (لوقا 19: 45-47). أمَّا عبارة " شَريعَةِ موسى" νόμον Μωϋσέως في الأصل اليوناني (معناها ناموس) مشتقة من العبرية תוֹרַה "توراه" فتشير الى المجموعة التشريعية (الخمس الاسفار الأولى) التي يُنسبها تقليد العهد القديم إلى موسى. واستناداً إلى هذا المعنى التقليدي في اليهودية، يطلق العهد الجديد اسم "الشريعة" على النظام كلّه الذي كان هذا التشريع يشكّل الجزء الأساسي فيه (رومة 5: 2)، تمييزاً له عن تدبير النعمة الذي أسسه يسوع المسيح "أَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح"(يوحنا 1: 17). ويتكلم العهد الجديد، عن "شريعة المسيح" (غلاطية 6: 2). ويميّز اللاهوت المسيحي ثلاث مراحل أساسية "الشريعة الطبيعية" و"الشريعة القديمة" و"الشريعة الجديدة" (رومة 2: 14-15).  أمَّا عبارة "لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ" فتشير الى الشريعة التي تنص على واجبين الأوَّل يتعلق بالأم، والثاني يتعلق بالطفل البِكر، لان كل فاتح رحم في اسرائيل، يكون مكرساً لله بسبب انقاذهم من مصر ليلة عيد الفصح (الخروج 134: 2). والطفل البِكر كان يفتدى بذبيحة تقدمة (عدد 18: 15)، إذ يتحتم على الأم أن تُقدِّم ذبيحتين: الأولى تقديم حمل للمحرقة، والثانية تقديم يمامة أو حمامة تكفيرا عن الخطيئة؛ وهذا رمز للمسيح الذي قدَّم نفسه بفدائه ذبيحة محرقة ليُرضي الآب، وذبيحة خطيئة ليرفع خطايا البشر؛ ولكن إن كانت الام فقيرة، فيُمكنها أن تقدَّم بدل الحمل يمامتين أو حمامتين عن طريق الكاهن الذي يُعلن تطهير الام كما ورد في سفر الاحبار: "فإِن لم يَكُنْ في يَدِها ثَمَنُ حَمَل، فلْتأخُذْ زَوجَي يَمامٍ أَو فَرخَي حَمام، أَحَدُهما مُحرَقةٌ والآخَرُ ذَبيحةُ خَطيئَة، فيُكَفِّرُ عنها الكاهِنُ فتَطهُر (الاحبار 12: 8). ويبيّن لوقا الانجيلي من هذه الآية أن عائلة مريم ويوسف كانت تنتمي الى عائلة فقراء الله فقدَّما ذبيحة الفقراء. والجدير بالذكر انه لا يطالب ابكار المسيحيين بالالتزام بفدية البِكر، لأنهم بواسطة المسيح صاروا كهنة الله" أمَّا أَنتم فإِنَّكم ذُرِّيَّةٌ مُختارة وجَماعةُ المَلِكِ الكَهَنوتِيَّة وأُمَّةٌ مُقَدَّسَة وشَعْبٌ اقتَناه اللهُ للإِشادةِ بِآياتِ الَّذي دَعاكم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى نُورِه العَجيب" (1 بطرس 2: 9). إذ كام مفروض على كل ابكار اسرائيل الذكور بوجوب ان يخدموا الله كهنة لان الله جاز عنهم لدى موت ابكار المصريين (خروج 13: 15).

 

23 كما كُتِبَ في شَريعةِ الرَّبِّ مِن أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ،

 

تشير عبارة "كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ" الى الواجب الثاني الذي تنص عليه الشريعة، وهو فداء البكر في شعب الله حيث انَّ كل ذكر فاتح رحم يدعى مقدسا للرب، لان البكر خاص لله كما جاء في شريعة موسى "قَدَّسْ لي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن بَني اسرائيل، مِنَ النَّاسِ والبَهائِم، إِنَّه لي" (خروج 13: 1)؛ فالبكر يُفدى دائما "كُلُّ بِكرٍ مِن بَنيكَ تَفْديه"(خروج 13: 13). وكانت يتمُّ افداء البكر بدفع خمسة مثاقيل فضة خلال أشهر التابعة للولادة (عدد 18: 15-16). فواجب الوالدين ان يقدِّما فدية عن الابن الأول اعترافا بانتماء الطفل الى الله القادر وحده ان يهبَ الحياة، وتذكاراً لما فعله الله في زمن الخروج، حين نجَّى أبكار اليهود (الخروج 13: 11-16). أمَّا عبارة "يُنذَرُ لِلرَّبّ" في الأصل اليوناني γιον τῷ κυρίῳ κληθήσεται, (معناها يُدعى قدوسا للرب) فتشير الى تكرسيه لخدمته تعالى "قَدَّسْ لي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن بَني اسرائيل، مِنَ النَّاسِ والبَهائِم، إِنَّه لي" (خروج 13: 2).

 

24 ولِيُقَرِّبا كما وَرَدَ في شَريعَةِ الرَّبّ: زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام.

 

تشير عبارة "لِيُقَرِّبا" الى تقديم ابوي يسوع ذبيحة زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام لكي يسترداه. لم يكن يسوع مُحتاجًا لتتميم ما تطلبه الشريعة من خِتان وفداء بزَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام، لكنه انحنى بإرادته خاضعًا للشريعة من أجلنا، كما قال بولس الرسول فكما أَنَّه بِمَعصِيَةِ إِنسانٍ واحِدٍ (آدم) جُعِلَت جَماعةُ النَّاسِ خاطِئَة، فكَذلِكَ بِطاعةِ واحِدٍ (المسيح) تُجعَلُ جَماعةُ النَّاسِ بارَّة" (رومة 5: 19). ويُعلق القدِّيس يعقوب السروجي "أتى يسوع للختان لكيلا يكفُر أحد بتأنُّسِه، وأتى بالذبيحة ليُري أنه ليس غريبًا عنَّا". أمَّا عبارة "زَوْجَيْ يَمَامٍ أَو فَرخَيْ حَمام" فتشير الى تقدمة الفقراء كما تنص الشريعة الموسوية أنه إن كانت الأم فقيرة، فيُمكنها من أن تقدم بدل الحَمَل يمامتين (أي الحمامُ البَرِّيُّ) أو حمامتين عن طريق الكاهن الذي يُعلن تطهير الأم كما ورد في سفر الاحبار "فإِن لم يَكُنْ في يَدِها ثَمَنُ حَمَل، فلْتأخُذْ زَوجَي يَمامٍ أَو فَرخَي حَمام، أَحَدُهما مُحرَقةٌ والآخَرُ ذَبيحةُ خَطيئَة، فيُكَفِّرُ عنها الكاهِنُ فتَطهُر" (الاحبار 12: 8).  وكان يسوع من عائلة فقيرة تنازلا من أجلنا كما يقول بولس الرسول " فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8: 9).  فمريم وان عجزت عن ان تقدِّم للرب حملا قدَّمت في الهيكل أفضل من ذلك، قدَّمت حَمَل الله. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إن اليَمَام أكثر طيور الحقل جلبة وضوضاء، بينما الحَمام طائر وديع هادئ. كان الفادي يسوع كذلك، فقد أظهر لنا منتهى اللطف والرحمة، وكان أيضًا كيمَامة يسير في كل مكان ليملأه عطفًا ورقَّة وبركة وعزاء".

 

25 وكانَ في أُورَشَليمَ رَجُلٌ بارٌّ تَقيٌّ اسمُه سِمعان، يَنتَظرُ الفَرَجَ لإِسرائيل، والرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه.

