موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ يوليو / تموز ٢٠٢٢

مريم تستمع ومرتا تخدم ويسوع الحكم

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السادس عشر من السنة: مريم تستمع ومرتا تخدم ويسوع الحكم (لوقا 10: 38-42)

الأحد السادس عشر من السنة: مريم تستمع ومرتا تخدم ويسوع الحكم (لوقا 10: 38-42)

 

 

النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42)

 

38 وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا. 39 وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه. 40 وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: ((يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني)) 41 فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، 42 مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها)).

 

 

مقدمة

 

يولي لوقا الإنجيلي اهتماما خاصا للمُهمَّشين في الحياة الاجتماعية في فلسطين كالنساء. فيصف إنجيله (لوقا 10: 38-42) ضيافة مرتا ومريم ليسوع استقبالهما له كصديق للأسرة: "مرتا" العاملة المنصرفة إلى الخدمة و"مريم" المـتأمِّلة الجالسة عند قدمي يسوع مثل التلميذ. فيدعو يسوع من خلالهما المؤمن للعودة بالصلاة والعمل إلى ما هو جوهري. إذ هناك ثروة يمكن أن يوفرها المسيح لحياتنا عندما نرحّب به ونستقبله بالصلاة والعمل. هل نسير على خطى مريم ومرتا في الضيافة نحو الجميع (رومة 12: 13، 13: 8)، هل تتميز حياتنا بفضيلة ضيافة يسوع واستقباله؟ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42)

 

38 وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا.

 

تشير عبارة "سائرون" إلى مسافرون إلى أُورشَليم الذي بدأ ذكرها في الفصول السابقة " ولَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ إِلى أُورشَليم " (لوقا 9: 51)؛ أمَّا عبارة " قَريَةً " فتشير إلى بيت عنيا بحسب إنجيل يوحنا (11:1). بيت عنيا اسم آرامي בֵּית־הִינִי معناه " بيت البؤس أو البائس". وهي قرية تقع على سفح جبل الزيتون من الجهة الجنوبية الشرقية على بُعد 3.2 كم عن أُورشَليم على طريق القدس أريحا (يوحنا 12: 1-3).  وتدعى الآن العازرية نسبة إلى لعازر أخ مريم ومرتا، حيث كان يسوع يتردَّد إليها مرارا عديدة في تجواله وترحاله، يقصد إلى بيت لعازر لضيافته والإقامة عنده، كلّما جاء من أريحا إلى أورشليم أو بالعكس ولا سيما في أيامه الأخيرة قبل الآمه وموته (لوقا 19: 29). وفيها أحيا يسوع لعازر صديقه من الموت (يوحنا 11: 1)، وفيها أيضا دهنت مريم يسوع بالطيب في بيت سمعان الأبرص (مرقس 14: 3). وفيها كان يسوع يقضي ليلته مع التلاميذ بعد تعليمه في الهيكل (مرقس 11: 11).  أمَّا عبارة " فَأَضافَتهُ " فتشير إلى فضيلة من فضائل الديانة، وهو الترحيب الحميم والديني، إذ صوّر ربنا ملكوت الله كضيافة (لوقا 14: 15) يدعى إليها الفقراء أكثر من الأغنياء. وكان يسوع المسيح يُطعم الجياع كما انه كان يُؤازرهم بالطعام الروحي. ولذلك يُوصي المؤمنين باستضافة الغرباء (رومة 12: 13). وحثّ صاحب رسالة العبرانيين على الضيافة، لأن البعض أضافوا ملائكة وهم لا يدرون (التكوين 18: 1-5). الضافة في المفهوم المسيحي هي علامة إيمان (رومة 12: 13) بان المسيح نفسه هو الذي استقبلنا أولا (رومة 15: 17) وينبغي إن نستقبل الضيف كعضو من العائلة (أفسس 2: 19)، دون انتظار أية مكافأة.  وضيفنا الأول هو السميح (متى 10: 40-41)، وعلينا إن نستقبله في الإخوة (متى 25: 35-40) وفي القداس الإلهي (لوقا 24: 29-30).  وكثيراً ما وردت قصص تُظهر وجوب الضيافة وكيفية ممارستها في سيرة إبراهيم ولوط ويثرون (خروج 2: 20) ومنوح (قضاة 13: 15). وإبراهيم هو نموذج الضيافة المثالية (تكوين 18: 2-8).  وكان المسيحيون الأصليون يُتمِّمون هذه الفريضة بنوع أثار مديح الوثنين لهم. وتمَّ استخدام هذا اللفظ مرات قليلة (راج لو 19: 6؛ أع 17: 7)، فهو يعبر عن لفتة الترحيب بالمنزل بجميع الواجبات التي تنطوي عليها الضيافة. أمَّا عبارة "مَرتا" (في الأصل اليوناني Μάρθα وهي مؤنث كلمة أراميه מָרְתָא معناها ربة أو السيدة) فتشير إلى أخت لعازر ومريم ويَظن أنها أكبر الثلاثة، لأنَّها تُذْكر دائماً قبل أختها، ويظن أنها كانت تُدبِّر أشغال البيت، وتهتم بالخدمة واستقبال ضيوفها (لوقا 10 :38-41؛ يو حنا 12 :2). وكانت ذات حركة أكثر من أختها غير أنها لم تركز أفكارها على الشيء الوحيد اللازم مثل مريم ومع ذلك كانت أمينة، وقد أحبها المسيح (يوحنا 11: 5). واعترفت بمناسبة موت أخيها بأن يسوع هو المسيح وابن الله، وأنَّه ينبوع كل قيامة (يوحنا 11 :1-5، 19-39).

