موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

ماذَا نَعمل؟

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ماذَا نَعمل؟

ماذَا نَعمل؟

 

عظة الأحد الثالث من زمن المجيء - ج

 

الجموعُ تَسأل: "ماذا نَعمل؟". العشَارونَ يَسألون، الجنودُ يَسألون، الجميعُ يَقصِدُ يوحنّا الْمعمدان، يَسألونَه: "ماذا نَعمَل؟". أَتوا إلى يُوحنّا يَبحَثونَ عَن مَرجِعيّة يَلْتَجِؤون إليها، يُجيب على تساؤلاتِهم، يُوضِّح لهم الأمور، يضعُ أمامَهم خارطةَ طريق وخطّةَ عملٍ، يَعمَلون بموجَبِها. إلّا أَنَّ هَذه كلَّها، لم تَشفَع لِيُوحنّا أمامَ طُغيانِ هيرودس وحِقدِ هيروديّا. فَمَع أنَّ هيرودس كانَ يَسُرّهُ الإصغاءُ إلى يوحنّا ويستمِعُ إليه (مَرقس 20:6)، إلّا أنّه لم يُنْصفه، بَل استَجابَ لِشَهوةِ قَلبِه، الزّائغةِ عن الحقِّ، الْمُجانِبةِ لِلصّواب.

 

يُوحنّا الّذي أَتَى مُعِدًّا لِطَريقِ الرّب، سَابِقًا مُباشرًا له، مُهَيِّئًا ومُمهِّدًا لِحضوره، مُقوِّمًا لِسُبل النّاس، يُحاول اليوم أن يَدُلَّ النّاس، كَيفَ يُعِدّونَ أنفُسَهم لِمَجيءِ الرّب، كُلٌّ في مَوقِعِه ومَكانِه. فَمِنَ البعضِ طلبَ التّشارُكَ في الخيراتِ، ومن البعضِ الآخر طلبَ الأمانةَ وتجنُّبَ الفَساد، ومن غيرِهم طلبَ الرّأفةَ والعدالةَ والقَناعة.

 

لَيسَ ذلِك فَحسب، بَل أَنَّ يُوحنّا كانَ مُدرِكًا لِدَورِه وَمَوقِعه، فَلَم يَدّعِ مَن لَيسَ هو، ولم يَنْتحِل هُويِّة، أو يَسلِب دَورًا لَيسَ دورَه، إنّما: "اِعترفَ وَلَم يُنكِر، اِعترفَ: ((لَستُ الْمَسيح))" (يوحنّا 20:1). كانَ بِإمكانِ يوحنّا أن يركَب مَوجةَ الجماهيرِ الّتي تَأتي إليه، باحثًا عن شُهرةٍ أو مُكسَبٍ أو زَعامة. ولكنّهُ كانَ يَعلمُ بِأَنَّهُ الصّوتُ لا الكلِمة، الْمُمَهِّد لا الطّريق، الشّاهِدُ ولَيس النّور. عَظَمةُ يوحنّا يا أحبّة، لَيسَت فَقط كَما نعتِقد، أنّه وَقفَ في وَجهِ هيرودس الظّالِم ناطِقًا بالحق، إنّما أيضًا تكمنُ في صِدقِه مَع نفسِه، مُقِرًّا بحَقيقتِه كَمَا هي، دونَ تَزويرٍ أو تَحويرٍ للحقائِق.

 

هَذا هو الحق: أن تَصدُقَ مع نَفسِك، قبل أن تَصدُقَ مع النّاس. الحقّ هو تَسميةُ الأمورِ بأسمائِها، دونَ تَفْخيم أو تَعْظيم وإلّا أصبحَ الأمرُ نِفاق، ودونَ تَبخيس أو تَرخيص وإلّا غَدا الأمرُ إجْحاف. وكَما أنَّ لِكُلِّ كلمةٍ مَوقِعُها من الإعراب، كَذَلِكَ لِكُلِّ إنسانٍ مَوقِعهُ ومَكانتُه، يَحفظُها وتَحفظُه.

 

وعِندَما تَأخذُ الكلمةُ حَركةً غيرَ حَركتِها، بما لا يُلائِمُ مَوقِعَها في النّص، يَغدو الأمرُ نشازًا كريهًا. كذلِكَ الحالُ يكون عِندَما يَدّعي أَحدُهم باطِلًا، ما ليسَ فيه أو مَن ليسَ هو. فالعَينُ عين، والأذنُ أُذن، والّلساُن لِسان، كُلٌّ لَهُ دورُه في مكانِهِ فقط. معرفةُ الْمَاهيّة مُهمّة جِدًّا لكلِّ إنسان، فلا تُبَخِّس من قيمتِكَ ذُلًّا تحتَ التُّراب، ولا تَرفع مِنها غُرورًا فوقَ السَّحاب. وَمِثلَما نَقرأُ في ليلةِ الميلاد، مِن موعظةِ البابا لاون الكبير، قائِلًا: (أيّها الْمَسيحي، اِعرَف كَرامَتَكَ). وكَرامتُك تأتي من معرفتِكَ لحقيقةِ نفسِكَ كَما هي. وإن كُنتَ لا تَعلم، فالنّاسُ قَد تَعلَم!