 

تشير عبارة "رَجُلٌ بارٌّ تَقيٌّ" الى إنسان حافظ فرائض شريعة موسى حفظا تاما ومجتهدا في القيام بكل واجباته لله وللناس، ودليل على ذلك ورد مثل هؤلاء الاتقاء في يوم العنصرة في اورشليم "وكانَ يُقيمُ في أُورشَلَيمَ يَهودٌ أَتقِياء مِن كُلِّ أُمَّةٍ تَحتَ السَّماء" (أعمال الرسل 2: 5)؛ أمَّا عبارة "سِمعان" في الأصل اليونانيΣυμεών مشتق من اسم العبري שִׁמְעוֹן (معناه مُستمع) فتشير الى سمعان الشيخ، وهو رجل تقي من سكان اورشليم، وأوحي إليه الروحُ القدس أنه لن يموت حتى يرى المسيح المُتجسِّد. وتقول بعض التقاليد أنه ابن هلليل الربي اليهودي ووالد جملائيل. ويُعلق العلامة أوريجانوس اسم "سمعان" يعني "المُستمع" أو "المُطيع" فيشير إلى المؤمنين الطائعين من اليهود الذين طال بهم الزمن مترقِّبين تحقيق النبوَّات للتمتَّع بذاك الذي هو مشتهى الأمم". ويُعد سمعان آخر نبي من العهد القديم، إذ نزل عليه الرُّوحُ القُدُسُ ليكشف له اسرار المسيح المنتظر. فأعلن مجيء يسوع المُخلص وكشف لأبوِّيه رسالة المسيح عندما جاءا الى الهيكل في اورشليم ليُقدِّما فريضة الشريعة. وأنشد نشيدًا "تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام "(لوقا 2: 29-32) وبارك مريم (لوقا 2 :33-35). أمَّا عبارة "الفَرَجَ لإِسرائيل" في الأصل اليوناني "παράκλησιν τοῦ Ἰσραήλ" (معناها تعزية لإِسرائيل) فتشير الى خلاص إسرائيل كما ورد في نبوءة أشعيا "إنَي لِأَجْلِ صِهْيونَ لا أَسكُت ولِأَجْلِ أُورَشَليمَ لا أَهدَأ حتَّى يَخرُجَ كضِياءٍ بِرُّها وكمَشعَلٍ مُتَّقِدٍ خَلاصُها" (أشعيا 62: 1). وتتمُّ التعزية لإسرائيل عن طريق خلاص المسيح، لان اليهود انتظروا ان يعزِّيهم المسيح على بلاياهم متى جاء، وهذا وفق تسمية بولس الرسول للمسيح "رَجاءِ إِسرائيلَ" (أعمال الرسل 38: 2). لا شك فيه ان المسيح أعظم تعزية لكل الذين يعرفونه ويقبلونه، هو دعا نفسه كذلك ووعدهم بإرساله معزيا آخر هو الروح القدس "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16).  أمَّا عبارة "الرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه" فتشير الى معنى ان سمعان نبي كما جاء في لغة العهد القديم " فنَزَلَ الرَّب في الغَمام وخاطَبَ موسى، وأَخَذَ مِنَ الروحِ الَّذي علَيه وأَحَلَّى على الرًجالِ السَّبعين، أَيِ الشُّيوخ. فَلمَّا استَقَرَّ الرُّوحُ علَيهم، تَنبَأُوا، إِلاَّ أَنَّهم لم يَستَمِروا" (عدد 11: 25). وكرَّر لوقا ثلاث مرات أنّ سمعان كان يفكر ويعمل ويتنبأ بقوة الروح القدس، فالروح القدس هو المرجع الوحيد لحياته (لوقا 2: 25، 26،27).

 

26 وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قد أَوحى إِلَيه أَنَّه لا يَرى الموتَ قَبلَ أَن يُعايِنَ مَسيحَ الرَّبّ.

 

عبارة "أَوحى إِلَيه" في الأصل اليوناني κεχρηματισμένον (معناها مُوحى اليه) تشير الى إبلاغ الحق الإلهي للبشر. وهو عمل الروح القدس. عمل الروح القدس في فكر سمعان وفي قلبه كي يدرك مصيره لدى رؤية مسيح الرب، فأعلن عن شخصية المسيح وإيمان البشرية به. يحاول الروح القدس دائماً تعليم البشر الحق الإلهي، كما يقول بولس "أَنَّه لم يفُتْهُ أَن يُؤَدِّيَ الشَّهادَةَ لِنَفسِه بِل يَعمَلُ مِنَ الخَير" (أعمال الرسل 14: 17). أمَّا عبارة "لا يَرى الموتَ" فتشير الى سمعان الذي لن يموت الاَّ بعد رؤيته للمسيح وفقا لوعد الله له، بالرغم من انه رجل طاعنٌ في السن وزاد عمره على الوقت المعيّن له. أمَّا عبارة "مَسيحَ الرَّبّ" فتشير الى المسيح الذي وعد الرب به وارسله ومسحه بروحه كما بشَّر به ملاك الرب الرعاة " وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ" (لوقا 2: 11)؛ وينفرد لوقا الإنجيلي في سرد هذا اللقب في الاناجيل، ويدل هذا اللقب على أن يسوع هو المسيح، ويُحي بما لسيادته الملكية من طابع إلهي كما جاء في عظة بطرس الرسول الاولى "فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا" (اعمال الرسل 2: 36).

 

27   فأَتى الـهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح. ولـمّا دَخَلَ بِالطِّفلِ يَسوعَ أَبَواه، لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة،

 

تشير عبارة "الـهَيكَلَ" الى فناء النساء في الهيكل حيث يقدَّم الأولاد. أمَّا عبارة "أَبَواه" الى يسوع ومريم بالرغم من ان لوقا الإنجيلي ركّز على الحبل البتولي لمريم بيسوع كما جاء من سؤال مريم للملاك: "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟" (لوقا 1: 34)، وتحدّث لوقا عن يوسف كالوالد الشرعي ليسوع امام الناس، وعبَّر عن يوسف ومريم عنهما بالأبوين جريا على ما شاع بين عامة الناس يومئذ بقطع النظر عن الحقيقة. أمَّا عبارة "لِيُؤَدِّيا عَنهُ ما تَفرِضُه الشَّريعَة" فتشير الى تقديم يسوع وتأدية ذبيحة الفداء عنه التي جاء بها ابويه مما تُبيِّن أن يسوع لم يكن غريبًا عنَّا بل خضع للشريعة "تعزِلُ لِلرَّبِّ كُلَّ فاتِحِ رَحِم" (خروج 13: 12). والمسيح لم يكن محتاجاً للختان ولا للتطهير بعد الولادة، فهو لم يُولد من زرع بشر، ولم يرث خطيئة بل هو بلا خطيئة. فقد سال يسوع اليهود " مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46) ويصرح بطرس الرسول: "إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (2 بطرس 2: 22).  بل أكمل يسوع كل وصايا الشريعة، ليكون كاملاً بحسب الشريعة. فقد نفَّذ كل وصايا الشريعة والتزم بها كما قال بولس الرسول " فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ" (غلاطية 4: 4).

 

28 حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ فقال:

 

تشير عبارة "حَمَله عَلى ذِراعَيهِ" الى زيادة يقين سمعان بيسوع الطفل ومحبته له وسرورا به. أمَّا عبارة "بارَكَ اللهَ" في الأصل اليونانيεὐλόγησεν τὸν θεὸν  (معناها مباركة الناس الله) فتشير الى حمد سمعان الله على أعماله والثناء عليها وتمجيد من أجلها. وهكذا جعل الروح القدس سمعان قادر على تقبّل الطفل يسوع ويرى فيه المخلص ويعترف به. أمَّا عبارة "فقال" فتشير الى النطق بكلمات الوحي الشعرية في امر ميلاد الرب على مثال زكريا واليصابات ومريم وحنة النبية.

 

29 الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ

 

تشير عبارة "تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ" الى مطلع نشيد سمعان الشيخ حيث يُعلن الخلاص الذي حمله يسوع الى شعبه والى جميع الأمم راغبا الرحيل من هذا العالم الى العالم الابدي على مثال القدّيس مَرتينس، الّذي "لم يكن يخشى أن يموت". وبما أنَّ وعد الله قد تمّ، صار سمعان مستعداً لتقبل الموت بفرح وابتهاج، ويُعلق القديس غريغوريوس النيزينزي "سمعان انطلق؛ لقد تحرَّر من عبوديّة الجسد. الفخ انكسر والطير انطلق". وقد أمكن لسمعان ان يموت في سلام آنذاك لأنه قد رأى المسيح بحسب ما اوحي له. ويذِّكرنا ذلك ما قاله البابا القدّيس يوحنّا الثالث والعشرون "عليّ أن أبقى دائمًا مستعدًّا للموت حتّى فجأة، وللبقاء على قيد الحياة طالما طاب ذلك في عينيّ الربّ". أمَّا عبارة "بِسَلام" فتشير الى الاطمئنان في المستقبل وإلى علامة رضى الله. لا شيء يزيل رعب الموت ويُهيِّ الانسان للانطلاق من هذه الحياة مثل مشاهدة المسيح بعين الايمان فاديا ومخلصا. أمَّا عبارة "وَفْقاً لِقَوْلِكَ" فتشير الى وعد الله لسمعان انه لن يموت حتى يرى "مَسيحَ الرَّبّ" (لوقا 2: 26، 29).