 

39 وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إلى كَلامِه.

 

عبارة " مَريم" (في الأصل اليوناني Μαρία مشتقَّة من العبرية מִרְיָם معناها الرائية أو السيّدة أو عصيان. وإذا رجعنا إلى المصريّة معناها المحبوبة) إلى أخت مرتا ولعازر (يوحنا 11 :1-5). وتلميذة المسيح التي جلست عند قدميه مرّات (لوقا 10 :39؛ يوحنا 11 :32؛ 12 :3)، لأنها تفضّل الإصغاء لكلام يسوع على الخدمة في البيت. لهذا قال عنها يسوع: فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها"(لوقا 10: 42). عند موت لعازر نراها في البيت، يُحيط بها اليهود الذين جاؤوا يعزّونها (يوحنا 11 :19-20، 45). شاهد يسوع بكاءها فتأثّر وبكى (يوحنا 11 :28-35). وقبل موت يسوع ببضعة أيام، خلال وليمة في بيت عنيا، صبّت مريم الطيب على قدمي يسوع في بيت لعازر أخيها (يوحنا 12: 1 -3). ويُقال إن امرأة (بدون ذكر اسمها) سكبت الطيب على رأسه في بيت سمعان الأبرص في بيت عنيا ويحتمل في ذلك أن الحادثتين واحدة وقعت في بيت سمعان بينما كانت إقامة المسيح في بيت لعازر. وربما تكون مريم نفسها التي سكبت الطيب على رأسه ودهنت قدميه أيضاً. أمَّا عبارة " مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي" فتشير إلى موقف التلميذ (أعمال الرسل 22: 3)، إذ معنى جلوس مريم عند قدمي يسوع مثل التلميذ، كما جاء في إنجيل يوحنا "تَناولَت حُقَّةَ طِيبٍ مِنَ النَّارَدينِ الخالِصِ الغالي الثَّمَن، ودهَنَت قَدَمَي يسوع ثُمَّ مَسَحَتْهما بِشَعرِها. فعَبِقَ البَيتُ بِالطِّيب"(يوحنا 12: 3).  أما عبارة "تَستَمِعُ إلى كَلامِه" في الأصل اليوناني ἤκουεν وفي العبرية שְׁמַע معناها الفهم والطاعة) فتشير إلى الوصية الأساسية في إيمان الشعب اليهودي “اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد " (تثنية الاشتراع 6: 4).  فقد حث الأنبياء الشعب على الاستماع إلى صوت الله ووبخوه على رفض الاستماع إلى كلمة الله والعمل بها (أشعيا 6: 9-11، وارميا 6: 10).  وحث الأب السماوي الشعب إلى استماع لصوت ابنه الحبيب يسوع " هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى 17: 5).

