موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٥ يوليو / تموز ٢٠١٣

"ليأت ملكوتك"؟! ما المقصود بذلك؟ وما هو ملكوت الله؟

بقلم :
د. عدلي قندح

سؤال للتفكير: عندما نصلي "ليأت ملكوتك" ماذا نتوقع أن يحصل؟! - تختلط علينا الامور عند محاولة فهم المقصود بما هو المقصود بملكوت الله أو ملكوت السموات نظراً لأن يوحنا المعمدان عندما بدأ يبشر قال: توبوا فقد اقترب ملكوت السموات" والسيد المسيح من بعده قال : توبوا وآمنوا بالانجيل فقد اقترب ملكوت السموات". وقال السيد المسيح لبطرس: "أَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ". - وعندما علم تلاميذه كيف يصلوا قال: أبانا الذي في السموات ..."ليأت ملكوتك". - فما المقصود بملكوت السموات؟ - وهل كان هذا المفهوم موجود في العهد القديم؟ هنالك اختلاف حول المفهوم ما بين العهدين القديم والجديد. المفهوم تطور عبر التاريخ. لا يمكن تفسير المفهوم بطريقة واحدة. المعنى اللغوي لملكوت الله: إن المعنى اللغوي- في اللغة العبرية "مالكوت" أو الآرامية "مالكوتا" - هو سلطان الله وحكمه. باللغة اليونانية "فاسيليا": تعني "مَلَكية" (أسم مجرد = abstract name) أو "مملكة" أو ملكوت (أسم حي) أو المُلك (مصدر فعل). هنالك مجموعة من النظريات أو المحاولات التي جَربت تفسير معنى "ملكوت الله" أو "ملكوت السموات". لنبـــــــــــــــــــــــــدأ: بداية يجب أن نُقِرْ بالحقيقة التالية: أن ملكوت الله سابق لنا، موجود منذ وجود الله أي منذ الأزل. وفيما يلي رسم توضيحي لذلك: (مرفق بالأسفل). ملكوت السموات في الكتاب المقدس هنالك اختلاف كبير ما بين قراءة العهد القديم وقراءة العهد الجديد لمفهوم ملكوت الله. أولاً: في العهد القديم: (قبل تجسد الله الكلمة بشخص السيد المسيح) كلمة ملكوت في العبرية هي "مالكوت" وفى الآرامية التي كتبت بها بعض أجزاء العهد القديم والتي كان يتحدث به اليهود في زمن السيد المسيح "مالكوتا" وتعنيان في العهد القديم والكتاب المقدس كله : "حكم الله وسلطانه الشامل وسيادته على الناس والأمم والزمن في الماضي والحاضر والمستقبل، أي التاريخ الذي يحدد مساره ويحقق فيه إرادته، والطبيعة والكون كله، في السماء وعلى الأرض، فهو خالق الكون ومدبره والمهيمن عليه". "يحمدك يا رب كل أعمالك ويباركك أتقياؤك بمجد مُلكك ينطقون وبجبروتك يتكلمون. ليعرّفوا بنى أدم قدرتك ومجد جلال مُلكك ملك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور (1)"، "الرب في السموات ثبت كرسّيهُ ومملكتهُ على الكل تسود.. باركوا الرب يا جميع أعماله في كل مواضع سلطانه باركي يا نفسي الرب (2)"، "لأن الله ملك الأرض كلها رنموا قصيدة. ملك الله على الأمم (3)"، "ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد لأن لح الحكمة والجبروت. وهو يغير الأوقات والأزمنة يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا (4)"، "لكي تعلم الأحياء أن العلى متسلط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس (5)"، "أن الله العلى سلطان في مملكة الناس وأنه يقيم عليها من يشاء (6)"، "من لا يخافك يا ملك الشعوب (7)". كما أن فكرة مُلك الله من المبادئ الاساسية في العقيدة الموسوية. ففي عهد الانبياء منذ ابراهيم واسحق ويعقوب وموسى كان مفهوم ملكوت الله غير واضح . أما بعد استقرار اسرائيل في ارض كنعان، وكان ذلك في عهد يشوع بن نون، فقد بدأت الكتب المقدسة تستخدم الرمزية للتعبير