 

30 فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ

 

تشير عبارة "رَأَت عَينايَ خلاصَكَ" الى إعلان سمعان الخلاص على يد يسوع مستوحيا من كلمات أشعيا النبي "يَتَجَلَّى مَجدُ الرَبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَر لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم"(أشعيا 40: 5). يسوع هو المسيح المُخلص القدير كما جاء في نشيد زكريا، والد يوحنا المعمدان" َأَقامَ لَنا مُخَلِّصاً قَديراً في بَيتِ عَبدِه داوُد " (لوقا 1: 69) والذي "يُخَلِّصُنا مِن أَعدائِنا وأَيدِي جَميعِ مُبغِضينا (لوقا 1: 71)، ويُخلصنا بغفران خطايانا (لوقا 1: 77). أمَّا عبارة "خلاصَكَ" فتشير في العهد القديم الى النجاة من الشر او الخطر (خروج 14: 13)، وفي العهد الجديد تشير الى انقاذ الخطأة بالإيمان بيسوع المسيح، وذلك بغفران الخطيئة والخلاص من ربقتها ونتائجها وتطهير النفس والفرح الازلي (متى 1: 21). ومن هنا جاءت عبارات "يوم الخلاص" (2 قورنتس 6: 2) و"انجيل الخلاص" (أفسس 1: 13). وهنا تدل الى المخلص الذي وعد الله به سمعان وارسله ليمنح الخلاص. فالمسيح هو خلاصنا بموته على الصليب. ولم يعلن هذا الخلاص صراحة الاّ بعد القيامة كما جاء في الكتب المقدسة "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 47). ولكن من يقبل المسيح المخلص؟ تطلع سمعان الى مصير المسيح بحسب قلب الله، لكن هذا الكلام الخلاصي يُواجه المعارضة العنيفة من قبل الذين يحلمون بمسيح زمني، او الذين يريدون ان يحافظوا على مصالحهم.

 

31 الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها

 

تشير عبارة "الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها" الى اِلوَثَنِيِّين وإِسرائيل (لوقا 2: 32) وفقا لنبوءة أشعيا القائلة "كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا" (أشعيا 52: 10). لم يأتِ يسوع ليُخلص اليهود فقط بل ليُخلص كل من يُؤمن به كما جاء في نشيد سمعان الشيخ "الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ" (لوقا 2: 31). وسمعان الشيخ هو من الأوائل الذين بشّروا بوضوح أنَّ يسوع سيأتي بالخلاص الى جميع الناس.

 

32 نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل.

 

تشير عبارة "نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين" الى ذكر البشارة بخلاص الوثنيين لأول مرة في انجيل لوقا. وهذه البشارة تلمّح الى نبوءة أشعيا "أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم" (أشعيا 42: 6). ولن تُعلن صراحة البشارة بالخلاص إلاّ من خلال وحي الفصح (لوقا 24: 47). واكّد بولس الرسول ان يسوع قد جاء ليخلّص كل من يؤمن به يهوديا كان أم يونانيًا" إِنَّنا اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا، أَيَهودًا كُنَّا أَم يونانِيِّين، عَبيدًا أَم أَحرارًا، وشَرِبْنا مِن رُوحٍ واحِد" (1 قورنتس 12: 13). وهذه هي رسالة يسوع الشاملة لجميع الشعوب. أمَّا عبارة "لِلوَثَنِيِّين" فتشير الى الجالسين في ظلمة الجهالة والخطيئة والذين أشرق عليهم المسيح، شمس المعرفة "الشَّعبُ السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور" (أشعيا 9: 3)، إنّ لفظة "وثنيّ" لا تقابل لفظة "أممي" التي تعني في التقليد اليهوديّ "اللايهوديّ". فالوثنيون هم ليسوا مسيحيّين ولا يهودًا. أمَّا عبارة "ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل" فتشير الى مجد إسرائيل، لأنهم أُعطوا المواعيد بمجيء المسيح أولا. وان المسيح وُلد منهم وانه علَّم وعمل بينهم بمعجزاته وبشَّرهم أولا بخلاصه كما جاء في توصياته الأخيرة الى رسله " وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم"(لوقا 24: 47).

 

 33 وكانَ أَبوه وأُمُّهُ يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه.

 

تشير عبارة "يَعجَبانِ مِمَّا يُقالُ فيه" الى عدم إدراك أبوي يسوع مِمَّا يُقالُ فيه: ان سمعان قال ان يسوع هو خلاص العالم (لوقا 2: 30)، وأنه "مَسيحَ الرَّبّ" (لوقا 2: 26، 29)، وانه نور العالم (لوقا 2: 32) وان الأمم يشاركون اليهود في خلاص المسيح. وهذه هي المرة الثانية التي تسمع فيها مريم العذراء نبوءة عن ابنها.  وكانت المرة الأولى عندما استقبلتها اليصابات كأم الرب (لوقا 1: 42-45) الذي اوحي به الملاك "فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوعسَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية " (لوقا 1: 32-33).  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إذ سمع يوسف والقدِّيسة مريم هذه التسبيحة كانا يتعجَّبان، لأنه ما أعلنه لهما الله عند البشارة صار معلنًا لسمعان الكاهن والشيخ بصورة واضحة".

 

34 وبارَكَهما سِمعان، ثُمَّ قالَ لِمَريَمَ أُمِّه: ((ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض.

 

تشير عبارة "بارَكَهما " الى سمعان الشيخ الذي بارك العذراء مريم ويوسف طالبا بركة الله عليهما. ولكنه لم يبارك المسيح الذي هو نفسه يبارك العالم كله.  أمَّا عبارة "إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل" فتشير الى نتيجتين متناقضتين لرسالة يسوع. يسوع الذي هو آية خلاص لكنه لا يفرض نفسه، بل هو خلاص معروض على سامعيه كما تنبأ أشعيا "فيَكونَ لَكم قُدساً وحَجَرَ صَدْم وصَخرَ عِثارٍ لِبَيتَي إِسْرائيل وفَخّاً وشَبَكَةً لِساكِني أُورَشَليمَ" (أشعيا 8: 14)؛ وقسم كبير من إسرائيل يرفضه (أعمال الرسل 28: 26-28). كما جاء في تعليم بولس الرسول "فقَد وَرَدَ في الكِتاب: هاءَنَذا واضِعٌ في صِهيُونَ حَجَرًا لِلصَّدمِ وصَخْرَةً لِلعِثار، فمَن آمَنَ بِه لا يُخْزى" (رومة 9: 33)، إذ سقط على غير المؤمن سحقه، وإن سقط غير المؤمن عليه يترضَّض كما قال يسوع في مثل الكرامين القتلة "كُلُّ مَن وَقَعَ على ذلك الحَجَرِ تَهَشَّم ومَن وَقَعَ علَيهِ هذا الحَجَرُ حطَّمَه" (لوقا 20: 18). وقد تنبأ يسوع عن الانقسام تجاهه" أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُحِلَّ السَّلامَ في الأَرْض؟ أَقولُ لَكُم: لا، بَلِ الِانقِسام. فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على اثنَينِ واثنانِ على ثَلاثَة: سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها" (لوقا 12: 51-53). لا بد أن نقبل يسوع بحرية وإيمان، ويسوع يطوّب من يؤمن به "طوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة" (لوقا 7: 23). السيِّد المسيح هو حجر الزاويّة المختار الكريم الذي أقامه الآب في صهيون، لكي من يؤمن به لن يخزي. أمَّا عبارة "جُعِلَ" فتشير الى الله الذي عيَّن يسوع ووضعه لسقوط كثيرين وقيام كثيرين. أمَّا عبارة "سقوط وقيام" فتشير الى صخرة عثرة، وبالتالي الى هلاك للبعض، وهم الذين لم يؤمنوا به بسبب كبريائهم وريائهم ورفضهم؛ ويسوع جُعل خلاص للبعض الآخر الذين تابوا وأمنوا به.  سقط الجاحدون من اليهود برفضهم المسيح، وقام المؤمنون بالمسيح. وتبين من هذا ان المسيح "لِهؤُلاءِ رائِحَةٌ تَسيرُ بِهم مِن مَوتٍ إِلى مَوت، ولأُولئِكَ رائِحَةٌ تَسيرُ بهم مِن حَياةٍ إِلى حَياة" (2 قورنتس 2: 16). وتنبأ سمعان ان الناس لن يكونوا على الحياد من الرب يسوع، إنما لهم خيارين: أمَّا ان يرفضوه بشدَّة او ان يقبلوه بفرح. ويُعلق القديس أمبروسيوس "هوذا سمعان يتنبَّأ بدوره أن ربَّنا يسوع المسيح قد جاء لسقوط وقيام كثيرين حتى يجازي أعمال الأبرار والأشرار، ويعطي كل واحد حسب أعماله كديّان حقيقي وعادل، إمَّا بالعذاب أو بالحياة".   أمَّا عبارة " آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" في الاصل اليوناني εἰς σημεῖον ἀντιλεγόμενον (معناها العلامة التي تُقاوم) فتشير الى النبوءة باضطهاد اليهود للمسيح من خلال شهادات الزور واستهزائهم وبغضهم له وقتلهم إياه وقت صلبه.  وقد أكَّد ذلك القديس كيرلس الكبير بقوله: "أمَّا آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض او العلامة التي تُقاوم فيقصد بها علامة الصليب".  فالله أرسل ابنه لخلاص العالم خلال علامة الصليب "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16)، لكن ليس الكل يقبل علامة الصليب ويتجاوب مع محبة الله الفائقة، بل يقاوم البعض الصليب ويتعثرون فيه كما جاء في تعليم بولس الرسول:" فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين،  وأمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه (1 قورنتس 1: 23-24). يسوع لا يفرض نفسه، بل يدعو الناس ان يقبلوه قبولا حراً بالإيمان. إن جزء كبيرا من إسرائيل سيرفضه كما جاء في كلمة بولس الرسول الى أعيان اليهود في روما " أَحسَنَ الرُّوحُ القُدُسُ في قَولِه لآبائِكم بِلِسانِ النَّبِيِّ أَشَعْيا: إِذهَبْ إِلى هذا الشَّعْبِ فَقُلْ له: تَسمَعونَ سمَاعًا ولا تَفهَمون وتَنظُرونَ نَظَرًا ولا تُبصِرون. قَد غَلُظَ قَلْبُ هذا الشَّعْب وأَصَمُّوا آذانَهم وأَغمَضوا عُيوَنهم لِئَلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهم وَيسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا بِقُلوبِهم وَيرجِعوا. أَفأُشْفيهم؟" (اعمال الرسل 28: 25-28). اتى يسوع لكل الناس مخلصا فرفضه بعضهم فهلك، وقبله بعضهم مخلصا فنجو. ولا يزال العالم يقاوم اليوم يسوع بمقاومة تلاميذه ودينه.