 

40 وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: ((يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني))

 

تشير عبارة " مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة " (في الأصل اليوناني περιεσπᾶτο معناها منهمكة) إلى مريم التي اعتبرت يسوع ليس فقط صديقا بل هو أيضا ربّاني مشهور ونبي الله. فحاولت أن تُكرمه بإعداد مادية ًفاخرةً. فارتبكت بتلك الخدمة العظيمة لتُعدَّ مائدة تليق بضيفها الجليل.  أمَّا عبارة " فأَقبلَت" فتشير إلى حركة عصبية من مرتا كما يدل تذمرها وشكواها؛ أما عبارة "يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟" فتشير إلى عدم تمالك مرتا نفسها بحيث وجهَّت اللوم ليسوع، وانتهرت مريم بطريقة غير مباشرة، لأنه لم ينتبه لكثرة ارتباكها ولم يسأل مريم مساعدتها.  وغايتها من ذلك الاهتمام بإعداد ما يليق بربِّها.  أصابت مرتا بذكر همومها للمسيح وفقا لقول الرسول بطرس "أَلقُوا علَيه جَميعَ هَمِّكم فإِنَّه يُعنى بِكم" (1بطرس 5: 7).   أمَّا عبارة "أُختي تَرَكَتني" فتشير إلى مريم التي كانت تعمل مع مرتا في أول الآمر ثم جلست تصغي إلى المسيح ونسيت أعمالها واختها وما يجب عليها للضيف. فهناك مشكلة في تقاسم الواجبات. إن الإقرار مريم بحاجات مرتا ليس امرأ مسلما به.  أما عبارة " فمُرها أَن تُساعِدَني" فتشير إلى مريم التي لا يحسن لها أن ترجع إلى العمل إلاّ بإذن يسوع وأمره.

 

41 فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة،

 

تشير عبارة " مَرتا، مَرتا" إلى تكرار المسيح اسم مرتا مِمَا يجعل لها توبيخ الصديق لا توبيخ الديَّان كما قال يسوع إلى "سِمعان سِمعان" (لوقا 22: 31) وقوله "شاوُل، شاوُل" (أعمال الرسل 9: 4)، ولا شيء يسكّن المضَّطرب مثل مناداته باسمه.  ولا بدَّ من أنَّ يكون في ذلك التكرار تنبيهًا على أهمية الكلام. أَّمَّا عبارة " إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة" فتشير إلى توبيخ المسيح إلى مرتا لا لأجل خدمتها بل على زيادة اهتمامها بالخدمة وارتباكها فيها، وقوله هنا كقوله للتلاميذ سابقًا" لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ " (متى 6: 25).

 

42 مع أَنَّ الحاجَةَ إلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها)).

 

تشير عبارة " الحاجَةَ إلى أَمرٍ واحِد" في الأصل اليوناني ἑνὸς δέ ἐστιν χρεία(معناها لكن هناك حاجة لواحدٍ) إلى قليل أو صنف واحد من الأطعمة.   يسوع بحاجة إلى طعام بسيط وليس إلى مائدة زاخرة بالطعام.  والحاجة هنا ترمز إلى المعنى الروحي، وهو العناية بالنفس بالإصغاء لصوت المسيح. الواحد هو رمز إلى الله الأحد أو إلى المسيح نفسه.  أمَّا عبارة " النَّصيبَ الأّفضَل" فتشير إلى اختيار مريم النصيب الأفضل التي هي الحياة الأبدية.  ويؤكد يسوع " ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله " (متى 4: 4). أمَّا عبارة "لَن يُنزَعَ مِنها" فتشير إلى الحياة الأبدية التي لا تزول وميراث لا يفني. من يختار محبة المسيح، محبته تدوم وتثبِّت في قلب الإنسان، هنا على الأرض وهناك في السماء. أمَّا الأطعمة أو الماديات عمومًا فهي زائلة، فإمَّا نتركها ونمضي بالموت، أو تزول هي عنا.  لذا يوصى يسوع بالابتعاد عن الهم والارتباك وذلك بعدم الاهتمام بالأكل والشرب (لوقا 12: 22 و31). فلا يجوز الاهتمام بالحاجات الزمنية تمنع الاهتمام بخلاص النفس. فأفضل طريقة للعمل هو الأصغاء إلى صوت المسيح القدُّوس.

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42)

 

انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42) نستنتج انه يتمحور حول استقبال مريم ومرتا ليسوع في بيتهما.  مريم استقبلته بالاستماع إليه فأصبحت مثال من يتفرغ لسماع كلمة الله، ومرتا استقبلته بالضيافة وأصبحت مثال من يخدمون يسوع. 