عن مُلك يهوه على شعبه اسرائيل. فقد اصبح لله أتباع أرضيين يقدمون له الطاعة والعبادة على منوال أتباعه السماويين الروحيين (الملائكة). أما في عصر القضاة، أي ما بين حلول اسرائيل في أرض كنعان بامرة يشوع بن نون وأوائل العهد الملكي مع شاول، وفي وقت لاحق (صموئيل والملوك)، بدأ شعب الله (اسرائيل) يطلب مُلك ارض مثل جيرانه من الأمم الوثنية. فقد بُعث النبي صموئيل وهو واضع أسس العهد الملكي عهد الاستقلال والملوك المجيد: صموئيل وشاول وداود ونسله وهكذا، بدأت أنظار اليهود تتحول لملك ارضي في المستقبل ، وبدا انتظار المشيح (المسيح المنتظر) (كملك لتحريرهم من العبودية والاستعمار). والكتاب يبين لنا قوة الله وسلطانه بصورة علمية عندما يذكر لنا أعماله مثل إغراق الأرض بالطوفان (8) وإرجاع الشمس للوراء (9) وشق البحر الأحمر وإغراق فرعون وجيشه فيه ونجاة شعب الله (10) وأنباع الماء من الصخر (11) وتحريك النجم لإرشاد المجوس إلى مكان ميلاد المسيح (12) وجعل الشمس تختفي في الظهر وقت صلب المسيح (13) وجعل الملك نبوخذ نصر يعيش فترة من الزمن كالحيوان (14) ويستخدمه كآلة لتأديب شعبه وتحويلهم إلى سبايا (15) ويدعو الملك الفارسي كورش ليعيدهم ثانية (16)، وهو الذي يسمح لأمةٍ بالنصر في الحروب وأخرى بالهزيمة وذلك بحسب قصده ومشيئته وعلمه السابق. ولكن البشر كما يقول الوحي الإلهي؛ "حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات.. استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد (17)". وقد سقط البشر في عبادة الأوثان وتركوا الإله الحي ملك الملوك ووضعوا أنفسهم في مجال ودائرة حكم الشيطان وسيادته وملكوته. ومنذ بداية عهد الله مع البشر، أختار الله إبراهيم ودعاه ليخرج من أرضه ويترك أهله وعشيرته ويسير في الطريق التي رسمها له ليأتي منه ويخرج من صلبه شعبًا خاصًا به يكون في دائرة ومجال حكمه المباشر. هذا الشعب يقوم دستوره على القداسة والبر والتبعية المطلقة لله وتدور طقوسه وشعائره حول التطهير "وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي (18)"، ويعبد الله وحده باعتباره الإله الواحد الوحيد ولا إله غيره. "أسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد (19)"، "لا يكن لك إلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن (20)"، "أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي.. ولا إله آخر غيري.. ليس سواي.. أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلى (21)". ولكن لماذا اختار الله شعب له؟ الجواب المثالي لذلك هو لكي يكونوا سبب بركة لجميع الأمم عن طريق النسل الآتي. فالمسيح المنتظر، الذي سيقيم ملكوت الله في العالم أجمع ويخضع كل ممالك الأرض للرب ومسيحه، أو كما يقول الوحي الإلهي "لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح (22)": "وقال الرب لإبر آم (إبراهيم) أذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم أسمك. وتكون بركة. وأبارك مباركيك ولاعنك العنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض (23)". وقطع الله عهدًا "ميثاقا" مع إبراهيم بواسطة الذبائح وكشف له عن المستقبل في رؤيا (24) وجدد العهد مع ابنه إسحق "ولكن عهدي أقيمه مع إسحق (25)" ثم مع حفيده يعقوب الذي ظهر له في حلم وقال له "أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق.. ويتبارك فيك وفى نسلك جميع قبائل الأرض (26)". مرحلة تجديد العهد وجدد الله هذا العهد ثانية مع الشعب بعد خروجه من مصر بواسطة موسى النبي وقال لهم "أن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة (27)". وكان عهد الله معهم مشروطًا بحفظ وصاياه وسماع كلامه. لماذا اختار هذا الشعب؟ ولكن الله لم يختر هذا الشعب لميزة فيه أو فصيلة لأنه أختارهم وهم في صلب إبراهيم وإسحق ويعقوب ورباهم بذاته كما يقول "ربيت بنين ونشأتهم (28)". وإنما أختارهم بنعمته وأحبهم فضلًا ليحقق من خلالهم مشورته الإلهية كما سبق أن وعد إبراهيم وإسحق ويعقوب: "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد أختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم وأختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية ومن يد فرعون ملك مصر (29)". أسس الأمة اليهودية؟ فقد وجدت هذه الأمة وتأسست وقامت على أساس لاهوتي ولهدف سامي كان في قصد الله وهو فداء العالم في "ملء الزمان" عن طريق النسل الآتي والمسيح المنتظر الذي سيقيم ملكوت الله وينشره في جميع الأمم، وبالرغم من أنها عاشت أحداث زمنية وتاريخية في سياق التاريخ العام للعالم إلا أن هذه الأحداث كانت تسير بحسب قصد الله ومشيئته وعلمه السابق وبسماح منه تعالى. فقد كشف الله ما سيحدث لها على مر العصور لأنبيائه؛ كشف لإبراهيم في رؤيا مدة عبوديتها في مصر "أربع مئة سنة (30)" وكشف لسليمان عن انقسامها بعد موته (31) وكشف لإشعياء وإرمياء النبيين عن استخدامه لنبوخذ نصر ملك بابل في تأديبها وحمل شعبها سبايا إلى بابل وعن استخدامه لكورش ملك فارس في إعادة هذا الشعب ثانية إلى حيث كان بعد تمام سبعين سنة (32)، وكشف لدانيال النبي عن الدور الذي ستلعبه الإمبراطوريات العالمية الأربع، بابل وفارس واليونان وروما، في تاريخ هذه الأمة (33). هل تنازل الله عن ملكه لبقية الأمم؟ لم يكن اختيار الله لإسرائيل يعنى أنه تنازل عن ملكه وسيادته على بقية الأمم، كلا، فهو ملك كل الأمم "أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض (34)" وهو الذي "يعزل ملوكًا (35) وينصب ملوكًا". وقد أعطى لنبوخذنصر ملك بابل حكم بلاد كثيرة "قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذنصر ملك بابل عبدي (36)"، وسلط كورش ملك فارس على أمم كثيرة ودعاه بمسيحه "هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوك أحلُّ لأفتح أمامه المصراعين والأبواب (37)" ودعى مصر وأشور وكوش بشعوبه. وكما أخرج إسرائيل من مصر فقد نقل أيضا شعوب أخرى من مكان إلى مكان: "مبارك شعبي مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل (38)"،"ألستم لي كبني الكوشيين يا بنى إسرائيل يقول الرب ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير (39)". وبرغم أن هذه الأمم كانت غارقة في الوثنية ولكن الله دبر في قصده الإلهي ومشورته الأزلية أن يفدى هذه الأمم ويعيدها إلى حظيرة ملكوته الروحي ثانية عن طريق النسل الآتي من بنى إسرائيل. وقد رأى الله بعلمه السابق أن هذه الأمم ستعود ثانية إليه كالابن الضال في حين يخرج شعب إسرائيل، الأمة المختارة، من الملكوت بسبب تطلعهم إلى ملكوت مادي يقوم على الحروب وسفك الدماء وبسبب رفضهم لابن الله الآتي ليملك على القلوب ويقيم مملكة ليست من هذا العالم، أي روحية غير مادية "أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية (40)". عاش شعب إسرائيل تحت حكم الله المباشر وسيادته وسلطانه بواسطة الأنبياء