 

35 وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة

 

تشير عبارة "وأَنتِ" في الأصل اليوناني καὶ σοῦ [δὲ (معناها وأنتِ أيضا) الى عدم اعفاء مريم من الالم وعناء الإيمان والصعوبات. وهذا ما سيجعلها أمَّا، شريكة الفداء لابنها يسوع، ولكلّ إنسان آمن بيسوع وبخلاصه وبنوره وكلمته. أمَّا عبارة "أَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ " فتشير الى إنذار غامض يستند الى النبي حزقيال "إِذا جَلَبتُ سَيفًا على تِلكَ الأَرضِ وقُلتُ: لِيَجتَزِ السَّيفُ في الأَرض، وقرضتُ مِنها البَشَرَ والبَهائم"(حزقيال 14: 17). ولكن من سياق الكلام نستدل انه مجاز حقيقته انه يُصيب مريم اشد الاحزان، وذلك ان إسرائيل سينقسم أمام يسوع، حيث ان قسما كبيراً منه لم يقبلوه ورفضوه مسيحا لهم.  وجاز ذلك السيف في نفس مريم عندما حاول رجال الناصرة ان يطرحوه من الجبل (لوقا 4: 29)؛ وعندما جدَّف عليه الفريسيون بقولهم انه يُخرج الشياطين “بِبَعلَ زَبولَ سيِّدِ الشَّياطين" (متى 12: 24) وحين قبضوا عليه كمهيِّج فتنة وكمجذِّف ولما حُكم عليه بالموت، وعندما وقفت مريم قرب الصليب وسمعت اليهود يهزؤون به (يوحنا 19: 25)، وعندما أسلم الروح ودُفن في القبر وهذا ما يُسبب حزن مريم العذراء وخيبة املها. ويرى بعض المُفسِّرين تحقيق نبوءة سمعان عن الألم والحزن الذي يحزُّ في قلب مريم أمه لدى صلب ابنها على الجلجلة كما جاء في الانجيل: "هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه" (يوحنا 19: 25). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "يُراد بالسيف الألم الشديد الذي لحق بمريم وهي ترى مولودها مصلوبًا، ولا تعلم بالكليّة أن ابنها أقوى من الموت، وأنه لا بُدَّ من قيامته من القبر".  وهذه أول مرة يذكر فيها الحزن في انجيل لوقا. أمَّا عبارة "سَيفٌ" في الأصل اليوناني ῥομφαία للفظة العبرية חָרֶב (معناه سلاح صغير كالخنجر والسكين المستعمل في الذبائح والختان (يشوع 5 :2-3) او السيف) فيشير الى القدرة القاطعة للكلمة الله التي تكشف الانسان وتناديه، كما جاء في نبوءة أشعيا " جَعَلَ فَمي كَسَيفٍ ماضٍ".  والسيف في الكتاب المقدس هو رمز الى وحش يلتهم فريسته (خروج 17 :13)، والى العداوة (التكوين 3 :24)، ويمثل السيفُ الاضطهاد (مزمور 22 :21) أو الشقاء (أشعيا 27 :1). أمَّا عبارة "لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة" فتشير الى توضيح الآية السابقة (لوقا 2: 34) أي كشف المؤامرة التي حاكها اليهود ورؤساؤهم التي كانت بمثابة سيف كشف رياء ونفاق وأفكار الرؤساء الشريرة الذين تظاهروا بحفظ الناموس والغيرة على الشريعة، وتظاهروا بالقداسة وهم " أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة"(متى 23: 27)؛ وقد ندَّد يسوع بعدم إيمان سامعيه المتشدِّدين بأفكارهم كاشفا عنها بقوله: "لِماذا تُفَكِّرونَ هذا التَّفكيرَ في قُلوبِكُم؟" (لوقا 5: 22). فكانت رسالة يسوع "كشف أفكار القلوب" كما جاء في تعليمه "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة.  فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله (يوحنا 3: 19-20).

 

36 وكانَت هُناكَ نَبِيَّةٌ هيَ حَنَّةُ ابنَةُ فانوئيل مِن سِبْطِ آشِر، طاعِنَةٌ في السِّنّ، عاشَت مَعَ زَوجِها سَبعَ سَنَواتٍ

 

تشير عبارة "نَبِيَّةٌ" الى التصاقها الوثيق بالله وملهمة من الروح القدس. وليس من الضرورة ان يتنبأ الأنبياء عن المستقبل، إنما دورهم الرئيسي يقوم بالتكلم بلسان الله وإعلان حقه. أمَّا عبارة " حَنَّةُ " חַנָּה (اسم عبري معناه حنان او نعمة) فتشير الى بنت فنوئيل من سبط أشير، ارملة دامت حياتها الزوجية 7 سنوات، وهي نَبِيَّةٌ. واسمها كاسم ام صموئيل النبي (1 صموئيل 1: 2)، ويُعلق القديس ايرونيموس "فإنَّ كلمة "حنَّة" تعني "نعمة (حنان الله)"، وفنوئيل פְּנוּאֵל يعني "وجه الله"، "وأشير" אָשֵׁר يمكن ترجمتها "غنى" أو "طوباويّة"، وكانت منذ صباها قد تحمَّلت الترمُّل لمدة 84 عامًا لا تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا لذلك نالت النعمة روحيًا وتقبَّلت لقب "ابنة وجه الله" وتمتَّعت بنصيب في "الطوباويّة والغنى" إذ تنسب له. أمَّا عبارة "سِبْطِ آشِر" فتشير الى أحد اسباط إسرائيل العشرة التي اسرها شَلْمَنآسَر، ملك اشور (2 ملوك 17: 3-6) ونستنتج من ذلك ان بعض هذا لسبط حفظ جدول نسبته منذ السبي. أمَّا عبارة "طاعِنَةٌ في السِّنّ" فتشير الى عمرها البالغ نحو مئة وسبع سنوات وذلك انها عاشت مع زوجها سبع ستنين وبقيت ارملة أربعا وثمانين سنة؛ وإذا اضفنا الى ست عشرة سنة قبل زواجها وهو اقل ما يصح فرضه هنا. أمَّا عبارة "عاشَت مَعَ زَوجِها سَبعَ سَنَواتٍ" في الأصل اليوناني ζήσασα μετὰ ἀνδρὸς ἔτη ἑπτὰ ἀπὸ τῆς παρθενίας αὐτῆς (معناها عاشت مع زوجها سبع سنوات بعد بكارتها) فتشير الى حياتها الزوجية التي دامت حياتها 7 سنوات. وبعدها لم تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهاراً، وكانت هناك عندما اتيا ابوي يسوع للهيكل ليكرساه. فعرفته وأعلنت انه المسيح المنتظر.