 

1) مريم والاستماع لكلمة الله

 

مريم اسم عبري מִרְיָם معناه " الرائية أو السيّدة أو عصيان. وإذا رجعنا إلى المصريّة معناها المحبوبة.  وهي أخت لعازر ومرتا من سكان بيت عنيا (يوحنا 11: 1)، وهي التي دهنت يسوع بالطيب في بيت عنيا قبل آلامه بأسبوع (يوحنا 12: 1-3). وأدركت سر دفن يسوع وقيامته (مرقس 14: 8).

 

كانت مريم حسّاسة وتأملية، ولها قلب مُحبٌ للرب يسوع، ودخلت في شركة الحياة معه، إذ كانت تجلس عند قدميه لتستمع إلى كلامه على مثال التلميذ في العادات اليهودية القديمة (لوقا 8: 35).  فالجلوس يُسهِّل الإصغاء، فجلست عند قدمَي المعلم، وهي صامتة تُصغي بكليتها إلى كلمته، ومرتبطة به. فكانت مريم منشغلة بيسوع نفسه لا بما تقدمه من ضيافة ليسوع. ولا تريد أن تنشغل باي شيء سواه. وقد ركَّزت عيِّنيها وأُذنيَّها على يسوع وحده. فلم يغدق يسوع عطاياه على مريم أكثر من مرتا، بل مريم هي من اختارت النصيب الأفضل، بقرار حر واعي. ويعلق القديس ايرونيموس بقوله "كوني كمريم تفضِّلين طعام النفس عن طعام الجسد. اتركي أخواتك يجرين هنا وهناك ليدبِّرن بلياقة كيف يستضفن المسيح، أما أنتِ فإذ تتركي ثِقل العالم اجلسي عند قدميْ الرب، وقولي له: "وجدت من تحبُّه نفسي، فأمسكتُه ولم أرْخه" (أناشيد الأناشيد 3: 4) هكذا لم يترك الرسل كلمة الله ليخدموا الموائد (أعمال الرسل 6: 2).

 

إن يسوع شهد لمريم أنها قد اختارت النصيب الأفضل (لوقا 10: 41. 42)، اختارت النصيب الصالح، وأن هذا النصيب الصالح هو نصيب مع المسيح. كان المسيح لها هدفها الأسمى.  وهذا هو الأمر الواحد الذي لمّح عنه يسوع، والذي نحن بحاجة إليه، إنه القلب المتفرد المُكرس الذي يجعل المسيح هدفه الأول في كل صلاة أو خدمة؛ ومن هنا تأتي أهمية أن يسمع الإنسان إلى كلمة الله فيستمع الله إليه. 

 

أ) الإنسان يستمع إلى الله

 

يُعتبر حُسن الضيافة من سمات الاستماع.  ونراه بوضوح في تلك الخدمة التي قامت بها مريم ، أذ لا توجد ضيافة دون الاستماع للضيف. وأهم ضيافة هي الحضور أمام المعلّم بروح التلميذ.  قامت مريم بدور التلميذة الّتي فتحت مجال جديد للضيافة من خلال الأصغاء والجلوس عند قدمي المعلّم. "فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها (لو 10: 42). ما هو "النصيب الأفضل" الذي اختارته مريم؟ الاستماع إلى يسوع الّذي يُشبه الاستماع إلى الشريعة!

 

يقوم الوحي في إلقاء كلمة الله للإنسان، فينتج الإيمان من السماع كما جاء في تعليم بولس الرسول" كَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ فالإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع " (رومة 10/ 17). ولم يتردَّد موسى النبي في تشجيع الشعب على السماع بقوله "اسمعوا " (تثنية الاشتراع) كذلك عاموس النبي (عاموس 3: 1) وارميا النبي (ارميا 7: 2). ولم يتردَّد يسوع في ترديد نفس الكلمة "اسمعوا" (مرقس 4: 3).