 

عَالِمَا النّفس جوزيف لوفت وهارينغتون انغهام، وَضَعَا تِقنيّةً لِفهمٍ أَفضَل لطبيعةِ العَلاقات الإنسانيّة: النّاسُ مع أَنفُسِهم ومع الآخرين. وتُعرَف باسم (نافذة جوهاري/ Johari Window: جو + هاري). هذهِ التّقنية النَّفسيّة قَسَّمت الإنسان إلى أربعِ نوافِذ أو غُرَف:

 

النّافِذة الأولى، هي الصّفاتُ الّتي أعرِفُها أنا عَن نفسي، ويعرفُها الآخرون عنّي أو فِيّ أيضًا.

 

النّافِذة الثّانية، هي الصّفاتُ الّتي أَعرِفُها أنا عَن نفسي، ولكن لا يَعلَمُها الآخرونَ عنّي/ أُخفيهَا.

 

النّافِذة الثّالِثة، هي الصّفاتُ الّتي يراها الآخرونَ فيَّ، وأنا لا أراها أو أُدرِكُها في نَفسي.

 

النّافِذة الرّابعة، هي الصّفاتُ الغَامِضَة، الجزءُ الباطني العميق من نفسي، حيث لا أنا ولا غيري يُدرِكُها.

 

صَدق سُقراط لَمّا قال: أَيّها الإنسان اِعرَف نفسَك. معرفةُ النّفس قَد لا تقودُكَ دومًا إلى علاقات وِدّية وَسِلميّة مع النّاس. خُصوصًا إذا كَانَت نفسُكَ قائمةً على قِيمِ الصّدقِ والأمانةِ والشّفافيةِ والنّزاهةِ والعدلِ وقَولِ الحَق. معرفةُ النّفس هي مَسيرة، تَتَطَلّبُ تواضُعًا وقُدرةً على الإقرارِ بِضعفي ونَقصي، على الأقل مع الله ومع نَفسي. وبعدَ الإقرار تأتي مَسيرةُ الإصلاح والتّقويم والتّطوير.

 

لِذلك، مُشكلةُ الإنسان ومشكلةُ الأوطان هي الادّعاءُ الزّائِف، وَكَيلُ الثّناءِ لهذا وذاك، والخطاباتُ الطّويلة والوعودُ الكاذِبة، وَجُملُ النّفاقِ الإنشائيّة الّتي لا تُعَد ولا تُحصى. فيُقال للأعمى مُبصِر، وللقبيحِ فائق الجمال، وللأصمِّ حاد السّمع... أمّا الأخطاءُ والعَثرات فَنَغُضَّ البصرَ عَنها، وَنَدّعي أَنّنا لا نَراها، أو نُنكِرُ وجودَها. ونُصَدِّقُ وَاهمين بِأنّنا أفضلُ الشّعوبِ والأُمَم، ومُعدّلاتُ الهجرة في ارتفاعٍ مُستَمر! ما هذا التّناقُض الصّارخ؟! لِذلِكَ، الْمَشاكِلُ الصّغيرة الّتي لا تُحل، تَتدَحرج لِتَصيرَ أزماتٍ كَبيرة ومُدمِّرَة.

 

يقول يُوحنّا في شهادتِه عن الْمسيح: "يأتي بَعدي مَن هو أقوى مِنّي". لَيتَنا جميعًا كَيوحنّا، نَعرف مَن نحن وما نحن، وَنعرفُ مَحدُوديّتَنا وَدَورَنا وموقِعَنا، ونُدرِكُ أنّ هناكَ مَن يَفوقُنا عظمةً وَقوّةً وقُدرةً ومَوهِبةً وذكاءً ورؤيةً وتَنظيمًا وتَرتيبًا وإدارةً. عِندها نَسعى لِنُصبِحَ أفضل، نَسعى لِتَحسينِ واقِعِنا، ونتوقّف عن عَيبِ الآخرين، والدّعاءِ عليهم بالسّوء، وتحميلِهم أسبابَ فَشلِنا.

 

نَتَساءلُ اليوم بدورِنا على مثالِ الجموع: "ماذا نَعمل؟" في رأيي: أَعرِفُ نَفسي، أُقَيّمُ طاقاتي وقُدراتي، أُدرِكُ حُدودي وإمكاناتي، أَضعُ خِطّة بناءً على ما توفّرَ لَدي من مُعطَيات، أَتوكّلُ على الله وأطلبُ المعونة، ثُمّ أَعمل.