 

37 ثُمَّ بَقِيَت أَرمَلَةً فَبَلَغَتِ الرَّابِعَةَ والثَّمانينَ مِن عُمرِها، لا تُفارِقُ الـهَيكَل، مُتَعَبِّدَةً بِالصَّومِ والصَّلاةِ لَيلَ نَهار.

 

تشير عبارة "أَرمَلَةً" الى أمرأه تمثّل بوحدتها (باروك 4: 11-16)، نمطاً خاصاً لحالة الشقاء (أشعيا 47: 9). إن لباسها (تكوين 38: 14) يدل على حزن مضاعف: فقدت رجاء الخصوبة، وباتت دون حماية. وأمَّا بولس الرسول يصف الارملة هي التي "بقيت وحدَها والتي جَعَلَت رَجاءَها في الله وتَقْضي لَيلَها ونَهارَها في الدُّعاءِ والصَّلاة" (1 طيموتاوس 5: 5). أمَّا عبارة "لا تُفارِقُ الـهَيكَل" فتشير الى المثال الأعلى للمؤمن الإسرائيلي الكامل كما ترنّم صاحب المزامير "سُكْنايَ في بَيتِ الرَّبِّ طَوالَ أَيَّامي" (مزمور 23: 6). أمَّا عبارة "متَعَبِّدَةً بِالصَّومِ والصَّلاةِ لَيلَ نَهار" فتشير الى وصف استخدمه لوقا موسوم بالكمال المثالي الى حد ما (لوقا 18: 7، واعمال الرسل 20: 31)، مع انه لم يكن يحق للنساء ان يكنّ في الهيكل خلال الليل، إنما كانت تحضر حنِّة النية تقديم الذبائح صباحا ومساءٍ وما فُرض خصوصا من فروض الديانة في السبوت والاعياد. أمَّا عبارة "بِالصَّومِ والصَّلاةِ" فتشير الى امور فرضتها الشريعة الموسوية على كل اليهود وقامت بها حنِّة خير قيام. أمَّا عبارة "لَيلَ نَهار" فتشير الى عادة اليهود حيث يبدأ اليوم بعشية اليوم السابق كما هو واضح من سفر التكوين "وكانَ مَساءٌ وكانَ صَباح" (التكوين 1: 5، 13، 19، 23، 32).

 

38 فحَضَرَت في تِلكَ السَّاعَة، وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم.

 

تشير عبارة "تُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم" الى تأييد حنة النبية شهادة سمعان الشيخ عن الطفل بقوله: "فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها"(لوقا 2: 30-31)؛ أمَّا عبارة " مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم " الى أناس أتقياء كانوا في اورشليم يأتون الهيكل في أوقات الصلاة ويدرسون النبوءات وفهموا منها انه قد اقترب وقت إتمامها بقدوم الفادي الى اورشليم. أمَّا عبارة " كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ " فتشير الى الكثيرين من الأتقياء الذين كانوا ينتظرون ظهور المسيح، وإن سمعان وحنة يمثلان جماعة الاتقياء في إسرائيل  الذين  كانوا فيما بينهم يتوقعون قرب مجيء المسيح في ذلك الحين انطلاقا من نبوءة دانيال (الـ 70 أسبوعًا) التي تحدِّد سنة مجيء المسيح، " إِنَّ سَبْعينَ أُسْبوعاً حُدِّدَت على شَعبِكَ وعلى مَدينَةِ قُدسِكَ لِإفْناءِ المَعصِيَةِ وإِزالَةِ الخَطيئة واَلتَّكْفيرِ عنِ الإِثْمِ والإِتيانِ بِالبِرِّ الأَبَدِيّ وخَتْمَ الرُّؤيا والنُّبوءَة ومَسْحَ قُدُّوسِ القُدُّوسين" (دانيال 9: 24)، أمَّا عبارة " افتِداءَ أُورَشَليم " فتشير الى فداء الابكار الوارد في الشريعة " لَمَّا تَصَلَّبَ فِرعَونُ عن إِطْلاقِنا، قَتَلَ الرَّبُّ كُلَّ بِكْرٍ في أَرضِ مِصْر، مِن بِكْرِ الإِنسانِ إِلى بِكْرِ البَهيمة، ولِذلك أَنا أَذبَحُ لِلرَّبِّ كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِنَ الذُّكور، كُلُّ بِكْرٍ مِن بَنِيَّ أَفْديه"(خروج 13: 15). ان اورشليم هي بكر إسرائيل، وهي تُفتدى كما يُفتدى الابكار، فتنال الخلاص كما جاء في نشيد زكريا أبو يوحنا المعمدان "تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرائيل لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَه وَافتَداه " (لوقا 1: 68).

 

39 ولَـمَّا أَتَمَّا جَميعَ ما تَفرِضُه شَريعَةُ الرَّبّ، رَجَعا إِلى الجَليل إِلى مَدينَتِهِما النَّاصِرة.

 

تشير عبارة "أَتَمَّا جَميعَ ما تَفرِضُه شَريعَةُ الرَّبّ" الى ما تطلبه شريعة موسى في مثل هذا الامر وهي: ختان الولد، وتطهير الام مع تقدمة معينة، وتقديم الصبي في الهيكل مع فداء البكر. ويتم فداء البكر بدفع خمسة مثاقيل فضة خلال الأشهر التابعة للولادة كما ورد في سفر العدد "وكُلُّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن كُلِّ جَسَدٍ، مِنَ البَشَرِ والبَهائِم، يُقَدِّمونَه للِرَّبّ، يَكونُ لَكَ، لَكِنَّكَ تَفْدي أَبْكارَ البَشَر وأَبْكارَ البَهائِم النَّجِسة. ويَكونُ فِداؤُه مِن عُمْرِ شَهْرٍ بِحَسَبِ تَقْييمِكَ، أَي بِخَمسَةِ مَثاقيلِ فِضةٍ بِمِثْقالِ القُدْس، وهو عِشْرونَ دانَقًا" (عدد 18: 15-16). أمَّا عبارة "رَجَعا إِلى الجَليل إِلى مَدينَتِهِما النَّاصِرة" فتشير الى فجوة من عدة سنين بين حدث تقدمة يسوع لله (لوقا 2: 38) وحدث وجود يسوع في الهيكل بين العلماء (لوقا 2: 40)، وهذه المدة هي وقت كاف للإقامة في بيت لحم وقدوم المجوس وسجودهم والهرب الى مصر من غضب هيرودس واستشهاد أطفال بيت لحم والعودة الى الناصرة بعد اسْتِتْبَاب النِّظَامِ والامن.  ولم يذكر لوقا هذه الحوادث التي تمت في هذه المدة بل ذكرها انجيل متى (2: 1-23).

 

40 وكانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه.

 