 

 إن سماع كلمة الله   שְׁמַע في اللغة العبرية وقبولها لا يعني الاستماع إليها بأذن صاغية فحسب، بل يتضمن فتح القلب لها أيضاً كما حدث مع ليديا في مدينة فيلبي "كانَت تَستَمِعُ إِلَينا امرَأَةٌ تَعبُدُ الله، اِسمُها لِيدِية وهِي بائعَةُ أُرجُوانٍ مِن مَدينةِ تِياطيرة. ففَتَحَ الرَّبُّ قَلبَها لِتُصغِيَ إلى ما يَقولُ بولُس"(أعمال 16: 14) والعمل بها كما صرّح يسوع "مَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر"(متى 7: 24)، والطاعة لها. تلك هي طاعة الإيمان التي يتطلَّبها سماع البشارة " بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسولاً، فنَهدِيَ إلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه" (رومة 1: 5).

 

عندما لا يريد الإنسان أن يسمع يقع في مـأساة (تثنية 18: 16 و19). يصمّ عن نداءات الله ويُغلق الأذن والقلب (أعمال 7: 51). وتلك هي الخطيئة التي واجهها يسوع عند اليهود فقال لهم " لِماذا لا تَفهَمونَ ما أَقول؟ لأَنَّكُم لا تُطيقونَ الاستِماعَ إلى كَلامي... مَن كانَ مِنَ اللهِ استَمَعَ إلى كَلامِ الله. فإِذا كَنتُم لا تَستَمِعونَ إِلَيه فَلأَنَّكُم لَستُم مِنَ الله" (يوحنا 8: 47 و43). إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يفتح أُذن تلميذه كما جاء في نبوءة أشعيا "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني"(أشعيا 50: 5) لكي يطيع (مزمور 40: 7-8). ولذلك لدى مجيء المسيح يفهم الشعب كلمة الله ويُطيعها (متى 11: 5). وهذا ما يعلنه صوت السماء للتلاميذ: " هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا " (متى 5:17). وكانت مريم، إم يسوع نموذجا في سماع كلمة الله وحفظها كما ورد في إنجيل لوقا "كانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها"(لوقا 2: 19)، فاستحقَّت الطوبى من فم يسوع ابنها "طوبى لِمَن يَسمَعُ كَلِمَةَ اللهِ ويَحفَظُها" (لوقا 11: 28).

 

ب) الله يستمع إلى الإنسان

 

عندما يستمع الإنسان لكلمة الله يستمع الله بدوره للإنسان ويستجيب له. والله يسمع للصدّيقين، وللذين يتّقونه ويعملون بمشيئته " كما صرح الرجل الأعمى الذي شفاه يسوع "نحنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين، بل يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه" (يوحنا 9: 31،) " وللذين يسألونه شيئاً موافقاً لمشيئته كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "الثِّقةُ الَّتي لَنا بِه هي أَنَّه إذا سأَلْناه شَيئًا مُوافِقًا لِمَشيئَتِه استَجابَ لَنا" (1 يوحنا 5: 14). فالله يستجيب نظراً لاستجابته في كل حين لابنه يسوع كما صرّح "عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً" (يوحنا 11: 42)، فعن طريقه َتمرُّ دائماً صلاة المسيحي.

 

 

2) مرتا والخدمة

 

مرتا كلمة أراميه "מָרְתָא" معناها ربة، وكانت أخت لعازر ومريم، وكانت عملية ونشيطة وأمينة في خدمتها وتتهتم بإعداد الطعام وتدبِّر أشغال البيت، وتهتم بالاستقبال الشخصي ليسوع. وكانت تتحمس كثيرا إلى خدمته إلى درجة الارتباك عكس ما علم الرب" وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه "(لوقا 17: 10)، إذ اعترضت على أختها مريم على تركتها وحدها تعمل. فمرتا امتازت بالخدمة. والإنسان يدان بحسب خدمته للآخرين كما صرّح يسوع "جاء ي إنجيل متى: أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، 36 وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ ... ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه " (متى 25: 35-40).

 

تدل الخدمة في الكتاب المقدس على خضوع الإنسان لله. وهذا الخضوع يرتبط بتحرير الإنسان، لان من "كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة" (يوحنا 8: 34). إن الخدمة التي يطلبها الرب لا تقتصر على العبادة الطقسية، ولكنها تمتدّ إلى الحياة كلها بالطاعة لوصاياه كما جاء في تعليم الأنبياء " إِنَّ الطَّاعةَ خَيرٌ مِنَ الذَّبيحة" (1 صموئيل 15 22). وقد جاء يسوع ليَخدم الناس ويُعلن عن الحب الذي وحده يعطي الخدمة كرامتها وقيمتها "لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب" (يوحنا 14: 31).