والقضاة من موسى إلى صموئيل ولكنهم رفضوا حكم الله وطلبوا من صموئيل النبي أن يقيم لهم ملك يحكم عليهم مثل سائر الشعوب (41). رفضوا حكم الله وفضلوا عليه حكم البشر، وبرغم أن الله قال "إياي رفضوا لكي لا املك عليهم (42)" إلا إنه طلب من صموئيل أن يمسح لهم ملكًا حسب إرادتهم، فمسح شاول البنياميني ملكًا عليهم وحل عليهم روح الله وتنبأ مع الأنبياء ودعى "مسيح الرب" وكان عليه أن يحكم بحسب إرادة الله وشريعته (43) ولكنه فشل في ذلك، فرفضه (44) الرب وأختار داود ولم يفارقه وأخذ داود يسبح الله ويمجده ويتنبأ حتى دعى بالروح "الرجل القائم في العلا مسيح إله يعقوب ومرنم إسرائيل الحلو (45)"، ودعى أيضًا بالرجل الذي بحسب قلب الله "أنتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه وأمره أن يترأس على شعبه (46)"، "وجدت داود بن يسى رجلًا حسب قلبى الذي يصنع كل مشيئتي (47)"، وبالرجل "الذي وجد نعمة أمام الله (48)"، وقيل عنه "وجدت داود عبدي. بدهن قدسي مسحته (49)"، وكان داود نموذجًا أمام بنى إسرائيل في كل العصور وقد وعده الله أن من صلبه سيأتي النسل الآتي والمسيح المنتظر ليملك على كرسيه إلى الأبد: "أقسم من بعدك نسلط الذي يخرج من أحشائك وأثبتت مملكته... أنا أكون له أبًا وهو يكون لي أبنًا.. كرسيك يكون ثابتًا إلى الأبد (50)"، "وأجعل على الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السموات.. مرة حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبت إلى الدهر (51)". قال القديس بطرس بالروح عن وعد الله لداود أنه "كان نبيًا وعلم أن الله حلف له بقسم انهُ من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه (52)". وتطلع الأنبياء جميعًا إلى هذا الملك الآتي من نسل داود ليجلس على كرسيه ووصفوه بالروح ب "الرب برنا (53)" و"الإله القدير.. رئيس السلام (54)" و"الأزلي (55)" والذي سيكون "عادل ومنصور وديع (56)" و"ابن الإنسان" الذي تتعبد له كل الشعوب والألسنة (57)"، وستكون قوته في "فمه" وسلاحه في "شفتيه" ومنطقه هو "بره وأمانته (58)"، ولن يحارب بالسيف ولن يقود جيوش تغزو وتهلك وتدمر بل يستولى على الأمم بالحب والسلام، ولا يضم الناس إلى ملكوته بالسيف أو بقوة الجيوش بل بالروح القدس "سيعمد بالروح القدس ونار (59)". وقد رأى دانيال النبي ملكوته يسود على كل الأمم ويكتسحها أمامه بقوة إلهية. فقد رآه كحجر قطع من جبل بغير يدين وأكتسح جميع ممالك العالم "كنت تنظر إلى قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعاصفة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلها"، وبعد التفسير الخاص بالممالك التي يرمز إليها التمثال، والتي هي إمبراطوريات بابل وفارس واليونان والرومان، قال الوحي أن الحجر الذي قطع بغير يدين وأكتسح هذه الإمبراطوريات جميعًا وملأ الأرض كلها هو المسيح الآتي الذي سيقيم ملكوت أبدي لا نهاية له؛ "وفى أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهى تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب (60)". ورآه دانيال في رؤيا ثانية ولكن بصورة أوضح كابن الإنسان الذي يملك إلى الأبد على شعب قديسي العلى في ملكوت أبدى لا نهاية له: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان آتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض.. والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت السماء تعطى لشعب قديسي العلى. ملكوته