تشير عبارة "يَتَرَعَرعُ" في اليونانية ηὔξανεν (معناها كان ينمو) الى يسوع الذي وُلد إنسانًا من امرأة، واتَّخذ صورتنا، وصار صبيًا بشريًا، واختبر في حياته كل مراحل الانسان، إذ كان طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم رجلا كامل السن لكي يتضامن مع جميع البشر كما جاء في تعليم بولس الرسول "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2: 7). وفي هذه الحالة "كانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لوقا 2: 52). ويتضح من هذه الآية ان يسوع كانت له نفس بشرية وجسد بشري، انه الإنسان الكامل، الّذي له جسد وعقل وروح –كما لأيّ إنسان آخر– لكن بلا خطيئة. وهذا خلاف ما ذهب اليه ابوليانوس من انه لم يكن للمسيح نفس بشرية بل ان روحه الكلمة الازلي أخذ محل النفس في جسده. أمَّا عبارة "حِكمَة" فتشير الى ميزة يسوع الخاصة كما وصفه لوقا الإنجيلي "وكانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ" (لوقا 2: 52). وهذا يدل على ان عقل يسوع كان يتسع في المعرفة والعلم مع نمو جسده.  وقد قال يعقوب الرسول " وإِن كانَ أحَدٌ مِنكُم تَنقُصُه الحِكمَة فلْيَطلُبْها عِندَ اللهِ يُعطَها، لأنَّه يُعْطي جَميعَ النَّاسِ بِلا حِسابٍ ولا عِتاب" (يعقوب 1: 5). هكذا نحن يمكن ان ننمو في الحكمة، كالرب يسوع، بالسير مع الله.  وإن كان يسوع قد تربَّ تريبة أولاد عصره من اليهود كما يتوقع فلا بد من انه لبِسَ عندما بلغ سن الثلاث ثوبًا له هُدْبِ وعلى هدب الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفيرِ البَنَفْسَجِيّ" (عدد 15: 38)، ولما بلغ خمس سنوات استظهر بعض أجزاء الشريعة "كالشمعة (تثنية الاشتراع 2: 4) والهليل (مزامير 114-118) ومزمور 136). ولما بلغ سن الثانية عشرة مارس كل طقوس الشريعة كصعود الى هيكل اورشليم ثَلاثَ مَرَّاتٍ في السَّنَة، كما تنص الشريعة: "يَحضُرُ جَميعُ ذُكْرانِكَ أَمامَ الرَّبِّ إِلهِكَ في المَكانِ الَّذي يَخْتارُه: في عيدِ الفَطير وفي عيدِ الأَسابيعِ وفي عيدِ الأَكواخ" (تثنية الاشتراع 16: 16). أمَّا عبارة "كانت نِعمةُ اللهِ علَيه" فتشير الى المسيح الذي عليه نعمة الله بكل معنى الكلمة، في حين كانت "يَـدَ الرَّبِّ كانَت مَعَ يوحنا المعمدان" (لوقا 1: 66) كما كانت على الأنبياء. والمراد "بالنعمة" رضى الربّ التامّ عنه، والقبول الّذي يحوزه لدى الربّ والناس. أمَّا عبارة "نِعمةُ اللهِ" فتشير الى حظوة الملك (1 صموئيل 16: 22) والى حب الحبيب (نشيد الأناشيد 8: 10) وخاصة الى اظهار محبة الله (1 طيموتاوس: 1: 2) وينبوع الهبة لدى من يعطي، وعلى نتيجة الهبة لدى من ينال، ولذلك يسمى الانجيل "بِشارةِ نِعمَةِ الله" (اعمال الرسل 20: 24). وكان بولس يبدأ رسالته بنعمة الله (1 قورنتس 1: 3)؛ وتد ل هذه العبارة هنا على رضى الآب بيسوع وبركته عليه. أمَّا عبارة "نِعمةُ" في الأصل اليوناني χάρις (معناها هبة مأخوذة من العبرية בְחֵן) فتشير الى عطيّة من الله التي تشعّ بسخاء المُعطي وتغمر بهذا السخاء الخليقة التي تحظى بها.  واللفظة العبرّية تصف المحبة والعطف المجّاني في الشخص المُعطي.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 2: 22-40)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (لوقا 2: 22-40)، نستنتج انه يتمحور حول تقدمة يسوع للهيكل التي تكشف ملامح طفولة يسوع ورسالته. وهذه الملامح تعبر عن الدور الذي سيقوم به يسوع نحو جميع الشعوب، وإمكانية الانسان قبوله او رفضه.  ومن هنا نبحث عن ملامح طفولة يسوع من خلال فريضة الشريعة للابن البكر ونبوءة سمعان الشيخ عن يسوع الطفل وأمه مريم العذراء ونبوءة حنّة النبية، وأخيرا في حياته في الناصرة.

 

1. ملامح يسوع الطفل من خلال فريضة الشريعة للابن البكر (لوقا 2: 21-24)

 

كانت العائلات اليهودية تقيم عدة احتفالات بعد ولادة طفل، منها: الختان، وفداء البكر وتطهير الأم:

 

(1) الختان: يُختن كل طفل ذَكَرٍ في اليوم الثامن لمولده، ويُسمّى باسمه في ذلك اليوم أيضا (الاحبار 12: 3)؛ ويرمز الختان الى انفصال اليهود عن الأمم غير اليهودية، والى علاقتهم الفريدة بالله (لوقا 1: 59). وكان الختان علامة الدخول في عهد مقدس مع الله وبداية دخول في عضوية الجماعة المقدسة (التكوين 17: 9-14). لذلك تَقدَّم يسوع ليتمِّم الشريعة. والمسيح أتى خاضعًا للشريعة، إذ هو وحده لم يخالفْها "فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ لِيَفتَدِيَ الَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، فنَحْظى بِالتَّبَنِّي" (غلاطية 4:4-5). ويُعلق القديس أمبروسيوس "خُتن الطفل الذي تكلَّم عنه أشعيا: "لأنه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ" (أشعيا 9: 5)، وقد صار تحت الناموس ليُعتق الذين تحت الناموس (1 قورنتس 9: 5)".

 

(2) فداء البكر: كان البكر فاتح الرحم يُقدَّم الى الله بعد شهر من مولده، وكفدية عنه كان يتمّ التضحية بزوج من الحمام" قَدَّسْ لي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ مِن بَني اسرائيل، مِنَ النَّاسِ والبَهائِم، إِنَّه لي " (خروج 13: 2)، وهكذا خضع أبوا يسوع مكانه لشريعة " افتداء الابكار" كما جاء في اقوال موسى النبي "كُلُّ بِكرٍ مِن بَنيكَ تَفْديه" (خروج 13: 13). ويتضمن الاحتفال بتقدمة فدية عنه. وهكذا يعترف الابوان بانتماء الطفل الى الله القادر وحده ان يهب الحياة.

 

(3) تطهير الأم الوالدة: تظل الأم نجسة مدة أربعين يوما بعد ولادة طفل ذَكَر، وثمانين يوما بعد ولادة طفلة أنثى، ولا يمكنها دخول الهيكل أثناء هذه المدة. وفي نهاية عزلها يُقدَّم الابوان حَمَلا كذبيحة محرقة، وفرخ حمام كتقدمة خطيئة. ويقدِّم الكاهن هذه الذبائح ليُعلن تطهير الأم. وإذا كان الولدان غير قادرين على شراء حمل، كانا يُقدمان فرخا ثانيا من الحمام. وهذا ما فعله مريم ويوسف. قد تمَّمت مريم امه هذه الطقوس حسب شريعة الله، فيسوع لم يرد ان يكون فوق الشريعة بل بالعكس تمَّمها.

 

ونستنتج مما ورد ان لوقا الإنجيلي أراد وصف سر يسوع؛ إن هذا الطفل ابن الأربعين يوما، ضعيف غير واع، يستسلم لقيادة أبويه، ويخضع للشريعة: صعدا به الى اورشليم (لوقا 2: 22،) وقرَّباه للرب (لوقا 2: 24)؛ واتمَّا جميع ما تفرضه الشريعة (لوقا 2: 39) وهذا ما صرّح به بولس الرسول "فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ" (غلاطية 4: 4). ألم يكن هذا الطفل يسوع هو نفسه الرب؟ أجل! يجيب بولس الرسول "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2: 6-7).

 

2. ملامح يسوع الطفل من خلال نبوءة سمعان الشيخ (لوقا 2: 25-32)

 

يصف لنا لوقا الإنجيلي ملامح الطفل يسوع ليس فقط من خلال فريضة الشريعة للابن البكر (لوقا 2: 21-24) بل أيضا من خلال نبوءة سمعان الشيخ (لوقا 2: 25-32). تتميز انشودة سمعان بالفرح والبصيرة الروحية. يصور سمعان نفسه حارسا قد أعفي من خدمته لان الرجاء المسيحاني الذي صدر له امر بانتظاره الى حين ان يظهر. وعندما صعد ابوا يسوع الى اورشليم ليقرِّباه للرب التقي بهم سمعان الشيخ معلنا ملامح يسوع الطفل الفريدة: انه امام طفل فقير، فآمن به "مَسيحَ الرَّبّ" (لوقا 2: 26، 29)، وأشاد به "خلاصَ الله" (لوقا 2: 30) وفقا لما ورد في أشعيا "يَتَجَلَّى مَجدُ الرَبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَر لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم "(أشعيا 40: 5)، سيكون يسوع الخلاص الّذي ينتظره شعب العهد القديم، ولكنه لن يكون له وحده، بل خلاص معدّ لجميع الشعوب ولكل إنسان. انتظر سمعان خلاص إسرائيل، والآن يرى خلاص الإنسانية كلها. ويسوع هو المدخل الى سر الخلاص حيث ان اسمه في العبرية יֵשׁוּעַ (معناه الله يخلص) يشير الى دوره وعمله. إنّه إله صار إنساناً. وكإنسان، إنّه يُشارك ويُنير حياة كلّ إنسان بحياته وسلامه وخلاصه.