 

عندما يخدم يسوع أبيه السماوي، إنما يخلص البشر، إذ يُكفّر عن رفضهم للخدمة، ويكشف لهم عن كيفية الخدمة التي يريدها الآب. فهو يريد أن يبذل البشر ذواتهم في سبيل خدمة إخوتهم، كما صنع يسوع نفسه" لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45) "فأَنا بينَكم كالَّذي يَخدُم"(لوقا 22: 27).

الخدمة قبل كل شيء هي خدمة "الكلمة" (أعمال الرسل 6: 4) والمؤمنون يخدمون الكلمة كأبناء وليس كعبيد (غلاطية 4)، لأنهم يخدمون في نظام الروح الجديد (رومة 7: 6) الذي نقلهم من حالة عبيد إلى حالة أحباء المسيح "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15).

 

راد يسوع ن يوجّه مرتا نحو مفهوم الخدمة، لان الأمور المادية إذا زادت لن تترك الإنسان أن يختار، بل يعيش الإنسان في هموم واضطراب وارتباك. فمرتا أغفلت "الأمر الواحد". ولم تركِّز أفكارها على "الأمر الواحد" اللازم مثل أختها مريم؛ والنتيجة أنها أُرهقت بالخدمة، وتضايقت من أختها، ثم تذمَّرت واشتكت للرب فأراد يسوع أن يوجّه مرتا نحو "الأمر الواحد" الذي كانت في حاجة إليه، وهذا "الإمر الواحد" هو يسوع المسيح نفسه، فهو حاجتنا كما يقول صاحب المزامير " إِليكَ صَرَختُ يا رَبِّ قُلتُ: ((أَنتَ مُعتَصَمي في أَرضِ الأَحْباءِ أَنتَ نَصيبي" (مزمور 142: 6) "ومَن لي في السَّماء؟ ومعكَ على الأرضِ لا أَهْوى شيئا" (مزمور 73: 25).

 

 

 حكم يسوع

 

جُعل يسوع حكماً بين الأختين مريم ومرتا بناء على طلب مرتا. ماذا سيختار؟ الخدمة أم الاستماع؟  العمل أم الصلاة؟ جاء جواب يسوع وكأنه لغز... اختارت مرتا أموراً كثيرة. اختارت الكمية. أما مريم فاختارت ما هو فريد. وهذا الفريد هو "الأمر" الضروري الوحيد. اختارت مريم النصيب الصالح كما توضح الكلمات اليونانية τὴν ἀγαθὴν μερίδα .  النص لا يقابل بين مرتا ومريم ليقول أيهما أحسن. ولا يعارض بين خيار صالح وخيار أفضل.  لكن، في الواقع، دُعيت الأختان إلى خيار واحد، وهو خيار مريم الذي اختارت يسوع.  لم يغدق يسوع عطاياه على مريم أكثر من مرتا بل مريم هي من اختارت النصيب الأفضل، بقرارٍ حرٍ وواعٍ، وهو الأصغاء إلى كلمة الرب يسوع والدخول في شركة حياة معه.

 

نصيب مريم " لَن يُنزَعَ مِنها " (لوقا 10 42)، لان عذوبة الحق أبديَّة، لن ينزع منها، لا بل في هذه الحياة يزداد لها، وفي الحياة الأخرى يُكمل لها.  أمَّا نصيب مرتا في وقت أو آخر ثِقَل الواجبات الضروريَّة فيُنزع منها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يُمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا. الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنَّما في الشركة مع الرب، الذي هو بالحقيقة هو "الأمر الواحد" الذي لا يمكن أن يُنزع منها.

 

لم يلمْ يسوع مرتا على اهتمامها بأمور البيت والضيافة، ولم يوبّخها على خدمتها، لكنه كان يوجّهها لوضع الأولويات في خدمتها، لأنها انشغلت عن الرب يسوع نفسه في وسط خدماتها الكثيرة. يسوع يحاور مرتا كما فعل مع تلميذي عماوس، محاولا أن يفهمها ويُنير ذهنها ويحملها على الصبر، لتنموا في نعمة الإيمان في الاختيار وهو المثول أمام المسيح كلمة الله الحي وتستقبِله كضيف، وتهتم فيه أكثر من اهتمامها بما ستقدّم له من حاجات.  وبيّن لها أنها بحاجة بالدرجة الأولى إلى الجلوس عند قدميه لتعرفه فتمتلئ سلامًا فيزول ارتباكها.  فالواحد الذي تحتاجه هو المسيح، هو موضوع إيماننا الأول والأخير "إِنَّ يسوعَ المَسيحَ هو هو أَمْسِ واليَومَ ولِلأَبَد. انه جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه.  أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يوحنا 1: 11-12)، والرب لا يزال ينتظرنا بالفقراء والمرضى والأسرى إذ يقول: " الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40).