ملكوت أبدى وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون (61)". ثانياً: ملكوت السموات في العهد الجديد: استخدمت كلمة ملكوت السموات وملكوت الله 126 مرة. 34 مرة في متى (ملكوت السموات) و5 مرات ملكوت الله، 14 مرة في مرقس، و22 مرة في لوقا، و2 مرة في يوحنا، و6 مرات في أعمال الرسل، و8 مرات في الرسائل، ومرة واحدة في رؤيا يوحنا. فقد بدأ القديس يوحنا المعمدان بشارته بقوله: " توبوا فقد اقترب ملكوت السموات". كما أن السيد المسيح، أيضا بدأ بشارته بقوله: توبوا فقد اقترب ملكوت السموات. وما يلفت الانتباه في كافة أسطر الانجيل الامقدس هو انشغال السيد المسيح كثيرا بتفسير أسرار "ملكوت السموات" بالرغم من عدم توجيه أسئلة مباشرة له حول ذلك. وكان هدفه الرئيسي من ذلك هو اعادة المفهوم الى أصله: ففي انجيل متى الاصحاح الثالث، قال يسوع: ها هوذا خرجَ الزارعُ لِيزرَعَ ومثل ملكوت السموات كمثل.... فتقدَّم إليه تلاميذُه وقالوا له: لماذا تكلِّمُهم بالأمثال، وهم، أي الجموع، سذّج لا يدرون الأمثال؟ لماذا لا تعلِّمهم بإيضاح فيفهمون؟ آ11. فأجابَهم قائلاً: أنتم أُعطيتُم معرفةَ سرِّ ملكوتِ السماء وأولئكَ لم يُعطَوا. لقد وضح يسوع المسيح معنى ملكوت الله في الموعظة على الجبل، وفي الصلاة الربانية، وفي عبارة "?ُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ!" وهذا يعني، عَامِلِ الناسَ بما تُحِبُّ أنْ يعامِلوكَ به. وهذا ما يتم تجاهله بشكل عام. فلا تعتبر نفسك سائراً في طريق التلمذة ما لم تفعل للجميع كل ما تسأل الله لنفسك، وهذا معناه وبعبارة أخرى، عدالة اجتماعية مطلقة وأجواء ملكوت الله المسالمة. فبلا شك أننا سفراء ملكوت اللـه الآتي؛ ونخدم قانوناً واحداً فقط، ألا وهو قانون روحه القدوس. وتخبرنا الموعظة على الجبل معنى ذلك عملياً: فالطريق واضح لكل من كان صادق معها. بالطبع لا يقدر أحد المضي بهذا الطريق بدون النعمة. ويشير يسوع إلى ذلك عندما يتحدث عن الشجرة ودورها الحيوي عند تشبيهه لها بملكوت الله. ويتحدث أيضاً عن الملح، مشيراً بذلك إلى الطبيعة الجديدة الشاملة التي أنعم بها علينا المسيح والروح القدس. فيقول يسوع (بما معناه): "ما لم تكن عدالتكم أفضل من عدالة اللاهوتيين وعلماء الدين ومعلمي الأخلاق، لن تقدروا أن تدخلوا ملكوت اللـه." ويقول أيضاً (بما معناه)، "أطلبوا أولاً ملكوت اللـه وعدله." إنً الحياة الجديدة هي حينما يَغْمُرُك ريح الروح القدس كليّاً. وسيشمل تأثيرها كل العالم. ونحن بحاجة إلى إيمان يجعلنا نٌبصر أننا نعيش في زمن النعمة؛ لأن المقصود من هذه الشجرة هو أن تنتشر على الأرض كلها. فيتجمّع كل البشر تحت هذه الشجرة، وفي حماية هذه الشجرة الحيّة. ولا يكفي أن نعترف أن يسوع هو حبيب قلوبنا؛ يجب أن نثبت حبنا له. ويخبرنا يسوع عن كيفية القيام بذلك: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاِحْفَظُوا وَصَايَايَ!" (يوحنا 14: 15) لا يعني الاستعداد لملكوت الله الانقطاع عن الأكل والشرب أو الامتناع عن الزواج؛ بل يعني تمييز علامات الأزمنة وأيضاً أن نعيش الآن مثلما سوف نعيش في ملكوت الله المستقبلي. ولكن ما هي العلامة التي نستدلّ بها أنّ ملكوت اللـه على وشك المجيء؟ نقرأ الجواب في إنجيل متى 24: 31ومرقس 13: 27: "فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إلى أَقْصَائِهَا". فهذه هي علامة المجيء الثاني للمسيح. أنّ التجمّع معاً هو علامة المسيح – "كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا" (متى 23: 37) وفي الصلاة الربية: طلب منا أن نصلي: ليأت ملكوتك. أما الرسل، فقد قال بطرس الرسول في رسالته الثانية : وهكذا يفتح الله لكم الباب واسعا للدخول الى الملكوت الابدي ، ملكوت ربنا يسوع المسيح. أعمال الرسل (1 :3) وظهرا لهم ...وحدثه عن ملكوت الله. وبعد القيامة كان السؤال الذي طُرح من التلاميذ: "متى سيرد الملك الى اسرائيل؟" (أع 1: 6). فقد كان حتى ذلك الوقت سوء فهم حتى من قبل التلاميذ لمفهوم ملكوت السموات. اذا، عندما ندرس الآيات التي تحدث فيها السيد المسيح عن ملكوت الله نرى أنه تحدث عن أمور ثلاثة أساسية: 1- المجموعة الأولى من الأقوال: نرى فيها السيد المسيح يفسر "ملكوت الله" على أنه حكم الله وسلطانه (مر1: 15، لو11: 20، مت16: 28). ويستخدم السيد المسيح في هذه النصوص ألفاظاً محددة كتلك التي تدل على زمن الملكوت ووقته مثل: اقترب وأقبل، وفي كل الأمثال التي فيها يتكلم عن مجيء ابن الإنسان، فإنه يُظهر فيها أنه سوف يأتي لكي يملك ويحكم ويتسلط. فملكوت الله في هذه المجموعة يعنى سلطان الله الذي يجريه عاملاً الفداء، ومنقذاً البشرية من سلطان الشيطان. 2- المجموعة الثانية من أقوال وأمثال المسيح عن ملكوت الله تُعلن أن ملكوت الله هو المكان أو المجال الذي يظهر فيه ذلك السلطان. وفي هذه النصوص يستخدم ألفاظاً مكانية محددة مثل: يدخل، يُلقى خارجاً (مت19: 24، 23: 13). 3- المجموعة الثالثة من أقوال السيد المسيح، توضح أن ملكوت الله هو المكافأة أو المجازاة التي يهبها للذين يتبعونه ويحيون حياة مقدسة، وفي هذه الأقوال يستخدم السيد المسيح ألفاظ الملكية مثل: أُعطي لهم (متى5: 3، لو12: 32). وقد تُعطي هذه المكافأة في هذا الزمن أو في الدهر الآتي. * وفي النصوص التي تحدث فيها المسيح عن الملكوت نرى أن هذا الملكوت: 1- ملكوت روحي: إن ملك الله وسلطانه معنوي ولكنه حقيقة ملموسة، وهو لا يُبنى على الغنى العالمي أو المعجزات الباهرة ولا على السيف وسفك الدماء. 2- الملكوت حاضر ومستقبل: تظهر تعاليم السيد المسيح أن لملكوت الله وجهتين: حاضرة ومستقبلة، أي أنه موجود الآن، وفي ذات الوقت سيُعلن في المستقبل. فهو حقيقة موجود الآن كما يظهر من النصوص التالية: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ (مت11: 11). وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ ! متى12: 28، وغيرها (لو16: 16، مر4، مت 13). ولكنه علّم أيضاً بأن نِعَم الملكوت وبركاته هي حاضرة لهؤلاء الذين يقبلونه. "ملكوت الله" حقيقة مستقبلية بعض تعاليم السيد المسيح تتكلّم عن قدوم الملكوت في الزمن المستقبلي: "وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ" (مت 25: 31)، هكذا إذاً هناك البعد المستقبلي لملكوت الله مثلما نقول في الصلاة الربّية "ليأتِ ملكوتُك" (مت 6: 10)، والبعد الآني الخاص بزمننا. إلا إن اكتمال الملكوت لن يتحقّق بشكل نهائي حتى "َيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى" (مت 24: 14). التركيز في بعض أمثال السيد المسيح هو على التطوّر الحاضر والخفي للملكوت، وفي بعضها الآخر هو على الإعلان المخيف في نهاية الأزمنة. ولهذا قال السيد المسيح لتلاميذه في العشاء الأخير: "أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي ،وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ»." (لو 22: 28-30). كما أن ملكوت الله يصف عمل