 

وأنبأ سمعان ان يسوع الطفل "نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين" (لوقا 2: 32) تتميماً لنبوءة أشعيا "أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم" (أشعيا 42: 6)، المسيح سيُعْلَن لكل الأمم، والخلاص سيكون نوراً يراه كل العالم. المسيح هو خلاصنا، وهذا الخلاص أتمَّه يسوع بموته على الصليب. وهو أول إنباء بشمولية رسالة يسوع. في البداية ظهر يسوع وكأنه لم يُرسل سوى إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل (مرقس7: 25) ويطلب من رسله ان يسيروا على خطاه (متّى 10: 6). ولكن بعد ذلك، وبشكل تدريجي، يعبر خلاصه كلّ الحدود، وبعد قيامته يُرسل تلاميذه إلى جميع الشعوب (متّى 28: 19: 20)؛ وفي نهاية سفر أعمال الرسل، كانت كلمات بولس ليهود روما بمثابة صدى لكلمات سمعان الشيخ تلك: " فاعلَموا إِذًا أَنَّ خَلاصَ اللهِ هذا أَرسِلَ إِلى الوَثَنِيِّين وَهُم سيَستَمِعونَ إِلَيه "(أعمال الرسل 28: 28).

 

وأنبا سمعان أيضا ان يسوع "مَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل"(لوقا 2: 32) كما ورد في نبوءة أشعيا "قَرَّبتُ بِرِّي فلا يَبعُد وخَلاصي فلا يُبطِئ وسأَجعَلُ في صِهْيونَ الخَلاص ولإِسْرائيلَ يَكونُ فَخْري" (أشعيا 46: 13). ويُعلق القديس كيرلس الكبير" كان المسيح إذاً نورًا ومجدًا لإسرائيل، مع أن بعض اليهود ضلُّوا الطريق وجهلوا الكتب وأنكروا المسيح، إلاَّ أن قومًا منهم خلصوا وتمجَّدوا بيسوع، وكان على رأسهم، الرسل الذين أضاءوا بنورهم مصباح الإنجيل في أقاصي الأرض. والمسيح مجد إسرائيل أيضًا لأنه يُنسب إليهم حسب الجسد كما جاء في تعليم بولس الرسول "مِنهمُ المسيحُ مِن حَيثُ إِنَّه بَشَر، وهو فَوقَ كُلِّ شيءٍ: إِلهٌ مُبارَكٌ أَبَدَ الدُّهور. آمين " (رومة 9: 5)، ولم يبقَ الخلاص محصورا في الشعب المختار، بل سيتخطاه الى جميع شعوب الأرض" (لوقا 2: 32).  فتحققت أمنيته فهتف قائلا " الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ" (لوقا 2: 29)، وكأنَّ به يستقبل الموت بفرح وابتهاج، أنه يستسلم للعناية الالهية.

 

وأنبأ سمعان الشيخ ايضا أن يسوع "آيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (لوقا 2: 34) كما جاء في نبوءة أشعيا " بَسَطتُ يَدَيَّ طَوالَ النَّهارِ لِشَعبٍ عاصٍ يَسلُكُ طَريقاً غيرَ صالِحٍ على هَواه " (أشعيا 65: 2)؛ ونجد صدى لهذه النبوءة من بداية حياة يسوع العلنيّة لدى عظته الأولى عن الخلاص في مجمع الناصرة لبني قومه " ثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في الـمَجمَع عِندَ سَماعِهِم هذا الكَلام.  فَقاموا ودَفَعوه إِلى خارِجِ الـمَدينة وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه لِيُلقوُه عَنه" (لوقا 4: 28-29).

 

وإن كان يسوع مُخلصا للناس، لكن هذا الخلاص لا يفرضه يسوع بالقوة: نحن نستطيع ان نرفضه او نتقبله. إنّ مرور يسوع بين الناس لن يكون خالياً من الألم والرفض، ولن يترك أيّ شخص غير مبالٍ. وحيث يصل هذا النور يكشف عن نوايا القلوب ويُثير الانقسامات، "سيَنقَسِمُ النَّاسُ فيَكونُ الأَبُ على ابنِه والابنُ على أَبيه، والأُمُّ على بِنتِها والبِنتُ على أُمِّها، والحَماةُ على كَنَّتِها والكَنَّةُ على حَماتِها " (لوقا 12: 32)، وستحدث الاضطهادات حتى الاستشهاد، ولكن أيضا الحياة الجديدة لمن يؤمن به. فالخلاص مرتبط بالإيمان (لوقا 20: 17-18).

 

وأخيرا يُبيِّن كلام سمعان لمريم انه لديه بعض الادراك لمعنى النبوءات التي كانت ترمز الى آلام المسيح "أَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة" (لوقا 2: 35)، ومريم وحدها ستشاهد تحقيق النبوءة: ابنها سيكون رجل أوجاع وآلام ومرذولا، وسيكون لها مصدر آلام عظيمة، إنها "الأم الحزينة".  لان الخلاص يتحقق خلاص بالألم والاوجاع. ولهذا سيُطعن سيف الحزن قلب مريم.  والسيف هو الألم الشديد الذي لحق بالعذراء الأم وهي ترى ابنها مهاناً مضطهداً ومعلقاً على الصليب.

 

ومن هذا المنطلق سينقسم إسرائيل امام المسيح، فنجد بعضهم ينال الهلاك والآخر الخلاص. وسوف تنقسم البشرية بسببه الى قسمين: من هم معه ومن هم ضده. وكل من يتعرّف بالمسيح لا يسعه إلا أن يكون إمَّا معه وإمَّا ضده. فان يسوع لم يأتِ بخلاص جاهزٍ، بل يدعو الى خلاص عن طريق الايمان. وفي هذا الصدد قال يسوع" مَن لَم يكُنْ معي كانَ عليَّ، ومَن لم يَجمَعْ معي كان مُبَدِّداً"(متى 12: 30). نحن مسيحيون، إذا نحن معه، ولو بالاسم. فهل نحن معه بالفعل أيضا؟ فنتساءل إذا كانت قلوبنا وأفكارنا وأعمالنا على مثال قلبه وأفكاره واعماله...

 

3. ملامح يسوع الطفل من خلال نبوءة حنة النبيَّة (لوقا 2: 36-38)

 

لم يُنبأ سمعان الشيخ وحده بل تنبأت حنة النبية أيضا عن ملامح يسوع الطفل. فقد كرّست حياتها لله وقضت معظم وقتها تصلي " ليل نهار" في الهيكل، وتخدم الله وتصوم.  وشهدت ليسوع، إذ اعترفت انه المسيح وسبَّحت الله على إرساله إياه وبشَّرت به غيرها.  وأيّدت شهادتها نبوءة سمعان الشيخ عن الطفل يسوع، إذ كانت "تُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم" (لوقا 2: 38) وهذا الاسم افتداء اورشليم" هو من أسماء الخلاص في الكتاب المقدس كما جاء في نشيد زكريا " تَبارَكَ الرَّبُّ إِلهُ إِسرائيل لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَه وَافتَداه" (لوقا 1: 68).

 

 لم تكون حنة النبيَّة في الهيكل من أجل خلاصها، بل كانت تحمل في نفسها امل شعبها. وسر الفداء كان منذ القدم وقبل خلق الْعَالَم، ولكن لم يُعلن إلا في آخر الأزمنة، لدى ميلاد المسيح. فاستحقت حنة النبية أن تنال نعمة رؤية وجه الطفل المخلص وتسبحه وتبشّر باسمه وتُحَدِّثُ بِأَمرِه كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم. هل الايمان يجعلنا نتحدّث عن المسيح؟ هل نعتبر أنفسنا رسلا للمسيح في بيئتنا؟

 

4. ملامح يسوع الصبي في الناصرة (لوقا 2: 39-40)

 

وصف لوقا الإنجيلي ملامح الطفل يسوع لدى عودته الى الناصرة حيث عاد في جوّ من الهدوء الشديد لممارسة حياته البشريّة كأي واحد منا، ولم يُظهر أي معجزة في صباه. وكانت أول معجزاته تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل في بدء حياته العلنية، أي عندما بلغ الثلاثين من عمره؛ يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "لم يردْ أن يُظهر يسوع معجزات في طفولته وصباه حتى بدأ الخدمة العلنية. يؤكِّد ذلك ما قاله الإنجيلي يوحنا في تحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل، معلنًا أنها أول آية صنعها يسوع "، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه" (يوحنا 2: 11).

 

 فقد اهتم لوقا الانجيلي بكل مراحل المسيح، فرآه جنيناً في بطن أمه، ورآه طفلاً وصبياً ثم رآه مكتمل الرجولة، فالمسيح إذاً قدَّس جميع مراحل الحياة البشرية " كانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لوقا 2: 52). هذا هو المسيح الإنسان، هذا هو الإنسان الكامل، الّذي له جسد وعقل وروح –كما لأيّ إنسان آخر– لكن بلا خطيئة. لأنّ اللاهوت أعطى مجالاً واسعاً حرّاً لنموّ الناسوت، نموّاً طبيعيّاً كاملاً متماثلاً.