 

نستنتج مما سبق أنَّ مريم ومرتا كانتا تُكملان بعضها البعض في خدمة يسوع. فلا يجب أن نظل في عُزلة دون خدمة للرب الذي أحبنا وبذل نفسه لأجلنا، ولا ينبغي أن نترك الخدمة تُشغلنا عن الرب يسوع نفسه كما قال أحد الإباء قديماً " لقد خدمت كثيراً بيت الرب فمتى تخدم ربّ البيت"، "فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك" (متى 23: 23). الأمر الواحد المطلوب سواء خدمنا أو صلينا ألاَّ ننسى الرب وتكريسنا له. ما يريده المسيح هو التعقل. لا نترك هذا ولا نهمل ذاك. المسيح يريدنا أن تكون لنا خلوتنا، ولكن ليس على حساب الخدمة، ويكون لنا خدمتنا ولكن ليس على حساب خلوتنا، فالمطلوب هو التوازن. فاتخذ الرهبان الصلاة والعمل كقاعدة ذّهبية لحياتهم: قانونهم مبين على وصيتين: صلِّ واعمل.

 

نستنتج مما سبق أن التلميذ الحقيقي يحمل في نفسه مريم ومرتا، فلا عمل خارج حياة الصلاة والشركة مع الله، ولا حياة صلاة وشركة صادقة بلا عمل! ولكن يلزم على الأول وسط عمله أن يتمتَّع بنصيب من الحياة التأمُّليَّة اليوميَّة حتى لا ينحرف في عمله، ويليق بالثاني أن يُمارس محبَّته بالعمل.

 

يمرُّ الإنسان دون الشركة مع الرب مثل مرتا في مشاكل نفسية، كالقلق والاضطراب لكثرة الأمور التي ينشغل بها، وهذا هو ما سبَّب لمرتا لها الضيق والتذمر، الغيرة والغضب، مراقبة الآخرين وإدانتهم، والشعور بالنقص، ولوم وعتاب على الرب. لكن الشركة والعلاقة الحيَّة مع يسوع المبنيَّة على إيمان فهي الأفضل، لأنه قد ينتزع منا كل شيء، الخدمة أو القدرة على الخدمة، لكن من يستطيع أن ينتزع منا روح الرب الحي والساكن فينا، ومن يفصلنا عن حياة يسوع المتغلغلة إلى عمق أعماقنا كما جاء في قول بولس الرسول" فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ " (رومة 8: 35).

 

 

خلاصة

 

وضَّح النص الإنجيلي العلاقة القائمة بين الصلاة والعمل، بين المناجاة والخدمة مُبينا أسس الخدمة ومفهومها الحقيقي. إنَّنا نتعرّف على يسوع من خلال الصلاة والعمل على مثال مرتا ومريم. نتعرف عليه حين نخدم الأخوة على مثال مرتا، ونناجيه على مثال مريم. أحبّ يسوع مرتا التي استقبلته. وأحب مريم التي استمعت إليه. فعلى مريم أن تتعلّم كيف تستقبله. وعلى مرتا أن تعرف كيف تجلس لتستمع إليه. الصلاة تقودنا إلى العمل، والعمل ينبع من الصلاة. هذا ما يدعونا إليه يسوع. إنه النصيب الأفضل الذي لا يُنتزع منا.

 

يؤكد لنا إنجيل اليوم أنّ الله دائما يزور البشر كما فعل مع مريم ومرثا، هو يزورنا بشخص الزائر والمحتاج والضعيف والمحزون والمظلوم والمريض، فهو في كلِّ هؤلاء. بكلمة هو يزورنا بشخص من يحتاج المساعدة. إذ مَن ساعد القريب فقد يلتقي بالله، ومن أحب قريبه أجبَّ الله في الوقت ذاته.