الله، وهذا ظهر في تعاليم وأمثال المسيح مثل: مثل الزارع (مر3: 4- 9)، النمو السري (مر4: 26- 29)، حبة الخردل (مر4: 3- 32) مثل الخميرة (لو13: 21). ملكوت الله عام شامل ومن أمثال المسيح يتضح لنا أيضاً أن ملكوت الله عام شامل. فقد قال السيد المسيح: "وها ملكوت الله داخلكم" وذلك عندما سأله الفريسيون: "متى يأتي ملكوت الله" (لو17: 21) أي أنه بدأ منذ وجود المسيح علي الأرض في القرن الأول الميلادي. اذن: "ليأت ملكوتك" تعني أن نكون مواطنين في مملكة الله. أو لتكتمل مملكة الله على الارض. فهذه الطلبة هي بمثابة طلب فيزا لدخول دولة الله. ملكوت الله والكنيسة نعم، أسرار الملكوت قد أعلنها السيد المسيح للرسل (مت 13: 10-12). الكنيسة هي جماعة إسرائيل الجديدة (رو 11: 17-24) التي أقام معها الله عهداً في السيد المسيح. الكنيسة هي جماعة الله المدعوّة أن تعيش قيم الملكوت بشكل مستمر والتي يمكن أن تجعلهم في صراع مع العالم. الكنيسة كرسولة كأداة مصالحة هي علامة خلق الله الجديد (2 كو 5: 16-20). بحسب بولس الرسول إذاً، علامة حضور الله هي كسر غلال الظلم وإحلال السلام والمحبة الغافرة. الكنيسة كشعب الله تُظهِر خطة الله الخلاصية والتي تمتدّ إلى كل الخلائق (اف 3: 3-10، 1 كو 2: 6-10، رو 8: 22-23، 1 تي 2: 3-4). أما الاحتفال بملكوت الله فيحدث في العبادة والأسرار: في الإفخارستيا (1 كو 11: 23-26، مر 14: 12-26)، وفي المعمودية (رو 6: 1-11، مت 28: 18-20). وبهذا الكنيسة تتقوّى وتتشجّع وتتزوّد بما يساعدها في إرساليتها لخدمة الملكوت. ليأت ملكوتك تعني!! وأخيراً، عندما نصلي ليأت ملكوتك نعني أن الله يملك الآن على الملائكة وعلى قلوب أولاده المؤمنين به، ولكن ما زال هناك شياطين يقاومون ملكوت الله، وأشرار على الأرض غير خاضعين لناموس الله، والله يترك الجميع، ولكن في حدود يسمح بها، " على اننا لسنا نرى الكل بعد مخضعا له " (عب 2: 8) والمسيح أتى ومن يقبله ويثبت فيه يصير الكل جسدا واحدا هو رأسه، وهذا الجسد يخضع للآب فى حب (1كو 28:15) (المسيح هنا كرأس للكنيسة يقدم الخضوع لله الآب). اما اعداء الله فيكونوا خاضعين تحت قدميه. فالمؤمن الحقيقى يشتهى أن يأتى هذا اليوم الذي يخضع فيه الكل لله، هو الشوق لمجئ السيد المسيح الثانى في مجده ليسود الرب على كل الخليقة ويصير الله الكل في الكل، وتبطل مقاومة كل الأعداء. والمؤمن الحقيقى يشتهى أن يمتد وينمو ملكوت الله الآن على الأرض ويزداد المؤمنين بالمسيح عدداً، ويزداد التائبين من المؤمنين. والمؤمن الحقيقى يشتهى أن يملك عليه المسيح تماماً فلا يعود هناك مكان فى قلبه لمشاغبات الجسد ولا لأى محبة للعالم والزمنيات، بل يطيع الله طاعة كاملة ومن له هذه الشهوات المقدسة، أن يأتى الله في ملكوته سيكون له معه نصيب في ملكوته. من له شهوة أن لا يكون للشيطان ولا للخطية أي نصيب في قلبه، بل يكون قلبه كله لله، ومن يجاهد لأجل هذا سيكون له نصيب فى ملكوت المسيح حين يجئ. بهذه الطلبة نشتاق لإضمحلال مملكة الشيطان وأن يخضع الجميع وأولهم أنا للملك الحقيقى. وبها نتذكر أن نصيبنا هو في السموات فننصرف عن الإهتمام بالأرضيات. وأخيرا أصلي فأقول: يا رب أجعلني ممن يشتهون أن يأتي ملكوتك سريعا، فقد اتسخ العالم، وعم الظلم كثيرا، وتاهت البشرية بوديان الظلام، وابتعدت الخليقة عن سبلك الرشيدة ، فلا تتأخر أكثر من ذلك فقد انتظرنا عودتك لأكثر من 2013 سنة فهل يأتي ملكوتك الآن وليس غداً؟ّ أرجو ذلك.