 

لقد حمل يسوع ناسوتنا، وصار مثلنا بالرغم من عدم انفصاله قط عن لاهوته. ويُعلق القديس كيرلس الكبير: "يشير القول "يتقدُّم الصبي في الحكمة والقامة والنعمة" إلى طبيعته البشريّة الإنسانية، ...فقد تحمَّل الله الكلمة أن يولد إنسانًا، مع أنه بطبيعته الإلهيّة لا بداية له ولا يحدّه زمان، فهو الإله الكامل الذي قبل أن يخضع لقانون النمو الجسماني، ويتقدَّم في الحكمة كما وصفه لوقا الانجيلي "كانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة "(لوقا 2: 45).  وقد أصبح المسيح الآن مثلنا. ولذلك سار الصبي بموجب قوانين الطبيعة البشريّة فكان يتقدَّم في الحكمة والقامة والنعمة". نما جسمه في القامة، وتقدَّمت نفسه في الحكمة، أمَّا في طبيعته الإلهيّة فهو كامل، لأنه مصدر الحكمة والكمال.

 

ويُبيِّن لوقا الإنجيلي يسوع ينمو شيئا فشيئا، تحت رعاية ابويه يوسف ومريم وتربيتهما السليمة. لقد سهرا عليه بلطف واحترام لشخصيته. "كانَ الطِّفْلُ يَتَرَعَرعُ ويَشتَدُّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه" (لوقا 2: 40). لقد أتخذ المسيح جسدنا فصار مثلنا. وكان جسده (ناسوته) ينمو طبيعياً جداً مثلنا تمامًا، وكان عقله يزداد حِكْمَةً (نموًا عقليًا)، وكان روحه ينمو نعمة عند الله (نموًا روحيًا) والناس (نموًا اجتماعيًا). كان لاهوته المتحد بناسوته يعلن النعمة التي فيه أكثر فأكثر، فكانت نعمته تتزايد في أعين كل البشر. التربية تساعد الولد في نموّه النمو الكامل المنسجم. يقول المجمع الفاتيكاني في بيانه التربية المسيحية "إذا تقاعس الوالدون عن الدور التربوي، صعب جدًا الاستعاضة عنه، فمن واجبهم ان يخلقوا جواً عائليا تُحييه المحبة والاحترام لله والبشر... فيتعلم الولد كيف يُمجّد الله ويكرمه، ويحب قريب" (بند 3).

 

وُلدت عائلة الناصرة من الإيمان، وعاشت من الإيمان، وسارت مستنيرة دائماً من كلمة الإله الحيّ بإيمانها. فالإيمان يكشف عن مدى قوة العلاقات التي تربط بين افراد العائلة.  وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس " إنّ نور الإيمان قادر على إظهار غنى العلاقات البشريّة وقدرتها على الاستمرار وعلى التحلي بالثقة وإثراء الحياة المشتركة".

 

كانت العائلة المقدسة نـموذجا في تتميم إرادة الله، وفي قداستها وإيمانها ومحبتها وصبرها على الألـم والاغتراب والفقر، ولا يوجد أي غرض أخر خاص لكل فرد فيها سوى محبـة بعضهـم البعض. كل فرد يعمل على تنمية حياته الروحية الشخصية والعمل مع الآخرين على مساعدتهم في الجهاد الروحي. وأمَّا يسوع فيقول الكتاب انه "كانَ طائِعاً لَهُما" (لوقا 2: 51)، والطاعة دلالة الاحترام لـمكانة الأب والأم في الأسرة، وهو احترام متبادل مبني على أساس المحبة والثـقة. والآن، هـل لنا أن نعيد الـمفهوم الصحيح للأسرة المسيحية الـمقدسة الـمتحابـة، التي تحترم أفرادها، وتعمل على التربية الروحية والتربية الجسدية والذهنية والاجتماعية؟


الخلاصة

 

يلقي لوقا الانجيلي الضوء على ملامح الصبي يسوع، فيصفه في جسده: "كان ينمو، وفي روحه "يتقوّى بالروح"، في نفسه وعقله" "ممتلئاً حكمة". وفي نهاية هذا الوصف يصف حياته بوجه عام: "وكانت نعمة الله عليه" وكأنّه يريد أن يقدّم لنا المفتاح لسر حياة المسيح. كانت حكمة الربّ يسوع تفوق سنوات عمره آنذاك، ولا عجب في ذلك لأنّه ظلّ متّصلاً بالآب السماوي، وخير مثال على ذلك، وجود يسوع في الهيكل على عمر اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة "جالِساً بَينَ المُعَلِّمين، يَستَمِعُ إِلَيهم ويسأَلُهم.  وكانَ جَميعُ سَامِعيهِ مُعجَبينَ أَشَدَّ الإِعجابِ بِذَكائِه وجَواباتِه (لوقا 2: 46-47). وفي هذا الصدد قال يعقوب الرسول "إِن كانَ أحَدٌ مِنكُم تَنقُصُه الحِكمَة فلْيَطلُبْها عِندَ اللهِ يُعطَها، لأنَّه يُعْطي جَميعَ النَّاسِ بِلا حِسابٍ ولا عِتاب" (يعقوب 1: 5). فكذلك نحن يمكن أن ننمو، مثل الربّ يسوع، من خلال السير مع الربّ.

 

وانفتح سمعان الشيخ وحنة الارملة على عمل الروح، فاكتشفا علامة ملكوت الله. فلما دخل الطفل إلى الهيكل وفتح عينيّ سمعان الشيخ الذي اِشتهى بفرح أن ينطلق إلى جوار ربه بعد إدراكه خلاص ونور الأمم ومجد الشعب الأمين؛ وفتح الطفل الإلهي لسان حَنَّة النبيّة بالتسابيح. واعترف سمعان ان يسوع هو المسيح الرب، انه الخلاص ونور الأمم ومجد شعبه ومُحرِّر اورشليم والنور لكل العالم.  وللناس إمكانية ان يرفضوه بشدة او ان يقبلوه بفرح.  وأمَّا مريم أمه ستحزن للرفض العام الذي سيلاقيه ابنها يسوع.

 

يدعونا انجيل اليوم ان ننتظر المسيح مثلما انتظره سمعان الشيخ وحنة النبية، وان نلتقي فيه في هيكل نفوسنا، ونقبله بالإيمانِ هو الإلهَ الذي صارَ إنسانًا ليُخلصنا، ونقتدي بهما فنؤمن بالمسيح بمثل إيمانهما، ونحب المسيح بمثل حبّهما، وندعو الناس الى المسيح بمثل دعوتهما.

 

الدعاء

 

أيها ألاب السماوي، نرفع اليك صلاتنا مسبِّحين الله مع سمعان الشيخ في صلاة النوم معبِّرين عن اشتياق النفس للانطلاق للسماء: "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ"، واجعل جميع الشعوب والعائلات يجدون السلام والسلامة والعافية والوحدة فيك، أنت أمير السلام ومخلّص العالم.

 

صلاة العائلة من وحي القدّيسة تيريزا الكالكوتيّة 

 

أبانا الذي في السماوات، لقد أعطيتنا مثالاً للعيش في عائلة الناصرة المقدّسة.

ساعدنا، أيّها الآب المحبّ، لكي نجعل من عائلاتنا، ناصرة جديدة حيث يسود الفرح والسلام.

فلتكن عائلاتنا غارقة في التأمّل بك وشغوفة بالإفخارستيا ومليئة بالفرح.

ساعدنا لنبقى سويّة في الأفراح والأحزان بفضل الصلاة العائليّة. 

علّمنا أن نتعرّف على الرّب يسوع في كلّ فرد من عائلتنا، خاصّة حين يتألّم ويبقى مصابًا.

فليجعل قلبُ يسوع القرباني قلوبَنا وديعة ومتواضعة مثل قلبه (متى 11: 29).

ساعدنا على إكمال دعوتنا العائليّة بقداسة. واجعلنا نحبّ بعضنا بعضًا كما يحبّ الله كلّ واحد منّا، أكثر فأكثر كلّ يوم، واجعلنا نغفر بعضنا لبعض كما أنت تغفر خطايانا.

ساعدنا، أيّها الآب المُحبّ، أن نأخذ كلّ ما تعطينا إيّاه، وأن نعطي كلّ ما تأخذ منّا بفرح كبير.

يا قلب مريم الطاهر، مصدر فرحنا، صلِّ معنا ومن أجلنا.

يا أيّها الملائكة الحرّاس، كونوا دومًا معنا لقيادتنا وحمايتنا. آمين.