 

مرتا مثال لنا في الضيافة، والضيافة شهادة إيمان: سوف يعلن المسيح، أمام الجميع في ساعة الدينونة الأخيرة، الطابع السرّي لهذه الضيافة، التي هي صورة من صور المحبة. فن خلال الضيف وفي الضيف، المسيح نفسه هو الذي نقبله أو نرفضه (متى 25: 35 و43)، الذي نعترف به أو ننكره، كما حدث في زمن مجيئه بين خاصته: فهو ليس فقط عند ميلاده، لم يكن له موضع في الفندق (لوقا 2: 7)، بل حتى آخر حياته، العالم لم يعترف به، وذووه لم يقبلوه (يوحنا 1: 9 -11). أما الذين يؤمنون به، فيقبلون "باسمه "، ويُرسلون من قبله (يوحنا 13: 20)، ويقبلون جميع البشر، حتى أكثرهم تواضعاً (لوقا 9: 48). فهم يرون في كل ضيف، لا مرسلاً من قبل الرب فقط، أو" ملاكاً" (تكوين 19: 1 -3). بل الرب نفسه (متى 10: 40. مر قس 9: 37). فبدلاً من معاملة الضيف كمدين (سيراخ 29: 24-28)، أو كمزعج لا نوليه ثقة (سيراخ 11: 34). ونتذمّر عليه (1 بطرس 4: 9)، علينا أَن نؤثر استقبال هؤلاء الذين لن يتمكنوا من مكافأتنا عما نقدّمه لهم من خدمات (لوقا 14: 13).

 

إن كل مسيحي (1 طيموتاوس 5: 10). ولاسيما "الأسقف" (1 طيموتاوس 3: 2، طيطس 1: 8)، ينبغي أن يرى فيمن يقرع بابه (راجع رؤيا 3: 20)، ابن الله الذي يأتي بصحبة أبيه ليغمره بالنعم، وليجعل له عنده مقاماً (يوحنا 14: 23). إن هذين الضيفين الإلهيين بدورهما سوف يدخلانه لديهما، لا كضيف، بل كابن من أبناء البيت (يوحنا 14: 2-3، أفسس 2: 19). فطوبى للعبيد الساهرين الذين سيفتحون الباب للسيَد الذي سوف يقرع ساعة مجيئه الثاني المجيد. إنه تعالى سوف يقلب الأدوار رأساً على عقب، ويكشف عن سر الضيافة. فيقوم هو نفسه بالخدمة على المائدة (لوقا 12: 37)، وهو نفسه الذي سوف يجعلهم يشاركونه في مائدته (رؤيا 3: 20).

 

الضيافة واجب " كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين وإلى ضِيافةِ الغُرَباءِ مُبادِري."(رومة 12: 13) ويجب أن تكون الضيافة بدون تذمر “لِيُضِفْ بَعضُكم بَعضًا مِن غَيرِ تَذمُّر،” (1 بطرس 4: 9) لان من يضيف المسيح، يُضيف الله "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. " (متى 10: 40). والضيافة تَردّ بالخير على المضيف، كما جرى مع المرأة الشُونميّة التي أضافت اليشاع، (2ملوك 4: 8-37). وزكَّا العشار الذي أضاف يسوع (لوقا 19: 1-10).

 

مريم هي متال حياة الصلاة والتأمل، لأنها عرفت أن تجلس عند قدمي الرّب يسوع، وتستمع إلى كلماته العذبة. قد تبدو وكأنّها لا تقدّم شيئًا، لكنّها تقدّم أكثر من أختها مرتا التي تنشغل بأمور كثيرة. فمرتا كانت منشغلة بما تقدمه ليسوع ولم تكن منشغلة بيسوع نفسه كما كانت مريم.  إن الرّب يسوع لم يلم أبدًا أعمال مرتا، إنما يريد فقط أن يصحّح القلق لديها. فالحاجة هي امرٌ واحدٌ أساسي وهو التعلق بيسوع ودخول بالشركة معه وتعميق علاقتنا به.  يسوع جوهر الخدمة، والمصدر الذي نستمد منه قوتنا؛ فالشركة مع يسوع هي نقطة الارتكاز للعمل ورفع العالم. 

 

 

دعاء

 

علمنا يا رب أن نستقبلك في حياتنا فنصغي إلى كلمتك مثل مريم ونعمل لأجلك مثل مرتا فتكون أنت نصيبنا الأفضل الذي لا يُنزع منا.